الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَيْنَا أُمُورٌ أَحَدُهَا أَنْ نَعْتَقِدَ أَنَّ مَالِكًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّمَا أَفْتَى فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ زَمَانَهُمْ كَانَ فِيهِ عَوَائِدُ اقْتَضَتْ نَقْلَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِلْمَعَانِي الَّتِي أَفْتَوْا بِهَا فِيهَا صَوْنًا لَهُمْ عَنْ الزَّلَلِ، وَثَانِيهَا أَنَّا إذَا وَجَدْنَا زَمَانَنَا عَرِيًّا عَنْ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ لَا نُفْتِيَ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ؛ لِأَنَّ انْتِقَالَ الْعَوَائِدِ يُوجِبُ انْتِقَالَ الْأَحْكَامِ كَمَا نَقُولُ فِي النُّقُودِ وَفِي غَيْرِهَا فَإِنَّا نُفْتِي فِي زَمَانٍ مُعَيَّنٍ بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ تَلْزَمُهُ سِكَّةٌ مُعَيَّنَةٌ مِنْ النُّقُودِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ السِّكَّةَ هِيَ الَّتِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِالْمُعَامَلَةِ بِهَا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَإِذَا وَجَدْنَا بَلَدًا آخَرَ وَزَمَانًا آخَرَ يَقَعُ التَّعَامُلُ فِيهِ بِغَيْرِ تِلْكَ السِّكَّةِ تَغَيَّرَتْ الْفُتْيَا إلَى السِّكَّةِ الثَّانِيَةِ، وَحَرُمَتْ الْفُتْيَا بِالْأُولَى لِأَجْلِ تَغَيُّرِ الْعَادَةِ.
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَالذُّرِّيَّةِ وَالْأَقَارِبِ وَكِسْوَتِهِمْ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْعَوَائِدِ، وَتَنْتَقِلُ الْفَتْوَى فِيهَا وَتَحْرُمُ الْفَتْوَى بِغَيْرِ الْعَادَةِ الْحَاضِرَةِ، وَكَذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَوَارِيِّ بِالْعَوَائِدِ وَقَبْضُ الصَّدَقَاتِ عِنْدَ الدُّخُولِ أَوْ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ فِي عَادَةٍ نُفْتِي أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي الْإِقْبَاضِ؛ لِأَنَّهُ الْعَادَةُ وَتَارَةً بِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِي عَدَمِ الْقَبْضِ إذَا تَغَيَّرَتْ الْعَادَةُ أَوْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ بَلَدٍ ذَلِكَ عَادَتُهُمْ، وَتَحْرُمُ الْفُتْيَا لَهُمْ بِغَيْرِ عَادَتِهِمْ وَمَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ ذَلِكَ كَانَ خَارِقًا لِلْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الْفُتْيَا بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ مُجْمَعٌ عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَكَذَلِكَ التَّلَوُّمُ لِلْخُصُومِ فِي تَحْصِيلِ الدُّيُونِ لِلْغُرَمَاءِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعَوَائِدِ مِمَّا لَا يُحْصَى عَدَدُهُ مَتَى تَغَيَّرَتْ فِيهِ الْعَادَةُ تَغَيَّرَ الْحُكْمُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَحَرُمَتْ الْفُتْيَا بِالْأَوَّلِ وَإِذَا وَضَحَ لَكَ ذَلِكَ اتَّضَحَ لَكَ أَنَّ مَا عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْفُتْيَا مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ هُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَأَنَّ مَنْ تَوَقَّفَ مِنْهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُجْرِ الْمَسْطُورَاتِ فِي الْكُتُبِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ بَلْ لَاحَظَ تَنَقُّلَ الْعَوَائِدِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَى الصَّوَابِ سَالِمٌ مِنْ هَذِهِ الْوَرْطَةِ الْعَظِيمَةِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قُلْتُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي قَاعِدَةِ الْعُقُودِ كُلِّهَا الْقَصْدُ إلَيْهَا مَعَ اللَّفْظِ الْمُشْعِرِ بِهَا، وَإِشْعَارُ اللَّفْظِ لُغَوِيٌّ أَصْلِيٌّ أَوْ لُغَوِيٌّ عُرْفِيٌّ أَوْ شَرْعِيٌّ أَوْ عُرْفِيٌّ حَادِثٌ وَقْتِيٌّ فَفِي الْفَتْوَى الْمُعْتَبَرُ النِّيَّةُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَالْوَقْتِيُّ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَالشَّرْعِيُّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَاللُّغَوِيُّ الْعُرْفِيُّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَاللُّغَوِيُّ الْأَصْلِيُّ، فَإِنْ اجْتَمَعَ فِي اللَّفْظِ الْأَصْلِيُّ وَالْعُرْفِيُّ وَالشَّرْعِيُّ وَالْوَقْتِيُّ فَالْمُعْتَبَرُ الْوَقْتِيُّ، وَفِي الْحُكْمِ لَا تُعْتَبَرُ النِّيَّةُ وَيُعْتَبَرُ عَلَى مَا عَدَاهَا عَلَى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ (إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَيْنَا أُمُورٌ أَحَدُهَا أَنْ نَعْتَقِدَ أَنَّ مَالِكًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّمَا أَفْتَى فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ إلَى قَوْلِهِ: تَغَيَّرَ الْحُكْمُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَحَرُمَتْ الْفُتْيَا بِالْأُولَى) قُلْتُ مَا قَالَهُ ظَاهِرٌ صَحِيحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ (وَإِذَا وَضَحَ لَكَ ذَلِكَ اتَّضَحَ لَكَ أَنَّ مَا عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مِنْ الْفُتْيَا بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ هُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ إلَى قَوْلِهِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ) قُلْتُ الْمُسْتَعْمِلُ لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ إنْ كَانَ اسْتِعْمَالُهُ إيَّاهَا وَفِيهَا عُرْفٌ وَقْتِيٌّ لَزِمَ حَمْلُهَا عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَعَلَى الشَّرْعِيِّ وَإِلَّا فَعَلَى الْعُرْفِيِّ وَإِلَّا فَعَلَى اللُّغَوِيِّ، فَإِنْ أَفْتَى الْفَقِيهُ الْوَقْتِيُّ بِهَذَا التَّرْتِيبِ عِنْدَ وُجُودِ الْعُرْفِيِّ الْوَقْتِيِّ فَهُوَ مُصِيبٌ، وَإِنْ أَفْتَى عِنْدَ وُجُودِ الْعُرْفِيِّ الْوَقْتِيِّ بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ أَوْ اللُّغَوِيِّ الْعُرْفِيِّ أَوْ اللُّغَوِيِّ الْأَصْلِيِّ وَأَلْغَى الْعُرْفَ الْوَقْتِيَّ فَهُوَ مُخْطِئٌ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْقِيَاسَ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ وَلَا فِيهَا آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى تَقْتَضِي أَكْثَرَ مِمَّا قَالَهُ الْقَائِلُونَ بِالْكَفَّارَةِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا آيَةُ التَّحْرِيمِ، وَلَمْ نَجِدْ أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْخِلَافِ رَوَى فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ حَدِيثًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْ التَّابِعِينَ، وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بَيْنَهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - بِلَا شُبْهَةٍ.
وَثَانِيهِمَا أَنَّ قَاعِدَةَ الْفُقَهَاءِ وَعَوَائِدَ الْفُضَلَاءِ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ مَا ظَفِرُوا بِهِ وَفَقَدُوا غَيْرَهُ مِنْ الْمُدْرَكِ الْمُنَاسِبِ لِلْفَرْعِ مُعْتَمِدًا لِذَلِكَ الْفَرْعِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ الْمُجْتَهِدِ الْأَوَّلِ الَّذِي أَفْتَى بِذَلِكَ الْفَرْعِ وَفِي حَقِّهِمْ أَيْضًا فِي الْفُتْيَا وَالتَّخْرِيجِ، وَنَحْنُ قَدْ اسْتَقْرَأْنَا هَذِهِ الْمَسَائِلَ فَلَمْ نَجِدْ لَهَا مُدْرَكًا مُنَاسِبًا إلَّا اعْتِبَارَ الْعُرْفِيِّ الْوَقْتِيِّ إلَخْ فَوَجَبَ جَعْلُ ذَلِكَ مُدْرَكَ الْأَئِمَّةِ إفْتَاءً وَتَخْرِيجًا وَعَدَمَ الْعُدُولِ عَنْ ذَلِكَ كَمَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ أَنَّ مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ الْقَيَّاسُونَ وَأَهْلُ النَّظَرِ وَالرَّأْيِ وَالِاعْتِبَارِ أَنَّا فِي كَلَامِ الشَّرْعِ إذَا ظَفِرْنَا بِالْمُنَاسَبَةِ جَزَمْنَا بِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا مَعَ تَجْوِيزِ أَنْ لَا يَكُونَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ عَقْلًا؛ لِأَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ أَوْجَبَ لَنَا أَنْ لَا نَعْرُجَ عَلَى غَيْرِ مَا وَجَدْنَاهُ وَلَا نَلْتَزِمَ التَّعَبُّدَ مَعَ وُجُودِ الْمُنَاسِبِ فَأَوْلَى أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ غَيْرِ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ بَلْ نَحْمِلُ كَلَامَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْمُنَاسِبِ لِتِلْكَ الْفَتَاوَى السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ نَعَمْ إذَا وَجَدْنَا مُنَاسَبَيْنِ تَعَارَضَا أَوْ مُدْرَكَيْنِ تَقَابَلَا فَحِينَئِذٍ يَحْسُنُ التَّوَقُّفُ.
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ قَدَّمْنَا لَك كَلَامَ الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيِّ إمَامِ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ وَحَافِظٍ مُتْقِنٍ لِعِلْمِ الْحَدِيثِ وَفُنُونِهِ وَلَهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْيَدُ الْبَيْضَاءُ وَالرُّتْبَةُ الْعَالِيَةُ الْمُفِيدُ أَنَّ سَبَبَ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا ذُكِرَ فَكَفَى بِهِ قُدْوَةً فِي مُدْرَكِ هَذِهِ الْفُرُوعِ وَمُتَعَمَّدًا فِي ضَوَابِطِهَا وَتَلْخِيصِهَا وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّيُوخِ وَالْمُصَنِّفِينَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ مُخَالِفًا فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ، فَالتَّشْكِيكُ بَعْدَ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ طَلَبٌ لِلْجَهْلِ الْوَبِيلِ وَسَبِيلٌ لِغِوَايَةِ التَّضْلِيلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الْإِنْشَاءَ كَمَا يَكُونُ بِالْكَلَامِ اللِّسَانِيِّ يَكُونُ بِالْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ]
(الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) يَكُونُ الْإِنْشَاءُ بِالْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ كَمَا يَكُونُ بِالْكَلَامِ اللِّسَانِيِّ وَلِذَلِكَ ثَلَاثُ صُوَرٍ: الصُّورَةُ الْأُولَى الْأَسْبَابُ وَالشُّرُوطُ وَالْمَوَانِعُ الشَّرْعِيَّةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي إفْرَادِهَا وَمَا وَرَدَ مِنْ الْكِتَابِ
وَمِنْ الْأَغْوَارِ الَّتِي لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهَا الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ أَنَّ الْمُفْتِيَ إذَا جَاءَهُ رَجُلٌ يَسْتَفْتِيهِ عَنْ لَفْظَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَعُرْفُ بَلَدِ الْمُفْتِي فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ لَا يُفْتِيهِ بِحُكْمِ بَلَدِهِ بَلْ يَسْأَلُهُ هَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ بَلَدِ الْمُفْتِي فَيُفْتِيهِ حِينَئِذٍ بِحُكْمِ ذَلِكَ الْبَلَدِ.
أَوْ هُوَ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ فَيَسْأَلُهُ حِينَئِذٍ عَنْ الْمُشْتَهَرِ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ فَيُفْتِيهِ بِهِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتِيَهُ بِحُكْمِ بَلَدِهِ كَمَا لَوْ وَقَعَ التَّعَامُلُ بِبَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِ الْحَاكِمِ حَرُمَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُلْزِمَ الْمُشْتَرِيَ بِسِكَّةِ بَلَدِهِ بَلْ بِسِكَّةِ بَلَدِ الْمُشْتَرِي إنْ اخْتَلَفَتْ السِّكَّتَانِ فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ لَا بُدَّ مِنْ مُلَاحَظَتِهَا وَبِالْإِحَاطَةِ بِهَا يَظْهَرُ لَكَ غَلَطُ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْمُفْتِينَ فَإِنَّهُمْ يُجْرُونَ الْمَسْطُورَاتِ فِي كُتُبِ أَئِمَّتِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَهُمْ عُصَاةٌ آثِمُونَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَعْذُورِينَ بِالْجَهْلِ لِدُخُولِهِمْ فِي الْفَتْوَى وَلَيْسُوا أَهْلًا لَهَا وَلَا عَالِمِينَ بِمَدَارِك الْفَتَاوَى وَشُرُوطِهَا وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا، فَالْحَقُّ حِينَئِذٍ أَنَّ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا لَيْسَ فِيهَا إلَّا الْوَضْعُ اللُّغَوِيُّ، وَأَنَّهَا كِنَايَاتٌ خَفِيَّةٌ لَا يَلْزَمُ بِهَا طَلَاقٌ وَلَا غَيْرُهُ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ حَتَّى يَحْصُلَ فِيهَا نَقْلٌ عُرْفِيٌّ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَيَجِبُ اتِّبَاعُ ذَلِكَ النَّقْلِ عَلَى حَسَبِ مَا نُقِلَ اللَّفْظُ إلَيْهِ مِنْ بَيْنُونَةٍ أَوْ عَدَدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَهَذَا هُوَ دِينُ اللَّهِ تَعَالَى الْحَقُّ الصَّرِيحُ وَالْفِقْهُ الصَّحِيحُ.
(قَاعِدَةٌ) الْمَجَازُ لَا يَدْخُلُ فِي النُّصُوصِ بَلْ فِي الظَّوَاهِرِ فَقَطْ فَمَنْ أَطْلَقَ الْعَشَرَةَ وَأَرَادَ السَّبْعَةَ فَهُوَ مُخْطِئٌ لُغَةً وَمَنْ أَطْلَقَ صِيَغَ الْعُمُومِ وَأَرَادَ الْخُصُوصَ فَهُوَ مُصِيبٌ لُغَةً؛ لِأَنَّهَا ظَوَاهِرُ وَأَسْمَاءُ الْأَعْدَادِ عِنْدَهُمْ نُصُوصٌ لَا يَجُوزُ دُخُولُ الْمَجَازِ فِيهَا أَلْبَتَّةَ.
(قَاعِدَةٌ) كُلُّ لَفْظٍ لَا يَجُوزُ دُخُولُ الْمَجَازِ فِيهِ لَا تُؤَثِّرُ النِّيَّةُ فِي صَرْفِهِ عَنْ مَوْضُوعِهِ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تَصْرِفُ اللَّفْظَ إلَى مَعْنًى إلَّا إذَا كَانَ يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَيْهِ لُغَةً هَذِهِ قَاعِدَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَالْأُولَى قَاعِدَةٌ لُغَوِيَّةٌ فَبُنِيَتْ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ وَهِيَ الْقَاعِدَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ: (وَمِنْ الْأَغْوَارِ الَّتِي لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهَا الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إلَى قَوْلِهِ إنْ اخْتَلَفَتْ السِّكَّتَانِ) قُلْتُ مَا قَالَهُ هُنَا صَحِيحٌ ظَاهِرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ: (فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ لَا بُدَّ مِنْ مُلَاحَظَتِهَا وَبِالْإِحَاطَةِ بِهَا يَظْهَرُ لَكَ غَلَطُ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْمُفْتِينَ فَإِنَّهُمْ يُجْرُونَ الْمَسْطُورَاتِ فِي كُتُبِ أَئِمَّتِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ إلَى قَوْلِهِ وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا) قُلْتُ إنْ كَانُوا فَعَلُوا ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ عُرْفٍ وَقْتِيٍّ فَفِعْلُهُمْ خَطَأٌ كَمَا قَالَ، وَإِنْ كَانُوا فَعَلُوهُ مَعَ عَدَمِ الْعُرْفِ الْوَقْتِيِّ فَلَيْسَ بِخَطَأٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ: (فَالْحَقُّ حِينَئِذٍ أَنَّ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا لَيْسَ فِيهَا إلَّا الْوَضْعُ اللُّغَوِيُّ، وَإِنَّهَا كِنَايَاتٌ خَفِيَّةٌ لَا يَلْزَمُ بِهَا طَلَاقٌ وَلَا غَيْرُهُ إلَّا بِالنِّيَّةِ إلَى قَوْلِهِ فَهَذَا هُوَ دِينُ اللَّهِ تَعَالَى الْحَقُّ الصَّرِيحُ وَالْفِقْهُ الصَّحِيحُ) . قُلْتُ لَيْسَ الْأَمْرُ فِي تِلْكَ الْأَلْفَاظِ كَمَا قَالَ بَلْ فِيهَا عُرْفٌ شَرْعِيٌّ أَوْ لُغَوِيٌّ فَيَلْزَمُ بِهَا الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ تَنْوِيَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ: (قَاعِدَةُ الْمَجَازِ لَا يَدْخُلُ فِي النُّصُوصِ إلَى قَوْلِهِ وَأَسْمَاءُ الْأَعْدَادِ نُصُوصٌ لَا يَجُوزُ دُخُولُ الْمَجَازِ فِيهَا أَلْبَتَّةَ) قُلْتُ مَا قَالَهُ صَحِيحٌ ظَاهِرٌ.
قَالَ (قَاعِدَةُ " كُلُّ لَفْظٍ لَا يَجُوزُ دُخُولُ الْمَجَازِ فِيهِ لَا تُؤَثِّرُ النِّيَّةُ فِي صَرْفِهِ عَنْ مَوْضُوعِهِ " إلَى قَوْلِهِ وَهِيَ قَاعِدَةٌ شَرْعِيَّةٌ مُحَمَّدِيَّةٌ) قُلْتُ مَا قَالَهُ أَيْضًا صَحِيحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَالسُّنَّةِ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ أَدِلَّةٌ عَلَى مَا قَامَ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْإِنْشَاءَاتِ لَا نَفْسِهَا وَإِلَّا يَلْزَمُ اتِّحَادُ الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ فَأَنْشَأَ تَعَالَى السَّبَبِيَّةَ فِي زَوَالِ الشَّمْسِ لِوُجُوبِ الظُّهْرِ وَأَنْزَلَ قَوْله تَعَالَى {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] دَالًّا عَلَى مَا قَامَ بِذَاتِهِ مِنْ هَذَا الْإِنْشَاءِ، وَكَذَلِكَ إنْشَاءُ الشَّرْطِيَّةِ فِي الزَّكَاةِ وَفِي الْحَوْلِ وَفِي الصَّلَاةِ فِي الطَّهَارَةِ وَالْمَانِعِيَّةِ مِنْ الْمِيرَاثِ فِي الْكُفْرِ وَمِنْ الصَّلَاةِ فِي الْحَدَثِ وَجُعِلَ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ دَالًّا عَلَى مَا قَامَ بِذَاتِهِ مِنْ هَذِهِ الْإِنْشَاءَاتِ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَهِيَ الْوُجُوبُ وَالنَّدْبُ وَالتَّحْرِيمُ وَالْكَرَاهَةُ وَالْإِبَاحَةُ كُلُّهَا قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تَعَالَى عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ، وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ إنَّمَا هِيَ أَدِلَّةٌ عَلَى مَا قَامَ بِذَاتِهِ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْوَاحِدُ مِنَّا إذَا قَالَ لِغُلَامِهِ اسْقِنِي فَقَدْ أَنْشَأَ فِي نَفْسِهِ إيجَابًا وَطَلَبًا لِلْمَاءِ قَبْلَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ بِلَفْظِهِ.
وَكَذَلِكَ النَّهْيُ وَغَيْرُ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّ إنْشَاءَ الْخَلْقِ لِهَذِهِ الْأُمُورِ حَادِثٌ وَفِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى قَدِيمٌ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي الْأَزَلِ يُوجِبُ مَثَلًا عَلَى مَنْ يُمْكِنُ وُجُودُهُ مُجْتَمِعَ الشَّرَائِطِ مُزَالَ الْمَوَانِعِ فَيَتَقَدَّمُ مِنْهُ تَعَالَى الطَّلَبُ عَلَى وُجُودِ الْمَطْلُوبِ كَمَا أَنَّ أَحَدَنَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ طَلَبَ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَالْفَضَائِلِ مِنْ وِلْدَانِ رِزْقِهِ وَهُوَ الْآنَ لَا وَلَدَ لَهُ، فَيَتَقَدَّمُ مِنَّا الطَّلَبُ عَلَى وُجُودِ الْمَطْلُوبِ وَكَوْنُ الْإِنْشَاءِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ طَارِئًا عَلَى الْخَبَرِ كَمَا مَرَّ إنَّمَا هُوَ فِي الْإِنْشَاءِ وَالْخَبَرِ اللُّغَوِيَّيْنِ أَمَّا الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ فَوَاحِدٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مُتَعَلِّقَاتِهِ فَإِنْ تَعَلَّقَ بِأَحَدِ النَّقِيضَيْنِ الْوُجُودِ أَوْ الْعَدَمِ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ فَهُوَ الْخَبَرُ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِأَحَدِهِمَا عَلَى وَجْهِ التَّرْجِيحِ فَإِنْ كَانَ طَرَفُ الْوُجُودِ فَهُوَ الْإِيجَابُ أَوْ فِي طَرَفِ الْعَدَمِ فَهُوَ التَّحْرِيمُ أَوْ تَعَلَّقَ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فَهُوَ الْإِبَاحَةُ وَلَا تَرْتِيبَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ بَلْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَصْلِ الْكَلَامِ رُتْبَةٌ عَقْلِيَّةٌ لَا زَمَانِيَّةٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ يَقْضِي بِتَقْدِيمِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ بِالرُّتْبَةِ تَقْدِيمًا عَقْلِيًّا لَا زَمَانِيًّا فَلَا تَلْزَمُ مُنَافَاةُ الْأَزَلِ لِلْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ وَلَا الْحُدُوثِ، وَكَوْنُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ إنْشَاءَاتٍ لَا إخْبَارَاتٍ عَنْ إرَادَةِ وُقُوعِ الْعِقَابِ عَلَى مَنْ خَالَفَ وَعَصَى يَتَّضِحُ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا لَا تَقْبَلُ
وَعَلَى هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ تَرَتَّبَ قَوْلُ مَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ الْقَائِلَ أَنْتِ حَرَامٌ أَوْ أَلْبَتَّةَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ لَا يَنْوِي فِي أَقَلَّ مِنْ الثَّلَاثِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ نُقِلَ إلَى الْعَدَدِ الْمُعَيَّنِ وَهُوَ الثَّلَاثُ فَصَارَ مِنْ جُمْلَةِ أَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ وَأَسْمَاءُ الْأَعْدَادِ لَا يَدْخُلُهَا الْمَجَازُ فَلَا تُسْمَعُ فِيهَا النِّيَّةُ لِلْقَاعِدَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ لَكَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَيُرِيدُ اثْنَتَيْنِ لَا تُسْمَعُ نِيَّتُهُ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِي الْفَتْوَى أَوْ يُرِيدُ أَنَّهَا طَلُقَتْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ الْوَلَدِ فَتُسْمَعُ نِيَّتُهُ فِي الْفُتْيَا دُونَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَدْخَلَ النِّيَّةَ فِي لَفْظِ الْعَدَدِ فَامْتَنَعَ، وَالثَّانِيَ أَدْخَلَ النِّيَّةَ فِي اسْمِ جِنْسِ الطَّلَاقِ فَحَوَّلَهُ لِطَلْقِ الْوَلَدِ وَبَقِيَ الْعَدَدُ فِي ذَلِكَ الْجِنْسِ الَّذِي تَحَوَّلَ إلَيْهِ اللَّفْظُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ بِالنِّيَّةِ فَدَخَلَ الْمَجَازُ فِي اسْمِ الْجِنْسِ لَا فِي الْعَدَدِ، وَالْمَجَازُ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ جَائِزٌ بِخِلَافِ أَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ فَقُبِلَتْ النِّيَّةُ فِي رَفْعِ الطَّلَاقِ بِجُمْلَتِهِ لِتَحْوِيلِهِ لِجِنْسٍ آخَرَ، وَلَمْ تُقْبَلْ فِي رَفْعِ بَعْضِهِ.
وَهَذَا يَظْهَرُ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ بُطْلَانُهُ، وَأَنَّ النِّيَّةَ إذَا قُبِلَتْ فِي رَفْعِ الْكُلِّ أَوْلَى أَنْ تُقْبَلَ فِي رَفْعِ الْبَعْضِ وَالسِّرُّ مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ.
فَإِنْ قُلْتَ مَا ذَكَرْتَهُ مِنْ الْحَقِّ مُتَعَيَّنٌ اتِّبَاعُهُ فَمَا سَبَبُ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَكَيْفَ سَاغَ الْخِلَافُ مَعَ وُضُوحِ هَذَا الْمُدْرَكِ وَقُلْت سَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ رضي الله عنهم اخْتِلَافُهُمْ فِي تَحْقِيقِ وُقُوعِ النَّقْلِ الْعُرْفِيِّ هَلْ وُجِدَ فَيُتَّبَعُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ فَيُتَّبَعُ مُوجَبُ اللُّغَةِ، وَإِذَا وُجِدَ النَّقْلُ فَهَلْ وُجِدَ فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ فَقَطْ أَوْ فِيهِ مَعَ الْبَيْنُونَةِ أَوْ مَعَ الْعَدَدِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ نَقْلٌ عُرْفِيٌّ وَبَقِيَ مُوجَبُ اللُّغَةِ فَهَلْ يُلَاحَظُ نُصُوصٌ اقْتَضَتْ الْكَفَّارَةُ فِي مِثْلِ هَذَا أَمْ لَا أَوْ الْقِيَاسُ عَلَى بَعْضِ الْأَحْكَامِ فَيَكُونُ الْمُدْرَكُ هُوَ الْقِيَاسُ لَا النَّصُّ فَهَذَا هُوَ سَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ رضي الله عنهم مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى هَذِهِ الْمَدَارِكِ الْمَذْكُورَةِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَتَّضِحْ وُجُودُهَا عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَاتَّضَحَ عِنْدَ الْبَعْضِ الْآخَرِ.
وَأَمَّا لَوْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى وُجُودِهَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْحُكْمِ وَارْتَفَعَ الْخِلَافُ فَلَا تَنَافِي بَيْنَ صِحَّةِ هَذِهِ الْمَدَارِكِ وَبَيْنَ اخْتِلَافِهِمْ فِي وُجُودِهَا وَتَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَيْهَا فَإِنْ قُلْت فَلَعَلَّ مُدْرَكَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (وَعَلَى هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ تَرَتَّبَ قَوْلُ مَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ الْقَائِلَ: أَنْتِ حَرَامٌ أَوْ أَلْبَتَّةَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ لَا يَنْوِي فِي أَقَلَّ مِنْ الثَّلَاثِ إلَى قَوْلِهِ لِلْقَاعِدَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ) قُلْتُ مَا قَالَهُ هُنَا صَحِيحٌ وَيَلْزَمُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ أَنْتِ حَرَامٌ وَطَالِقٌ أَلْبَتَّةَ ثَبَتَ فِيهَا عُرْفٌ إمَّا شَرْعِيٌّ أَوْ لُغَوِيٌّ بِخِلَافِ مَا قَالَهُ قَبْلُ.
قَالَ (وَبِهَذَا يَظْهَرُ لَكَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَيُرِيدُ اثْنَتَيْنِ لَا تُسْمَعُ نِيَّتُهُ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِي الْفُتْيَا، أَوْ يُرِيدُ أَنَّهَا طَلُقَتْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ الْوَلَدِ فَتُسْمَعُ نِيَّتُهُ فِي الْفُتْيَا دُونَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَدْخَلَ النِّيَّةَ فِي لَفْظِ الْعَدَدِ فَامْتَنَعَ، وَالثَّانِيَ أَدْخَلَ النِّيَّةَ فِي اسْمِ جِنْسِ الطَّلَاقِ فَحَوَّلَهُ لِطَلْقِ الْوَلَدِ، وَبَقِيَ الْعَدَدُ فِي ذَلِكَ الْجِنْسِ الَّذِي تَحَوَّلَ إلَيْهِ اللَّفْظُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ بِالنِّيَّةِ إلَى قَوْلِهِ وَالسِّرُّ مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ) قُلْتُ مَا قَالَهُ هُنَا صَحِيحٌ أَيْضًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ (فَإِنْ قُلْتَ مَا ذَكَرْتَهُ مِنْ الْحَقِّ مُتَعَيَّنٌ اتِّبَاعُهُ فَمَا سَبَبُ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ إلَى قَوْلِهِ فَلَا تَنَافِي بَيْنَ صِحَّةِ هَذِهِ الْمَدَارِكِ وَبَيْنَ اخْتِلَافِهِمْ فِي وُجُودِهَا وَتَرْتِيبِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهَا) قُلْتُ: مَا قَالَهُ هُنَا مُتَّجَهٌ وَمُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَهُ سَبَبَ اخْتِلَافِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ (فَإِنْ قُلْتَ فَلَعَلَّ مُدْرَكَ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ. وَثَانِيهِمَا أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ إخْبَارَاتٍ عَنْ إرَادَةِ الْعِقَابِ لَلَزِمَ إمَّا وُجُوبُ عِقَابِ كُلِّ عَاصٍ، وَإِمَّا الْخُلْفُ، وَالثَّانِي مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى حُصُولِ الْعَفْوِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصُّوَرِ الَّتِي لَا تُحْصَى وَلِلنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25] وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «النَّدَمُ تَوْبَةٌ وَالْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» وَلِلصُّورَةِ الثَّالِثَةِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْأَئِمَّةِ فِي قَوْله تَعَالَى جَزَاءِ الصَّيْدِ {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْوَاجِبُ فِي الصَّيْدِ مِثْلُهُ مِنْ النِّعَمِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، ثُمَّ يُقَوَّمُ الصَّيْدُ وَيَقَعُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْمِثْلِ وَالْإِطْعَامِ وَالصَّوْمِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا يُتَصَوَّرُ الْحُكْمُ فِيمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فَإِنَّ الْحُكْمَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الِاجْتِهَادِ، وَالِاجْتِهَادُ مِنْ مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ سَعْيٌ فِي تَخْطِئَةِ الْمُجْمِعِينَ فَيَكُونُ الْعَامُّ مَخْصُوصًا بِصُوَرِ الْإِجْمَاعِ فَجَوَابُهُ أَنَّ الْحَكَمَيْنِ فِي زَمَانِنَا يُنْشِئَانِ الْإِلْزَامَ عَلَى قَاتِلِ الصَّيْدِ، وَيَكُونُ مُدْرَكُهُمَا فِي ذَلِكَ هُوَ الْإِجْمَاعُ فِي الصُّورَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا، وَالنُّصُوصُ وَالْأَقْيِسَةُ فِي الصُّورَةِ الَّتِي لَمْ يُجْمَعْ عَلَيْهَا فَالْحُكْمُ فِي زَمَانِنَا عَامٌّ فِي الْجَمِيعِ، وَالنَّصُّ بَاقٍ عَلَى الْعُمُومِ وَلَا حَاجَةَ لِتَخْصِيصِهِ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا تَقَرَّرَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَتْوَى وَالْحُكْمِ وَبَيْنَ الْمُفْتِي وَالْحَاكِمِ مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ إنْشَاءٌ لِنَفْسِ ذَلِكَ الْإِلْزَامِ إنْ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ أَوْ لِنَفْسِ تِلْكَ الْإِبَاحَةِ وَالْإِطْلَاقِ إنْ كَانَ الْحُكْمُ فِيهَا كَحُكْمِ الْحَاكِمِ بِأَنَّ الْمَوَاتَ إذَا بَطَلَ إحْيَاؤُهُ صَارَ مُبَاحًا لِجَمِيعِ النَّاسِ وَالْفَتْوَى بِذَلِكَ إخْبَارٌ صِرْفٌ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ، وَأَنَّ الْحَاكِمَ مُلْزِمٌ وَالْمُفْتِيَ مُخْبِرٌ، وَأَنَّ نِسْبَتَهُمَا لِصَاحِبِ الشَّرْعِ كَنِسْبَةِ نَائِبِ الْأَحْكَامِ وَالْمُتَرْجِمِ عَنْهُ فَنَائِبُهُ يُنْشِئُ أَحْكَامًا لَمْ تُقَرَّرْ عِنْدَ مُسْتَنِيبِهِ بَلْ يُنْشِئُهَا عَلَى قَوَاعِدِهِ كَمَا يُنْشِئُهَا الْأَصْلُ.
وَلَا يَحْسُنُ مِنْ مُسْتَنِيبِهِ أَنْ يُصَدِّقَهُ فِيمَا حَكَمَ بِهِ وَلَا يُكَذِّبَهُ بَلْ يُخَطِّئُهُ أَوْ يُصَوِّبُهُ بِاعْتِبَارِ الْمُدْرَكِ الَّذِي اعْتَمَدَهُ، وَالْمُتَرْجِمُ يُخْبِرُ عَمَّا قَالَهُ الْحَاكِمُ لِمَنْ لَا يَعْرِفُ كَلَامَ الْحَاكِمِ لِعُجْمَتِهِ
مَالِكٍ نَصٌّ أَوْ قِيَاسٌ فَتَسْتَمِرُّ فَتَاوِيهِ فِي بَعْضِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ وَلَا يَلْزَمُ تَغْيِيرُهَا بِتَغَيُّرِ الْعَوَائِدِ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَلْزَمُ فِيمَا مُدْرَكُهُ الْعَوَائِدُ أَمَّا مَا هُوَ بِالنُّصُوصِ أَوْ الْأَقْيِسَةِ فَيَتَأَبَّدُ فَيَكُونُ الْمُفْتِي بِمُوجِبَاتِ الْمَنْقُولَاتِ فِي الْكُتُبِ مُصِيبًا لَا مُخْطِئًا، وَلَا يَجْتَمِعُ بِمَالِكٍ حَتَّى يَسْأَلَهُ عَمَّا فِي نَفْسِهِ وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا تَتَعَيَّنُ التَّخْطِئَةُ.
وَيَجِبُ اتِّبَاعُ مُوجَبِ الْمَنْقُولَاتِ عَنْ الْأَئِمَّةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِرَاضٍ؛ لِأَنَّا مُقَلِّدُونَ لَهُمْ رضي الله عنهم لَا مُعْتَرِضُونَ عَلَيْهِمْ وَمَتَى وَجَدْنَا فَتَاوِيَهُمْ وَجَهِلْنَا مُدْرَكَهَا نَقَلْنَاهَا كَمَا وَجَدْنَاهَا لِمَنْ يَسْأَلُنَا عَنْ الْمَذْهَبِ فَإِنَّا مُقَلِّدُونَ لَا مُجْتَهِدُونَ.
قُلْتُ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ الِاسْتِقْرَاءُ فَإِنَّا لَسْنَا جَاهِلِينَ بِاللُّغَةِ إلَى حَدٍّ لَا نَعْلَمُ مَدْلُولَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لُغَةً مَعَ أَنَّهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمَشْهُورَةِ لَا مِنْ الْحُوشِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ اللُّغَةَ إنَّمَا تَقْتَضِي الْخَبَرَ لَا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْإِنْشَاءِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُدْرَكُهُمْ الْقِيَاسَ فَإِنَّا نَعْلَمُ مَسَائِلَ الطَّلَاقِ وَشَرَائِطَ الْقِيَاسِ، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَقْتَضِي الْقِيَاسَ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ وَلَيْسَ فِيهَا آيَةٌ مِنْ كِتَابٍ تَقْتَضِي أَكْثَرَ مِمَّا قَالَهُ الْقَائِلُونَ بِالْكَفَّارَةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا آيَةُ التَّحْرِيمِ، وَالْأَحَادِيثُ لَمْ نَجِدْ أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ رَوَى فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ حَدِيثًا.
وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَبَيْنَ التَّابِعِينَ رضي الله عنهم وَلَمْ نَجِدْ أَحَدًا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْخِلَافِ رَوَى عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ رَوَى فِي ذَلِكَ حَدِيثًا فَلَمْ يَبْقَ سِوَى الْعَوَائِدِ الثَّانِي أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيَّ إمَامَ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ وَحَافِظَ مُتْقَنِ الْعِلْمِ الْحَدِيثِ وَفُنُونِهِ، وَلَهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْيَدُ الْبَيْضَاءُ وَالرُّتْبَةُ الْعَالِيَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْقَوَاعِدِ، وَأَشَارَ إلَى أَنَّ سَبَبَ الْخِلَافِ فِيهَا نَقْلُ الْعَوَائِدِ كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُهُ فَكَفَى بِهِ قُدْوَةً فِي مُدْرَكِ هَذِهِ الشُّرُوعِ وَمُعْتَمَدًا فِي ضَوَابِطِهَا وَتَلْخِيصِهَا، وَقَدْ تَابَعَهُ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّيُوخِ وَالْمُصَنِّفِينَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ مُخَالِفًا فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ فَالتَّشْكِيكُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمُدْرَكِ إنَّمَا هُوَ طَلَبٌ لِلْجَهْلِ وَسَبِيلٌ لِغَوَايَةِ التَّضْلِيلِ.
الثَّالِثُ أَنَّ قَاعِدَةَ الْفُقَهَاءِ وَعَوَائِدَ الْفُضَلَاءِ أَنَّهُمْ إذَا ظَفِرُوا لِلنَّوْعِ بِمُدْرَكٍ مُنَاسِبٍ وَفَقَدُوا غَيْرَهُ جَعَلُوهُ مُعْتَمَدًا لِذَلِكَ الْفَرْعِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ الْمُجْتَهِدِ الْأَوَّلِ الَّذِي أَفْتَى بِذَلِكَ الْفَرْعِ وَفِي حَقِّهِمْ أَيْضًا فِي الْفُتْيَا وَالتَّخْرِيجِ وَاسْتِقْرَاءِ أَحْوَالِ الْفُقَهَاءِ فِي مَسْلَكِ النَّظَرِ.
وَتَحْرِيرُ الْفُرُوعِ يَقْتَضِي الْجَزْمَ بِذَلِكَ فَكَذَلِكَ يَجِبُ هَاهُنَا، وَنَحْنُ اسْتَقْرَيْنَا هَذِهِ الْمَسَائِلَ فَلَمْ نَجِدْ لَهَا مُدْرَكًا مُنَاسِبًا إلَّا الْعَوَائِدَ فَوَجَبَ جَعْلُهَا مُدْرَكَ الْأَئِمَّةِ إفْتَاءً وَتَخْرِيجًا، وَالْعُدُولُ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ الْتِزَامٌ لِلْجَهَالَةِ مِنْ غَيْرِ مَعْنًى مُنَاسِبٍ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّا فِي كَلَامِ الشَّرْعِ إذَا ظَفِرْنَا بِالْمُنَاسَبَةِ جَزَمْنَا بِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا مَعَ تَجْوِيزِ أَنْ لَا يَكُونَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ عَقْلًا لَكِنْ الِاسْتِقْرَاءُ أَوْجَبَ لَنَا ذَلِكَ، وَلَا نُعَرِّجُ عَلَى غَيْرِ مَا وَجَدْنَاهُ وَلَا نَلْتَزِمُ التَّعَبُّدَ مَعَ وُجُودِ الْمُنَاسِبِ هَذَا مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ الْقَيَّاسُونَ وَأَهْلُ النَّظَرِ وَالرَّأْيِ وَالِاعْتِبَارِ فَأَوْلَى أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ غَيْرِ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ بَلْ نَحْمِلُ كَلَامَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْمُنَاسِبِ لِتِلْكَ الْفَتَاوَى السَّالِمِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
مَالِكٍ رحمه الله نَصٌّ أَوْ قِيَاسٌ فَتَسْتَمِرُّ فَتَاوِيهِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ إلَى آخِرِ الْجَوَابِ) قُلْتُ قَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْعُرْفُ الْوَقْتِيُّ إنْ كَانَ وَإِلَّا فَالشَّرْعِيُّ وَإِلَّا فَاللُّغَوِيُّ وَإِلَّا فَالْأَصْلِيُّ فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ فَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ.
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَانِعِ الْفَهْمِ فَلِلْحَاكِمِ أَنْ يُصَدِّقَهُ إنْ صَدَقَ، وَيُكَذِّبَهُ إنْ كَذَبَ وَقَدْ وَضَعَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْفَرْقِ كِتَابًا نَفِيسًا فِيهِ أَرْبَعُونَ مَسْأَلَةً تَتَعَلَّقُ بِتَحَقُّقِهِ سَمَّاهُ بِالْأَحْكَامِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ وَتَصَرُّفِ الْقَاضِي وَالْإِمَامِ، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - النَّصُّ بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ غَيْرَ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الصَّيْدِ إنَّمَا هُوَ الْقِيمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْفَاصِلِ الشَّاهِدِ مُسْتَدِلًّا بِأَرْبَعَةِ أُمُورٍ
أَحَدُهَا أَنَّ الْجَزَاءَ جَعَلَهُ قَوْله تَعَالَى {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] لَلْمِثْلِ لَا لِلصَّيْدِ نَفْسِهِ فَالنَّعَمُ وَاجِبَةٌ فِي الْمِثْلِ الَّذِي هُوَ الْقِيمَةُ لَا لِلصَّيْدِ نَفْسِهِ
وَثَانِيهَا أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى جَعْلِ الْجَزَاءِ لِلْمِثْلِ لَا لِلصَّيْدِ أَنْ قَوْله تَعَالَى {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الصَّيْدِ لَا خَاصٌّ بِمَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ النَّعَمِ كَالْعَصَافِيرِ وَالنَّمْلِ وَغَيْرِهَا بِخِلَافِ جَعْلِ الْجَزَاءِ لِلصَّيْدِ لَا لِلْمِثْلِ، وَعَدَمُ التَّخْصِيصِ أَوْلَى.
وَثَالِثُهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اشْتَرَطَ الْحَكَمَيْنِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَأَتَّى بَاقِيًا عَلَى عُمُومِهِ إذَا جَعَلْنَا الْجَزَاءَ لِلْمِثْلِ لَا إذَا جَعَلْنَاهُ لِلصَّيْدِ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ عَلَى تَقْوِيمِ صَيْدٍ أَنْ لَا نُقَوِّمَهُ نَحْنُ بَعْدَ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْقِيمَةِ فِي أَفْرَادِ النَّوْعِ الْوَاحِدِ وَلَا يُغْنِي تَقْوِيمٌ عَنْ تَقْوِيمٍ فَيَبْقَى الْعُمُومُ عَلَى عُمُومِهِ فِي الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَيَلْزَمُ بَعْدَ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ فِي الضَّبُعِ شَاةً وَفِي الْبَقَرَةِ الْوَحْشِيَّةِ بَقَرَةً وَفِي النَّعَامَةِ بَدَنَةً وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصُّوَرِ الَّتِي يُفْرَضُ حُصُولُ الِاجْتِمَاعِ فِيهَا أَنَّ ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ وَلَا يَبْقَى لِلْحُكْمِ مِنَّا وَالِاجْتِهَادِ بَعْدَ ذَلِكَ مَعْنًى أَلْبَتَّةَ إلَّا فِي الصُّوَرِ الَّتِي لَمْ يُجْمِعْ فِيهَا الصَّحَابَةُ كَالْفِيلِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَفْرَادِ الصَّيْدِ فَيَلْزَمُ التَّخْصِيصُ، وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ
وَرَابِعُهَا أَنَّ الصَّيْدَ مُتْلَفٌ يَوْمَ الْمُتْلَفَاتِ فَتَجِبُ فِيهِ الْقِيمَةُ كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ فَجَوَابُهُ عَنْ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْآيَةَ كَمَا قُرِئَتْ (فَجَزَاءُ مِثْلِ) بِالْإِضَافَةِ فَصَارَتْ مُحْتَمِلَةً لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَلِمَا ذَكَرْتُمُوهُ، كَذَلِكَ قُرِئَتْ {فَجَزَاءٌ} [المائدة: 95] بِالتَّنْوِينِ وَ {مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] نَعْتٌ لَهُ فَتَكُونُ صَرِيحَةً فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِ الْجَزَاءِ لِلصَّيْدِ لِلْمِثْلِ فَيَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ