الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث العاشر: كلام الله تعالى منزل منه ، منه بدأ وإليه يعود
يَعْتَقدُ السَّلَفُ أنَّ القرآنَ كلامُ الله تعالى، منه خرجَ وبدأ، تكلَّمَ به بحُروفِهِ ومَعانيهِ، فأسمَعَهُ جبريلَ عليه السلام، ونَزل به جبريلُ على قلبِ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، وهو هذا اللِّسانُ العربيُّ المُبينُ، النّازلُ بلغةِ قُرَيْشٍ.
وهذا مُبَيَّن في غيرِ مَوْضع من كتاب الله تعالى، فمِنْ ذلك:
1 -
قولُه تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1].
2 -
وقولُه عز وجل: {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} [طه:4].
3 -
وقولهُ تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل:6].
4 -
وقولُه تعالى: {الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [السجدة: 1 - 3].
5 -
وقولُه جلَّ وَعَلا: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا
أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
…
} [الزمر: 1 - 2].
6 -
وقولُه تعالى: {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [فصّلت:1 - 4].
7 -
وقولُه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41 - 42].
فأخبرَ تعالى في هذه الآيات وما يشبَهُها أنَّ القرآنَ العربيَّ الذي هو كلامهُ، إنَّما هو تنزيلُه، نَزلَ منهُ، فمنه بدَأ وَخَرَجَ لا مِنْ سِواه.
8 -
فأنبأ تعالى في هذه الآياتِ أنَّ القرآنَ العربيَّ نزَلَ به رُوحُ القُدُس منه، ورُوحُ القُدُس هو جبريلُ عليه السلام، كما قال تعالى:{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 97].
فليسَ هو كلامَ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم-كما زعَمَ الكفَّارُ- ولا كلامَ جبريلَ عليه السلام -كما زعمَه بعضُ أهلِ البِدَع- وإنَّما هو كلامُ الله تعالى، منه بدأ وخَرَجَ، وهو الذي أنزلَه بواسطةِ رسولهِ الملَك جبريلَ، فمن قال غير هذا فقَدْ
كَفَرَ، لأنَّه كذَّبَ الله في قولِهِ، وجَحَدَ ما أنبأتْ به رسلُه، وإنِ ادّعى الإِسلامَ وانتسبَ إليه، فالإِسلامُ يَبْرأ منه.
وقد ذكرتُ في المَبْحث الخامس أنَّ الله تعالى لم يُضِف شيئاً ممَّا أنزله إلى نفسِهِ غيرَ كلامهِ، وذلك لأنَّه صفتُهُ.
* وأمَّا عَوْدُ كلامهِ تعالى إليه فقد تأوَّلَهُ بعضُ أهلِ السُّنَّة بعَودِ تلاوته وقراءته التي هي كَسْبُ العبدِ.
وهذا المعنى حَق، فإنَّه تعالى:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] ولكن ليسَ هو المُرادَ في تفسيرِ هذه اللَّفْظَة (وإليه يعودُ) وإنَّما المرادُ أن كلامَ الله تعالى يُسرى عليه في ليلةٍ فَيُرْفَع من المَصاحفِ، وصُدور الحُفَّاظ، فلا تَبْقى في الأرضِ منه آية.
وبهذا جاء الخبرُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وغيرِه من أصحابه.
فأمَّا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعَنْ حذيفةَ بن اليَمان وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يُسْرى على كتاب الله لَيْلاِّ، فيُصْبحُ الناسُ ليس في الأرضِ، ولا جوفِ مسلمٍ منه آية"(64).
وأما الخَبَرُ عن أصحابهِ، فوردَ عن أبي هريرة وابن مسعود.
1 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
(64) حديث صحيح، خرجته وحققته في التعليق على "اختصاص القرآن" لضباء الدين المقدسي تعليق (68).
"يُسْرى على كتاب الله، فيُرْفَعُ إلى السَّماءِ فلا يُصْبِحُ في الأرض آيةٌ من القرآنِ، ولا من التوراةِ، والإِنجيل، ولا الزَّبورِ، ويُنْتَزَعُ من قُلوبِ الرِّجالِ، فيُصْبِحونَ ولا يَدْرون ما هو"(65).
2 -
وعن شَدَّاد بن مَعْقِل أنَّ عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال:
"لَيُنْتَزَعَنَّ هذا القرآنُ من بين أظْهُرِكُمْ".
قال: قلتُ: يا أبا عبد الرَّحمن! كيفَ يُنْتَزَعُ وقد أثْبَتْنَاهُ في صُدورِنا، وأثبتناهُ في مَصاحِفنا؟
قالَ: "يُسْرى عليهِ في ليلةٍ، فلا يَبقى في قَلْبِ عَبْدٍ منه، ولا مُصحَفٍ منه شَيْءٌ، ويُصْبِحُ الناسُ فُقَراءَ كالبَهائم".
ثمَّ قرأ عبد الله: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} [الإسراء: 86](66).
وهذان الأثران تضَمَّنا الِإخبارَ عن غيبٍ، لا يقال إلَاّ بتوقيف.
فبهذا يظهرُ لكَ معنى قولِ من قال من السَّلَفِ: (القرآنُ كلامُ الله، مُنْزَلٌ غيرُ مَخْلوقٍ، منه بدّأ وإليه يَعودُ).
والمَصيرُ إلى هذا التفسير واجِبٌ لدلالةِ ما ذكرنا من الأخبار.
وقال شَيْخُ الإِسلام: "فقالوا: (منه بدأ) ردّاً على الجَهْميةِ الذين
(65) حديث صحيح، وانظر تحقيقه في التعليق على "اختصاص القرآن" تعليق (68).
(66)
حديث صالح الإِسناد وانظر تحقيقه في التعليق على "اختصاص القرآن" تعليق (74).
يقولون: بدأ من غيرهِ، ومقصودُهُم أنَّه هو المتكلِّمُ به، كما قالَ تعالى:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وقالَ تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي
…
} وأمثال ذلك" (67).
قال: "وأمَّا (إليه يَعودُ) فإنه يُسْرى به فى آخِر الزَّمانِ، من المَصاحفِ والصُّدور، فلا يبقى في الصُّدور منه كلمةٌ، ولا في المصاحف منه حرفٌ"(68).
قلتُ: والتنصيص على هذه العقيدةِ مأثور عن جَماعةٍ من أئمَّةِ السَّلَف، منهم:
1 -
عَمْرو بن دينار (أحد خيار التابعين وثِقاتِهم وأئمَّتِهم).
قال: "أدركْتُ أصحابَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم (69) فمَنْ دونَهم منذُ سَبعينَ سنةً، يقولونَ: الله الخالقُ، وما سواهُ مَخْلوقٌ، والقُرآنُ كلامُ الله منهُ خرجَ وإليه يعودُ".
2 -
سفيان الثَّوْري (الإِمام العَلَم).
قال: "القرآنُ كلامُ الله غيرُ مَخلوقٍ، منه بَدَأ وإليه يعودُ، مَنْ قال غيرَ هذا فهو كُفْرٌ"
(67)"درء التعارض"2/ 113.
(68)
"مجموع الفتاوى" 3/ 174 - 175 عن المناظرة في الواسطية.
(69)
ذكر الحافظ ضياء الدين المقدسي في "اختصاص القرآن" فقرة (6) عشرة أنفس من الصحابة أدركهم عمرو بن دينار فيهم: عبد الله بن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وجابر بن عبد الله، وغيرهم، وانظر قول ابن راهُوَيْه السابق ص 139.
3 -
سفيان بن عُيَيْنَة (إمامٌ حافِظٌ).
سأله رجُلٌ: يا أبا محمَّدٍ، ما تقولُ في القرآنِ؟ فقال:"كَلامُ الله، مِنْهُ خَرجَ وإليه يَعودُ".
4 -
أبو بكر بن عيَّاش (إمامٌ محدِّثٌ صاحِبُ سُنَّة).
قال: "القرآنُ كلامُ الله، ألقاه إلى جبرائيلَ، وألقاهُ جِبرائيلُ إلى محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، منه بدَأ، وإليه يعودُ"(70).
5 -
الِإمام أحمدُ بن حنبل.
قال: "لقيتُ الرِّجالَ، والعُلَماءَ، والفُقَهاءَ، بمكَّةَ، والمَدينةِ، والكُوفةِ، والبَصْرةِ، والشامِ، والثُّغورِ، وخُراسانَ، فرأيتُهم على السُّنَّة والجَماعَة، وسألتُ عنها -يعني هذه اللفظة- الفُقَهاءَ؟ فكلٌّ يقولُ: القرآنُ كلامُ الله غيرُ مَخْلوق، منه بدَأ، وإليه يعودُ"(71).
وقالَ: "لم يَزَلِ الله عالماً متكلّماً، نعبُدُ الله لصِفاتهِ، غير محدودَةٍ ولا مَعلومةٍ إلَّا بما وصَفَ به نفسه، ونردُّ القرآن إلى عالمهِ تبارك وتعالى، إلى الله، فهو أعلَمُ به، منه بَدَأ وإليه يَعودُ"(72).
6 -
أبو جعفر أحمد بن سِنان الواسطي (حافِظٌ ثَبْتٌ، من شُيوخِ
(70) جميع هذه الآثار الأربعة صحيحة، خرجتها في تعليقي على "اختصاص القرآن" وأثر عمرو قد سبق ص 138.
(71)
ذكر هذا النص الحافظ الضياء في "اختصاص القرآن" عن المرّوذى عن أحمد، فقرة (9).
(72)
رواه حنبل فى "المحنة" ص: 45 عنه به.
البُخاريّ ومُسْلم).
قال: "مَن زَعَمَ أنَّ القرآنَ شَيْئَين (73) أو أنَّ القرآنَ حِكايةٌ، فهو والله الذي لا إله إلَاّ هو، زِنديقٌ كافرٌ بالله، هذا القُرْآنُ هو القُرآنُ الذي أنزله الله على لسانِ جبريلَ على محمَّد صلى الله عليه وسلم، لا يغيَّر ولا يُبَدَّل:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، كَما قالَ الله عز وجل: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِه
…
} [الِإسراء:88]، ولو أنَّ رجلاً حلفَ لا يتكلَّمُ اليومَ، ثمَّ قرأ القرآنَ، أو صلَّى وقرأ القرآنَ، أو سلَّمَ في الصَّلاةِ، لم يحنَثْ، لا يُقاسُ بكَلام الله شَيْءٌ، القرآنُ كلامُ الله، منه بَدَأ وإليه يَعودُ، ليس من الله تعالى شَيْءٌ مخلوقٌ، ولا صِفاتُهُ، ولا أسماؤُهُ، ولا عِلْمُهُ" (74).
ونقلَ شيخُ الإِسلام اتّفاقَ السَّلَفِ والأئمَّةِ على ذلك في غيرِ موضع من كلامه (75).
تنبيه:
ويجب أن يُعلَمَ أنَّه ليسَ معنى قولهم (منه خَرَجَ) أنَّ صفةَ الكلام فارَقَتْهُ تعالى، وحلَّتْ في غيرهِ، وأنَّ ما تكلَّم به نُسِبَ إلى غيرِه، وصارَ وصفاً لذلك الغَيْر -كما قد وَسْوَسَ به بعضُ أهل البدَع- فإنَّ هذا المعنى لا يُعقَل في حَقّ الِإنسانِ المَخلوقِ الضَّعيفِ، إذا تكلَّمَ بكلام تزولُ عنهُ صفةُ
(73) هكذا على النصب في الأصل، وهي متجهة على تقدير محذوف، ولذا أثبتها كما هي.
(74)
صحيح الإِسناد، أخرجه الضياء في "اختصاص القرآن" رقم (16).
(75)
انظر: "مجموع الفتاوى": 6/ 528، 12/ 164.
الكَلام بذلك وتفارقُه إلى غيرهِ، فإنَّ من كانَ كذلكَ لم يمكِنْه الكلامُ إلَاّ مرّةً واحدةً، فإذا تكلَّمَ هذه المرَّة فارقَتْهُ صفتُهُ، لأنَّ الكلامَ خرَجَ منه وفارقَهُ، وبمفارقته زالتْ عنه الصّفة ولَحِقَتْ غيرَهُ، هذا كلامٌ لا يقوله مَن يَدري ما يقولُ، فإنَّ مَنْ وُصِفَ بالكلام على هذا المعنى موصوفٌ بالعَجْز عنه، وهو غيرُ متصوَّرٍ في حقّ الناطق المَخلوق على ضَعْفه، فكيف تصوَّرَهُ هؤلاء الضُّلَاّلُ في حقّ الله الذي ليسَ كمثلهِ شيءٌ، فإنَّه تعالى وصفَ نفسَه بأنَّه متكلمٌ بكلامٍ متعلقٍ بمَشيئتهِ وقُدْرتهِ، يُسْمِعُه من شاءَ من خلقهِ، متى شاءَ، وأنَّ كلماتِهِ تعالى لا تَنْفَدُ، ومن كان هذا وصْفُهُ لم تفارقْهُ صفَتُهُ بتكلّمهِ مرَّةً أو مرَّاتٍ، وكانَ كلُّ ما تكلَّمَ به منسوباً إليه لا إلى غيرِهِ.
قالَ الإِمام الحافظُ أبو الوليد الطَّيالِسيُّ: "القُرْآنُ كلامُ الله ليسَ ببائنٍ من الله"(76).
وقال شيخ الإِسلام: "وإنَّ قولَ السَّلَف: (منه بدأ) لم يُريدوا به أنه فارقَ ذاتَهُ، وحَلَّ في غيره، فإنَّ كلامَ المخلوقِ، بل وسائرَ صفاتهِ لا تفارقُه وتَنْتَقِلُ إلى غيرِهِ، فكيفَ يجوزُ أنْ يفارقَ ذاتَ الله كلامُه أو غيرُهُ من صفاتِهِ"(77).
قلتُ: قالَ الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة:6] فالَّذي يسمَعُهُ المُشْرك المستجيرُ من القارئ إنَّما هو كلامُ الله المضافُ إليه لا إلى غيرهِ، فلو أن كلامَه بانَ منه
(76) رواه أبو داود في "المسائل" ص: 266 بسند صحيح عنه.
(77)
"مجموع الفتاوى" 12/ 274 وانظر: 12/ 517 - 518، 561،550.
وفارقَه لَما صَحَّتْ إضافَتُهُ إليه إضافةَ الصِّفَةِ إلى الموصوفِ.
وهذا الكلامُ بعَيْنِهِ هو الذي في مَصاحفِ المُسلمينَ بلا شَكٍّ ولا ريبٍ، خِلافاً لِلَّفظيةِ من الأشعريةِ وغيرهم القائلينَ بأنَّ ما في المَصاحفِ دلالةٌ على كلام الله، وليسَ هو كلامَ الله، وقد قالَ الله تعالى:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فأبان أنَّ كلامَه الذي هو وحيُهُ وتنزيلُهُ يكونُ في الكتاب المكنونِ، فكذلك كونُه في المَصاحفِ، ونحنُ لا نعلَمُ القرآنَ إلَاّ هذا العربيَّ المنزَلَ، وهو الذي سمَّاه الله تعالى كلامَه.
وقَدْ قالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
"لا تُسافِروا بالقرآن إلى أرْضِ العَدُوّ، فإنِّي أخافُ أن ينالَهُ العدوُّ"(78).
ولا خِلافَ في أنَّ النَّهيَ عن السَّفر بالقرآن، إنَّما هو النَّهْيُ عن السَّفَرِ
(78) حديث صحيح.
أخرجه مالك2/ 446 والشافعي رقم (1149، 1150) وأحمد رقم (4507، 4525، 4576، 5170، 5293) والبخاري 6/ 133 ومسلم رقم (1869) وأبو داود رقم (2610) والنسائي في "فضائل القرآن" -من "الكبرى"- رقم (85) وابن ماجة رقم (2879، 2880) من طرق عن نافع عن ابن عمر به مرفوعاً.
وتابع نافعاً عليه عبد الله بن دينار، أخرجه أحمد رقم (6124) وابن أبي داود في "المصاحف" ص: 183 بسند صحيح عنه.
وكذا تابعه سالم عن أبيه، أخرجه ابن أبي داود ص: 179 - 180 بسند صالح في المتابعات.
وهذا حديث جليل قد أفردت الكلام عليه إسناداً ومتناً في جزء.
بالمَصاحفِ، لأنَّ القرآنَ إنَّما يكونُ فيها، وهي التي تُحْمَلُ وتُنْقَلُ، ولا نعلَمُ القرآنَ إلَاّ كلامَ الله المنزَلَ على الحقيقةِ.
قال شيخُ الإِسلام: "وممَّا كانَ أحمدُ أنكرَه من قولِ الجهميَّةِ قولُ من زعَمَ أنَّ القرآنَ ليسَ في الصُّدورِ، ولا في المَصاحفِ"(79).
قلتُ: وفي الباب الثالث في إبطال اعتقادِ الأشعرية ما يتضمَّنُ إبطالَ قَوْلِ من قال: ليسَ القرآن في المُصْحَف على الحَقيقةِ، وإنَّما فيه الدلالة عليه.
والله تعالى أعلم، وما توفيقي إلَاّ به عليه توكَّلت وإليه أنيب.