الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: بيان هل اللفظ هو الملفوظ؟ أم غيره
؟
وقوعُ الإِجْمالِ في إطلاق القَوْلِ: اللَّفْظ هو المَلفوظُ، أو غيرُهُ، وكذلك: القراءةُ هي المقروءُ أو غيرُهُ، وكذلك: التّلاوةُ هي المتلوُّ، أو غيره، أعظمُ مَوارد اللّبس في هذه القضيّة.
وبيانُ ذلك كما يأتي:
(اللَّفظ، القِراءة، التِّلاوة) ألفاظٌ تُطلَقُ على المَصْدَر الذي هو فِعْلُ اللَاّفظ، والقارئ، والتالى، وكَسْبُهُ الذي يكونُ بآلاتهِ وجوارحهِ، ومنه صَوْتُه وحَركةُ شَفَتَيْهِ.
وتُطْلَقُ على المَفْعول، الًذي وقعَ عليه فعل القارىءِ، وهو المَلفوظ، المقروءُ، المتلوُّ.
والأغلبُ استعمالُها في المَصادرِ في لُغَةِ العَرَبِ، لكنَّهم يستعملونَ المصدرَ بمعنى المَفْعولِ.
قال إمامُ العربية سِيبَوَيْه رحمه الله: "وقد يجيء المصدرُ على المفعول، وذلك قولُكَ:(لَبَنٌ حَلَبٌ) إنَّما تريدُ: مَحلوب، وكقولهم:
(الخَلْق) إنَّما يُريدونَ: المَخلوق، ويقولونَ للدِّرْهم:(ضَرْبُ الأمير) وإنَّما يريدون: مضروب الأمير".
قال: "وربَّما وقع على الجَميع"(2).
قلتُ: ومثالُه قوله تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} [الزمر: 6] فالخَلْقُ هُنا المَصْدر، وهو فعلهُ تعالى، وقوله:{وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119]، فالخَلْق هنا المخلوقُ، الذي هو مفعولُ الربّ تعالى.
قال ابنُ قُتَيْبَةَ رحمه الله: "القراءةُ قد تكون قرآناً، لأنَّّ السَّامعَ يسمَعُ القراءةَ، وسامعُ القراءةِ سامعُ القرآنِ، وقال الله عز وجل:{فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الأعراف: 204]، وقال:{حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ} [التوبة: 6].
قال: "والعربُ تُسمّي القراءةَ قرآناً، قال الشاعرُ في عثمانَ بن عفَّان رضي الله عنه:
ضَحّوا بأشْمَطَ عنوانُ السُّجودِ به
…
يُقَطِّعُ الليل تَسْبيحًا وقرآناً
أي: تسبيحًا وقراءةً.
وقالَ أبو عُبيد: يقالُ قَرأتُ قِراءة، وقُرآناً، بمعنى واحدٍ.
فجعَلَها مَصْدَريْن لقرأتُ.
وقال الله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] أي: قراءة الفَجْر" (3).
(2)"الكتاب " 4/ 43، 44.
(3)
"الاختلاف في اللفظ" ص: 245 - ضمن عقائد السلف-.
وفي هذا جميعاً كانت القراءة هي المقروءَ.
وكذلك فإن القراءةَ عَمَلٌ، يُثابُ عليها فاعلُها، وكذا يقَعُ المَدْحُ لِقراءة قارىءٍ، والذَّمُّ لِقراءةِ آخر، والمُفاضَلةُ بين قِراءةِ قارىءٍ وآخر، وفي هذا كانت القراءةُ فعلَ القارىء.
فلمَّا كانت هذه الألفاظُ تأتي بالمَعْنيين، بمعنى فِعْلِ اللَاّفظ، والقارىء والتالي، وما وقَعَ عليه فعلُهُ، وهو الملفوظُ المقروءُ المتلوّ، منعَ
الإِمامُ أحمدُ وغيرُهُ من أئمَّة السُّنَّة من إطلاقِ كِلَا اللَّفْظين في كَلامِ الله تعالى -كما سيأتي- فلا يقالُ: اللَّفْظ هو المَلفوظُ، ولا يقال: غيره، وكذلك القراءةُ والتّلاوةُ، لمِا في الإطلاقِ من إيهامِ مَعانٍ فاسِدةٍ.
فلو أطْلِقَ القولُ: (لَفْظي بالقرآن مخلوقٌ) دخَلَ في الإِطلاق فعلُ اللافظ، وحركتُهُ، وصوتُهُ، وهو حَقٌّ، ودخلَ الملفوظُ الذي هو كلامُ الله المؤلّفُ من الحُروفِ المَنطوقة المَسْموعةِ المَفْهومةِ، وهو باطلٌ.
وهذا هو مُرادُ من أطلقَ ذلكَ، لأنَّ أوَّلَ من أطلقه الجَهْمِيَّةُ القائلون بأنَّ القرآنَ مخلوقٌ (4).
وإنْ أطْلَقَ القولُ: (لَفْظي بالقرآن غيرُ مخلوقٍ) دخَلَ في الإِطلاق أيضاً فعلُ اللافظ، وهو باطلٌ، فإنَّ أفعالَ العباد جَميعاً مخلوقةٌ لله تعالى، كما قال الله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] ودخلَ الملفوظُ الذي هو كلامُ الله، وهو حَقٌّ، فإنَّ كلامَ الله تعالى غيرُ مخلوقٍ، حُروفَه ومعانِيَهُ.
(4) كما قالَ ذلك شح الإِسلام، "مجموع الفتاوى" 8/ 407.
قال شيخُ الإِسلام: "واللَّفظُ في الأصْلِ: مصدرُ (لَفَظ، يَلْفِظ، لفظاً) وكذلك: التلاوةُ، والقراءةُ، لكنْ شاعَ استعمالُ ذلك في نفسِ الكلام المَلفوظ المقروء المتلوّ، وهو المُراد باللفظ في إطلاقهم، فإذا قيلَ: (لفظي، أو: اللفظ بالقرآن مخلوق) أشْعرَ أنَّ هذا القرآنَ الذي يقرؤُهُ ويَلْفِظُ به مخلوقٌ، وإذا قيل: (لفظي غيرُ مَخلوق) أشْعر أنَّ شيئاً ممَّا يُضافُ إليه غيرُ مخلوقٍ، وصوتُهُ وحركَتُهُ مخلوقانِ، لكنَّ كلامَ الله الذي يقرؤه غيرُ مخلوقٍ، والتلاوةُ قد يُرادُ بها نفسُ الكلام الذي يُتلى، وقد يُرادُ بها نفسُ حركَةِ العبدِ، وقَدْ يُرادُ بها مَجموعُهما، فإذا أريدَ بها الكلامُ نفسُه الذي يُتلى فالتلاوةُ هي المتلوُّ، وإذا أريدَ بها حركةُ العَبْدِ فالتلاوةُ ليسَتْ هي المتلوَّ، وإذا أريدَ بها المجموعُ فهي متناولةٌ للفعلِ والكلامِ، فلا يُطلَق عليها أنها المتلوُّ، ولا أنَّها غيرُهُ"(5).
قلتُ: ولِذا قالَ الِإمام أحمدُ رحمه الله: "مَن قالَ: لَفْظي بالقرآن مخلوقٌ فهو جَهْمِيٌّ، ومَن قالَ: غيرُ مخلوقٍ، فهو مُبْتَدِعٌ، لا يُكلَّم"(6).
وقال عبد الله ابنُه: وكانَ أبي رحمه الله يكرَهُ أنْ يُتَكَلَّمَ في اللَّفْظِ بشَيْءٍ، أو يُقالَ: مخلوقٌ، أو غيرُ مَخلوقٍ (7).
(5)"مجموع الفتاوى" 12/ 306 - 307.
(6)
رواه الخلاّل في "السنة" -كما في "مجموع الفتاوى" 12/ 325 - بسند صحيح عن أحمد.
وكذا رواه ابن جرير في "صريح السنَّة" رقم (32) -وعنه: اللالكائي في "السنَّة" 2/ 355 - عن جماعة عن أحمد نحوه.
(7)
"السنَّة" لعبد الله رقم (186).
وسيأتي شرح قولِ الطائفتين: النافيةِ، والمثبتةِ.
المقصودُ هنا بيانُ عدَمِ صحَّةِ إطلاقِ القولِ بخَلْق اللَّفظِ وعدَمهِ في كلام الله تعالى.