الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث التاسع: تفاضل كلام الله تعالى
كَلِماتُ الله تعالى لا نِهَايَةَ لهَا، وهي باقيةٌ لا تَنْفَدُ كما قال تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109].
ومِن كلماتهِ تعالى: كُتُبُه المنزَلَةُ، كالتَّوراةِ، والِإنجيلِ، والقرآنِ، وكلماتُهُ التي يخلقُ بها الخَلْقَ، وكلماتُهُ التي كلَّمَ بها آدمَ، والَّتي كلَّم بها موسى، والتي كلَّمَ بها محمَّداً صلى الله عليه وسلم، وكلماتُهُ التي يُكلِّمُ بها عبادَه في المَحْشَر، وفي الجنَّةِ، وكلماتُهُ التي يُخاطِبُ بها أهلَ النار توْبيخاً وتَقْريعاً، وغيرُ ذلك من كلامِهِ تبارك وتعالى.
فكلامُهُ تعالى متبعّضٌ مُتَجَزّىءٌ، فالتَّوراةُ بعضُ كلامِه وجزءٌ منه، والإنجيلُ كذلك، والقرآنُ كذلكَ، والقرآنُ أبعاضٌ وأجزاءٌ، وسُوَرٌ وآياتٌ، وكلماتٌ.
وجَميعُ هذا من المُسَلَّماتِ المَعْلومةِ لدى الكافَّةِ، دَلَّ عليها الحِسُّ، والعقْلُ، والشَّرْعُ، وهي أجلى من أن تحتاجَ إلى ضَرْبِ الأمثلةِ، وسِياق البَراهينِ والأدلّة، ولكن مَنْ رامَ الهدى باتباع الهوى فقد ضلَّ السَّبيلَ.
فكلامُهُ تعالى الذي هو أجزاءٌ وأبعاضٌ، بعضُهُ أفضَلُ من بعضٍ، وليس ذلك من جِهَةِ المُتكلِّم به وهو الله تعالى، وإنَّما هو من جهةِ ما تضمَّنَ من المَعاني العَظيمةِ، فإنَّ كلامَ الله المتضمِّن للتَّوحيدِ والدَّعْوةِ إليه، أفضلُ من كلامهِ المتضمِّنِ ذكرَ الحُدودِ والقِصاصِ ونحو ذلكَ، وما يُخْبِرُ به عن نفسهِ وصفاتِهِ أعظمُ مما يُخْبِرُ به عن بعضِ خلقهِ، وذلكَ لشَرَف الأوَّلِ على الثاني.
وقد ورَدَ في السُّنَّةِ الصَّحيحةِ ما يُثْبِتُ ذلك ويوضِّحُه ويُجَلّيهِ، فمِنْ ذلك:
1 -
حديث أنَس بن مالكٍ رضي الله عنه قال:
كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم في مَسيرٍ لَهُ، فنزَلَ ونزَلَ رجُلٌ إلى جانِبِهِ، فالتفتَ إليه
النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال:
"ألا أخْبركَ بأفضَلِ القُرآنِ؟ ".
قال: فتلا عليه {الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (57).
2 -
وعن أبي سَعيد بن المُعلَّى رضي الله عنه قال:
كنتُ أصلِّي في المَسْجدِ، فدَعاني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فلَمْ أجِبْهُ، فقلتُ: يا رسولَ الله! إنِّي كنتُ أصلّي، فقالَ:
(57) حديث صحيح.
أخرجه النسائي في "فضائل القرآن" -من "الكبرى"- رقم (36) و"عمل اليوم والليلة" رقم (723) من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس به، وسنده صحيح.
"ألَم يَقُلِ الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24].
ثمَّ قالَ لي:
"لأعلِّمَنَّكَ سورةً هي أعظمُ السُّوَرِ في القرآنِ، قبلَ أن تَخْرُجَ من المَسجدِ".
ثمَّ أخَذَ بيَدي، فلَمَّا أرادَ أنْ يَخرُجَ قلتُ لهُ: ألَمْ تَقُلْ: "لأعلِّمنَّكَ سورةً هي أعظَمُ سورةٍ في القُرآنِ"؟
قال: "الحَمْدُ لله ربّ العالَمينَ، هيَ السَّبعُ المَثاني، والقُرآنُ العظيمُ الذي أوتيتُهُ"(58).
3 -
وعن أبَيّ بن كَعْبٍ قال: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يا أبا المُنْذر، أتَدْري أيُّ آيةٍ مِن كتابِ الله معَكَ أعظَمُ؟ ".
قال: قلتُ: الله ورسولُهُ أعلَمُ.
قال: "يا أبا المُنْذِرِ، أتَدْرِي أيُّ آيَةٍ من كتابِ الله مَعَكَ أعظَمُ؟ ".
قال: قلتُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ
…
} [البقرة: 255].
قال: فضربَ في صَدْرِي، وقالَ:
(58) حديث صحيح.
أخرجه أحمد 3/ 450 و 4/ 211 والبخاري 8/ 156 - 157، 307، 381 و 9/ 54 وأبو داود رقم (1458) والنسائي 2/ 139 وفي "فضائل القرآن" -من "الكبرى"- رقم (35) وابن ماجة رقم (3785) من طرق عن شعبة عن خُبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلّى به.
"والله، لِيَهْنِكَ العِلمُ أبا المُنْذر"(59).
4 -
وعن أبي سَعيد الخُدْريّ رضي الله عنه أنَّ رجلاً سَمعَ رجلاً يقرأ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} يُرَدِّدُها، فلمَّا أصبَحَ جاءَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له -وكأنَّ الرَّجُل يتقالُّها- فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:
"والذي نَفْسِي بيده إنَّها لَتعْدِلُ ثلُثَ القُرآنِ"(60).
5 -
وعن عُقْبَة بن عامر رضي الله عنه قال:
كنتُ أقودُ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم في ناقَتَهُ في السَّفر، فقالَ لي:
"يا عُقْبَةُ، ألَا أعلّمكَ خيرَ سورتين قُرِئَتا؟ ".
فَعلَّمَني: {قُلْ أَعوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} .
قال: فلَمْ يَرَني سُرِرْتُ بهما جدّاً، فلمَّا نَزَلَ لِصَلاةِ الصُّبْحِ صلَّى بِهِما صلاةَ الصُّبْحِ للناسِ، فلمَّا فرَغَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم من الصلاةِ التفتَ إليَّ
(59) حديث صحيح.
أخرجه مسلم رقم (810) وأبو داود رقم (1460) من طريق عبد الأعلي بن عبد الأعلى عن الجُرَيْري عن أبي السَّليل عن عبد الله بن رَبَاح الأنصاري عن أبيّ بن كعب به.
(60)
حديث صحيح.
أخرجه مالك 1/ 208 ومن طريقه: أحمد 3/ 23، 35، 43 والبخاري 9/ 58 و11/ 525 و 13/ 347 وأبوداود رقم (1461) والنسائي 2/ 171 وفي "اليوم والليلة" رقم (698).
وانظر تعليقي على "المفاريد" لأبي يعلى الموصلي رقم (60).
فقالَ: "يا عُقْبَةُ كيفَ رأيتَ؟ "(61).
ويُوجِّهُ شيخ الإِسلام حديثَ فضْل سورةِ الإِخلاصِ فيقولُ: "وذلك أنَّ القرآنَ إمَّا خبرٌ، وإمَّا إنشاءٌ ، والخبَرُ إمَّا خبَرٌ عن الخالقِ، وإمَّا عن المَخلوقِ، فثلُثُهُ قَصَصٌ، وثُلثُهُ أمْرٌ، وثُلُثُهُ توحيدٌ، فهيَ تَعْدِل ثُلُثَ القرآن بهذا الاعتبارِ"(62).
قلتُ: فدلَّتْ هذه النُّصوصُ على تَفْضيلِ كلامِ الله بعضِهِ على بعضٍ، وذلكَ حسبَ ما يدلُّ عليه من المَعاني، وهو مَذْهَبُ جُمهورِ السَّلَفِ وأهلِ السُّنَّةٍ.
قالَ شيَخُ الإِسلام: "والصَّوابُ الَّذي علَيْهِ جُمْهورُ السَّلَف والأئمَّة أنَّ بَعْضَ كلامِ الله أفْضَلُ من بَعْضٍ، كما دلَّ على ذلك الشَّرعُ والعقلُ"(63).
.....
(61) حديث حسن أو صحيح.
أخرجه أحمد 4/ 153 وأبو داود رقم (1462) والنسائي 8/ 252 - 253 من طريق معاوية بن صالح عن العلاء بن الحارث عن القاسم مولى معاوية عن عقبة به. قلت: وهذا سند حسن، والقاسم هو ابن عبد الرحمن صدوق جيد الحديث، وقد صحَّ سماعُهُ من عقبة بن عامر.
والحديث مروي عن عقبة من غير هذا الوجه معناه.
(62)
"درء التعارض" 7/ 272.
(63)
المرجع السابق.