الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: إقامة الحجة على بطلان اعتقاد اللفظية النافية
تبيَّنَ لكَ ممَّا سبَقَ توجيهُ وصْفِ الأئمَّةِ أحمَدَ وغيرهِ لِلَّفظيةِ النافية القائلينَ: ألفاظُنا بالقرآن، وتلاوتُنا له مخلوقةٌ.
وذلكَ أنَّهم يُفرِّقونَ بين القراءةِ والمقروءِ، والتلاوةِ والمتلوّ، ويُطلقونَ ذلك، ويقولونَ: التلاوةُ والقراءةُ مخلوقةٌ، وليسَ مُرادُهم فِعْلَ العبْدِ وحَرَكَتَه وصَوْتَه، وإنَّما يُدْخِلونَ في ذلك الكلامَ العربيَّ المؤلَّفَ من الحُروفِ والكلماتِ، والسُّورِ والآيات، فهو عندَهم مخلوقٌ، وجبريلُ أتى بشيْءٍ مخلوقٍ، والمقروءُ والمَتلو عندَهم هو المعنى المُعبّر عنه بهذه الحُروفِ العربيةِ، وهذه الحروفُ مخلوقةٌ، واختلفوا أينَ خُلِقَتْ -كما سيأتي في الرد على الأشعرية في الباب الثالث-.
فعندهم هذا القرآنُ الذي يتلوهُ الناسُ بألسنَتِهم وأصواتِهم مخلوقٌ، ليسَ مُنزلاً من الله، وليسَ هو الذي تكلَّم به.
وهذه العقيدةُ مُنافيةٌ لِما قرّرناه في الباب الأول من اعتقاد السَّلَف، وهي متضمِّنةُ التكذيبَ بما أنزلَ الله على رسولِه، كتضمُّنِ ذلك عقيدة الجَهْمية المُصرّحينَ بخَلّقِ القرآن.
وإني ذاكرٌ بحَوْلِ الله وقوَّتهِ الحُجَّةَ الدّامِغَةَ لقَوْلِ هؤلاءِ المُبْطلينَ، فأقولُ:
قَدْ قامَت الدلائلُ من كتاب الله المعصوم الذي لا يأتيهِ الباطلُ من بين يَدَيْه ولا من خَلْفِه، على أنَّ الله تعالى تكلَّمَ بهذا القرآنِ العربيّ، وليسَ هناكَ قرآنٌ سِواه، تكلَّمَ الله تعالى به بلفظهِ ومَعناه، وسَمِعَهُ منه جبريلُ عليه السلام، وبلَّغَهُ كما سَمِعَهُ إلى محمَّد صلى الله عليه وسلم، وبلَّغَه محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم-كما سَمِعَهُ، إلى أمَّتهِ، وذلكَ من وُجوهٍ:
دلَّت الآياتُ على ما ذكَرْنا من وُجوهٍ:
الأول: قولُه: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} القرآنُ: اسمٌ للنَّظمِ العربيّ المَسطور بينَ الدّفّتين، المُوعى في قلوب الحفّاظِ، المَلفوظِ بألسنة القُرّاءِ المؤلَّفِ من الحُروف كالألفِ والباءِ والجِيم، وهذا ممَّا لا خلاف فيه.
والثاني: القراءةُ إنَّما تقعُ لألفاظِهِ وكلماتهِ، لا لمَعانٍ مجرّدةٍ، فإنَّ
المعنى المجرَّدَ لا تُتَصَوَّرُ قراءَتهُ كما لا يخفى.
والثالث: الذي تُبَدَّلُ منه آيةُ مكانَ آيةٍ هو القرآنُ، لأنَّه هو المؤلَّفُ من الآياتِ، وهذا يسلِّمُ به اللفظيةُ.
والرابع: قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} أثبتَ مُنْزِلاً وَمُنْزَلاً به، والمُنْزِلُ هو الله كما هو ظاهِر، وفِعْل التَّنزيلِ مُضافٌ إليه كما هو صَريحُ الآية، وقد مَرَّ بكَ أنَّه تعالى لَمْ يُضِفْ شيئاً من الإِنزالِ إلى نفسهِ إلَاّ كلامَهُ، والمُنْزَلُ به هو القرآن الذي تُبدَّلُ منه آيةٌ مكان آيةٍ، وهذا لا يَقْدِرُ اللَّفظىُّ على إنكارهِ.
والخامس: قوله: {نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} الضَّميرُ في قوله: {نَزَّلَهُ} عَائدُ على قولهِ: {بِمَا يُنَزِّلُ} ، وقد عَلِمنا أنّه القرآن، فأثبتَ أنَّ روحَ القُدُسِ نزَّلهُ من الله، فكان مَسموعاً له منه، متلقّىً عنه، وروحُ القدس هو جبريلُ، وقد بيّناه آنفاً.
فالذي نَزَلَ من الله تعالى هو الذي نَزَل به رُوحُ القُدُس، ولم يُضِفْ إلى رُوح القُدُسِ شيئاً من فعلِهِ سوى التَّنْزيل له من ربّ العالمينَ.
والسادس: المُرادُ من هذا السياق للآيات إثباتُ أنَّ هذا القرآنَ ليس من افتراءِ بشرٍ، والرَّدُّ على الكُفَّارِ قولَهم:{يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} ، وأرادوا رجلاً أعجَمياً، فكذَّبَ الله مقالَهم، ودحَضَ باطِلَهم، فقالَ:{لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} ، واللّسانُ: اللغة، واللُّغةُ: إنَّما هي ألفاظٌ مركَّبةٌ من الحُروفِ، وهذا ممَّا لا يُخْتَلَفُ فيهِ، فأقامَ الله الحُجَّةَ على الكفَّار وأبْطَلَ دَعواهم، بأنَّ صاحِبَهم الذي ادَّعوا أنَّ رسولَ الله
-صلى الله عليه وسلم يتعلَّمُ منه القرآن أعجَميٌّ، وهذا كلامُ عربيٌّ، فأنَّى له أنْ يُعَلَّمَهُ معَ عُجْمَتِهِ، ولو كانَ إنَّما تأتيهِ مَعانٍ مُجرَّدةٌ لأمْكَنَ الأعجميَّ أنْ يُعَلِّمَهُ المَعانيَ، ولكنَّه إنَّما كان يأتيهِ القرآنُ العَربيُّ.
وأشارَ بقوله: {وَهَذَا لِسَانٌ} إلى حاضِرٍ، وهو القرآن الذي هو تنزيلُه الذي نزلَ به جبريلُ، فأقامَ الله الحُجَّةَ على الكُفَّار بكَوْنِ هذا اللسانِ العربيّ كلامَهُ، ومحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مُبَلِّغٌ، وجبريلٌ عليه السلام مُبَلِّغٌ، ليس لهما وظيفةٌ إلَاّ هذهِ.
والوجه الثاني: قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الأنعام: 114].
دلَّت الآيةُ على ما ذكَرْنا من وُجوهٍ:
الأوَّل: الكتابُ المُفَصَّلُ هو القرآنُ العربيُّ بلا خِلافٍ.
وفي وصفهِ بـ (الكتاب) دليلٌ قاطعٌ على أنَّه القرآنُ المؤلَّفُ من الحروفِ العربيةِ، ولو كانَ معانيَ مجرَّدةً لما صَحَّ وصفه بـ (الكتاب) لأنَّه أرادَ بالكتاب: المكتوبَ (45)، والمَعنى المجرَّدُ لا يُكْتَبُ حتى يؤلّفَ حُروفاً منظومةً، وتَسميةُ القرآنِ كلام الله بـ (الكتاب) جاءَت في مواضِعَ كثيرة من
(45) وقد يرادُ بالكتاب ما يكتَبُ فيه، كقوله تعالى:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 77 - 78] فالكتابُ هنا ليسَ هو القرآن نفسه، وإنَّما هو ما كُتِبَ فيه القرآن، وحينئذ لا يُراد به الكلام نفسه، وهذا توضحه القرينة، ومثله لا يخفى.
القرآنِ، ولا فَرْق بين تسميتهِ بـ (القرآن) أو بـ (الكتاب) وكلُّ ذلك كلامُ الله تعالى وقولُه، قال تعالى:{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:29 - 30]، فسمَّاه قُرآناً وكتاباً، والذي يُسمَع إنَّما هو القرآنُ الذي هو الكلامُ المؤلَّفُ من الحُروفِ والمَعاني.
قال شيخُ الإِسلام: "الكتابُ عند مَن يقولُ: إنَّ كلام الله هو المعنى دون الحروفِ اسمٌ للنَّظم العَربيّ، والكَلام عندَه اسمٌ للمعنى، والقرآن مُشْتَرِك بينهما، فلفظ (الكتاب) يتناوَلُ اللفظَ العربيَّ باتّفاق الناسِ، فإذا أخبرَ أنَّ {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ} عُلِمَ أنَّ النظمَ العربيَّ مُنْزَلٌ من الله، وذلك يدلُّ على ما قالَ السَّلفُ: إنَّه منه بدَأ، أي: هو الذي تكلَّم به"(46).
والثاني: جَعَلَ تعالى إنزالَ الكتابِ مفصَّلاً فِعْلاً مُضافاً إلى نفسِهِ.
والثالث: أثْبَتَ أنَّ تنزيلَه منه عز وجل لا مِن غيره، فدلَّ على أنَّ ابتداءَه منه.
والرابع: أخبرَ أنَّ أهلَ الكتاب يعلَمونَ أنَّه تنزيلُه وأنَّ ابتداءَه منه، والعلمُ يفيدُ اليقينَ المُنافيَ للجَهْلَ والظَّنِّ والشَّكِّ والرَّيْبِ، وأقرَّ تعالى علمَهُم هذا ولَمْ يُنْكِرْهُ، بل وَكَّده بقولهِ:{فَلَا تَكُونَنَّ مَنَ المُمْتَرِينَ} [الأنعام: 114] فدَلَّ على أنَّه حَقٌّ، ولو كانَ ما عَلِموهُ باطلاً، وأنَّ القرآنَ من غيره بدأ لا منه، لَما أقرَّهُم تعالى على ذلك.
(46)"مجموع الفتاوي" 6/ 544.
وأشارَت الآيةُ إلى أنَّ أهلَ الكتاب الذين يعلَمونَ أنَّ هذا القرآنَ العربيَّ مُنَزَّلٌ من الله تعالى لا مِنْ بعضَ خَلْقِهِ خيرٌ وأفضَلُ من اللَّفْظِيةِ الذين يقولون: هذا الكتابُ العربيُّ مخلَوقٌ، كما أنَّهم أفضَلُ من سائرِ الجهمية القائلينَ بخَلْقِ القرآن.
والوجه الثالث: حين سمّاهُ المشركونَ شِعراً، لم يُريدوا بهذه التسميةِ إلَاّ لهذا القرآنَ العربيَّ المؤلّف من الحُروفِ العربيَّةِ، فكذَّبَ الله تعالى دعواهُم، كَما قالَ تعالى:{وَمَا عَلمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَاّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينُ} [يس: 69].
قال الإِمام أبو محمَّد بن قُدامَة: "فلمَّا نفى الله عنه أنَّه شِعْرٌ وأثبتَه قرآناً لم يبقَ شُبْهَة لِذي لُبٍّ في أنَّ القرآنَ هو هذا الكتابُ العربيُّ الذي هو كَلِماتٌ وحروفٌ وآياتٌ، لأن ما ليسَ كذلك لا يقولُ أحدٌ: إنَّه شِعْرٌ"(47). قلتُ: وهذا هو القرآنُ الذي قالَ السَّلَف: إنَّه غيرُ مَخلوق، وقالت الجهميةُ: إنَّه مخلوقٌ.
والوجه الرابع: ما تقرَّر في اعتقادِ السَّلَف الذي شَرَحْناه في الباب الأوَّل من كون هذا القرآنِ من الله بَدأ وإليه يعودُ، وقد فصَّلناه بما يُغني عن الإِعادة.
والوجه الخامس: إضافةُ هذا القرآن إلى الرَّسولِ البَشري تارةً، وإلى الرَّسولِ المَلَكي تارةً -كما سبق تقريرُهُ في الفصل السابق- وأنَّ معنى ذلك أنَّهما أدّياهُ وبلَّغاهُ، دليلٌ على أنَّهُ قولُ المُبَلَّغِ عنه وكلامُهُ، وهو الله
(47)"لمعة الاعتقاد" ص: 17.
تعالى.
والوجه السادس: قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] أضافَ الكلامَ إلى نفسهِ، وأبانَ أنَّه هو الذي يسمَعه الكافرُ المُستجيرُ، والأصْل أنَّ الكلامَ على حقيقتهِ المفهومةِ حالَ إطلاقهِ حتى تَرِدَ القرينةُ التي تَصْرِفُهُ عن المعنى المُتبادر، وكلامُ الله هنا هو القرآنُ لا غيرُهُ، والكلامُ كما قرَّرناه في الباب الأول اسمٌ لِلَّفظ والمعنى جميعاً، فدلَّ هذا إذاً على أنَّ الذي يسمعهُ المشركُ المُستجيرُ هو كلام الله على الحقيقةِ، وكلامُهُ تعالى غيرُ مخلوقٍ.
والوجه السابع: إطباقُ جَميع أهل الإِسلام على أنَّ القرآنَ العربيَّ كلامُ الله تعالى لا كلامُ غيره، منه بدَأ بألفاظهِ وحُروفِه لا من غيره، وأنَّه ليس لله قرآنً سِواهُ، هو الذي بلَّغَهُ رسُولُ الله محمَّد صلى الله عليه وسلم عن جبريلَ، وجبريلُ عليه السلام عن ربّه تعالى، لم يتقوَّلْ منه جبريل ولا محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حَرْفاً ولا كلمةً، كيفَ وهما أمِيناهُ على وَحْيِهِ، و {اللهُ أَعْلَمٌ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].
والوجه الثامن: يلزَمُ اللَّّفظيةَ ما لَزِمَ القائلينَ بخَلْقِ القرآن مطلقاً أنَّه لو كانَ القرآنُ العربيُّ المَلفوظُ بالألفاظ العَربيةِ مخلوقاً، فأين خُلِقَ؟ إذْ لا بدَّ أن يكونَ مخلوقاً في مَحَلٍّ، كسائر المَخلوقات، فإذاً يصيرُ صفةً للمَحَلِّ الذي خُلِقَ فيه، لا صِفةً لله، ويكونً حينئذٍ كلاماً للمَحَلِّ الذي خُلِقَ فيه، لا كَلاماً لله تعالى، وهذا كُفْرٌ بَيِّنٌ، والعَجيبُ أن يكونَ هذا الوجهُ ممَّا يُحاجِجُ به اللفظيَّةُ الجَهميَّةَ.
فهذه بعضُ الوجوه المُبْطلةِ لاعتقادِ اللَّفظِيَّة، ويَرِد عليهم أكثرُ من
ذلك، ولكنَّ الحُجَّةَ تقمُ ببعضهِ.
فمن تأمَّل هذه الحقائقَ التي ذكَرْتُ وما يشبهها، بانَ له صِحَّةُ وصفِ اللفظية القائلينَ بأنَّ ألفاظَنا بالقرآن مخلوقةٌ، بالجَهمية.
والسَّلَفُ والأئمةُ حينَ كفَّروا مَن قالَ بخَلْق القرآنِ، إنَّما كفّروا من قالَ بخَلْقِ القرآنِ الذي بين دَفّتَي المُصْحَف، المَسْطور فيه، الملفوظِ بالألسنةِ، المؤلَّفِ من الحُروفِ العَربيةِ، ولا يَعْرِفُ السَّلَفُ والأئمةُ هذا التفريقَ المُبْتَدَعَ الذي ظَهَرَتْ به اللَّفظيَّةُ النافيةُ، فليسَ عندهم القرآنُ سِوى هذا القرآنِ العربيّ، وهو كَلامُ الله تكلَّمَ به على الحقيقةِ.
وهذه بعضُ النُّصوصِ البيّنةِ الموضحَةِ لِما ذكرتُهُ عنهم:
1 -
عبد الله بن المبارك (الإِمام الحُجَّة).
إنَّه قرأ ثلاثينَ آيةً من (طه) فقال: "مَنْ زَعمَ أنَّ هذا مخلوقٌ فهو كافِرٌ"(48).
قلتُ: وهذه عند اللفظية ألفاظٌ مَخْلوقةٌ.
2 -
إمام السُّنَّة أحمد بن حنبل.
قال أحمد بن سعيد الدارميُّ: قلتُ لأحمدَ بن حنبل: أقولُ لكَ قَولي، وإنْ أنكرتَ منه شيئاً فقُلْ: إني أنْكِرُهُ، قلتُ له: نحنُ نقولُ: القرآنُ كلامُ الله من أوَّله إلى آخِره، ليسَ منه شيءٌ مخلوقٌ، ومَنْ زعَمَ أنَّ شيئاً منه
(48) أخرجه ابن الطبري رقم (427) بسند لا بأس به، ومعناه عند الآجري في "الشريعة" ص: 79 من طريق أخرى عنه.
مخلوقٌ فهو كافرٌ، فما أنكرَ منه شيئاً ورضِيَهُ (49).
قلتُ: واللَّفْظية يقولونَ: كلامُ الله ليسَ له أوَّلٌ ولا آخِرٌ، ولا يَتَجزأ، وهو غيرُ القرآنِ العربيّ، والقرآنُ العربيّ، إنَّما هو عِبارةٌ عنه أو حِكايةٌ.
وقال الإِمام أحمدُ: "نحنُ لا نحتاجُ أنْ نشُكَّ في هذا القرآن عندَنا، فيه أسماءُ الله، وهو من عِلْمِ الله، فمَن قال لنا: إنَّه مخلوقٌ ، فهو عندَنا كافِرٌ"(50).
قلتُ: وهذا النصُّ نقلَه أبو الحَسن الأشعريُّ عنه في "الإبانة" وهو من الحُجَّةِ على الأشعرية من غير وجْهٍ، سأذكرها في الردّ عليهم. وقال الإِمام أحمدُ:"على كُلّ حالٍ من الأحْوَالِ القرآنُ كلامُ الله غير مخلوقٍ"(51).
وهذا كقوله: "القرآنُ كلامُ الله حيثُ تَصَرَّفَ"(52).
قلتُ: يعني على كُلّ حالٍ، مكْتوباً، ومَسْموعاً، ومَتلوّاً، ومَحفوظاً.
والنقل عن أحمَدَ في هذا المعنى يعسُرُ إحصاؤهُ، وفي النصوصِ التي سُقْتُها عنه في هذا الباب والذي قبلَه كفايةٌ لمَن أرادَ الهداية.
3 -
إسحاق بن إبراهيم بن راهُوَيْهِ الإِمام الفَقيه.
(49) رواه ابن أبي حاتم -كما في "طبقات الحنابلة" 1/ 46 - بسند صحيح عنه.
(50)
"الإِبانة" للأشعري ص: 71.
(51)
رواه ابن هانئ في "المسائل" 2/ 158 عنه به.
(52)
سيأتي هذا النص قريباً في قصة أبي طالب في "المبحث الخامس" من هذا الفصل.
قال: "ليسَ بينَ أهل العِلْمِ اختلافٌ أنَّ القرآنَ كلامُ الله ليسَ بمخلوقٍ، فكيفَ يكونُ شَيْءٌ خَرَجَ من الرَّبِّ عز وجل مَخْلوقاً؟ "(53).
قلتُ: واللفظيةُ يقولون: كلامُ الله ليسَ بخارج منْهُ، والقُرآنُ بدأ من غيرهِ تعالى.
4 -
يحيى بن يحيى النَّيْسابوري الثِّقَة الثَّبْت.
قال: "مَن زَعمَ أنَّ مِنَ القرآن مِن أوَّله إلى آخرهِ آيةٌ مَخلوقةٌ فهو كافِرٌ"(54).
قلتُ: واللفظيةُ يقولون: ما تألَّفَ من الآياتِ هو النظمُ العربيُّ، وهو مَخلوقٌ.
5 -
محمد بن أسْلَم الطُّوسيْ الثِّقَة الحافِظ.
قال: "القرآنُ كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ، أينَما تُلِيَ، وحيثُما كُتِبَ، لا يتغيّرُ، ولا يتَحوَّلُ، ولا يتبدَّلُ"(55).
قلتُ: إنَّما يُكْتَبُ وَيُتلى هو القرآنُ العربيّ المَجيدُ.
6 -
أبو جعفر محمد بن جَرير الطَّبريّ الإِمام المُجْتهد.
(53) أخرجه ابن أبي حاتم -كما في "العلو" للذهبي ص 132 - بسند صحيح عنه.
(54)
أخرجه ابن أبي حاتم -كما في "العلو" للذهبي ص: 123 - بسند صحيح عنه.
(55)
أخرجه ابن أبي حاتم -كما في "العلو" للذهبي ص: 140 - بسند صحيح عنه.
قال في عقيدتِه: "أوَّلُ ما نبدأ بالقولِ فيه من ذلك كَلَامُ الله عز وجل وتنزيلهُ، إذ كانَ من مَعاني توحيدِهِ، والصَّوابُ من القَوْلِ في ذلك عندَنا: أنَّه كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ، وكيفَ كُتِبَ، وكيفَ تُلِيَ، وفي أيّ موضِعٍ قُرِئ، في السَّماءِ وُجِدَ، أو في الأرضِ حُفِظَ، في اللوحِ المَحفوظِ كانَ مكتوباً، أو في ألواحِ صِبيان الكَتاتيب مَرْسوماً، في حَجَرٍ نُقِشَ، أو في رَقٍّ خُطَّ، في القَلْبِ حُفِظَ، أو باللسانِ لُفِظَ، فَمَنْ قالَ غير ذلكَ، أو ادّعى أنَّ قرآناً في الأرضِ، أو في السَّماءِ، غيرُ الذي نتلوهُ بألْسِنَتِنَا، ونكتُبهُ في مَصاحِفِنا، أو اعتقَدَ ذلكَ بقلبهِ، أو أضْمَرهُ في نفسِهِ، أو قالَه بلسانِهِ دائناً به، فهو بالله كافرٌ، حَلالُ الدَّمِ، وبَرِيءٌ من الله، والله بَريءٌ منه، يقولُ الله عز وجل: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21 - 22] وقالَ -وقولُه الحقّ-: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]، فأخْبَرَ الله جَلَّ ثَناؤُه أنَّهُ في اللَّوْح المَحْفوظِ، وأنَّهُ من لسانِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم مَسْموعٌ، وهو قُرْآنٌ واحدٌ، مِن محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مَسْموعٌ، وفي اللَّوحِ المَحْفوظِ مكتوبٌ، وكذلكَ هو في الصُّدورِ مَحْفوظٌ، وبألسُنِ الشيوخ والشُّبانِ مَتْلوٌّ، فمَن رَوى علينا أو حَكى عنَّا، أو تقوَّلَ علينا، أو ادّعى أنَّا قُلْنا غيرَ ذلك، فعلَيْه لعنةُ الله وغضَبُهُ، ولعنَةُ اللاعنينَ والملائكةِ والناسِ أجْمعينَ، لا يَقْبَلُ الله منه صَرْفاً ولا عَدْلاً، وهَتَكَ سِتْره، وفضحَهُ على رُؤوسِ الأشهادِ، يَوْمَ لا تنفَعُ الظالمينَ معذرتُهم ولهم اللَّعْنةُ ولهم سوءُ الدَّارِ"(56).
(56) أخرجه ابن الطبري في "السنَّة" 1/ 184، 2/ 359 - 360 بسند صحيح عنه، وهو في "صريح السُّنَّة" له رقم (12 - 14).
7 -
القاضي الإِمام أبو بكر أحمد بن كامل البغداديّ (إمامٌ حافظٌ مُتَجَرِّدٌ، تلميذُ ابن جَرير).
روى عن ورّاقِ داود الأصبهاني إمام أهْلِ الظاهر قول داود في القرآن، قال: سُئل عن القرآن؟ فقال: "القرآنُ الذي قالَ الله تعالى {لَا يَمَسُّهُ إِلَاّ الْمُطَهَّرُونَ} وقَال: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} غيرُ مخلوقٍ، وأمَّا الذي بينَ أظهُرِنا يمسُّهُ الحائِضُ والجُنُبُ فهو مخلوقٌ".
فقال القاضي أحمدُ بن كامل: "هذا مذهبٌ يذهبُ إليه الناشئُ المتكلِّمُ (57)، وهو كُفْرٌ بالله، صَحَّ الخَبرُ عن رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّه نهى أن يُسافَرَ بالقرآن إلى أرضِ العدوّ، مخافةَ أنْ ينالَه العدوُّ، فجعلَ صلى الله عليه وسلم ما كُتِبَ في المصاحفِ والصُّحُفِ والألواح وغيرها قرآناً، والقرآن على أي وجْهٍ قُرِىءَ، وتُلِيَ فهو واحدٌ غيرُ مَخلوقٍ"(58).
قلتُ: فتأمَّل رحمكَ الله هذا الحكمَ على قولِ داودَ، وداود أخَفُّ بكثير من اللفظية الكُلاّبيةِ والأشعرية، وذلك أنه كانَ يعتقدُ أنَّ هناك قرآناً مكتوباً في اللَّوْح غيرَ مَخْلوقٍ، والذين جاؤوا من بَعْدُ مِنَ اللفظية يقولونَ: ليسَ لله كلامٌ إلَاّ ما في نفسهِ، وهذا القرآنُ خلَقَهُ الله في اللَّوْحِ المَحفوظِ أو في غيرهِ، فجعَلوا ما في اللَّوْحِ مخلوقاً، وهذا أدهى من قولِ داود.
وسيأتي مزيدٌ في شَرْح اعتقادهم في الباب الثالث.
(57) هو أبو العباس عبد الله بن محمد بن شرشير، كان متكلّماً من رؤوس الجهمية المعتزلة.
(58)
أخرجه ابن الطبري 2/ 360 - 361 والخطيب في "التاريخ" 8/ 374 بإسناد صحيح إلى أحمد بن كامل.
8 -
الحافظ الإِمام عبد الله بن محمد بن جَعفر أبو الشَّيْخ الأصبَهانيُّ:
قال: "إنَّ القرآنَ كلامُ الله تكلَّمَ به، فيه أمرُهُ ونَهْيُه ووعدُهُ ووعيدُهُ، وذِكْرُ رحْمَتِهِ ونِقْمَتِهِ، وعذابهِ وسَخَطهِ، وذكْرُهُ النَّعيمَ والمِنَنَ، والأهوالَ والشَّدائدَ، في التَّرغيبِ والتَّرهيبِ، بقولِهِ الصَّادقِ، وعِلْمِهِ النافذِ، ومشيئتهِ السَّابقةِ، وحُجَّتهِ البالغةِ، وذكْرُ سُلطانِهِ الدَّائم، وليس منها شيْءٌ مَخلوقٌ، لأنَّها كلَّها قَولُه من علْمهِ الأزليّ، من أوَّلِهِ إلى آخِرِهِ كلامُ الله غيرُ مَخلوقٍ، فالمُنْكِرُ فيه كالشَّاك، والشَّكُّ والإِنكارُ فيه كفرٌ، فالمُنكِرُ الجهميُّ، والشَّاكُّ الواقفيّ، وهوكلامُه في الأحوالِ كُلِّها، حيث تُلِيَ وتصرَّف، في الدَّفَّتين، وبين اللَّوحين، وفي صدورِ الرجالِ، وحيثُ ما قُرئ في المَحاريب وغيرِها، وحيثُ ما سُمِعَ، أو حُفِظَ، أو كُتِبَ، أو تُلِيَ، منه بَدَأ وإليه يعودُ، ومَن زعَمَ أنَّ القرآنَ أو بعضه، أو شيئاً منه مخلوقٌ، فلا يُشَكُّ فيه عندَنا، وعندَ أهل العلْمِ من أهل السُّنَّة والفضْلِ والدِّين أنَّه كافِرٌ كُفْراً يُنْقَلُ به عن المِلَّةِ، ومَن زعَمَ أنَّ القرآنَ كلامُ الله ووقَفَ، ولم يقُلْ: غيرُ مخلوق، فهو جَهْميٌّ، أخبثُ قولاً من الأول وشرٌّ منهُ، ومَنْ قالَ: لا أقولُ: مخلوقٌ، ولا غيرُ مخلوقٍ، فهو جَهميٌّ، ومَنْ شكَّ في كُفْر مَنْ قال: القرآنُ مخلوقٌ، بعد علمهِ، وبعدَ أنْ سَمِعَ من العلماءِ المَرْضيينَ ذَلك، فهو مثلُهُ، ومَن وقفَ عند اللَّفظِ فهو واقفيٌّ، ومَن وقفَ عند القرآن فهو جَهْميٌّ"(59).
وقالَ رحمه الله: "فجبريلُ سَمِعَه من الله تعالى، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم سمعَهُ
(59) أورده عنه قِوام السنَّة إسماعيل بن الفضل في "الحجة" ق 47/ ب - 48/ أبسند صحيح إليه.
من جبريلَ عليه السلام، وأصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ورضِيَ عنهم سَمِعوا من النبي صلى الله عليه وسلم، ثمَّ الأوَّلُ فالأوَّلُ هَلُمَّ جَرّاً إلى يومِنا هذا، وبعدَنا يكونُ كما كَانَ قبلَنا، وهو كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ، ومَن زعَمَ أنَّ القرآن أو بعضه مخلوقٌ، أو شَيْء منه في حالةٍ من الحالاتِ بجهةٍ من الجهاتِ، فقد زعَمَ أنَّ جبريلَ سَمِعَ من الله مخلوقاً، وأدَّى إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم مخلوقاً وأدَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى أمتِهِ مخلوقاً" (60).
9 -
الإِمام الحافظ أبو عثمان الصَّابونيُّ.
قال: "ويَشْهدُ أصحابُ الحديثِ ويعتقِدونَ أنَّ القرآنَ كلامُ الله وكتابُه وخطابهُ ووحيهُ وتنزيلُهُ غيرُ مخلوق، ومَن قال بخَلْقِهِ واعتقده فهو كافرٌ عندهم، والقرآنُ الذي هو كلام الله ووحيُهُ هو الذي ينزل به جبريلُ على الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم قرآناً عربياًص لقوم يعلَمون بَشيراً ونذيراً، كما قال عزَّ من قائل: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:192 - 195]، وَهو الذي بلَّغهُ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم أمَّتَه كما أمِرَ به في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبكَ} [المائدة: 67]، فكان الذي بلَّغَه كلامَه عز وجل، وفيه قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أتَمنعوني أنْ أبلّغَ كلامَ ربي؟ " (61) وهو الذي تحفَظُهُ الصُّدُورُ، وتتلوهُ الألسنةُ، ويُكْتَبُ في المَصاحفِ، كيفَ ما تصَرَّفَ: بقراءةِ قارىءٍ، ولفظِ لافظٍ، وحفظِ حافظٍ، وحيثُ تُلِيَ، وفي أيّ مَوْضِع قُرىءَ، أو كُتِبَ، في مصاحفِ أهل الإِسلام وألواحِ صبيانهم، وغيرها، كلامُ الله جلَّ
(60) أورده عنه قِوام الله السُّنَّة ق 48/ ب بسند صحيح إليه.
(61)
سبق إيراد هذا الحديث في الباب الأول ص: 85.
جلالُهُ، وهو القرآنُ بعينهِ الذي نقولُ: غير مخلوقٍ، فمن زعَمَ أنَّه مخلوقٌ فهو كافرٌ بالله العظيمِ" (62).
10 -
الإِمام أبو القاسِم هِبَةُ الله بن الطَّبَريّ.
قال: "سِياقُ ما دلَّ من الآياتِ من كتابِ الله تعالى، وما رُوي عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، والصَّحابةِ والتابعينَ، على أنَّ القرآنَ تكلَّمَ الله به على الحقيقةِ، وأنَّه أنزَلَهُ على محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وأمَرَه أنْ يتحدَّى به، وأنْ يدعوَ الناسَ إليهِ، وأنَّه القرآنُ على الحقيقةِ، مَتلوٌّ في المَحاريبِ، مكتوبٌ في المَصاحفِ، محفوظٌ في صُدور الرِّجالِ، ليسَ بحِكايةٍ ولا عِبارةٍ عن قرآنٍ، وهو قرآنٌ واحدٌ غيرُ مخلوقٍ، وغيرُ مَجْعولٍ ومربوبٍ، بل هو صفةٌ من صفاتِ ذاتِهِ، لَمْ يزَلْ بهِ متكلِّماً، ومَنْ قالَ غيرَ هذا فهو كافرٌ ضالٌّ مُضِلٌّ مبتدِعٌ، مخالِفٌ لمَذاهبِ السُّنَّةِ والجَماعةِ"(63).
ثمَّ شرَعَ في سَرْدِ الأدلَّة.
قلتُ: فهذه هي العقيدةُ السَّلَفيةُ قبلَ أنْ يَعْرِفَ الناسُ بدعةَ اللفظِ، ولا يَعْرِفُ الناسُ القرآنَ الذي تكلَّم الله تعالى به إلَاّ على هذا التفسير، حتى أدخَلَت الجهميّةُ على الأمَّةِ بدعةَ اللَّفْظِ، ليُطْفِئوا بها نورَ العقيدةِ المرضِية التي كان عليها خيرُ الناسِ من بَعْد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، أصحابُه فمَن بعدَهم من أئمةِ الهدى، حتى عَهْدِ إمامِ السُّنَّةِ رافعِ رايتِها، وعدوّ البدعةِ وكاشفِ سوأتها، الإِمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، فكانَ لها
(62) رسالته في "السنَّة" أو "اعتقاد السلف" نص: 6.
(63)
"شرح أصول اعتقاد أهل السنة" 2/ 330.
وإخوانُه بالمِرْصادِ، كما وقفَ لهم حين صرَّحوا بخلق القرآنِ، فبدَّدَ ظلامَها بنور الكتابِ وهدي خير الأنام، فعَقَلَ كلامَه من عقَلَه فنفَعَهُ الله، وكانَ على هدًى مستقيم، وعَمِيَت بصائرُ أقوام فضلّوا عن القَصْدِ، وما فَقِهوا مقالَه، فتمكّنتْ منهم الأهواءُ حتى بلغَت منهم الجَهْدَ، وربَّما كانت فيهم رؤوس تُنَّظَرُ أقوالُهم، بسَبب ما فيهم من الزَّهادةِ والعبادةِ، والعلمِ بالفروع وكثيرٍ من الأصول، ولكنَّ الهدى كلّ الهدى أنْ يُتّبعَ السَّلَفُ الكِرام، فإنَّ العبدَ إن التفتَ إلى مَن بعدهم بعدَ دخول الأهواء في الأصولِ والفروعِ، فإنَّه لا يضمَنُ السَّلامة في الدِّيانة، وإنَّما يُعْتَبَرُ العالمُ من الخَلَفِ، بمقدارِ ما يَقْتدِي فيه بالسَّلف.
وكلُّ خيرٍ في اتباعِ مَنْ سَلَفْ
…
وكلُّ شرّ في ابتداع مَن خَلَفْ
والله المستعان ولا حولَ ولا قوة إلَاّ بالله.