الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: ذكر ما حرفت المعتزلة من معاني التنزيل لابطال صفة الكلام
• أولا: تكليم الله تعالي لموسي عليه السلام:
قالوا: إنَّ الله خلَقَ كلاماً في الشَّجَرةِ التي أتاها موسى فسَمِعَه موسى.
واستدلّوا بقوله تعالى: {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} [القصص: 30] على أنَّ ابتداء الكلامِ كان من الشَّجَرة.
فحرَّفوا التنزيلَ، ليُثْبِتوا التَّعْطِيلَ، بتَقرير أصلِهم الفاسدِ، ونَفْيِ صفة الله تعالى.
والرد عليهم من وجوه:
الأول: أنَّ الكلامَ هو ما قام بالمتكلّم لا ما قامَ بغيره، وقيامُ الصفة إنَّما يكونُ بالموصوف بها لا بغيرهِ، والصِّفَةُ إذا قَامَتْ بمحلّ كانتْ صفةً له لا صفةً لغيرهِ -كما فصّلتُ القولَ فيه في الباب الأوَّل- فما خلقَه الله تعالى من الصفاتِ في الأشياء ليسَ مِن ذلك شَيْءٌ صفةً له، إنَّما هي صفاتٌ
لمَخلوقاتهِ، فهو تعالى قد أنطَقَ سائرَ الأشياءِ نُطْقاً مُعتاداً أو غيرَ معتادٍ، فأنْطقَ الإِنسانَ والجانَّ وغيرَ ذلك من خلقهِ نُطْقاً مُعتاداً، وأنطقَ السماوات والأرْضَ وما بينَهما نُطْقاً غيرَ معتاد، كما قالَ تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الِإسراء: 44] وقالَ في غير موضِع {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} وأنْطَقَ الطيرَ لسُليمانَ، وأنْطَقَ النَّملةَ، وأسمَعَ نبيَّه صلى الله عليه وسلم تسبيحَ الحَصى (19)، وفي الآخرة تَنْطِقُ الجنَّةُ والنَّارُ، وتُحَدَّث الأرضُ بأخبارها، وتشهَد الجلودُ على أهلِها حين تُبْلى السَّرائرُ:{وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصْلت: 21] فكلُّ هذا الِإنطاقِ مِن خَلْقِ الله في الأشياء، فنُطْقُها صفاتٌ لها، ولا يقولُ أحَدٌ: إنَّ نُطْق الأشياءِ صفَةٌ لله، إلَاّ حُلوليّ مارقٌ يعتقدُ أنَّ صفةَ الله تَحُلُّ في المَخلوقِ، أو اتّحاديٌّ يَرى اتّحادَ المَخلوق في الخالِق، فَنُطْقُ المَخلوق وصوتُهُ وكلامُهُ هو بعينهِ صفةُ الرَّبّ تعالى، كما قالَ قائلهُم:
وكلُّ كَلامٍ في الوُجودِ كَلامُهُ
…
سَواءٌ عَلَيْنا نَثْرُهُ ونِظامُهُ
وهذا غايةُ الكُفْر والإِلحادِ، إذ مقتضاهُ أنَّ ما يَنْطِق به المخلوقُ من الخَيْر والشَّرّ وفُحْش القَوْلِ، بل وحتَّى أصوات البهائم وسائر الحَيواناتِ، كلُّ ذلك صفةٌ للرَّبِّ تعالى وتقدَّسَ وتنزَّةَ عن صفات خلقهِ.
فلو أخلصَت المعتزلةُ النيَّةَ لله وسألوه التَّوفيق لاهتدوا إلى فُحْشِ ما
(19) كما ورَد ذلك بإسناد صحيح، خرجته وفصّلت القول فيه في تعليقي على "مناظرة ابن قدامة".
أقدَموا عليه، ولكنَّهم حُرِموا ذلك فهُم عن الصِّراط لناكبونَ، فَحَسِبوا أنَّ الصَّوتَ الذي سَمِعَه موسى صَوْتٌ مَخلوقٌ في الشَجرةِ، كنحو صَفير وَرَقِها إذا عصَفَت الرِّيحُ، وما عَقَلوا أنَّ معنى هذا أنَّ الشجرةَ هي القائلةُ لموسى:{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] وهي القائلةُ: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30] ولا فَرْقَ حينئذٍ بين دَعوى الشَّجرةِ ودَعوى فرعونَ، فكلٌّ ادّعى الرُّبوبيّة، فصدَّق موسى الشجرةَ وكذَّبَ فِرْعون.
والثاني: أنَّ الله تعالى حين أخبرَ عن تكليمهِ لموسى قال: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً} فَأكَّدَهُ بالمَصْدَر {تَكْلِيماً} وقد قالَ جماعةٌ من أهل التَّحقِيقِ في العربيةِ: "إنَّ التوكيدَ بالمصْدَر ينفي المَجاز".
والثالث: قالَ ابن قُتَيْبَة رحمه الله: "خَرَجوا بهذا التأويلِ من اللغةِ ومن المَعقولِ، لأنَّ معنى (تكلَّمَ الله) أتى بالكلام مِن عندهِ، و (ترحَّمَ الله) أتى بالرَّحْمة مِن عندِه، كما يقال:(تخشَّعَ فلان) أتى بالخشوع من نفسهِ، و (تشجَّع) أتى بالشَّجاعةِ من نفسهِ، و (تبتَّل) أتى بالتبتّل من نفسهِ، و (تحلَّم) أتى بالحلْم من نفسهِ، ولو كانَ المرادُ: أوجَدَ كلاماً، لمْ يَجُزْ أنْ يُقال:(تكلَّم) وكانَ الواجبُ أن يقالَ: (أكلمَ) كما يقال: (أقبحَ الرجُلُ) أتى بالقَباحة، و (أطابَ) أتى بالطيّب، و (أخسَّ) أتى بالخَساسةِ، وأنْ يقال:
(أكلمَ الله موسى إكلاماً) كما يقال: (أقبرَ الله الرَّجلَ) أي جعَلَ له قَبراً، أو (أرْعى الله الماشيةَ) جعلها ترعى، في أشباه لهذا كثيرةٍ لا تَخفى على أهلِ اللغة" (20).
(20)"الاختلاف في اللفظ" ص: 233 - 234 - "عقائد السلف" -.
والرابع: أنَّ تكليمَ الله تعالى لموسى كان خصيصةً فُضِّلَ بها على غيره مِمَّن لَمْ يُؤْتَ مثلَ ما أوتي من الرُّسل، وقد قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51] فإنْ كانَ التكليمُ لموسى حصَلَ بواسطةِ الشَّجَرة لم يكن له على مَن سِواه مِمَّن يوحى إليه بواسطةِ الرَّسولِ فضْلٌ، ولَمْ تكن منزلةُ التكليم من وراء حِجابٍ حاصلةً لأحَد من رسُل الله، وهذا تكذيبٌ للقرآن، وإبطالٌ لواضِح البُرْهان، فجازى الله تعالى الجَهميةَ المعتزلة على ما أرادوا به إفسادَ دينِ المُسلمينَ بما هم أهلُه.
والخامس: أنَّ قوله: {مِنَ الشَّجَرَةِ} لابتداءِ الغايةِ نحو قولك: (رأيتُ الهلالَ مِنْ داري) و (سمعتُ كلامَ زيدٍ مِن البيت) فليسَ الهلالُ في الدارِ، ولا البيتُ هو المتكلّم.
• ثانيا: إضافة الكلام إلى الله سبحانه وتعالى فى مثل قوله: (حتى يسمع كلام الله):
قالوا: هي إضافَةُ خَلْقٍ وتشريفٍ لا إضافة صفةٍ، كـ (بيت الله) و (ناقة الله) و (رسول الله).
وهذا نوعٌ آخرْ من تَمْويههم وتَلْبيسهم ليَفِرُّوا من الحَقِّ ويُنفِّروا الخلْقَ.
والرَّدُّ عليهم في هذا التشويشِ يطولُ شرحُهُ، ولكن أذكرُ ها هُنا قاعدةً ذكرَها شيخُ الإِسلام رحمه الله في هذه المسألة تغني اللَّبيب عن التفصيل.
قال رحمه الله: "كلُّ ما يُضافُ إلى الله إنْ كَانَ عَيْناً قائمةً بنفسِها فهو مُلْكٌ له، وإن كانَ صفةً قائمةً بغيرِها ليس لها مَحَلٌّ تقومُ به فهو صفةٌ لله"(21).
ومثَّلَ لِما كانَ عيناً قائمةً بنفسِها بقوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس: 13]، وقوله:{فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم: 17] قال: "وهو جبريلُ".
فهذا خَلْقٌ له ومُلْكٌ له، ومثله:(رسول الله) و (عباد الله) و (قبلة الله) ونحو ذلك.
ومثَّل لِما كان صفةً قائمةً بغيرِها بـ (علم الله، كلام الله، قدرة الله، حياة الله، أمر الله).
فهذه إذا أضيفتْ إلى الله تعالى كانتْ صفاتٍ له.
قال: "لكن قد يُعبَّرُ بلفظِ المَصْدَر عن المفعولِ به، فيُسمَّى المعلومُ علماً، والمقدورُ قدرةً، والمأمورُ به أمْراً، والمخلوقُ بالكلمةِ كلمةً، فيكون ذلك مخلوقاً، كقوله:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]، وقوله:{إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ (22) بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [آل عمران: 45] وقوله: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171](23)
(21)"مجموع الفتاوى" 9/ 290.
(22)
في الأصل المنقول عنه: (إنا نبشرك بكلمة) وهو خطأ.
(23)
"مجموع الفتاوى" 9/ 291.
قلتُ: وإنَّما يُصارُ إلى هذا المعنى بالقَرائنِ، أمَّا بمجرَّدِ إضافةِ الصِّفَةِ إلى الله فإنَّها حينئذ صفةٌ له.