الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ.
وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْإِنْشَاءَ سَبَبٌ لِمَدْلُولِهِ وَالْخَبَرَ لَيْسَ سَبَبًا لِمَدْلُولِهِ فَإِنَّ الْعُقُودَ أَسْبَابٌ لِمَدْلُولَاتِهَا وَمُتَعَلِّقَاتهَا بِخِلَافِ الْأَخْبَارِ. الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْإِنْشَاءَاتِ يَتْبَعُهَا مَدْلُولُهَا، وَالْأَخْبَارُ تَتْبَعُ مَدْلُولَاتِهَا أَمَّا تَبَعِيَّةُ مَدْلُولِ الْإِنْشَاءَاتِ فَإِنَّ الطَّلَاقَ وَالْمِلْكَ مَثَلًا إنَّمَا يَقَعَانِ بَعْدَ صُدُورِ صِيغَةِ الطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ.
وَأَمَّا أَنَّ الْخَبَرَ تَابِعٌ لِمُخْبِرِهِ فَنَعْنِي بِالتَّبَعِيَّةِ أَنَّهُ تَابِعٌ لِتَقَرُّرِ مُخْبِرِهِ فِي زَمَانِهِ مَاضِيًا كَانَ أَوْ حَاضِرًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا فَقَوْلُنَا قَامَ زَيْدٌ تَبَعٌ لِقِيَامِهِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، وَقَوْلُنَا هُوَ قَائِمٌ تَبَعٌ لِقِيَامِهِ فِي الْحَالِ، وَقَوْلُنَا سَيَقُومُ السَّاعَةَ تَبَعٌ لِتَقَرُّرِ قِيَامِهِ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالتَّبَعِيَّةِ التَّبَعِيَّةَ فِي الْوُجُودِ، وَإِلَّا لَمَا صُدِّقَ ذَلِكَ إلَّا فِي الْمَاضِي فَقَطْ فَإِنَّ الْحَاضِرَ مُقَارِنٌ فَلَا تَبَعِيَّةَ لِحُصُولِ الْمُسَاوَاةِ وَالْمُسْتَقْبَلُ وُجُودُهُ بَعْدَ الْخَبَرِ فَكَانَ مَتْبُوعًا لَا تَابِعًا فَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ مَعْنَى قَوْلِ الْفُضَلَاءِ: الْخَبَرُ تَابِعٌ لِمُخْبِرِهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ: الْعِلْمُ تَابِعٌ لِمَعْلُومِهِ أَيْ تَابِعٌ لِتَقَرُّرِهِ فِي زَمَانِهِ مَاضِيًا كَانَ الْمَعْلُومُ أَوْ حَاضِرًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا فَإِنَّا نَعْلَمُ الْحَاضِرَاتِ وَالْمُسْتَقْبِلَات كَمَا نَعْلَمُ الْمَاضِيَاتِ، وَالْعِلْمُ فِي الْجَمِيعِ تَبَعٌ لِمَعْلُومِهِ فَالْعِلْمُ بِأَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ غَدًا فَرْعٌ وَتَابِعٌ لِتَقَرُّرِ طُلُوعِهَا فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِنْشَاءَ لَا يَقْبَلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا صَدَقَ وَلَا كَذَبَ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ طَلَاقِ امْرَأَتِهِ.
وَكَذَلِكَ لِمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ صِيَغِ الْإِنْشَاءِ بِخِلَافِ الْخَبَرِ فَإِنَّهُ قَابِلٌ لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي حَدِّ الْخَبَرِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنَّ الْإِنْشَاءَ لَا يَقَعُ إلَّا مَنْقُولًا عَنْ أَصْلِ الْوَضْعِ فِي صِيَغِ الْعُقُودِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهَا، وَقَدْ يَقَعُ إنْشَاءٌ فِي الْوَضْعِ الْأَوَّلِ كَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فَإِنَّهَا تُنْشِئُ الطَّلَبَ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ الْأَوَّلِ، وَالْخَبَرُ يَكْفِي فِيهِ الْوَضْعُ الْأَوَّلُ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ فَقَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لَا يُفِيدُ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ بَلْ أَصْلُ هَذِهِ الصِّيغَةِ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ طَلَاقِهَا ثَلَاثًا، وَأَنْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ كَمَا يَتَّفِقُ لَهُ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ إذَا سَأَلَتْهُ امْرَأَتُهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَيَقُولُ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إعْلَامًا لَهَا بِتَقَدُّمِ الطَّلَاقِ فَهَذَا هُوَ أَصْلُ الصِّيغَةِ، وَإِنَّمَا صَارَتْ تُفِيدُ الطَّلَاقَ بِسَبَبِ النَّقْلِ الْعُرْفِيِّ عَنْ الْإِخْبَارِ إلَى الْإِنْشَاءِ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ هَذِهِ الصِّيَغِ
(تَنْبِيهٌ)
اعْتَقَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ قَوْلَنَا فِي حَدِّ الْخَبَرِ أَنَّهُ الْمُحْتَمِلُ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ لَهُمَا اسْتَفَادَهُ الْخَبَرُ مِنْ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، وَأَنَّ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ) قُلْت كَلَامُهُ فِي هَذِهِ الْأَوْجُهِ ظَاهِرٌ مُسْتَقِيمٌ.
قَالَ: (الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنَّ الْإِنْشَاءَ لَا يَقَعُ إلَّا مَنْقُولًا عَنْ أَصْلِ الْوَضْعِ فِي صِيَغِ الْعُقُودِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهَا، وَقَدْ يَقَعُ إنْشَاءٌ بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ كَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فَإِنَّهَا تُنْشِئُ الطَّلَبَ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ الْأَوَّلِ، وَالْخَبَرُ يَكْفِي فِيهِ الْوَضْعُ الْأَوَّلُ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ فَقَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لَا يُفِيدُ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ، بَلْ أَصْلُ هَذِهِ الصِّيغَةِ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ طَلَاقِهَا ثَلَاثًا، وَأَنْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ كَمَا يُتَّفَقُ لَهُ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ إذَا سَأَلَتْهُ امْرَأَتُهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَيَقُولُ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إعْلَامًا لَهَا بِتَقَدُّمِ الطَّلَاقِ) قُلْت لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ بَلْ يَقَعُ غَيْرَ مَنْقُولٍ عَلَى وَجْهِ الِاشْتِرَاكِ لَكِنْ يَتَرَجَّحُ قَوْلُ الْمُؤَلِّفِ بِرُجْحَانِ الْمَجَازِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ (تَنْبِيهٌ
اعْتَقَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ قَوْلَنَا فِي حَدِّ الْخَبَرِ أَنَّهُ الْمُحْتَمِلُ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ لَهُمَا اسْتِفَادَةُ الْخَبَرِ مِنْ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، وَأَنَّ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْعَدَدَ لَيْسَ بَابُهُ مُنْسَدًّا فَيَقْدِرُ الْخَصْمُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَنْ يَشْهَدُ لَهُ وَلَوْ بِالزُّورِ، وَالْحَاكِمُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ فَلَوْ رَجَّحْنَا بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ لَطَالَ النِّزَاعُ وَانْتَشَرَ الشَّغَبُ وَبَطَلَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ بِشَرْعِ الْحُكُومَاتِ مِنْ دَرْءِ الْخُصُومَاتِ وَرَفْعِ الْمَظَالِمِ وَالْمُنَازَعَاتِ إذْ يُمْكِنُ لِلْخَصْمِ حِينَئِذٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا أَزِيدُ فِي عَدَدِ بَيِّنَتِي فَنُمْهِلُهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِعَدَدٍ آخَرَ فَإِذَا أَتَى بِهِ قَالَ خَصْمُهُ أَنَا أَزِيدُ فِي الْعَدَدِ الْأَوَّلِ فَنُمْهِلُهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِعَدَدٍ آخَرَ أَيْضًا، وَهَكَذَا وَالْأَعْدَلِيَّةُ لَا تُسْتَفَادُ إلَّا مِنْ الْحَاكِمِ فَلَا تَسَلُّطَ لِلْخَصْمِ عَلَى زِيَادَتِهِ فَانْسَدَّ الْبَابُ، وَلَمْ تَنْتَشِرْ الْخُصُومَاتُ وَلَمْ يَطُلْ زَمَانُهَا.
(الْمُهِمُّ الثَّانِي) كَمَا أَنَّ كُلًّا مِنْ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ خَبَرٌ مُقَيَّدٌ بِمَا ذَكَرْنَا كَذَلِكَ الدَّعْوَى خَبَرٌ عَنْ حَقٍّ يَتَعَلَّقُ بِالْمُخْبِرِ عَلَى غَيْرِهِ، وَالْإِقْرَارُ خَبَرٌ عَنْ حَقٍّ يَتَعَلَّقُ بِالْمُخْبِرِ وَيُضَرُّ بِهِ وَحْدَهُ عَكْسُ الدَّعْوَى الضَّارَّةِ لِغَيْرِهِ وَلِذَلِكَ لَا نَعْتَبِرُ مِنْ الْإِقْرَارِ الْمُرَكَّبِ مِنْ إضْرَارِ الْمُخْبِرِ وَإِضْرَارِ غَيْرِهِ كَإِقْرَارِهِ بِأَنَّ عَبْدَهُ وَعَبْدَ غَيْرِهِ حُرَّانِ إلَّا الْوَجْهَ الْأَوَّلَ، وَنُسْقِطُ مِنْهُ الْوَجْهَ الثَّانِيَ وَالنَّتِيجَةُ خَبَرٌ يَنْشَأُ عَنْ دَلِيلٍ وَقَبْلَ أَنْ يَنْشَأَ عَنْهُ يُسَمَّى مَطْلُوبًا وَالْمُقَدِّمَةُ خَبَرٌ هُوَ جُزْءُ دَلِيلٍ، وَالتَّصْدِيقُ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا، وَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُسَمَّى تَكْذِيبًا كَمَا يُسَمَّى تَصْدِيقًا؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ لِقَائِلِهِ صَدَقْتَ أَوْ كَذَبْتَ إلَّا أَنَّهُ سُمِّيَ بِأَحْسَنِ عَارِضَيْهِ لَفْظًا وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَتَيْ الْإِنْشَاءِ وَالْخَبَرِ]
(الْفَرْقُ الثَّانِي بَيْنَ قَاعِدَتَيْ الْإِنْشَاءِ وَالْخَبَرِ) الَّذِي هُوَ جِنْسُ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ وَالدَّعْوَى وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا، أَمَّا الْخَبَرُ فَمَجَازٌ فِي الْإِشَارَاتِ الْحَالِيَّةِ وَالدَّلَائِلِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ عَيْنَاكَ تُخْبِرُنِي بِكَذَا، وَالْغُرَابُ يُخْبِرُ بِكَذَا وَحَقِيقَتُهُ قَوْلٌ يَلْزَمُهُ الصِّدْقُ أَوْ الْكَذِبُ.
(قُلْتُ) قَالَ الْآمِدِيُّ وَالْأَشْبَهُ أَنَّ الْقَوْلَ فِي اللُّغَةِ حَقِيقَةٌ فِي الصِّيغَةِ كَقَوْلِك: قَامَ زَيْدٌ وَقَعَدَ عُمَرُ وَلِتَبَادُرِهَا إلَى الْفَهْمِ مِنْ إطْلَاقِ لَفْظِ الْخَبَرِ وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالصِّيغَةِ وَالصِّدْقُ وَالْكَذِبُ مَعْلُومٌ لَنَا بِالضَّرُورَةِ فَلَا يُفْتَقَرُ إلَى الْخَبَرِ عَلَى أَنَّ الصِّدْقَ هُوَ مُطَابَقَةُ النِّسْبَةِ الْكَلَامِيَّةِ لِلْخَارِجِيَّةِ.
وَالْكَذِبَ عَدَمُهَا وَلَيْسَ الصِّدْقُ الْخَبَرَ الْمُطَابِقَ لِلْوَاقِعِ وَلَا الْكَذِبُ الْخَبَرَ الْغَيْرَ الْمُطَابِقِ لَهُ حَتَّى يَلْزَمَ الدَّوْرُ وَالْحُكْمُ فِي الْحَدِّ
الْوَضْعَ اقْتَضَى ذَلِكَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَا يَحْتَمِلُ الْخَبَرُ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ إلَّا الصِّدْقَ خَاصَّةً وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعَرَبَ إنَّمَا وَضَعَتْ الْخَبَرَ لِلصِّدْقِ دُونَ الْكَذِبِ لِإِجْمَاعِ النُّحَاةِ وَالْمُتَحَدَّثِينَ عَلَى اللِّسَانِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا قَامَ زَيْدٌ حُصُولُ الْقِيَامِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّ مَعْنَاهُ صُدُورُ الْقِيَامِ أَوْ عَدَمُهُ بَلْ جَزَمَ الْجَمِيعُ بِالصُّدُورِ.
وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَفْعَالِ الْمَاضِيَةِ وَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ الْمُسْتَقْبَلَةِ نَحْوَ قَوْلِنَا سَيَقُومُ زَيْدٌ مَعْنَاهُ صُدُورُ الْقِيَامِ عَنْهُ فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ عَيْنًا لَا أَنَّ مَعْنَاهُ صُدُورُ الْقِيَامِ أَوْ عَدَمُهُ، وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ الْفَاعِلِينَ وَالْمَفْعُولِينَ كَقَوْلِنَا زَيْدٌ قَائِمٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالْقِيَامِ عَيْنًا، وَكَذَلِكَ الْمَجْرُورَاتُ نَحْوَ زَيْدٌ فِي الدَّارِ مَعْنَاهُ لُغَةً اسْتِقْرَارُهُ فِيهَا دُونَ عَدَمِ اسْتِقْرَارِهِ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي ذَلِكَ اثْنَانِ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ فَعَلِمْنَا أَنَّ اللُّغَةَ إنَّمَا هِيَ الصِّدْقُ دُونَ الْكَذِبِ فَإِنْ قُلْتَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِكُمْ: إنَّهُ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ الَّذِي اقْتَضَى أَنَّ الصِّدْقَ مُتَعَيَّنٌ لَهُ فَلَا يَحْتَمِلُ إلَّا إيَّاهُ قُلْتُ: مَعْنَاهُ أَنَّ ذَلِكَ يَأْتِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ لَا مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَدْ يَسْتَعْمِلُهُ صِدْقًا عَلَى وَفْقِ الْوَضْعِ وَقَدْ يَسْتَعْمِلُهُ كَذِبًا عَلَى خِلَافِ مُطَابَقَةِ الْوَضْعِ، وَقَوْلُنَا فِي الشَّيْءِ إنَّهُ يَحْتَمِلُ الشَّيْءَ الْفُلَانِيَّ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ يَحْتَمِلُهُ مِنْ جِهَةٍ مَخْصُوصَةٍ مُعَيَّنَةٍ، بَلْ إذَا احْتَمَلَهُ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ فَقَدْ احْتَمَلَهُ فَإِذَا احْتَمَلَهُ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ فَقَدْ احْتَمَلَهُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ كَقَوْلِنَا فِي الْمُمْكِنِ إنَّهُ قَابِلٌ لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ لَا نُرِيدُ أَنَّهُ يَقْبَلُ الْوُجُودَ مِنْ سَبَبٍ مُعَيَّنٍ بَلْ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ وَأَيِّ سَبَبٍ كَانَ كَذَلِكَ هَاهُنَا، وَنَظِيرُ قَوْلِنَا فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ قَوْلُنَا فِي الْكَلَامِ إنَّهُ يَحْتَمِلُ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ، وَأَجْمَعْنَا عَلَى
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
الْوَضْعَ اقْتَضَى لَهُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَا يَحْتَمِلُ الْخَبَرُ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ إلَّا الصِّدْقَ خَاصَّةً وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعَرَبَ إنَّمَا وَضَعَتْ الْخَبَرَ لِلصِّدْقِ دُونَ الْكَذِبِ لِإِجْمَاعِ النُّحَاةِ وَالْمُتَحَدَّثِينَ عَلَى اللِّسَانِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا قَامَ زَيْدٌ حُصُولُ الْقِيَامِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ مَعْنَاهُ صُدُورُ الْقِيَامِ أَوْ عَدَمُهُ بَلْ جَزَمَ الْجَمِيعُ بِالصُّدُورِ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَفْعَالِ الْمَاضِيَةِ وَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ الْمُسْتَقْبَلَةُ نَحْوَ قَوْلِنَا سَيَقُومُ زَيْدٌ مَعْنَاهُ صُدُورُ الْقِيَامِ عَنْهُ فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ عَيْنًا لَا أَنَّ مَعْنَاهُ صُدُورُ الْقِيَامِ أَوْ عَدَمُهُ. وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ الْفَاعِلِينَ وَالْمَفْعُولِينَ كَقَوْلِنَا زَيْدٌ قَائِمٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالْقِيَامِ عَيْنًا، وَكَذَلِكَ الْمَجْرُورَاتُ نَحْوَ زَيْدٌ فِي الدَّارِ مَعْنَاهُ لُغَةً اسْتِقْرَارُهُ فِيهَا دُونَ عَدَمِ اسْتِقْرَارِهِ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي ذَلِكَ اثْنَانِ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ فَعَلِمْنَا أَنَّ اللُّغَةَ إنَّمَا هِيَ الصِّدْقُ دُونَ الْكَذِبِ، فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِكُمْ إنَّهُ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ الَّذِي اقْتَضَى أَنَّ الصِّدْقَ مُتَعَيَّنٌ لَهُ فَلَا يَحْتَمِلُ إلَّا إيَّاهُ؟ قُلْتُ مَعْنَاهُ أَنَّ ذَلِكَ يَأْتِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ لَا مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَدْ يَسْتَعْمِلُهُ صِدْقًا عَلَى وَفْقِ الْوَضْعِ، وَقَدْ يَسْتَعْمِلُهُ كَذِبًا عَلَى خِلَافِ مُطَابَقَةِ الْوَضْعِ. وَقَوْلُنَا فِي الشَّيْءِ إنَّهُ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَ الْفُلَانِيَّ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ يَحْتَمِلُهُ مِنْ جِهَةٍ مَخْصُوصَةٍ مُعَيَّنَةٍ، بَلْ إذَا احْتَمَلَهُ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ فَقَدْ احْتَمَلَهُ فَإِذَا احْتَمَلَهُ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ فَقَدْ احْتَمَلَهُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ كَقَوْلِنَا فِي الْمُمْكِنِ إنَّهُ الْقَابِلُ لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ لَا نُرِيدُ أَنَّهُ يَقْبَلُ الْوُجُودَ مِنْ سَبَبٍ مُعَيَّنٍ بَلْ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ وَأَيِّ سَبَبٍ كَانَ كَذَلِكَ هُنَا، وَنَظِيرُ قَوْلِنَا فِي الْخَبَرِ إنَّهُ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ قَوْلُنَا إنَّهُ يَحْتَمِلُ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ. وَأَجْمَعْنَا عَلَى
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْمَذْكُورِ بِلُزُومِ الْخَبَرِ لِأَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ جَازِمٍ لَا تَرَدُّدَ فِيهِ وَهُوَ الْمَأْخُوذُ فِي التَّحْدِيدِ، وَإِنَّمَا التَّرَدُّدُ فِي اتِّصَافِ الْخَبَرِ بِلُزُومِ أَحَدِهِمَا عَيْنًا وَهُوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْحَدِّ فَافْهَمْ اهـ.
بِتَصَرُّفٍ وَزِيَادَةٍ فَالْقَوْلُ جِنْسٌ قَرِيبٌ يَشْمَلُ الْقَوْلَ التَّامَّ وَهُوَ مَا يُفِيدُ الْمُخَاطَبَ فَائِدَةً يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهَا خَبَرًا كَانَ أَوْ إنْشَاءً وَالنَّاقِصُ وَهُوَ مَا لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ إضَافِيًّا كَانَ كَغُلَامِ زَيْدٍ أَوْ تَقْيِيدِيًّا كَالْحَيَوَانِ الصَّاهِلِ أَوْ لَا وَلَا كَمَجْمُوعِ الْمُتَعَاطِفَيْنِ، وَقَيْدٌ يَلْزَمُهُ الصِّدْقُ أَوْ الْكَذِبُ فَصْلٌ يَخْرُجُ الْقَوْلُ النَّاقِصُ وَالْإِنْشَاءَاتُ نَعَمْ الظَّاهِرُ احْتِيَاجُ الْحَدِّ الْمَذْكُورِ لِزِيَادَةِ قَيْدٍ لِذَاتِهِ لِيَخْرُجَ مَا يَلْزَمُهُ الصِّدْقُ أَوْ الْكَذِبُ لَا لِذَاتِهِ بَلْ لِلَازِمِهِ نَحْوَ غُلَامُ زَيْدٍ الْمُسْتَلْزِمُ لِذَاتِهِ خَبَرًا وَهُوَ زَيْدٌ لَهُ غُلَامٌ وَنَحْوَ اسْقِنِي الْمَاءَ الْمُسْتَلْزِمَ لِذَاتِهِ خَبَرًا وَهُوَ أَنَا طَالِبٌ لِلْمَاءِ أَوْ الْمُخَاطَبُ مَطْلُوبٌ مِنْهُ الْمَاءُ أَوْ الْمَاءُ مَطْلُوبٌ، وَكَذَا مَا لَا يَلْزَمُهُ صِدْقٌ وَلَا كَذِبٌ بِالنَّظَرِ لِعَدَمِ قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ إخْبَارَ أَحَدٍ كَصِيغَةِ الْحَمْدُ لِلَّهِ إذَا جُعِلَتْ بَاقِيَةً عَلَى خَبَرِيَّتِهَا وَلَمْ يُقْصَدْ بِهَا إلَّا تَحْصِيلَ الْحَمْدِ كَبَقِيَّةِ صِيَغِ الْأَذْكَارِ وَالتَّنْزِيهَاتِ فَلَا يَرِدُ حِينَئِذٍ مَا نَقَلَهُ يَاسِينُ فِي حَوَاشِي الصُّغْرَى عَنْ الْعَلَّامَةِ عَلَاءِ الدِّينِ النَّجَّارِيِّ مِنْ أَنَّ الْجُمَلَ الْخَبَرِيَّةَ لَا يَلْزَمُهَا الْإِخْبَارُ أَيْ احْتِمَالُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ بَلْ قَدْ تَكُونُ لِلتَّحَسُّرِ وَالتَّحَزُّنِ كَمَا فِي حَاشِيَةِ الْعَطَّارِ عَلَى مَحَلِّي جَمْعِ الْجَوَامِعِ فَافْهَمْ
(وَأَمَّا الْإِنْشَاءُ) فَفِي اللُّغَةِ الْخَلْقُ وَالِابْتِدَاءُ وَوَضْعُ الْحَدِيثِ فَفِي الْمِصْبَاحِ أَنْشَأَهُ اللَّهُ خَلَقَهُ وَأَنْشَأَ يَفْعَلُ كَذَا أَيْ ابْتَدَأَ وَفُلَانٌ يُنْشِئُ الْأَحَادِيثَ أَيْ يَصِفُهَا.
اهـ الْمُرَادُ وَفِي الِاصْطِلَاحِ قَوْلٌ بِحَيْثُ يُوجِبُ بِهِ مَدْلُولَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إذَا صَدَرَ قَصْدًا مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ. فَالْقَوْلُ جِنْسٌ قَرِيبٌ، وَقَيْدُ (بِحَيْثُ يُوجِبُ بِهِ مَدْلُولَهُ) فَصْلٌ أَوَّلُ مُخْرِجٌ لِقَوْلِ الْقَائِلِ: السَّفَرُ عَلَيَّ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِيهِ لَمْ يَثْبُتْ بِهَذَا اللَّفْظِ بَلْ بِإِيجَابِ الشَّارِعِ عَلَيْهِ عُقُوبَةً عَلَيْهِ، وَقَيْدُ (فِي نَفْسِ الْأَمْرِ) فَصْلٌ ثَانٍ مُخْرِجٌ لِلْخَبَرِ كَقَامَ زَيْدٌ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ مَدْلُولَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَلْ وَلَا فِي اعْتِقَادِ السَّامِعِ إلَّا عِنْدَ اعْتِقَادِهِ صِدْقَ الْمُخْبِرِ وَقَيْدُ (إذَا صَدَرَ قَصْدًا) أَيْ مَقْصُودًا
أَنَّ الْمَجَازَ لَيْسَ مِنْ الْوَضْعِ الْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ الْكَذِبُ فَالْمَجَازُ وَالْكَذِبُ إنَّمَا يَأْتِيَانِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ لَا مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ، وَاَلَّذِي لِلْوَضْعِ هُوَ الصِّدْقُ وَالْحَقِيقَةُ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ.
(تَنْبِيهٌ)
قَوْلُنَا فِي حَدِّ الْخَبَرِ إنَّهُ الْمُحْتَمِلُ لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ لَا يَشْتَرِطُونَ فِي حَقِيقَةِ الْكَذِبِ الْقَصْدَ إلَيْهِ بَلْ يَكْتَفُونَ بِعَدَمِ مُطَابَقَتِهِ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَقَالَ الْجَاحِظُ وَغَيْرُهُ يُشْتَرَطُ فِي حَقِيقَةِ الْكَذِبِ الْقَصْدُ إلَيْهِ وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ فَعَلَى رَأْيِ هَؤُلَاءِ يَنْقَسِمُ الْخَبَرُ إلَى صِدْقٍ وَهُوَ الْمُطَابِقُ وَكَذِبٍ وَهُوَ غَيْرُ الْمُطَابِقِ الَّذِي قُصِدَ إلَى عَدَمِ مُطَابَقَتِهِ وَإِلَى مَا لَيْسَ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ وَهُوَ غَيْرُ الْمُطَابِقِ الَّذِي لَمْ يُقْصَدْ إلَى عَدَمِ مُطَابَقَتِهِ فَهَذَا الْقِسْمُ الثَّالِثُ لَا يَكُونُ عِنْدَهُمْ صِدْقًا وَلَا كَذِبًا وَلَا يَحْتَمِلُهُمَا مَعَ أَنَّهُ خَبَرٌ فَيَصِيرُ الْحَدُّ غَيْرَ جَامِعٍ عِنْدَهُمْ فَيَكُونُ فَاسِدًا لَنَا.
قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» فَجَعَلَهُ إذَا حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَهُ كَاذِبًا؛ لِأَنَّهُ فِيهِ غَيْرُ مُطَابِقٍ فِي الْغَالِبِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَعْرِفْهُ حَتَّى يَقْصِدَ إلَيْهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْقَصْدِ فِي الْكَذِبِ، وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» مَفْهُومُهُ أَنَّ مَنْ كَذَبَ غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ لَا يَسْتَحِقُّ النَّارَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَصَوُّرِ حَقِيقَةِ الْكَذِبِ مِنْ غَيْرِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
أَنَّ الْمَجَازَ لَيْسَ مِنْ الْوَضْعِ الْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ الْكَذِبُ فَالْمَجَازُ وَالْكَذِبُ إنَّمَا يَأْتِيَانِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ لَا مِنْ الْوَضْعِ وَاَلَّذِي لِلْوَضْعِ هُوَ الصِّدْقُ وَالْحَقِيقَةُ)
قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي هَذَا التَّنْبِيهِ خَطَأٌ فَاحِشٌ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ مُنْتَحِلِي شَيْءٍ مِنْ عُلُومِ اللِّسَانِ ذَهَبَ إلَيْهِ وَلَا قَالَ أَحَدٌ قَطُّ إنَّ كُلَّ كَاذِبٍ مُتَجَوِّزٌ فِي إطْلَاقِهِ لَفْظَهُ عَلَى مَعْنَاهُ وَمَا بَنَاهُ عَلَى قَوْلِهِ هَذَا مِنْ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ بِنَاءً عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، وَمَا اغْتَرَّ بِهِ مِنْ كَوْنِ لَفْظَةِ قَامَ وُضِعَتْ لِلْإِخْبَارِ عَنْ وُقُوعِ الْقِيَامِ مِمَّنْ أُسْنِدَ إلَيْهِ لَا يَغْتَرُّ بِهِ إلَّا مَنْ قَصُرَ فَهْمُهُ وَقَلَّ عِلْمُهُ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ (تَنْبِيهٌ)
قَوْلُنَا فِي حَدِّ الْخَبَرِ أَنَّهُ الْمُحْتَمِلُ لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ لَا يَشْتَرِطُونَ فِي حَقِيقَةِ الْكَذِبِ الْقَصْدَ إلَيْهِ بَلْ يَكْتَفُونَ بِعَدَمِ مُطَابَقَتِهِ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَقَالَ الْجَاحِظُ وَغَيْرُهُ يُشْتَرَطُ فِي حَقِيقَةِ الْكَذِبِ الْقَصْدُ إلَى الْكَذِبِ وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ فَعَلَى رَأْيِ هَؤُلَاءِ يَنْقَسِمُ الْخَبَرُ إلَى صِدْقٍ وَهُوَ الْمُطَابِقُ وَكَذِبٍ وَهُوَ غَيْرُ الْمُطَابِقِ الَّذِي قُصِدَ إلَى عَدَمِ مُطَابَقَتِهِ وَإِلَى مَا لَيْسَ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ، وَهُوَ غَيْرُ الْمُطَابِقِ الَّذِي لَمْ يُقْصَدْ.
(فَهَذَا الْقِسْمُ الثَّالِثُ لَا يَكُونُ عِنْدَهُمْ صِدْقًا وَلَا كَذِبًا وَلَا يَحْتَمِلُهُمَا مَعَ أَنَّهُ خَبَرٌ فَيَصِيرُ الْحَدُّ غَيْرَ جَامِعٍ عِنْدَهُمْ لَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» فَجَعَلَهُ إذَا حَدَّثَ بِمَا سَمِعَهُ كَاذِبًا؛ لِأَنَّهُ فِيهِ غَيْرُ مُطَابِقٍ فِي الْغَالِبِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَعْرِفْهُ حَتَّى يَقْصِدَ إلَيْهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْقَصْدِ فِي الْكَذِبِ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» مَفْهُومُهُ أَنَّ مَنْ كَذَبَ غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ لَا يَسْتَحِقُّ النَّارَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَصَوُّرِ حَقِيقَةِ الْكَذِبِ مِنْ غَيْرِ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
إنْشَاءُ لَفْظِهِ فَصْلٌ ثَالِثٌ مُخْرِجٌ لِنَحْوِ قَوْلِ الْقَائِلِ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى وَجْهِ الْغَلَطِ مُرِيدًا أَنْتِ حَائِضٌ فَلَا يَلْزَمُهُ بِهِ طَلَاقٌ فِي الْفَتْوَى، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِمَنْ طَلَّقَهَا رَجْعِيًّا فِي الْعِدَّةِ أَنْتِ طَالِقٌ مُخْبِرًا بِأَنَّهَا طَالِقٌ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ إذَا قَصَدَ الْإِنْشَاءَ وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَالْتِزَامِ مُقْتَضَيَاتِهَا وَفِيهِ (مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ) فَصْلٌ رَابِعٌ مُخْرِجٌ لِصِيَغِ الْإِنْشَاءِ إذَا صَدَرَتْ مِنْ سَفِيهٍ أَوْ فَاقِدِ الْأَهْلِيَّةِ لِعَدَمِ تَرَتُّبِ مَدْلُولِهَا عَلَيْهَا حِينَئِذٍ، وَزِيَادَةٍ أَوْ مُتَعَلِّقَةٍ فِي الْحَدِّ عَطْفًا عَلَى مَدْلُولِهِ، وَإِنْ كَانَتْ لِأَجْلِ أَنْ تَنْدَرِجَ فِيهِ الْإِنْشَاءَاتُ بِكَلَامِ النَّفْسِ فَإِنَّ كَلَامَ النَّفْسِ لَا دَلَالَةَ فِيهِ وَلَا مَدْلُولَ، وَإِنَّمَا فِيهِ مُتَعَلِّقٌ وَمُتَعَلَّقٌ خَاصَّةً وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَسَائِلِ الْإِنْشَاءِ إلَّا أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ الْجَمْعُ فِي الْحَدِّ بَيْنَ حَقِيقَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ وَهُمَا الْقَوْلُ اللِّسَانِيُّ وَالْقَوْلُ النَّفْسَانِيُّ، وَذَلِكَ خَلَلٌ فِي الْحَدِّ كَمَا بَيَّنَ فِي مَحِلِّهِ، فَافْهَمْ.
وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى: الْكَلَامُ إنْ كَانَ لِلنِّسْبَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنْهُ الْحَاصِلَةِ فِي الذِّهْنِ خَارِجٌ عَنْ مَدْلُولِهِ؛ أَيْ حَاصِلٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، وَالْفَهْمُ مِنْهُ مُحْتَمِلٌ لَأَنْ تُطَابِقَهُ النِّسْبَةُ أَوْ لَا تُطَابِقَهُ فَخَبَرٌ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ خَارِجٌ أَصْلًا كَأَقْسَامِ الطَّلَبِ فَإِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى صِفَاتٍ نَفْسِيَّةٍ قَائِمَةٍ بِالنَّفْسِ قِيَامَ الْعَرْضِ بِالْمَحَلِّ لَيْسَ لَهَا مُتَعَلِّقٌ خَارِجِيٌّ، أَوْ يَكُونَ لَهُ خَارِجٌ لَكِنْ لَا يَحْتَمِلُ الْمُطَابَقَةَ واللَّامُطَابَقَة كَصِيَغِ الْعُقُودِ فَإِنَّ لَهَا نِسَبًا خَارِجِيَّةً تُوجَدُ بِهَذِهِ الصِّيَغِ، وَلَيْسَتْ لَهَا نِسْبَةٌ مُحْتَمِلَةٌ لَأَنْ تُطَابِقَهَا النِّسْبَةُ الْمَدْلُولَةُ أَوْ لَا تُطَابِقَهَا؛ لِأَنَّهَا لِحُصُولِهَا بِهَا مُطَابِقَةً قَطْعًا فَإِنْشَاءً، وَهَذَا أَقْرَبُ الْحُدُودِ وَأَخْصَرُهَا كَمَا فِي تَقْرِيرَاتِ الشِّرْبِينِيِّ عَلَى حَوَاشِي مَحَلِّي جَمْعِ الْجَوَامِعِ فَعَلَى هَذَا الْبَيَانِ يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْإِنْشَاءَ سَبَبٌ لِمَدْلُولِهِ بِخِلَافِ الْخَبَرِ. الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْإِنْشَاءَاتِ يَتْبَعُهَا مَدْلُولُهَا فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْمِلْكُ إلَّا بَعْدَ صُدُورِ صِيغَةِ الطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ، وَالْأَخْبَارُ تَتْبَعُ مَدْلُولَاتِهَا بِمَعْنَى أَنَّ الْخَبَرَ تَابِعٌ لِتَقْرِيرِ مُخْبِرِهِ فِي زَمَانِهِ مَاضِيًا كَانَ أَوْ حَاضِرًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا فَقَوْلُنَا قَامَ زَيْدٌ تَبَعٌ لِقِيَامِهِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، وَلَوْ قُلْنَا هُوَ قَائِمٌ تَبَعٌ لِقِيَامِهِ