المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: ذكر شبه المعتزلة ونقضها - العقيدة السلفية فى كلام رب البرية وكشف أباطيل المبتدعة الردية

[عبد الله الجديع]

فهرس الكتاب

- ‌مدخل

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الكتاب

- ‌التنبيه على مسائل يحتاج إليها قبل الشروع في المقصود

- ‌ المسألة الأولى:

- ‌ المسألة الثانية:

- ‌ المسألة الثالثة:

- ‌ المسألة الرابعة:

- ‌ المسألة الخامسة:

- ‌مجمل خطة تأليف الكتاب

- ‌الباب الأول: العقيدة السلفية في كلام رب البرية

- ‌الفصل الأول: بيان حقيقة الكلام

- ‌المبحث الأول: حقيقة الكلام

- ‌المبحث الثاني: حقيقة المتكلم

- ‌المبحث الثالث: أنواع الكلام

- ‌ الأول: الخبر:

- ‌ والثاني: الإنشاء:

- ‌الفصل الثاني: عقيدة السلف في إثبات الصفات

- ‌قاعدة جلية في الاعتقاد

- ‌الفصل الثالث: شرح اعتقاد السلف فى كلام الله تعالى

- ‌المبحث الأول: جملة اعتقاد أهل السنة في كلام الله تعالى

- ‌المبحث الثاني: الأدلة المثبتة لصفة الكلام

- ‌المبحث الثالث: التكليم في الدنيا

- ‌المبحث الرابع: التكليم في الآخرة

- ‌المبحث الخامس: كلام الله تعالى غير مخلوق

- ‌المبحث السادس: الوقف في القرآن

- ‌المبحث السابع: كلام الله تعالى بحرف وصوت

- ‌المبحث الثامن: كلام الله تعالى بمشيئته واختياره

- ‌المبحث التاسع: تفاضل كلام الله تعالى

- ‌المبحث العاشر: كلام الله تعالى منزل منه ، منه بدأ وإليه يعود

- ‌الباب الثاني: توضيح مسألة اللفظ بالقرآن ورفع ما وقع بسببها من الاشكال

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الأول: تفسير الألفاظ المجملة التي وقع بسببها الاشكال

- ‌المبحث الأول: بيان هل اللفظ هو الملفوظ؟ أم غيره

- ‌المبحث الثاني: تبيين المراد بقوله تعالى {إنه لقول رسول كريم}

- ‌الفصل الثاني: مسألة اللفظ وموقف أهل السنة

- ‌المبحث الأول: جملة اختلاف الناس في مسألة اللفظ

- ‌المبحث الثاني: اللفظية النافية جهمية

- ‌المبحث الثالث: إقامة الحجة على بطلان اعتقاد اللفظية النافية

- ‌المبحث الرابع: بيان غلط اللفظية النافية على الامامين أحمد والبخاري

- ‌المبحث الخامس: اللفظية المثبتة مبتدعة

- ‌الباب الثالثعقائد الطوائف المبتدعة في كلام الله تعالى وكشف أباطيلهاوفيه تمهيد وثلاثة

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الأولذكر جملة أقوال طوائف أهل البدع

- ‌ أولا: المتفلسفة وبعض غلاة الصوفية:

- ‌ ثانيا: الجهمية من المعتزلة وغيرهم:

- ‌ ثالثا: الكلابية:

- ‌ رابعا: الأشعرية:

- ‌ خامسا: السالمية ومن وافقهم من أهل الكلام والحديث:

- ‌ سادسا: الكرامية:

- ‌الفصل الثانيكشف تلبيس الجهمية المعتزلة في كلام الله تعالى وحكم السلف والأئمة فيهم

- ‌المبحث الأول: ذكر شبه المعتزلة ونقضها

- ‌المبحث الثاني: ذكر ما حرفت المعتزلة من معاني التنزيل لابطال صفة الكلام

- ‌المبحث الثالث: المعتزلة فى الميدان

- ‌الفصل الثالثكشف تلبيس الأشعريةفي إثبات صفة الكلام لله تعالى

- ‌المبحث الأول: تعريف الكلام عند الأشعرية

- ‌المبحث الثاني: إبطال كون كلام الله تعالى معنى مجرداً

- ‌المبحث الثالث: القرآن العربي عند الأشعرية

- ‌المبحث الرابع: أسماء الله تعالى عند الأشعرية

- ‌المبحث الخامس: وجه التوافق بين قولي المعتزلة والأشعرية في القرآن

- ‌المبحث السادس: الأشعرية وأهل السنة في مسألة القرآن

- ‌خاتمة

الفصل: ‌المبحث الأول: ذكر شبه المعتزلة ونقضها

‌المبحث الأول: ذكر شبه المعتزلة ونقضها

لقد ذكرتُ لك اعتقادَ المعتزلةِ في كلام الله تعالى جُمْلَةً، وأنَّه اعتقادُ الجهميةِ، إذ المعتزلةُ جَهْميَّةٌ في مسألةِ كلام الله وفي غيرها كالصِّفاتِ والرُّؤْية وغيرِ ذلك، واعتقادُهم مخالفٌ للكتابِ والسُّنَّة وإجماع السَّلَف، كما يَظهر لَكَ ذلك من خِلال مُقارَنَتهِ بما شَرَحْناه في الباب الأوَّل.

وإنِّي ذاكرٌ هنا -بحَوْل الله وقوَّته- ما شَبَّهَتْ به المعتزلةُ على من ضَعف تحصيلُه، ومُجيبٌ عن جَميع ذلك بإيجازٍ غيرِ مُخِلٍّ إن شاءَ الله.

• الشبهة الأولى:

القرآنُ شَيْءٌ، وقَدْ قالَ الله تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] ولفظ (كلّ) للعُموم، فالقرآنُ داخِلٌ في عُموم ما خَلَقَ الله من الأشياء.

جوابها:

لا أحسَب أنَّ فسَاد هذا القَوْلِ خافٍ على مَن قالَ به، ولكنَّهم أرادوا إدخالَ الرَّيْب والشَّكِّ على مَن لا يَفْهَم، وذلك أنَّ صيغةَ (كلّ) وما يُشْبِهُها من صِيَغ العُموم، عُمومُ كُلّ منها إنَّما هو بحَسَبهِ، قالَ تعالى في ريحِ عادٍ:

ص: 305

{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25] فالتَّدميرُ إنَّما كانَ بأمْرِه تعالى، وأمرُهُ تعالي كلامُهُ، قال:{فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} فأبانَ أنَّ مساكنَهم لَمْ تُدَمَّر، ومُقتضى ذلك أنَّها لم تُدمِّر الأرضَ ولا الجبالَ ولا غيرَ ذلك مِنْ سِوى أهلِها، فدلَّ ذلك على أنَّ عمومَ (كلّ) إنَّما كانَ في حقّ الكُفّار المُستحقّينَ للوَعيدِ، لا كلّ شَيْءٍ حتى من سِواهُم من الجَماد وغيره، وهذا معقولٌ ظاهرٌ.

وقال تعالى في حَقّ بلقيسَ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] ومعلومٌ أنَّها لَمْ تُؤْتَ ملكَ سليمانَ، ولا غيرَ أرضِها من الأرض.

ولقَدْ أثبتَ تعالى أنَّ له نَفْسًا، قال:{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] وقال: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 41] وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185، الأنبياء: 35] فَهلْ يُدْخِلُ الجَهْميُّ نفسَ الله تعالى في هذا العُموم؟ إنَّ الأنْفُسَ التي تموتُ إنَّما هي الأنفسُ المَخلوقة، أمَّا الخالقُ تعالى بصفتهِ فهو حيّ لا يموتُ.

فدلَّت هذه النُّصوصُ على أنَّ عمومَ (كلّ) إنَّما هو بحَسَبِ المَوضع الذي ورَدَت فيه.

فكذلكَ قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} .

فالله تعالى شَيْءٌ، وصفتُهُ شَيءٌ، قَالَ تعالى:{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 19] والمخلوقُ شيءٌ، والله هو الخالقُ، وليسَ بمخلوقٍ، وصفاتُهُ تابعةٌ لذاتهِ، فليسَتْ بمخلوقةٍ، والقرآنُ كلامُهُ، وكلامُهُ

ص: 306

صفَتهُ، وصفتُهُ غيرُ مخلوقةٍ، فالله شَيْءٌ غيرُ مخلوقٍ، وصفَتهُ شَيْءٌ غيرُ مخلوقٍ، والمخلوقُ مَن وقَعَ عليه فِعْلُ الخَلْق، وهو كلّ شيءٍ سِوى الله تعالى وصفته.

ولكنَّ الجَهْميةَ المعتزلةَ أوقَعَهم في ذلك اعتقادُهم أنَّ الله تعالى لا تقومُ به الصِّفاتُ، فصفاتُهُ عندهم غيرُه، ونحن قَدْ قرَّرنا في الباب الأول أنَّ الصفةَ إنَّما تقومُ بالموصوفِ، والكلامَ إنَّما يقومُ بالمتكلّم، ولا تُعْقَلُ ذاتٌ مجرّدةٌ عن الصِّفات، وهذا من الجَهْميةِ المعتزلةِ هو التعطيلُ لصفاتِ الخالق تعالى، لأنَّ الصفةَ إذا قامَتْ بمَحَلٍّ كانت صفةً لذلك المَحَلّ، فباعتقادِهم تَبْطُلُ جميعُ الصِّفاتِ.

وسبحان مَن شاءَ أن يُظهِرَ مخبوأهم ويكْشِفَ مَستورَهم، فإنَّهم أدخَلوا صفةَ الله تعالى في عُموم (كلّ) في هذه الآية، وأخرَجوا أفعالَ العباد من هذا العموم، وقالوا: أفعالُ العباد غيرُ مخلوقةٍ لله، فكذَّبوا القرآن، من حيثُ أنَّ الله تعالى قال:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] وقال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} فكذَبُوا على الله ربِّ العالَمين، وألْحَدوا في آياتِهِ، فصرَفوا الآيةَ عمَّا هي لَه، واحتجّوا بها على ما لَيْسَت له.

• الشبهة الثانية:

القرآنُ مجعولٌ، قال تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] والجَعْل: الخَلْق.

جوابها:

لفظ (جَعَلَ) يأتي بمعنى (خَلَق) وبغيره.

ص: 307

والقاعِدَة فيه: أنَّه لا يأتي بمعنى (خَلَق) إلَّا إذا تعدَّى إلى مفعولٍ واحدٍ.

ومنه قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189].

وربَّما تعدّى إلى مفعول واحدٍ ولم يَكن بمعنى (خلق) كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} [الأنعام: 100، والرعد: 33] وقوله: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل: 5].

أمَّا إذا تعدَّى إلى مَفعولين فلا يكونُ بمعنى (خلَقَ) بأيّ حالٍ.

ومن ذلك قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} [البقرة: 66] وقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73].

وكذلكَ منه قولُه تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} فالمفعولُ الأوَّل الضَّميرُ والثاني [قُرْآنًا] والمعنى: قُلناه قرآنًا عربيًا، أو بَيَّناه.

فبطلَ تمويه المعتزلةِ بفَضْلِ الله.

وقَدْ أجابَ الإِمامُ أحمدُ رحمه الله المعتزليَّ حينَ احتجَّ عليه بهذه الآية بقوله: "فقد قالَ الله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} أفَخَلَقهم؟ "(9).

• الشبهة الثالثة:

القرآنُ مُحْدَثٌ، كما قال الله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ

(9) رواه صالح في "المحنة" ص: 53 عن أبيه به.

ص: 308

إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء: 2] وكما قال: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} [الشعراء: 5] والمُحْدَث: المخلوق.

جوابها:

قوله (محْدَث) في الأصْلِ من (الحُدوثِ) وهو كونُ الشَّيءِ بعدَ أن لم يكنْ، والقرآن العَظيمُ حينَ كان يَنزِلُ، كان كُلَّما نزَلَ مه شيءٌ كانَ جَديداً على الناس، لَم يكونوا عَلِموه مِن قَبْلُ، فهو مُحْدَثٌ بالنسبة إلى الناسِ، ألا تراهُ قال:{مَا يَأْتِيهِمْ} ؟ فهو محدَثٌ إليهم حين يأتيهم، ومنه قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الله يُحدِثُ لِنبيِّه ما شاءَ، وإنَّ مِمَّا أحدثَ لنبيّه: أنْ لا تكلّموا في الصَّلاة"(10) وأمرُ الله: قولُهُ وكلامُهُ، وهو غيرُ مخلوقٍ، مُحْدَثٌ بالنسْبَةِ إلى العبادِ، أي: جديدٌ عليهم، فليسَ المحدَثُ هنا هو المخلوق.

وهذا الجَواب أحسن ما قيل في ذلك.

قالَ أبو عُبيد القاسِمُ إمامُ العربيةِ: " {محْدَثٍ} حدَثَ عند النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابهِ لمَّا عَلَّم الله ما لم يكن يُعْلَم"(11).

وقال ابنُ قُتَيْبَة: "المحدَثُ ليسَ هو في مَوْضِع بمعنى: مخلوق، فإنْ أنْكَروا ذلك فليقولوا في قول الله:{لَعَل اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلكَ أمْراً} [الطلاق: 1] أنَّه يخْلُقُ، وكذلكَ:{لَعَلهُمْ يَتقُونَ أوْ يُحْدِث لَهُمْ ذِكْراً} [طه: 113] أي: يُحْدِثُ لهم القرآنُ ذِكْراً، والمعنى: يُجَدِّدُ عندَهم ما لَمْ

(10) سبق تخريجه ص 60.

(11)

"خلق أفعال العباد" ص: 37.

ص: 309

يكن، وكذلكَ قولُهُ:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} أي: ذكْرٍ حَدَثَ عندَهم لم يكن قبلَ ذلك" (12).

وقال شَيخُ الإِسلام: "المحدَثُ في الآية ليسَ هو المَخلوقَ الذي يقولُهُ الجَهميُّ، ولكنه الذي أنزلَ جَديداً، فإنَّ الله كانَ يُنْزِلُ القرآنَ شيئاً بعدَ شيْءٍ، فالمُنْزَلُ أوَّلاً هو قديمٌ بالنسبةِ إلى المُنْزَلِ آخراً، وكلُّ ما تقدَّمَ على غيرهِ فهو قديمٌ في لُغَةِ العرَب"(13).

وربَّما أجابَ بعضُ الأئمَّة بغير هذا، لكنَّ هذا أصَحُّ وأظهرُ.

• الشبهة الرابعة:

جَعَلَ الله أمرَه مقدوراً فقال: {وَكَانَ أمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [الأحزاب: 38] وأمرُ الله: كلامُهُ، والمقدورُ: المخلوقُ.

جوابها:

إنَّ لفْظَ: (الأمر) إذا أضيفَ إلى الله تعالى يأتي على تَفْسيرينِ: الأوَّل: يُراد به المَصْدر، كقولهِ تعالى:{لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْر} [الأعراف: 54] وهو غيرُ مخلوقٍ -كما ذكَرْناهُ في الباب الأوَّل في الاحتجاج لهذه المسألة-.

وهذا يُجْمَع على: (أوامر).

والثاني: يُراد به المفعولُ الذي هو المأمورُ المقدورُ، كقولهِ تعالى:

(12)"الاختلاف في اللفظ" ص: 234 - 235 - "عقائد السلف" -.

(13)

"مجموع الفتاوى" 12/ 522.

ص: 310

{وَكَانَ أمرُ اللهِ قَدراً مَقْدُوراً} فالأمرُ ههنا هو المأمورُ، وهذا يُحْمَع على:(أمور) وهو مخلوق.

وسبق أن ذكَرْتُ في الباب السابق أنَّ صيغةَ المَصْدَر قد تَرِدُ بمعنى المفعولِ في كلام العَرَب.

قال شيخ الإِسلام: "ففي قوله: {وَكَانَ أمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً} المرادُ به المأمورُ به المقدورُ، وهذا مخلوقٌ، وأمَّا في قوله: {ذلِكَ أمْرُ اللهِ أنْزَلَهُ إِليْكمْ} [الطلاق: 5] فأمرُهُ كلامُهُ، إذ لَمْ يُنْزِلْ إلينا الأفعالَ التي أمَرنا بها، وإنَّما أنزلَ القرآنَ، ولهذا كقولهِ: {إِن اللهَ يأمُرُكُمْ انْ تُؤدوا الأمَانَاتِ إلى أهلِهَا} [النساء: 58] فهذا الأمرُ هو كلامُهُ"(14).

قلتُ: ونظيرهُ لفظُ (الخَلْق) فإنَّه يأتي مَصْدراً فهو حينئذٍ فِعْلُ الربّ تعالى وصفتُهُ، ويأتي مفعولاً فهو حينئذٍ المخلوقُ الذي وقعَ عليه فِعْلُ الخَلْق.

فليس لفظُ (الأمْر) إذاً على ما قالت الجَهْميةُ المعتزلةُ من اختصاصهِ بالمَفعول المقدورِ.

• الشبهة الخامسة:

سمَّى الله تعالى عيسى (كلمتَه) فقال: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [النساء: 171] وقال: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 45] وعيسى مخَلوقٌ، فالكلمةُ مَخلوقةٌ.

(14)"مجموع الفتاوي" 8/ 412.

ص: 311

جوابها:

إنَّ عيسى عليه السلام مخلوقٌ، خَلَقَه الله بأمْره حين قال له:{كُن} كما قالَ تعالى: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47] وقال: {إن مَثَلَ عِيْسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب ثُم قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] فكانَ عيسى بكلمة الله تعالى وقوله (كُنْ).

فالكلمةُ (كن) لا عَيْنُ عيسى، والمُكَوَّنُ بها هو عيسى عليه السلام. وبهذا أجابَ غيرُ واحد من الأئمَّةِ.

قال قتادةُ -وهو من أئمة التابعينَ في التفسير وغيره- قوله: {بكَلِمَةٍ مِنْهُ} قال: "قوله (كن) فسمَّاهُ الله عز وجل كلمته ، لأنَّه كانَ عن كلمتهِ كما يُقال لِما قدَّرَ الله مِنْ شَيْءٍ: هذا قَدَرُ الله وقضاؤُهُ، يعني به: هذا عن قَدَر الله وقضائِهِ حَدَثَ"(15).

• الشبهة السادسة:

القُرآن تَرِد عليه سِماتُ الحدوثِ والخَلْق، وذلكَ من وجوهٍ عِدَّة:

1 -

قال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] فأخبرَ عن وقوع النَّسْخ فيه.

2 -

هو حروفٌ مُتعاقبةٌ، يَسْبِقُ بعضُها بعضاً.

3 -

لا يكونُ إلَاّ بِمَشيئةٍ واختيارٍ، فيلزَمُ منه أن تَسْبِقه الحَوادثُ،

(15) رواه ابن جرير 3/ 269 بسند صحيح.

ص: 312

ويتأخَّرَ عنها.

4 -

له ابتداءٌ وانتهاءٌ، وأوَّلٌ وآخرٌ.

5 -

هو متبعّضٌ متجزّئٌ.

6 -

مُنْزَلٌ، والنُّزولُ لا يكونُ إلَاّ بحركةٍ وانتقالٍ وتَحَوّلٍ.

7 -

مكتوبٌ في اللَّوْح والمَصاحفِ، وما حُدَّ وحُصِرَ فهو مخلوقٌ.

وهذه الوجوهُ وما يُشْبِهها صفاتٌ للمَخلوق المُحْدَث.

جوابها:

هذه المعاني جميعاً مبنيّةٌ على أصْلِهم الذي ابتدَعوه لإِثبات خَلْق العالَم وقِدَم الصَّانع، وهو الاستدلالُ على حُدوثِ العالَم بطريقةِ الحَركات، فقالوا: لا يُمْكِنُ معرفةُ الصّانع إلَاّ بِإثباتِ حدوثِ العالَم، ولا يُمكنُ إثباتُ حدوث العالم إلَاّ بإثبات حدوثِ الأجسام، والاستدلال على حدوثِ الأجسام إنَّما هو بحُدوث الأعْراضِ القائمة بها كالحرَكة والسُّكون.

فهذا الأصلُ المبتَدَعُ هو الذي جرَّهم إلى القولِ بخَلْقِ القرآن ونَفْي الصِّفاتِ والأفعالِ لله تعالى (16).

ولو أنَّهم سَلَّموا لنُصوص الكتابِ والسُّنَّة لكفَتْهم في ذلك، ولانْتَشَلَتْهُمْ من وَرْطَةِ التَّعْطيل، فإنَّ هذه أَمورٌ لا يُتَوصَّلُ إليها بمُجرَّدِ العقلِ، والله تعالى قد أثبتَ أزليَّتَه وخَلْقَ العالَم بأحسَن البَراهين وأقوى الحُجَج:{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} ؟

(16) انظر: "درء التعارض" 2/ 99.

ص: 313

ونحنُ لا نُناظر المعتزلةَ في دفْع هذه الأباطيل بمُحْدَثاتٍ من الأقوالِ والأصول، ولا نُسلِّمُ لهم قولَهم ودَعْواهم، وإنَّما نرفُضُ ذلك أشدَّ الرَّفْضِ، ونقولُ: هو بِدْعة ضَلالةٌ لِما جَرَّت إليه من الكُفْرِ والباطل -شأنَ سائر البدع- ولا نسلُكُ مَسلكَ أهْل البِدَع في الرَّدِّ عليهم ومناظَرتِهم شأنَ الأشعريةِ والماتُريديةِ أتباع ابن كُلّاب والأشعريّ والماتُريديّ، فإنَّ هؤلاء أرادوا نقضَ ضَلالات المُعتزلةِ بنفس طريقتِهم، فتَراهم تابَعوهم في هذا الأصل الذي ذكَرْناه عنهم، فتسلَّطت عليهم به المعتزلةُ وأظهَرت تناقُضَهم.

وصدَق فيهم شيخ الإِسلام حين قال: "فهم قَصَدوا نَصْرَ الإِسلام بما يُنافي دينَ الإِسلام"(17).

وأصلُ المعتزلةِ الذي ابتدَعوه أوقعَهم في قياسِ صفةِ الخالقِ على المخلوق وصفتهِ، فإنَّهم إنَّما بَنوا أصلَهم على ما عَهِدُوه في المخلوق من أحوالٍ وصفاتٍ، فحَسبوا أن ذلك يَلْحَقُ صفةَ مَن {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فقاسُوا ما لَمْ يُحيطوا به عِلْماً على ما حصّلوهُ من الظنونِ والأوهام التي حَسِبوها غايةَ العلوم.

وهذا مِن أعظَم ما أدخلَه الشَّيطانُ -لعنه الله- من التلبيس على هؤلاء أنْ زيَّنَ لهم ابتداعَ أصولٍ لم تَرِدْ في كتابٍ ولا سُنَّة، فالتَزموها، والتَزموا بسَبَبها خِلافَ الشَّريعةِ، فجَعلوها الحاكمَ على الكتابِ والسُّنَّة، ومِنْ تلكَ الأَصولِ الفاسدةِ هذه الدَّعاوى المجرّدةُ عن البُرهاَن مِمَّا هو مَحْضُ العُقولِ الزَّائفةِ، القَفْرِ من نُور الوَحْي.

(17)"مجموع الفتاوى" 12/ 185.

ص: 314

فكلُّ ما أوردوهُ ممَّا سَمَّوْهُ (معقولاً) ليَستدلوا به على خلق القرآن هو من قِياسِ صفةِ الخالق على صفةِ المخلوق، وهو كُفْرٌ بالله تعالى، فإنَّه كما لا شِبهَ له في ذاتهِ فلا شِبهَ له في صفاتهِ، وهذا مقرَّرٌ في موضعه.

فهذه أظهرُ ما استدلَّ به الجهميةُ المعتزلةُ من الحُجَجِ (!) وأبينُها وأقْواها عندَهم، وقد بانَ لك زيفُها وبُطلانُها، وقارِنْها بما سَبَق ذكرُهُ من الأدلَّةِ لاعتقادِ أهل السُّنَّة والجَماعة، يَجْلُ لك الحقُّ بذلك وتعلَم استقامةَ منْهَج أهل السُّنَّة، واتّباعَ أهل البدع للأهواءِ والظُّنون.

وصدَقَ شيخ الإِسلام -وهو بهم خَبيرٌ- في قوله: "وليسَ مَعَ هؤلاء

عن الأنبياء قولٌ يُوافقُ قولَهم، بل لهم شبَهٌ عقليةٌ فاسدةٌ" (18).

• • • • •

(18)"مجموع الفتاوي" 12/ 48.

ص: 315