الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: المعتزلة فى الميدان
شَرَحْتُ لك اعتقادَ المعتزلة الجهميةِ في كلام الله، وما شبَّهوا به على الناس، ضَربوا نصوصَ القرآن بعضَها ببَعْضٍ، وحرَّفوا معانيَ التنزيل، ووَصفوا رَبَّهم تعالى بالعيوبِ والنَّقائِصِ، وحَكَموا على دينهِ بالأهواءِ والظُّنونِ، وحَمَلوا الناسَ علىَ ذلك رغبةً ورهبةً، وصَدُّوهم عن الهدى إلَاّ مَن ثبَّتهُ الله تعالى، وتركُوا فِتْنَتهم وقَدْ فُتِحَت بها على الأمَّةِ أبوابٌ من الشرِّ والبدعةِ لم تُغْلق إلى يومِنا هذا.
وكان من مقصودِ دَعْوة القَوْم إبطالُ دين المسلمينَ، إذ معنى إبطالِ كونِ الرَّبّ تعالى متكلِّماً إبطالُ جَميعِ الشَّرائع، وما أنزلَ الله تعالى على رسُلهِ، لأنَّ الرُّسُلَ إنَّما بُعِثوا لتبليغِ وحْي الله وتشريعهِ الذي هو كلامُه وتنزيلُه.
بل إنَّ في ذلك إبطالَ التَّوحيدِ، لأنَّ مَن لا يتكلَّمُ ولا يَقُومُ به علمٌ ولا حَياة فهو كالأمواتِ، ومَن لا تقومُ به الصِّفاتُ فهو عَدَمٌ مَحْضٌ.
فلمَّا فَهِمَ أئمَّةُ هذه الأمَّةِ وعلماؤُها مقصودَ القَوْم، جاهَدُوهم بالبيناتِ، حتى أحقَّ الله بهم الحقَّ وأوضحَ السَّبيلَ، فأبطَلَ شُبُهاتِهم وأظهرَ
فضائِحَهم، وكشَفَ سوآتِهم، واتَّفق أهلُ الحقّ من سَلَفِ الأمَّةِ وأئمَّتِها على أنَّ هؤلاءِ مِنْ شَرِّ طوائف أهْل البِدَع.
قالَ شيخ الإِسلام: "حتى أخرجهم كثيرٌ عن الثّنتين والسَّبعينَ فرقةً"(24).
قلتُ: وهذا معناه إخراجهم من أمَّةِ محمَّد صلى الله عليه وسلم.
وقد تواتَرَت النُّصوصُ عن الأئمَّة الأعلام في تكفيرهم، ومُجانَبتهم، وعَدَم مُوالاتهم، وقد نبَّهتُ على بعضها في الباب الأوَّل، وأسوقُ إليك هنا نُبَذاً مَنها تحقيقاً لبَراءةِ الذمَّةِ وإقامةِ الحُجَّة بذِكْرِ أسماءِ بعضِ أعلام أئمَّةِ السَّلَف ومَقالاتهم:
1 -
سليمان بن طَرَّخان التَّيمي (تابعيُّ إمامٌ ثَبْتٌ).
قال: "ليسَ قومٌ أشدَّ نَقْضاً للإِسلام من الجَهمية والقدريّة، فأمَّا الجَهميةُ فقد بارَزوا الله تعالى، وأمَّا القدريّةُ فإنَّهم قالوا في الله عز وجل "(25).
2 -
سفيان بن سعيد الثَّوْريّ (أميرُ المؤمنين في الحَديث).
قال: "مَن قالَ: إنَّ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ} مخلوقٌ، فهو كافرٌ"(26).
3 -
سلاّم بن أبي مُطيع (عاقِلٌ، صاحبُ سُنَّة، لا بأسَ به في
(24)"مجموع الفتاوى" 12/ 524.
(25)
رواه عبد الله في "السنَّة" رقم (8) بسند جيد.
(26)
رواه عبد الله رقم (13) بسند جيد.
الحديث).
قال: "الجَهميَّةُ كُفَّارٌ، لا يُصَلَّى خَلفهم"(27).
4 -
مالكُ بن أنس (إمامُ دارِ الهجرةِ):
قال عبد الله بن نافع -صاحبُهُ-: كان مالكُ بن أنَس رحمه الله يقول: "مَن قال: القرآنُ مخلوقٌ، يوجَع ضَرْباً، ويُحْبَس حتى يموتَ"(28).
وقال ابن نافع أيضاً: قال مالكٌ: "مَن قال: القرآنُ مخلوقٌ يؤدَّبُ ويحْبَس حتى تُعلَمَ منه التَّوبةُ"(29).
وقال رحمه الله: "مَن قالَ: القرآنُ مخلوقٌ يُسْتَتابُ، فإنْ تابَ وإلَاّ ضُرِبَتْ عُنُقُه"(30).
5 -
عبد الله بن المبارك (الإِمام العَلَم).
(27) رواه عبد الله بن أحمد في "السنَّة" رقم (9) والدارمي في "الرد على الجهمية" رقم (372) و"النقض على المِرّيسي" ص: 119 وأبو داود في "المسائل" ص: 268 وابن الطبري في "السنَّة" رقم (517) بسند صحيح.
(28)
رواه عبد الله في "السنَّة" رقم (11) والآجري في "الشريعة" ص: 79 بسند جيد.
ورواه صالح في "المحنة" ص: 66 بنحوه، لكن قال:"حتى يتوب" وهو موافق للنصّ الآتي.
(29)
رواه عبد الله رقم (213) وابن الطبري رقم (497، 498) بسند صحيح.
(30)
رواه ابن أبي حاتم -كما في "السنَّة" لابن الطبري رقم (495) - بسند صالح.
كانَ يقول: "الجَهميَّةُ كفَّارٌ"(31).
وقال محمد بن أعْيَن (ثِقَةٌ صَدوقٌ): سمعتُ النَّضْرَ بن محمد يقول: مَن قال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه: 14]، مخلوقٌ، فهوكافرٌ.
قال: فأتيتُ ابنَ المبارك فقلت له: ألا تعجَب من أبي محمَّد قالَ كذا وكذا؟
قال: "وهَل الأمْرُ إلَّا ذاكَ، وهَلْ يَجِدُ بُدّاً من أنْ يقولَ هذا؟ "(32).
وفي رواية:
"صَدَقَ أبو محمَّد عافاه الله، ما كانَ الله عز وجل يأمُرُ أنْ نعبُدَ مخلوقاً"(33).
6 -
أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي صاحب أبي حنيفة (الثِّقَة الصَّدوق الفَقيه).
قال: "جيئونى بشاِهدَيْن يَشْهَدان على المِرِّيسيّ، والله لأملأنَّ ظهرَه وبطنَه بالسِّياط، يقول في القرآن" يعني: مخلوق (34).
قلتُ: ونصوصُ الأئمَّة في تكفير المِرِّيسيّ -وهو بشْر بن غِياث،
(31) رواه عبد الله رقم (15) بسند صحيح.
(32)
رواه عبد الله رقم (19) بسند جيد.
(33)
رواه عبد الله رقم (20) وأبو داود في "المسائل" ص: 267 والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص: 248 وابن الطبري رقم (428) بسند جيد.
(34)
رواه عبد الله رقم (53) بسند صحيح.
رأسٌ من رؤوس المُعتزلة الجهميةِ- كثيرةٌ.
7 -
معتمر بن سُليمان، حماد بن زيد، يزيد بن زُرَيع (محدّثون ثِقاتٌ أصحابُ سُنَّة).
قال فِطْر بن حمَّاد (شيخٌ صدوقٌ):
سألتُ معتمرَ بن سُليمانَ، فقلتُ: يا أبا محمد، إمامٌ لقومٍ يقول: القرآن مخلوق، أصلِّي خلفَه؟
فقال: "ينبغي أنْ تُضْرَبَ عنقُه".
قال فِطْرٌ: وسألتُ حمَّادَ بن زيد فقلت: يا أبا إسماعيل، لَنا إمامٌ يقول: القرآن مخلوق، أصلِّي خلفَه؟
قال: "صَلِّ خلْفَ مُسْلمٍ أحبّ إليَّ".
وسألتُ يزيدَ بنَ زُرَيْع فقلتُ: يا أبا معاوية، إمامٌ لقومٍ يقول: القرآن مخلوق، أصلِّي خلفَه؟
قال: "لا، ولا كَرامة"(35).
8 -
عبد الله بن إدريس الأوْدي (مِن أئمَّة المسلمينَ، ثِقَةٌ عابدٌ).
قالَ يحيى بن يوسف الزِّمّيُّ (وكانَ ثِقَةً عَدْلًا):
كنّا عندَ عبد الله بن إدريس، فجاءَه رجلٌ فقال: يا أبا محمد، ما تقول في قومٍ يقولون: القرآن مخلوق؟ فقال: "أمِنَ اليهودِ؟ " قال: لا، قال:"فمن النَّصارى؟ " قال: لا، قال:"فمن المَجوسِ؟ " قال: لا، قال:
(35) رواه عبد الله في "السنَّة" رقم (42) بسند حسن.
"فمِمَّن؟ " قال: من أهْلِ التَّوحيدِ، قال:
"ليسَ هؤلاء مِن أهْل التَّوحيدِ، هؤلاءِ الزَّنادِقةُ، مَن زعَمَ أنَّ القرآنَ مخلوقٌ فقد زعَمَ أنَّ الله مخلوقٌ، يقول الله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فالله لا يكونُ مخْلوقاً، والرَّحمنِ لا يكونُ مخلوقاً، وهذا أصْلُ الزَّنادِقةُ، مَن قالَ هذا فعلَيْه لعنةُ الله، لا تُجالِسوهُمْ، ولا تُناكِحوهُمْ"(36).
9 -
أبو بكر بن عيّاش (إمامٌ عَدْلٌ، مُحَدِّثٌ مُكْثِر).
قالَ حمزةُ بن سعيد المَرْوزي (ثِقَةٌ مأمونٌ):
سألتُ أبا بكر بن عيّاش قلت: يا أبا بكر، قدْ بَلَغَكَ ما كانَ مِنْ أمْرِ ابن عُلَيَّة في القرآن، فما تقولُ؟ فقال: "اسْمَع إليَّ ويْلَك: مَن زَعَمَ لك أنَّ القرآنَ مخلوقٌ فهو عندَنا كافرٌ زِنْديقٌ عدوُّ الله، لا تُجالِسْه، ولا تُكلِّمْه) (37).
10 -
وكيع بن الجرّاح (ثِقَةٌ حافظٌ حُجَّة).
قال: "أمَّا الجَهميّ فإنِّي أستتيبُه، فإنْ تابَ وإلَاّ قتلتُه"(38).
وقال أبو جعفَر السُّوَيْديُّ (وكان ثِقَةً مُتَثَبِّتاً): سمعتُ وكيعاً وقيل له:
إنَّ فلاناً يقول: إنَّ القرآن محدَثٌ، فقال:"سبحانَ الله، هذا كفرٌ".
(36) رواه البخاري في "خلق أفعال العباد" رقم (5) وعبدالله بن أحمد في "السنَّة"رقم (29) وابن الطبري رقم (432) بسند صحيح، وكذا رواه الآجري في "الشربعة" ص:78.
(37)
رواه أبو داود في "المسائل" ص: 267 والآجري ص: 79 بسند صحيح.
(38)
رواه عبد الله في "السنَّة" رقم (31) بسند صحيح.
قالَ السُّوَيْديُّ: وسألتُ وكيعاً عن الصلاة خلفَ الجَهميَّة؟
فقال: "لا يُصَلى خلفَهم"(39).
وقالَ أبو خيثَمة (زهيرُ بن حرب):
اختَصَمْتُ أنا ومُثنَّى، فقال مُثنَّى: القرآن مخلوقٌ، وقلتُ أنا: كلام الله، فقالَ وكيعٌ وأنا أسمَع "هذا كفْرٌ، مَن قالَ: إنَّ القرآن مخلوق هذا كُفْرٌ" فقال مُثنَّى: يا أبا سفيان، قال الله عز وجل:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] فأيّ شيءٍ هذا؟ فقال وكيع: "مَن قالَ: القرآن مخلوقٌ هذا كُفْرٌ) (40).
11 -
سفيان بن عُيَيْنَة الهلاليّ (إمامٌ حُجًةٌ فَقيه).
قال: "القرآن كلامُ الله عز وجل، مَن قال: مخلوقٌ، فهو كافرٌ، ومَن شكَّ في كُفْرِه فهوكافرٌ"(41).
12 -
أبو معاوية الضَّريرُ محمد بن خازم (حافِظٌ ثِقَةٌ).
قال: "الكلامُ فيه بدعَةٌ وضَلالةٌ، ما تكلَّمَ فيه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، ولا الصَّحابةُ، ولا التابعون والصَّالحونَ" يعني: القرآن مخلوق (42).
13 -
عبد الرَّحمن بن مَهْدي (عَلَمٌ، من أثْبَت المُحدِّثين وأحفظِهم).
(39) رواه عبدالله في "السنَّة" رقم (33) بسند صحيح.
(40)
رواه عبدالله في "السنَّة"رقم (35) عن أبي خيثمة به.
(41)
رواه عبدالله رقم (25) بسند صحيح.
(42)
رواه عبد الله رقم (208) بسند صحيح.
قال: "مَن زَعَمَ أنَّ الله تعالى لم يُكَلِّم موسى صلواتُ الله عليه يُسْتَتَاب، فإنْ تابَ وإلَاّ ضُرِبَت عنقُه"(43).
وقال: "لو كان لي من الأمْر شَيْءٌ لَقُمْتُ على الجِسْرِ، فَلَا يمرُّ بي أحدٌ إلَاّ سألتُهُ عن القرآن، فإنْ قال: إنَّه مخلوقٌ، ضربتُ رأَسَه ورميتُ به في الماءِ"(44).
وقيل له: إنَّ الجهميَّةَ يقولون: إنَّ القرآنَ مخلوقٌ، فقال:"إنَّ الجهميَّةَ لَمْ يُريدوا ذا، وإنَّما أرادوا أنْ يَنْفوا أنْ يكونَ الرَّحمنُ على العَرشِ اسْتَوى، وأرادوا أنْ يَنْفوا أنْ يكونَ الله تعالى كَلَّمَ موسى، وقالَ الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، وأرادوا أنْ يَنْفوا أنْ يكونَ القرآنُ كلامَ الله تعالى، أرى أنْ يُسْتَتابوا، فإنْ تابوا وإلَاّ ضُرِبَتْ أعناقُهم"(45).
14 -
أنس بن عِياض أبو ضَمْرَة اللَّيثي (مُحدثٌ ثِقَةٌ صَدوق).
قالَ إسحاق بن البُهلول (ثِقَةٌ عالِمٌ): قلتُ لأنس بن عِياض أبي ضَمْرَة: أصلّي خلْفَ الجهمية؟
قال: "لا {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ
(43) رواه عبدالله رقم (44، 531) وأبوداود في "المسائل" ص: 262 والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص: 249 وابن الطبري رقم (505) بسند صحيح.
(44)
رواه عبد الله رقم (46، 206) وأبو داود ص: 267 والآجري في "الشريعة" ص: 80 وابن الطبري رقم (504) بسند صحيح.
(45)
رواه البيهقي في "الأسماء والصفات" ص: 249 بسند صحيح.
مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85](46) ".
15 -
يزيد بن هارون (إمامٌ في السُّنَّة، ثَبْتٌ حُجَّةٌ حافِظٌ).
قال: "مَن قالَ: القرآن مخلوق، فهو كافر"(47).
وقال شاذّ بن يحيى الواسطيُّ (وكانَ خَيِّراً صَدوقًا):
حلفَ لي يزيد بن هارون في بيتهِ: "والله الَّذي لا إله إلَّا هو عالم الغيبِ والشَّهادةِ الرَّحمن الرَّحيم، مَن قال: القرآن مخلوق، فهو زِنْديق"(48).
16 -
أبو عُبَيد القاسمُ بن سلّام (الُغويّ المحدّثين، ثِقَةٌ فَقيهٌ).
قال: "مَن قال: القرآن مخلوق، فقد افترى على الله عز وجل، وقالَ عليه ما لَم تقلْهُ اليَهودُ والنَّصارى"(49).
وقال: "لَو أن خمسينَ يؤمّونَ الناسَ يومَ الجُمُعة، لا يقولونَ: القرآنُ مخلوق، يأمُرُ بعضُهم بعضاً بالإِمامةِ، إلَّا أنَّ الرَّأسَ الذي يأمُرُهم يقولُ هذا، رأيتُ الِإعادةَ، لأنَّ الجُمُعَةَ إنَّما تَثْبُتُ بالرأسِ"(50).
قال عبد الله ابن الِإمام أحمد: فأخبرتُ أبي رحمه الله بقول أبي
(46) رواه عبد الله رقم (72) عن إسحاق به.
(47)
رواه عبد الله في "السنَّة" رقم (52) وأبو داود ص: 268 بسند جيد.
(48)
رواه عبد الله رقم (50) وأبو داود ص: 268 بسند جيد.
(49)
رواه عبد الله رقم (71) والآجري في "الشريعة" ص: 82 والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص: 253 بسند صحيح.
(50)
رواه عبد الله في "السنَّة" رقم (75) بسند صحيح.
عُبيد، فقال:"هذا يُضَيِّقُ على الناس، إذا كانَ الذي يُصلّي بنا لا يقولُ بشَيْءٍ مِن هذا صلَّيْتٌ خلفَه، فإذا كانَ الذي يصلّي بنا يقولُ بشَيْءٍ من هذا القول أعدتُ الصلاةَ خلفَه"(51).
قلتُ: وهذا أقوَمُ من قَوْلِ أبي عُبيد، وأوفَقٌ للسُّنَّة، ولكن دلَّ قولُ أبي عُبَيْدٍ رحمه الله على بيانِ فُحْش هذا الاعتقادِ -اعتقاد الجَهمية- وأنَّهم كفَّارٌ، وإلَّا لَما شدَّد هذا التشديدَ ، وضيَّقَ هذا التضييقَ.
17 -
أبو الوليد هِشام بن عبد الملك الطَّيالِسيّ (حافِظٌ حُجَّةٌ).
قال: "مَن لم يَعْقِدْ قلبَه على أنَّ القرآنَ ليسَ بمخلوقٍ، فهو خارجٌ من الإِسلام"(52).
18 -
أحمد بن عبد الله بن يونُس (ثِقَةٌ ثَبْتٌ، صاحبُ سُنَّة).
قال: "لا يُصلَّى خلْفَ مَن قال: القرآن مخلوق، هؤلاء كفَّار"(53).
19 -
هارون بن معروف المَرْوَزيّ (محدِّثٌ، ثِقَةٌ، خَيِّرٌ).
قال: "مَن قالَ: القرآن مخلوق، فهو يعبُدُ صَنمًا"(54).
وقال: "مَن زعَمَ أنَّ اللهَ عز وجل لا يتكلَّمُ، فهو يَعْبُدُ الأصنامَ"(55).
20 -
يوسف بن يحيى أبو يعقوب البُوَيْطيُّ صاحب الشافعي (ثِقَةٌ
(51) كتاب "السنَّة" رقم (75).
(52)
رواه أبو داود في "المسائل" ص: 266 بسند صحيح.
(53)
رواه أبو داود ص: 268 عنه به.
(54)
رواه عبد الله رقم (67) بسند صحيح.
(55)
رواه عبد الله رقم (209) بسند صحيح.
فَقيهٌ صاحبُ سُنَّة).
قال: "مَن قال: القرآن مخلوق، فهو كافرٌ، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] فأخبرَ الله عز وجل أنَّهُ يخلُقُ الخَلْقَ بـ (كُن) فمَن زعَمَ أنَّ (كن) مخلوق، فقد زعَمَ أنَّ الله تعالى يخلُقُ الخَلْقَ بخَلْقٍ"(56).
21 -
يحيى بن مَعين (العَلَم، إمامُ أهل الحَديث).
قال: "مَن قال: القرآن مخلوق، فهو كافر"(57).
وقال أحمد بن إبراهيم الدَّوْرَقيُّ (ثِقَةٌ حافظٌ): أخبرني يحيى بن مَعين أنَّه يعيدُ صلاةَ الجمُعة مُذْ أظهَرَ عبد الله بن هارون المأمونُ ما أظهَرَ، يعني: القرآن مخلوق (58).
وقال أحمد بن زُهَيْر (ابن أبي خَيْثَمة): سمعتُ أبي -وسألَ يحيى بن مَعين- فقال: إنَّهم يقولونَ: إنَّكَ تقولُ: القرآن كلامُ الله وتسكُتُ، ولا تقول: مخلوق، ولا غير مخلوق، قال:"لا" فعاودته، فقال:"معاذَ الله: القرآن كلام الله غيرُ مخلوق، ومَن قالَ غيرَ هذا فعليه لعنةُ الله"(59).
22 -
إمام أهل السُّنَّة أحمد بن حنبل.
(56) رواه البيهقي في "الأسماء والصفات" ص: 252 بسند صحيح.
وروى أبو داود الجملة الأولى منه في "المسائل" ص: 268 بسند صحيح.
(57)
رواه عبد الله في "السنَّة" رقم (68) بسند جيد.
(58)
رواه عبد الله رقم (76) عن الدورقي به.
(59)
رواه ابن الطبري رقم (455) بسند صحيح.
والنَّقلُ عنه في تكفيرِهم، ومُجانَبتِهم، وتَرْك الصَّلاة خلفَهم، والكَشْفِ عن مَساوئهم، لا يدْخُلُ تحتَ الحَصْر، فمن ذلك:
قال أبو داود: قلتُ لأحمَدَ: من قالَ: القرآنُ مخلوق، أهو كافر؟
قال: "أقولُ: هو كافرٌ"(60).
وقال حنبل: سمعتُ أبا عبدِ اللهِ أحمدَ بن حنبل -وسألَهُ يعقوبُ الدَّوْرقيُّ عَمَّن قال: القرآنُ مخلوقٌ؟ - فقال: "مَنْ زعَمَ أنَّ عِلمَ اللهِ تعالى وأسماءَه مخلوقةٌ، فقد كفَرَ بقولِ اللهِ عز وجل: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [آل عمران: 61] أفليسَ هو القرآنَ؟ ومَن زعَمَ أنَّ علمَ اللهِ تعالى وأسماءَه وصفاتِهِ مخلوقةٌ، فهو كافرٌ، لا شكَّ في ذلكَ، إذا اعتقدَ ذلك، وكانَ رأيُه ومذهبُه دِيناً يتدَيَّنُ به، كانَ عندنا كافِرًا"(61).
وقال عبد الله ابنهُ: سمعتُ أبي رحمه الله يقول: "مَنْ قالَ ذلكَ القولَ لا يُصَلَّى خلفَه الجُمُعةَ ولا غيرَها، إلَاّ أنَّا لا ندعُ إتيانَها، فإنْ صلَّى رجُلٌ أعادَ الصَّلاةَ" يعني: خلفَ من قال: القرآن مخلوقٌ (62).
وقال عبد الله: سمعتُ أبي رحمه الله يقول: "إذا كانَ القاضِي جَهْميًا فَلا تشهَدْ عندَه"(63).
وقال محمد بن يوسف بن الطبّاع (وكان ثِقَةً): سمعتُ رجلاً سألَ
(60) رواه أبو داود في "المسائل" ص: 262 ومن طريقه: الآجري في
"الشريعة" ص: 81.
(61)
رواه الآجري ص: 80 بسند صحيح.
(62)
رواه عبد الله رقم (4) ومن طريقه: البيهقي في "الأسماء" ص: 258.
(63)
رواه عبد الله رقم (6).
أحمدَ بن حنبل، فقال: يا أبا عبد الله، أصلّي خلفَ مَن يَشْرَبُ المُسْكِرَ؟
فقال: "لا".
قالَ: فأصلّي خلفَ مَن يقول: القرآن مخلوق؟
فقال: "سبحان الله، أنهاكَ عن مُسْلمٍ، وتسألُني عن كافر؟ "(64). وقال صالحٌ ابنُهُ عنه: "مَن زعَم أنَّ القرآنَ مخلوقٌ فقَدْ كَفَرَ، ومَن زعَمَ أنَّ أسماءَ الله مخلوقة كَفَر، لا يُصَلّى خلفَ مَن قال: القرآن مخلوق، فإن صلَّى رجلٌ أعادَ"(65).
23 -
أحمد بن صالح المِصْري (إمامٌ ثَبْتٌ حافِظٌ).
قالَ أبو داود: سألتُ أحمدَ بن صالح عمَّن قال: القرآن مخلوق؟
فقال؟ "كافر"(66).
24 -
هارون بن موسى الفَرْويّ (شَيْخٌ ثِقَةٌ، صاحِبُ سُنَّة).
قالَ: "لم أسْمَعْ أحَداً مِنْ أهلِ العلْم بالمدينةِ وأهلِ السُّنَن إلَاّ وهم يُنكرونَ على مَن قال: القرآنُ مخلوقٌ، ويُكَفِّرونَه".
قال هارون: "وأنا أقولُ بهذه السُّنَّة"(67).
25 -
محمَّد بن إِسماعيلَ البُخاري (العَلَمُ، صاحِبُ الصَّحِيح).
(64) رواه الآجري في "الشريعة" ص: 81 بسند صحيح.
(65)
رواه صالح بن أحمد في "المحنة" ص: 66 - 67.
(66)
رواه أبو داود في "المسائل" ص: 268.
(67)
رواه الآجري في "الشريعة" ص: 78 - 89 بسند صحيح.
قال: "نَظَرْتُ في كلامِ اليَهودِ والنَّصارى والمَجوسِ، فما رأيتُ أضَلَّ في كُفْرهم منهم -يعني الجَهمية- وإنِّي لأستجْهِلُ مَن لا يكفّرُهم إلَاّ مَن لا يَعْرِفُ كفرَهم"(68).
وقال: "ما أبالي، صلَّيت خلفَ الجهميّ والرَّافضي، أم صلَّيْتُ خلفَ اليَهود والنَّصارى، ولا يُسَلَّم عليهم، ولا يُعَادُوْنَ، ولا يُناكَحونَ، ولا يُشْهَدونَ، ولا تؤكَلُ ذَبائِحُهم"(69).
26 -
أبو حاتِم محمد بن إدريس، وأبو زُرعة عُبيد الله بن عبد الكريم الرَّازيان (إماما الجَرْحِ والتَّعديل).
قالا: "وَمَنْ زَعَمَ أنَّ القرآنَ مخلوقٌ، فهوكافرٌ بالله العَظيم كُفْراً يَنْقُلُ عن المِلِّة، ومَن شكَّ في كُفْرهِ مِمَّن يفهَم فهوكافرٌ"(70).
27 -
أبو بكر محمد بن إسحاق بن خُزَيْمَة (إمام الأئمَّة).
قال: "القرآن كلامُ الله غيرُ مخلوق: فمن قالَ: إنَّ القرآن مخلوقٌ فهو كافرٌ بالله العَظيم، لا تُقبَل شهادتُهُ، ولا يُعادُ إنْ مَرِضَ، ولا يُصلَّى عليه إنْ ماتَ، ولا يُدْفَنُ في مقابر المُسلمينَ، ويستتابُ، فإنْ تابَ، وإلَّا ضُرِبت عُنقُه"(71).
(68)"خلق أفعال العباد" رقم (35) ومن طريقه البيهقي في "الأسماء" ص: 253.
(69)
"خلق أفعال العباد" رقم (53) صمن طريقه البيهقي ص: 254.
(70)
رواه اللالكائي في "السنَّة" 1/ 178 بسند صحيح.
(71)
رواه أبو عثمان الصابوني في "الرسالة" نص/7 بسند صحيح.
28 -
محمد بن جَرير أبو جعفر الطَّبري (الإِمام الحافظُ الفَقِيه الحُجَّة).
قال القاضي أحمدُ بن كامل (وكانَ ثقةً فاضلاً): سمعتُ أبا جعفر محمد بن جَرير الطَّبري -ما لا أحصِي- يقول: "مَن قال: القرآن مخلوق، معتقداً له، فهو كافِرٌ حَلالُ الدَّم والمال، لا يرثُهُ وَرثَتُهُ من المسلمينَ، يُسْتَتاب، فإنْ تابَ وإلَاّ ضُرِبَت عُنُقُه".
فقلتُ له: عمَّن لا يَرثُهُ ورثَتُه من المسلمينَ؟
قال: "عَن يحيى القطَّان، وعبد الرَّحمن بن مَهدي"(72).
قيل للقاضي ابن كامل: فلِمَن يكونُ مالُه؟ قال: فَيْئاً للمسلمين (73).
فهذه بعضُ أحكامِ الأئمةِ الأعلامِ في حقّ المعتزلةِ الجَهميةِ، تُبيّنُ لكَ عن فُرقانٍ بين الحقِّ والباطِلِ، والكُفْرِ والإِيمانِ، وهؤلاء الأعلامُ مِن سادَةِ أئمَّةِ السَّلَفِ الذين كانوا أسوةَ الناس، وفيهم السَّادةُ الكبارُ الذين يَفْزَع إليهم الناسُ في كَشْف الشُّبُهات، وإبانةِ الحَقِّ مِن دينهم.
ولقد وقَعَ في كلام بعضِ الأئمَّة تكفيرُ بعض أعيان الجَهمية، فكفَّر جماعةٌ من السَّلَف الجعْدَ بن دِرْهَم -أصلَ هذه الفتنة- وآخرونَ جَهْمَ بن صَفوان -رأسَها- وآخرون بِشرًا المِرِّيسيَّ -المُنافِحَ عنها- وكفّر الشَّافعيّ رحمه الله حَفْصًا الفَرْدَ -أحَدَ دُعاتهم- وهَمّ بقَتْلهِ.
ولقد رأيتُ أقْواماً من أهل البِدَع، وربَّما اغترَّ بهم بعضُ أهل السُّنَّة،
(72) أي: يأثره عنهما.
(73)
رواه ابن الطبري في "السنَّة"، رقم (514) بسند صحيح.
يهوّنونَ من شأن الجَهمية، وربَّما استنكرَ بعضهُم على الأئمة الذين كفَّروهم، معَ أنه لم يَرِد عن عامَّةِ أئمَّةِ السَّلف إلَاّ تكفيرُهم -كما نقلَه عنهم ابنُ الطبري وغيره- وهؤلاء فيما أرى أحدُ رجُلَين:
إمَّا مبتدعٌ، مُحْتَرِقٌ في التَّجهّم والاعتزالِ، يُصِرُّ على أمْرٍ عَظيم يَهاب الحقَّ وسطوةَ أهلهِ، فلا يُصرِّحُ، وإنَّما يُشير ويُلمِّح.
وإمَّا جاهِلٌ، لم يَفْهَم اعتقادَ السَّلَفِ في كلام الله تعالى، وخافَ النَّظَرَ في ذلك -وَرَعاً- يَحْسَبُ أنَّه خَوْضٌ في الكلامِ الْمَذموم، فليسَ له إمامٌ يَقْتَدي به إلَاّ الواقفة الذين أنكَرَ الأئمَّةُ مذهبَهم.
أمَّا الأول فلا سلَّمة الله ولا عافاهُ، وكشفَ سترَهُ، وأظهرَ سوأتَهُ.
وأما الأخَر فليتَّقِ الله وليتعلَّم، وليدعْ ما حَسِبَه وَرَعاً، فوالله ما هو بالوَرَع المَشروع، فإنَّ الباطلَ موجودٌ وله دعاةٌ، وبدْعَة الجَهمية لَمْ تنفكَّ عن الناس، وليكْفِهِ الاقتداءُ بأعلام الأمَّةِ، ورُؤوسَ الأئمَّة، من بعد عصْرِ الصَّحابة وكبارِ التابعين، الذين عافاهم الله من هذا البَلاء، مثل: الثوريّ، ومالكٍ، والشَّافعي، وأحمد، وابن مَعين، والبُخاري.
ومِمَّن سبَقت الإِشارةُ إليهم صِنْفٌ حَمَلوا التكفيرَ في النُّصوص السَّالفةِ عن الأئمَّةِ ما يُشْبِهُها على الكُفْرِ الأصْغَر الذي لا يُفارَق به الدِّينُ، وهذا أيضًا من تَهوينهم لهذه القضية، وتَمْويههم على الناس، وإلَّا فإنَّ الكثيرَ من النُّصوص المذكورة وغيرِها صَريحةٌ في إخراجِهم من الإِسلام، ويجبُ أن يُحْمَلَ ما أطْلِقَ من ألفاظِ تكفيرهم على هذا المعنى الصَّريح، وأنا على يَقين أنَّ مَن فَهِمَ الاعتقادَ السَّليم الذي شرحناه في الباب الأول،
وفَهِمَ ما شَبَّهَ به المعتزلةُ الجَهمية على الناس، فإنَّه لا يَرتابُ في كُفْرِهم الأكبرِ المُخْرِج من الإِسلام.
فإنْ قيلَ: ألَيْسوا يشهدونَ أن لا إله إلَاّ الله؟
قُلنا: بلى، ولكنَّهم نقَضوها بقولِهم: مخلوقةٌ، ونَقَضوها بتكذيبِ القرآنِ، وبنَفي صفاتِ ربِّ العالَمين، ووصْفهِ بالعَجْز والنقصِ، بل وصْفِهِ بالعَدَم، فأيّ توحيدٍ بعد هذا؟
فإن قيلَ: هذا الِإمام أحمد رحمه الله وهو من أشدِّ النَّاس في هذه المسألةِ، ولَقِيَ بسَبَبها ما لَقِيَ، لم يكفّر المأمونَ، ولا المعتصمَ، ولا الواثقَ، بل ربَّما دعا لبَعضِهم، وأقرَّ بإمْرَةِ المُؤمنين، وكانوا حملةَ رايةِ الفتنةِ بخلْق القرآن، فلو كانَ كُفْرًا مُخْرجاً من الإِسلام لما دَعا، أو عَفَا، أو أقرَّ بإمرةِ المؤمنينَ.
قُلْنا: هذا جَهْلٌ من المعترض بحقيقةِ الأمر، فإنَّ إطلاقَ التكفير ليس كتَعيينهِ، إذ الحكْمُ به على المعيّن قد يتخلَّفُ لمعنى، كتأويلٍ، أو جَهْلٍ، أو إكراهٍ، فإنَّه يقال: من قالَ كذا كفَر، ومَن اعتقدَ كذا فهو خارجٌ من الإِسلام، وليسَ معناه أنَّا إذا وجَدْنا مُسلمًا وقعَ في ذلك استحقَّ وصفَ الكُفْر به، حتى نعلمَ يقيناً أنْ قد بلَغتْهُ الْحُجَّةُ الشَّرعيةُ التامَّةُ الواضِحةُ، فانتفى جهلُه بذلك، ولم يبقَ في نفسهِ نوعُ تأويلٍ، وهذا أمرٌ يَعْسُرُ في الغالبِ، ولذا لم يكن من هَدْي السَّلَف تكفيرُ المُعيَّن حتى يوجَد مُقتضى التكفير، وتنتفي موانِعُه، ألستَ ترى تكفيرهم للجَعْدِ وَجَهْمٍ والمِرِّيسيّ؟ كفّروهم بأعيانهم لانتفاءِ الجَهْل والتأويل، لِما تضمَّنَتْ أقوالُهمِ من صَرَاحَة الكُفْر، وألسْتَ ترى تكفيرَ الشافعيّ رحمه الله حَفصاً الفَرْد؟ كان بعدَ مناظرةٍ
وبَيان، فقامَتْ عليه الحُجَّة، وانتفى أن يكون له حُجَّةٌ، فلم يقع الشافعي في حَرَج من تكفيرهِ بعينه.
ولمَّا لم يَفْهَم بعضُ الناس هذه القضيةَ والفصْلَ فيها، تحيَّروا في تفسير ألفاظ الأئمَّةِ المُطلقة في ذلك، فحمَلها أقوامٌ على الكُفْر الأصغَر، وعابَ بعضُهم بعضَ الأئمَّةِ في تلك الإِطلاقاتِ، كما رأيتُ ذلك لبعضِهم (74).
هذا مَعَ أنَّه قد ثبتَ عن الإِمام أحمد أنَّه قال: "علماءُ المعتزلةِ زنادقةٌ"(75).
(74) علَّق من حقق الجزء الثاني عشر من "سير أعلام النبلاء" ص: 456 على قول البخاري المذكور في النصوص السابقة: "نظرت في كلام اليهود
…
"
فقال: "وهو من الغلو والإِفراط الذي لا يوافقه عليه جمهور العلماء سَلَفاً وَخَلَفًا، وكيف يحكمُ بكفرِهم، ثمَّ يَروي عنهم ويخرّج أحاديثهم في صحيحه الذي انتقاه وشرط فيه الصحّة" ونحو هذا في تعليق المشار إليه على "شرح السنَّة" للبغوي 1/ 228.
قلتُ: هذا جَهْلٌ على السَّلف وعلى البخاري رحمه الله، فإنَّ موافقيه من أئمة السَّلف كثير، بل لم يُنْقَل عن أئمة السَّلف إلَّا تكفيرهم، ودعوى أنَّ البخاريَّ روى عن جهميةٍ وروافضَ دعوى فاسدةٌ متضمنةٌ تلبيسًا وتمويهًا، أمَّا الجهمية فليس في رجاله من هو كذلك، وقد اتّهم بذلك بِشْر بن السَّريّ وهو كَذِب عليه، بريءٌ منه، وعلي بن الجعد، وهي تُهْمَة مجرَّدة، فهذان ذُكرا برأي جَهْم مِن رجاله، فهل يصحُّ بمثل هذا إطلاق القول بأنَّ البخاريَّ رَوى عن جَهمية؟ ولو صحَّ ذلك فهو على ما ذكرناه من عدَم التَّعيين بالتكفير، فتنبه، ولا تغرَّنَّك الألفاظُ المفخَّمَة، فإني ألْمَس من طريقة بعض الناس من أهل زماننا من المنتسبين إلى السنَّة، تهوينَ شأن البدع والمبتدعةِ، فإلى الله المشتكى.
(75)
رواه ابن الجوزي في "المناقب" ص: 158 بسند جيد.
وهذا متضمِّنٌ أنَّ حالَ العارفِ العالِم منهم غيرُ حالِ مَن يَتّبِعهم على جَهْلٍ، كالخُلفاء -الذين لا يفقهون إلَّا حِفْظَ المَناصب- وسائر العامَّة، الذين تلتبسُ عليهم الحقائقُ بما تُثيره المبتدعةُ من الشُّبَه.
والله المستعان، ولا حولَ ولا قوة إلَاّ بالله.