الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خَبَرٌ آخَرُ حَتَّى تَقَعَ الْمُطَابَقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الْخَبَرِ فَلَا يَكُونُ صِدْقًا.
وَأَمَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِكَذِبٍ فَلِأَنَّ الْكَذِبَ هُوَ عَدَمُ الْمُطَابَقَةِ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فَرْعُ تَقَرُّرِهِمَا.
وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِي هَذَا الْبَيْتِ خَبَرُ صِدْقٍ حَتَّى يَكُونَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ كَذِبٌ كَذِبًا فَلَا يَكُونُ هَذَا الْخَبَرُ صِدْقًا وَلَا كَذِبًا وَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ وَالْخَبَرُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا، وَالْمُحَالُ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ ارْتِفَاعُ النَّقِيضَيْنِ وَارْتِفَاعُهُمَا مُحَالٌ عَقْلًا لِأَنَّهُ خَبَرٌ وَالْخَبَرُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا، بَيَانُهُ أَنَّ الصِّدْقَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُطَابَقَةِ، وَالْكَذِبَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ، وَالْمُطَابَقَةُ وَعَدَمُهَا نَقِيضَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَيْسَ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ فَيَكُونُ النَّقِيضَانِ قَدْ ارْتَفَعَا عَنْهُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَهَذَا الْإِشْكَالُ مِنْ الْأَسْئِلَةِ الصَّعْبَةِ الدَّقِيقَةِ الَّتِي يَحْتَاجُ الْجَوَابُ عَنْهَا إلَى فِكْرٍ دَقِيقٍ وَنَظَرٍ عَوِيصٍ.
وَالْجَوَابُ أَنْ نَخْتَارَ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ كَذِبٌ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْكَذِبَ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي لَيْسَ بِمُطَابِقٍ وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ يُصَدَّقُ بِطَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُوجَدَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ عَلَى خِلَافِ مَا فِي الْخَبَرِ كَمَنْ قَالَ زَيْدٌ قَائِمٌ وَهُوَ لَيْسَ بِقَائِمٍ فَهَذَا كَذِبٌ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ غَيْرُ مُطَابِقٍ، وَثَانِيهِمَا أَنْ لَا يُوجَدَ فِي
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
وَالْكَذِبِ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ ظَاهِرٌ.
قَالَ (وَالْجَوَابُ أَنَّا نَخْتَارُ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ كَذِبٌ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْكَذِبَ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي لَيْسَ بِمُطَابِقٍ إلَى مُنْتَهَى قَوْلِهِ، وَكَذَلِكَ نُجِيبُ عَنْ ارْتِفَاعِ النَّقِيضَيْنِ بِأَنْ نَقُولَ الْوَاقِعُ مِنْهُمَا عَدَمُ الْمُطَابَقَةِ بِالتَّفْسِيرِ الْعَامِّ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ) قُلْتُ: هُوَ جَوَابٌ حَسَنٌ غَيْرَ أَنَّهُ يَبْقَى إشْكَالٌ آخَرُ وَهُوَ مَا إذَا قَالَ كُلُّ مَا قُلْتُهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ فَهُوَ كَذِبٌ، ثُمَّ قَالَ كُلُّ مَا قُلْتُهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ فَهُوَ صِدْقٌ فَإِنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ خَبَرَانِ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِهِمَا عَنْ مُخْبَرٍ وَاحِدٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَصْدُقَ أَحَدُ خَبَرَيْهِ وَيَكْذِبَ الْآخَرُ، وَإِلَّا أَدَّى ذَلِكَ إلَى اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ وَقِيَاسُ الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا قَالَ كُلُّ مَا قُلْتُهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ فَهُوَ صِدْقٌ أَنَّ خَبَرَهُ ذَلِكَ كَذِبٌ إذَا كَانَ لَمْ يَقُلْ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ شَيْئًا فَلَازِمُ ذَلِكَ أَنَّ إخْبَارَهُ عَمَّا قَالَهُ فِي الْبَيْتِ بِأَنَّهُ صِدْقٌ، وَبِأَنَّهُ كَذِبٌ إخْبَارُ كَذِبٍ فَقَدْ اجْتَمَعَ الضِّدَّانِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ أَنَّ الضِّدَّيْنِ لَمْ يَجْتَمِعَا فِي ثُبُوتٍ، وَذَلِكَ هُوَ الِاجْتِمَاعُ الْمُمْتَنِعُ، وَأَمَّا الِاجْتِمَاعُ فِي النَّفْيِ فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ، وَكَوْنُ كِلَا الْخَبَرَيْنِ كَذِبًا نَفْيٌ لَكِنْ يَبْقَى أَنْ يُقَالَ اجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ فِي الِانْتِفَاءِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ إذَا كَانَا غَيْرَ مُنْحَصِرَيْنِ بَلْ يَكُونُ لَهُمَا ضِدٌّ ثَالِثٌ، أَمَّا إذَا كَانَا مُنْحَصِرَيْنِ فَهُمَا كَالنَّقِيضَيْنِ لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا فِي ثُبُوتٍ وَلَا انْتِفَاءٍ، وَالصِّدْقُ وَالْكَذِبُ مُنْحَصِرَانِ فَلَا يَصِحُّ ثُبُوتُهُمَا لِخَبَرٍ وَاحِدٍ وَلَا انْتِفَاؤُهُمَا مَعًا وَبِالْجُمْلَةِ الْمَسْأَلَةُ مُشْكِلَةٌ بِنَاءً عَلَى كَوْنِ الْخَبَرِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا، أَمَّا إذَا قَالَ قَائِلٌ يَكُونُ فِي الْإِخْبَارِ مَا لَيْسَ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ، فَقَوْلُ الْقَائِلِ كُلُّ مَا قُلْتُهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ كَذِبٌ، أَوْ كُلُّ مَا قُلْتُهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ صِدْقٌ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ الَّذِي تَعَرَّى عَنْ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَلَا يَلْزَمُ عَلَى مُقْتَضَيْ قَوْلِهِ إشْكَالٌ، وَيَكُونُ الْخَبَرُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ صِدْقٌ وَكَذِبٌ وَلَا صِدْقَ وَلَا كَذِبَ، وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْخَبَرَ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ مُخْبِرِهِ لَا بِالْوُقُوعِ وَلَا بِعَدَمِ الْوُقُوعِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْوُقُوعِ أَوْ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ فَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ عَنْ مُخْبِرِهِ لَا بِالْوُقُوعِ وَلَا بِعَدَمِ الْوُقُوعِ فَهَذَا الْخَبَرُ لَا يَتَّصِفُ لَا بِالصِّدْقِ وَلَا بِالْكَذِبِ، وَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ عَنْ مُخْبِرِهِ بِالْوُقُوعِ أَوْ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ فَإِمَّا أَنْ يُطَابِقَ أَوْ لَا يُطَابِقَ فَإِنْ طَابَقَ فَهُوَ الصِّدْقُ.
وَإِنْ لَمْ يُطَابِقْ فَهُوَ الْكَذِبُ وَبِهَذَا
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
قُلْتُ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي نَحْوِ قَوْلِكَ جِئْتُكَ أَلْفَ أَلْفَ مَرَّةٍ كَذِبٌ وَلَوْ عَلَى غَيْرِ مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ إنْ قَصَدَ بِهَا ظَاهِرَ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُطَابِقْ الْوَاقِعَ وَصِدْقٌ إنْ قَصَدَ بِهَا الْمُبَالَغَةَ فِي الْكَثْرَةِ أَوْ اسْتَعْمَلَ لَفْظَهَا فِي مُطْلَقِ الْكَثْرَةِ مَجَازًا لِعَلَاقَةِ الْخُصُوصِيَّةِ أَمَّا عَلَى الثَّانِي فَظَاهِرٌ عَلَى الرَّاجِحِ مِنْ وَضْعِ الْمَجَازِ لِمَعْنَاهُ، وَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّ الصِّدْقَ مُطَابَقَةُ حُكْمِ الْخَبَرِ الَّذِي تَضْمَنَّهُ الْمَعْنَى الْمُرَادُ لِلْوَاقِعِ لَا خُصُوصُ الْمَعْنَى الْوَضْعِيِّ فَتَدَبَّرْ.
[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ التَّمَدُّحِ بِالْوَفَاءِ فِي الْوَعْدِ وَالْعَفْوِ فِي الْوَعِيدِ وَوُجُودُ الْخَبَرِ بِدُونِ خِصِّيصَتِهِ]
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ)
قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي بَابِ الْإِخْبَارِ إنَّ قَوْلَكَ إذَا فَرَضْتَ صِدْقَ زَيْدٍ مَثَلًا عَلَى الْإِطْلَاقِ زَيْدٌ وَمُسَيْلِمَةُ الْحَنَفِيُّ صَادِقَانِ أَوْ كَاذِبَانِ فِي قُوَّةِ خَبَرَيْنِ تَقْدِيرُهُمَا عَلَى الْأَوَّلِ زَيْدٌ صَادِقٌ وَمُسَيْلِمَةُ صَادِقٌ، وَعَلَى الثَّانِي زَيْدٌ كَاذِبٌ وَمُسَيْلِمَةُ كَاذِبٌ فَيَصْدُقُ مَفْهُومُ الْكَذِبِ فِي مُسَيْلِمَةَ وَيَكْذِبُ فِي زَيْدٍ، وَمَفْهُومُ الصِّدْقِ بِالْعَكْسِ لَا خَبَرٌ وَاحِدٌ حَتَّى يَلْزَمَهُ ارْتِفَاعُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا، وَإِلَّا لَصَدَقَ مُسَيْلِمَةُ فِي قَوْلِك هُمَا صَادِقَانِ أَوْ لَكَذَبَ زَيْدٌ فِي قَوْلِك هُمَا كَاذِبَانِ، وَأَنْ يَكُونُ كَاذِبًا وَإِلَّا لَصَدَقَ مُسَيْلِمَةُ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْ لَكَذَبَ زَيْدٌ عَلَى الثَّانِي. اهـ
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يَبْطُلُ بِتَضْيِيقِ الْفَرْضِ بِأَنْ نَقُولَ الْمَجْمُوعُ صَادِقٌ أَوْ كَاذِبٌ وَنَجْعَلُ الْخَبَرَ عَنْ الْمَجْمُوعِ وَهُوَ مُفْرَدٌ فِي اللَّفْظِ، أَوْ يَقُولُ الْمُتَكَلِّمُ أَرَدْتُ الْمَجْمُوعَ وَالْإِخْبَارَ عَنْهُ وَلَمْ أُرِدْ الْإِخْبَارَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالْحَقُّ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْفَخْرُ أَنْ نَلْتَزِمَ فِي هُمَا صَادِقَانِ أَوْ هُمَا كَاذِبَانِ أَنَّ الْخَبَرَ كَذِبٌ؛ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ أَخْبَرَ فِي الْأَوَّلِ عَنْ حُصُولِ الْمُطَابَقَةِ فِي الْمَجْمُوعِ وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَفِي الثَّانِي عَنْ ثُبُوتِ عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ فِي الْمَجْمُوعِ وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِانْتِفَاءِ حَقِيقَةِ كُلٍّ مِنْ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ بِانْتِفَاءِ جُزْئِهَا فَتَنْتَفِي الْمُطَابَقَةُ فِي الْمَجْمُوعِ بِنَفْيِهَا فِي أَحَدِهِمَا، وَكَذَلِكَ يَنْتَفِي ثُبُوتُ عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ فِي الْمَجْمُوعِ بِنَفْيِهِ فِي أَحَدِهِمَا وَلَا شَكَّ فِي انْتِفَاءِ الْمُطَابَقَةِ أَوْ ثُبُوتِ عَدَمِهَا فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَكُونُ الْحَقُّ نَفْيَ ذَلِكَ فِي الْمَجْمُوعِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَجْمُوعِ الْوُجُودَيْنِ وَمَجْمُوعِ الْعَدَمَيْنِ فِي قَوْلِكَ: الْوُجُودُ يَشْمَلُ زَيْدًا
نَفْسِ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ فَيُصَدَّقُ أَيْضًا عَدَمُ الْمُطَابَقَةِ لِعَدَمِ مَا يُطَابِقُهُ الْخَبَرُ لَا لِمُخَالَفَتِهِ لِمَا وُجِدَ كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ خَلَقَ زَيْدًا وَحْدَهُ فِي الْعَالَمِ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يُوَافِقْ أَحَدًا فِي مُعْتَقَدِهِ.
وَأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ أَحَدًا فِي مُعْتَقَدِهِ فَإِنَّ الْمُوَافَقَةَ وَالْمُخَالَفَةَ لِلْغَيْرِ فَرْعُ وُجُودِ ذَلِكَ الْغَيْرِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ الْغَيْرُ انْتَفَتْ الْمُوَافَقَةُ لَهُ وَالْمُخَالَفَةُ كَذَلِكَ نَقُولُ هَاهُنَا لَمَّا لَمْ يُوجَدْ خَبَرٌ آخَرُ فِي هَذَا الْبَيْتِ صَدَقَ عَلَى هَذَا الْخَبَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: كُلُّ مَا قُلْتُهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ كَذِبٌ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِانْتِفَاءِ مَا تَقَعُ الْمُطَابَقَةُ مَعَهُ فَهُوَ كَذِبٌ جَزْمًا، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَفْهَمَ مِنْ قَوْلِنَا أَنَّ الْكَذِبَ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي لَيْسَ بِمُطَابِقِ هَذَا الْمَعْنَى الْعَامَّ الَّذِي يُصَدَّقُ بِطَرِيقَيْنِ وُجِدَ شَيْءٌ يُخَالِفُهُ الْخَبَرُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ غَيْرَ أَنَّ غَالِبَ الِاسْتِعْمَالِ هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، وَالْمَذْهَبُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْعَامِّ، وَكَذَلِكَ نُجِيبُ عَنْ ارْتِفَاعِ النَّقِيضَيْنِ بِأَنْ نَقُولَ الْوَاقِعُ مِنْهُمَا عَدَمُ الْمُطَابَقَةِ بِالتَّفْسِيرِ الْعَامِّ الْمُتَقَدِّمِ، ذِكْرُهُ وَمِثْلُ هَذَا الْخَبَرِ قَوْلُهُ كُلُّ مَا تَكَلَّمْتُ بِهِ فِي جَمِيعِ عُمْرِي كَذِبٌ، وَكَانَ لَمْ يَكْذِبْ قَطُّ فَهَذَا الْخَبَرُ كَذِبٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ الْأَخْبَارَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي عُمْرِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ صِدْقًا وَإِنْ أَرَادَ هَذَا الْأَخِيرَ وَحْدَهُ فَهُوَ لَيْسَ بِصِدْقٍ لِعَدَمِ خَبَرٍ آخَرَ يُطَابِقُهُ، وَهُوَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِنَفْسِهِ فَهُوَ مُخْبِرٌ أَنَّ خَبَرَهُ هَذَا الْأَخِيرَ خَبَرَانِ: أَحَدُهُمَا غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْآخَرِ وَهُوَ لَيْسَ خَبَرَيْنِ فَيَكُونُ كَذِبًا قَطْعًا سَوَاءٌ أَرَادَ الْأَخْبَارَ الْمُتَقَدِّمَةَ أَوْ أَرَادَ هَذَا الْخَبَرَ هَذَا الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَغَيْرُهُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
التَّقْرِيرِ تَصِحُّ الْقِسْمَةُ الْمُنْحَصِرَةُ، وَيَبْطُلُ حِينَئِذٍ حَدُّ الْخَبَرِ أَوْ رَسْمُهُ بِأَنَّهُ الْقَوْلُ الَّذِي يَلْزَمُهُ الصِّدْقُ أَوْ الْكَذِبُ، وَيُحَدُّ أَوْ يُرْسَمُ بِأَنَّهُ الْقَوْلُ الَّذِي يَقْصِدُ قَائِلُهُ بِهِ تَعْرِيفَ الْمُخَاطَبِ بِأَمْرٍ إمَّا هَذَا أَوْ مَا يُشْبِهُهُ أَوْ يُقَارِبُهُ فَإِنْ قِيلَ التَّعْرِيفُ هُوَ الْإِخْبَارُ فَفِيهِ حَدُّ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ الرُّسُومَ تَقْرِيبٌ لَا تَحْقِيقٌ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْخَبَرَ مَعْرُوفٌ وَغَيْرُهُ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْإِنْشَاءِ مَعْرُوفٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ: (وَمِثْلُ هَذَا الْخَبَرِ قَوْلُهُ كُلُّ مَا تَكَلَّمْتُ بِهِ فِي جَمِيعِ عُمْرِي كَذِبٌ وَكَانَ لَمْ يَكْذِبْ قَطُّ فَهَذَا الْخَبَرُ كَذِبٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ الْأَخْبَارَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي عُمْرِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ لِأَنَّهَا كَانَتْ صِدْقًا) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ.
قَالَ (وَإِنْ أَرَادَ هَذَا الْخَبَرَ الْأَخِيرَ وَحْدَهُ فَهُوَ لَيْسَ بِصِدْقٍ لِعَدَمِ خَبَرٍ آخَرَ يُطَابِقُهُ) قُلْتُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ احْتِمَالِ إرَادَةِ هَذَا الْخَبَرِ بَعِيدٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ كُلُّ مَا لِلْعُمُومِ وَهِيَ نَصٌّ فِيهِ لَا سِيَّمَا مَعَ اقْتِرَانِهَا بِقَوْلِهِ فِي جَمِيعِ عُمْرِي، وَاَلَّذِي يُتَّجَهُ أَنْ يُقَالَ إنْ أَرَادَ أَنَّ كُلَّ مَا قَالَهُ مَا عَدَا هَذَا الْخَبَرَ فَهُوَ كَاذِبٌ لِصِدْقِهِ فِيمَا قَالَ، وَإِنْ أَرَادَ حَتَّى هَذَا الْخَبَرُ فَهُوَ كَاذِبٌ أَيْضًا لَا لِعَدَمِ خَبَرٍ يُطَابِقُهُ هَذَا الْخَبَرُ بَلْ لِإِخْبَارِهِ بِقَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ تَقْتَضِي شُمُولَ الْكَذِبِ جَمِيعَ أَقْوَالِهِ فِي جَمِيعِ عُمْرِهِ، وَقَدْ فُرِضَ صَادِقًا فِيمَا عَدَا هَذَا الْخَبَرَ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ: (وَهُوَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِنَفْسِهِ فَهُوَ مُخْبِرٌ أَنَّ خَبَرَهُ هَذَا الْأَخِيرَ خَبَرَانِ أَحَدُهُمَا غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْآخَرِ وَهُوَ لَيْسَ خَبَرَيْنِ فَيَكُونُ كَذِبًا قَطْعًا سَوَاءٌ أَرَادَ الْأَخْبَارَ الْمُتَقَدِّمَةَ، أَوْ أَرَادَ هَذَا الْأَخِيرَ هَذَا الَّذِي اعْتَمَدَهُ فَخْرُ الدِّينِ وَغَيْرُهُ) قُلْتُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إخْبَارِهِ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِنَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ مُخْبِرًا أَنَّ خَبَرَهُ هَذَا خَبَرَانِ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَعَمْرًا، وَقَوْلِكَ: الْعَمْدُ يَشْمَلُ زَيْدًا وَعَمْرًا فِي كَوْنِ كُلٍّ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْئِهِ بِأَنْ يُعْدَمَ أَحَدُهُمَا فِي الْأَوَّلِ وَيُوجَدَ فِي الثَّانِي فَيَكُونُ الْخَبَرُ كَذِبًا فَافْهَمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) الْفَرْقُ بَيْنَ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَعِيدِهِ مُحَالٌ عَقْلًا سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهِمَا صُورَةُ اللَّفْظِ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ بِوَضْعِهِ اللُّغَوِيِّ مِنْ الْعُمُومِ، أَوْ أُرِيدَ بِهِمَا مَنْ أُرِيدَ بِالْخِطَابِ وَمَنْ قُصِدَ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ بِالنَّعِيمِ أَوْ الْعِقَابِ أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَإِنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي جَوَازِ دُخُولِ التَّخْصِيصِ فِيهَا فَجَمِيعُ إخْبَارَاتِ الْوَعِيدِ وَالْوَعْدِ يَخْرُجُ مِنْهَا مَنْ لَمْ يُرَدْ بِاللَّفْظِ.
وَيَبْقَى الْمُرَادُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَمَا دَخَلَ التَّخْصِيصُ فِي وَعِيدِهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] بِمَنْ عُفِيَ عَنْهُ تَفَضُّلًا أَوْ بِالتَّوْبَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلَمْ يَرَ شَرًّا مَعَ عَمَلِهِ لَهُ، كَذَلِكَ دَخَلَ التَّخْصِيصُ فِي وَعْدِهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] بِمَنْ حَبِطَ عَمَلُهُ بِرِدَّتِهِ وَسُوءِ خَاتِمَتِهِ أَوْ أُخِذَتْ أَعْمَالُهُ فِي الظُّلَامَاتِ بِالْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ فَلَمْ يَرَ خَيْرًا مَعَ أَنَّهُ عَمَلُهُ.
وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَلِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ لَا يَقَعَ مُخْبَرُهُ تَعَالَى مِنْ وَعِيدٍ أَوْ وَعْدٍ عَلَى مَنْ أَرَادَهُ تَعَالَى بِخَبَرِهِ وَإِلَّا لَحَصَلَ الْخُلْفُ الْمُسْتَحِيلُ عَقْلًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بَلْ يَجِبُ حُصُولُ النَّعِيمِ أَوْ الْعَذَابِ لِمَنْ أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِخْبَارِ عَنْ نَعِيمِهِ أَوْ عِقَابِهِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْخُلْفُ نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْوَعِيدِ صُورَةُ الْعُمُومِ فَيَكُونُ قَابِلًا لِلتَّخْصِيصِ وَبِالْوَعْدِ مَنْ أُرِيدَ بِالْخِطَابِ فَيَتَعَيَّنُ فِيهِ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ الْمَوْعُودِ، وَعَلَيْهِ يَنْدَفِعُ الْمُحَالُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَيَصِحُّ مَا وَقَعَ لِابْنِ نَبَاتَةَ فِي خُطْبَةٍ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي إذَا وَعَدَ وَفَى وَإِذَا أَوْعَدَ تَجَاوَزَ وَعَفَا نَظَرًا لِمَا جَرَتْ الْعَوَائِدُ بِهِ مِنْ التَّمَدُّحِ بِالْوَفَاءِ فِي الْوَعْدِ وَالْعَفْوِ فِي الْوَعِيدِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَإِنِّي إذَا أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ
…
لَمُخْلِفُ إيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي
إذْ يُمْكِنُ أَنْ يُخَرَّجَ لِكَلَامِهِ وَجْهٌ، وَهُوَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخَصِّصُهُ إلَّا الرِّدَّةُ لَا غَيْرُ وَوَعِيدَهُ يُخَصِّصُهُ الْإِيمَانُ وَهُوَ نَظِيرُ الرِّدَّةِ وَالتَّوْبَةُ وَالشَّفَاعَةُ وَالْمَغْفِرَةُ وَلَا مُقَابِلَ لَهَا فِي جِهَةِ الْوَعْدِ، فَلَمَّا كَانَتْ مُخَصِّصَاتُ الْوَعْدِ أَقَلَّ مِنْ مُخَصِّصَاتِ الْوَعِيدِ صَحَّ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِمَا ذُكِرَ، وَلَيْسَ مِنْ الْإِيهَامِ الْمَمْنُوعِ إيهَامٌ مِثْلُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْفُو عَمَّنْ