الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ: اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتِي فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا يَمُوتُ حَتَّى يَنْظُرَ فِي وَجْهِ الْمَيامِيسِ وَكَانَتْ تَأْتِي إلَى صَوْمَعَتِهِ رَاعِيَةٌ تَرْعَى الْغَنَمَ فَوَلَدَتْ فَقِيلَ لَهَا: مِمَّنْ هَذَا الْوَلَدُ؟ فَقَالَتْ: مِنْ جُرَيْجٍ نَزَلَ مِنْ صَوْمَعَتِهِ فَوَاقَعَنِي» وَسَاقَ الْحَدِيثَ وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ الْأُمِّ فِي قَطْعِ النَّافِلَةِ وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا تَكُونَ وَاجِبَةً بِالشُّرُوعِ أَوْ يُقَالُ مَا وَجَبَ بِالشُّرُوعِ يُقْطَعُ لِلْأَبَوَيْنِ بِخِلَافِ الْوَاجِبِ بِالْأَصَالَةِ مَعَ أَنَّ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ نَظَرًا وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ دُعَاءَهَا فِيهِ وَاسْتِجَابَةُ الدُّعَاءِ لَا يَتَعَيَّنُ أَنَّهُ لِوُجُوبِ حَقِّ الدَّاعِي وَأَنَّهُ مَظْلُومٌ وَقَدْ ثَبَتَ فِي كِتَابِ الْمُنْجِيَاتِ وَالْمُوبِقَاتِ فِي فِقْهِ الْأَدْعِيَةِ أَنَّ دُعَاءَ الظَّالِمِ قَدْ يُسْتَجَابُ فِي الْمَظْلُومِ وَيَجْعَلُ اللَّهُ تَعَالَى دُعَاءَهُ سَبَبًا لِضَرَرٍ يَحْصُلُ لِلْمَظْلُومِ لِأَجْلِ ذَنْبٍ تَقَدَّمَ مِنْ الْمَظْلُومِ وَعِصْيَانِهِ لِلَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ طَرِيقِ هَذَا الدَّاعِي كَمَا أَنَّ ظُلْمَ هَذَا الظَّالِمِ ابْتِدَاءً يَكُونُ بِسَبَبِ ذُنُوبٍ تَقَدَّمَتْ لِلْمَظْلُومِ وَيَكُونُ الظَّالِمُ سَبَبَ وُصُولِ الْعُقُوبَةِ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ تَعَالَى دُعَاءَهُ سَبَبَ نِقْمَتِهِ كَمَا جَعَلَ يَدَهُ وَلِسَانَهُ سَبَبَيْ نِقْمَتِهِ وَالْكُلُّ بِذُنُوبٍ سَالِفَةٍ لِلْمَظْلُومِ فَلَا يُسْتَبْعَدُ اسْتِجَابَةُ دُعَاءِ الظَّالِمِ فِي الْمَظْلُومِ وَإِنَّمَا كَانَ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَ دُعَاؤُهُ إنَّمَا يُسْتَجَابُ بِسَبَبِ حَقِّ الظَّالِمِ وَالظَّالِمُ لَيْسَ لَهُ حَقٌّ فَلَا يُسْتَجَابُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يُسْتَجَابُ بِسَبَبِ حُقُوقٍ لِغَيْرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] .
وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَظْهَرُ ضَعْفُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا اسْتِجَابَةُ الدُّعَاءِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ طَاعَتِهِمَا عَلَى الْمَنْدُوبَاتِ مَا فِي مُسْلِمٍ أَنَّ «رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ قَالَ: هَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ كِلَاهُمَا قَالَ: فَتَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَارْجِعْ إلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا» فَجَعَلَ عليه السلام الْكَوْنَ مَعَ الْأَبَوَيْنِ أَفْضَلَ مِنْ الْكَوْنِ مَعَهُ وَجَعَلَ خِدْمَتَهُمَا أَفْضَلَ مِنْ الْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا سِيَّمَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَمَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمَا مَنَعَاهُ بَلْ هُمَا مَوْجُودَانِ فَقَطْ فَأَمَرَهُ عليه السلام بِالْأَفْضَلِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ الْكَوْنُ مَعَهُمَا وَفَرْضُ الْجِهَادِ فَرْضُ كِفَايَةٍ يَحْمِلُهُ الْحَاضِرُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ وَيَنْدَرِجُ فِي هَذَا الْمَسْلَكِ غَسْلُ الْمَوْتَى وَمُوَارَاتِهِمْ وَجَمِيعُ فَرَوْضِ الْكِفَايَةِ إذَا وُجِدَ مَنْ يَقُومُ بِهَا وَهَذَا الْحَدِيثُ أَعْظَمُ دَلِيلٍ وَأَبْلَغُ فِي أَمْرِ الْوَالِدَيْنِ فَإِنَّهُ عليه الصلاة والسلام رَتَّبَ هَذَا الْحُكْمَ عَلَى مُجَرَّدِ وَصْفِ الْأُبُوَّةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ أَمْرِهِمَا وَعِصْيَانِهِمَا
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
مِنْ نَقْلٍ وَغَيْرِهِ صَحِيحٌ غَيْرَ قَوْلِهِ وَإِذَا قَدَّمَ خِدْمَتَهَا عَلَى فَرَوْضِ الْكِفَايَاتِ فَعَلَى النَّقْلِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنَّهُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ ذَلِكَ فِي النَّفْلِ أَوْلَى لِأَنَّ تَرْكَهُ فَرْضَ الْكِفَايَةِ مَعَ قِيَامِ غَيْرِهِ بِهِ لَا تَفُوتُ بِهِ مَصْلَحَةٌ وَتَرْكَ النَّفْلِ تَفُوتُ بِهِ مَصْلَحَةُ ذَلِكَ النَّفْلِ وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ مَصْلَحَةَ النَّفْلِ إنَّمَا هِيَ مُجَرَّدُ الثَّوَابِ وَكَذَلِكَ مَصْلَحَةُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ زَائِدٌ فِي الْعَدَدِ عَلَى مَنْ يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْفَرْضِ لَكِنَّ ثَوَابَ فَرْضِ الْكِفَايَةِ أَعْظَمُ فَتَتَحَقَّقُ الْأَوْلَوِيَّةُ.
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَكَذَلِكَ مُتَعَلِّقُ نِيَّةِ الْإِمَامِ فِي الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا إنَّمَا هُوَ تَعْيِينُهُ نَفْسَهُ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ وَتَقَدُّمُهُ لِذَلِكَ وَهُوَ مِنْ فِعْلِهِ لَا الْإِمَامَةِ حَتَّى يُقَالَ: لَمْ تَكُنْ فِعْلًا زَائِدًا عَلَى فِعْلِ الْمُنْفَرِدِ بَلْ فِعْلُ الْإِمَامِ مُسَاوٍ لِفِعْلِ الْمُنْفَرِدِ وَكَيْفَ تُتَصَوَّرُ نِيَّةٌ بِلَا مَنْوِيٍّ وَلَا دَاعِي لِلْجَوَابِ عَنْهُ بِأَنَّ مُتَعَلِّقَهَا كَوْنُهُ مُقْتَدًى بِهِ وَصَحَّتْ نِيَّتُهُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِهِ تَبَعًا لِمَا هُوَ مِنْ فِعْلِهِ فَافْهَمْ.
[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الَّذِي نَسِيَ صَلَاةً مِنْ الْخَمْسِ وَشَكَّ فِي عَيْنِهَا]
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) الشَّكُّ الْوَاقِعُ مِمَّنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ الْخَمْسِ وَشَكَّ فِي عَيْنِهَا نَصَبَهُ الشَّارِعُ سَبَبًا لِإِيجَابِ خَمْسِ صَلَوَاتٍ فَإِذَا صَلَّى الْخَمْسَ فَهُوَ جَازِمٌ بِوُجُوبِ الْخَمْسِ عَلَيْهِ لِوُجُودِ سَبَبِهَا الَّذِي هُوَ الشَّكُّ لَا مُتَرَدِّدٍ فِي نِيَّتِهِ حَتَّى يُقَالَ: إنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ قَاعِدَةِ أَنَّ النِّيَّةَ لَا تَصِحُّ فِي التَّرَدُّدِ.
[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ النِّيَّةُ لَا تَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ]
(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) الْمَشْرُوعُ فِي نِيَّةِ الْعِبَادَةِ أَنْ يَنْوِيَ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي إيقَاعِ الصَّلَاةِ مَنْوِيَّةً مَثَلًا فَإِنَّ النِّيَّةَ فِي الصَّلَاةِ مَشْرُوعَةٌ شَرْطًا فِي صِحَّتِهَا وَلَيْسَ الْمَشْرُوعُ أَنْ يَنْوِيَ نِيَّةَ الِامْتِثَالِ حَتَّى يَلْزَمَ التَّسَلْسُلُ وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إنَّ النِّيَّةَ لَا تَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ لِأَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ مَا صُورَةُ فِعْلِهِ كَافِيَةٌ فِي تَحْصِيلِ مَصْلَحَتِهِ لِأَنَّ مَصْلَحَتَهَا التَّمْيِيزُ وَهُوَ حَاصِلٌ بِهَا وَلَوْ لَمْ يُقْصَدْ فَافْهَمْ.
[الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ حُكْم دُخُول السنن فِي نِيَّة صَلَاة الْفَرْض]
(الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) بِمَا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَشْتَرِطْ التَّفْصِيلَ فِي النِّيَّةِ بَلْ اكْتَفَى مِنْ الْإِنْسَانِ إذَا قَصَدَ صَلَاةَ الظُّهْرِ مَثَلًا أَنْ يَنْوِيَ فَرْضَ صَلَاةِ الظُّهْرِ أَوْ صَلَاةَ الظُّهْرِ وَتَنْسَحِبُ هَذِهِ النِّيَّةُ الْمُجْمَلَةُ عَلَى فَرَوْضِ الصَّلَاةِ وَسُنَنِهَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَى الْإِنْسَانِ حِينَئِذٍ أَنْ يَقْصِدَ لِمَا فِي الظُّهْرِ مِنْ فَرْضٍ فَيَنْوِيَهُ وَلِمَا فِيهِ مِنْ سُنَّةٍ فَيَنْوِيَهُ حَتَّى تَبْرَأَ ذِمَّتُهُ بِالْأَوَّلِ وَيُثَابَ بِالثَّانِي كَمَا لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَنْوِيَ عَدَدَ السَّجَدَاتِ وَغَيْرَهَا مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ بَلْ يَكْتَفِي بِانْسِحَابِ النِّيَّةِ عَلَى ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَتَيْ مَا تُشْرَعُ فِيهِ الْبَسْمَلَةُ وَمَا لَا تُشْرَعُ فِيهِ الْبَسْمَلَةُ]
(الْفَرْقُ التَّاسِعَ عَشَرَ بَيْنَ قَاعِدَتَيْ مَا تُشْرَعُ فِيهِ الْبَسْمَلَةُ وَمَا لَا تُشْرَعُ فِيهِ) أَمَّا مَا شُرِعَتْ فِيهِ فَضَبَطَهُ شَيْخُ وَالِدِي الشَّيْخُ إبْرَاهِيمُ الْبَاجُورِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى السُّنُوسِيَّةِ بِأَنَّ كُلَّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ أَيْ ذِي حَالٍ يُهْتَمُّ بِهِ شَرْعًا بِحَيْثُ لَمْ يَجْعَلْ الشَّارِعُ لَهُ مَبْدَأً غَيْرَ الْبَسْمَلَةِ وَلَمْ يَكُنْ ذِكْرًا مَحْضًا وَلَا مِنْ سَفَاسِفِ الْأُمُورِ أَيْ الْأُمُورِ الْخَسِيسَةِ وَلَا مُحَرَّمًا لِذَاتِهِ وَلَا مَكْرُوهًا لِذَاتِهِ فَقَوْلُهُ بِحَيْثُ لَمْ يَجْعَلْ الشَّارِعُ لَهُ مَبْدَأً غَيْرَ الْبَسْمَلَةِ.
قَالَ: الأنبابي فِي تَقْرِيرَاتِهِ عَلَيْهِ: هُوَ صَادِقٌ بِصُورَتَيْنِ مَا إذَا لَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَبْدَأً أَصْلًا أَوْ جَعَلَ مَبْدَأَهُ الْبَسْمَلَةَ وَالصُّورَةُ الْأُولَى غَيْرُ مُرَادَةٍ
وَحَاجَتِهِمَا لِلْوَلَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُوجِبَةِ لِبِرِّهِمَا بَلْ مُجَرَّدُ وَصْفِ الْأُبُوَّةِ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَإِذَا نَصَّ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام عَلَى تَقْدِيمِ صُحْبَتِهِمَا عَلَى صُحْبَتِهِ عليه السلام فَمَا بَقِيَ بَعْدَ هَذِهِ الْغَايَةِ غَايَةٌ وَإِذَا قَدَّمَ خِدْمَتَهُمَا عَلَى فِعْلِ فَرَوْضِ الْكِفَايَةِ فَعَلَى النَّفْلِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى بَلْ عَلَى الْمَنْدُوبَاتِ الْمُتَأَكِّدَةِ وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْ كَانَ جُرَيْجٌ فَقِيهًا لَعَلِمَ أَنَّ إجَابَةَ أُمِّهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ» لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ الْكَلَامُ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ مُبَاحًا كَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ شَرْعِنَا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ وَيَكُونُ جُرَيْجٌ عَصَى بِتَرْكِ طَاعَتِهِمَا فِي أَمْرٍ مُبَاحٍ أَوْ مَنْدُوبٍ إلَيْهِ وَهُوَ الصَّمْتُ حِينَئِذٍ.
فَوَائِدُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: الْمَيامِيسُ الزَّوَانِي جَمْعُ زَانِيَةٍ وَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّهُ لَمَّا مَنَعَ أُمَّهُ مِنْ النَّظَرِ إلَى وَجْهِهِ مُحْتَجًّا بِالصَّلَاةِ دَعَتْ عَلَيْهِ بِأَنْ يَنْظُرَ إلَى وُجُوهِ الزَّوَانِي عُقُوبَةً عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ النَّظَرِ إلَى وَجْهِهَا وَيَدُلُّ الْحَدِيثُ أَيْضًا عَلَى مَنْعِ السَّفَرِ الْمُبَاحِ إلَّا بِإِذْنِهِمَا فَإِنَّ غَيْبَةَ الْوَجْهِ فِيهِ أَعْظَمُ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى وُجُوبِ طَاعَتِهِمَا فِي النَّوَافِلِ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْعُقُوقَ يُؤَاخَذُ بِهِ الْإِنْسَانُ وَإِنْ عَظُمَ قَدْرُهُ فِي الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ لِأَنَّ جُرَيْجًا كَانَ مِنْ أَعْبَدْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَخُرِقَتْ لَهُ الْعَادَاتُ وَظَهَرَتْ لَهُ الْكَرَامَاتُ فَمَا ظَنُّك بِغَيْرِهِ إذَا عَقَّ أَبَوَيْهِ وَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ أَصْلِ الْعُقُوقِ قَوْله تَعَالَى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] وَإِذَا حَرُمَ هَذَا الْقَوْلُ حَرُمَ مَا فَوْقَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَيَدُلُّ عَلَى مُخَالَفَتِهِمَا فِي الْوَاجِبَاتِ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15] وَفِي الْآيَةِ فَائِدَتَانِ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى أَنَّ الْأَبَوَيْنِ يَجِبُ بِرُّهُمَا وَيَحْرُمُ عُقُوقُهُمَا وَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِالشِّرْكِ إلَّا كَافِرٌ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ صَرَّحَتْ الْآيَةُ بِوُجُوبِ بِرِّهِمَا الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ مُخَالَفَتَهُمَا وَاجِبَةٌ فِي أَمْرِهِمَا بِالْمَعَاصِي وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ عليه السلام «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» .
(الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ) قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الطُّرْطُوشِيُّ: أَمَّا مُخَالَفَتُهُمَا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَإِنْ كَانَ فِي بَلَدِهِ يَجِدُ مُدَارَسَةَ الْمَسَائِلِ وَالتَّفَقُّهَ عَلَى طَرِيقِ التَّقْلِيدِ وَحِفْظِ نُصُوصِ الْعُلَمَاءِ فَأَرَادَ أَنْ يَظْعَنَ إلَى بَلَدٍ آخَرَ فَيَتَفَقَّهَ فِيهِ عَلَى مِثْلِ طَرِيقَتِهِ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِإِذْنِهِمَا لِأَنَّ خُرُوجَهُ إذَايَةُ لَهُمَا بِغَيْرِ فَائِدَةٍ وَإِنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ لِلتَّفَقُّهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَعْرِفَةِ الْإِجْمَاعِ وَمَوَاضِعِ الْخِلَافِ وَمَرَاتِبِ الْقِيَاسِ فَإِنْ وُجِدَ فِي بَلَدِهِ ذَلِكَ لَمْ يَخْرُجْ إلَّا بِإِذْنِهِمَا وَإِلَّا خَرَجَ وَلَا طَاعَةَ لَهُمَا فِي مَنْعِهِ لِأَنَّ تَحْصِيلَ دَرَجَةِ الْمُجْتَهِدِينَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ قَالَ سَحْنُونٌ: مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْإِمَامَةِ وَتَقْلِيدِ الْعُلُومِ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] وَمَنْ لَا
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ: (الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الطُّرْطُوشِيُّ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ) قُلْتُ: مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ غَيْرَ قَوْلِهِ قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ فَقَدْ سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ كُنْيَتَهُ أَبُو بَكْرٍ.
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
لِأَنَّهَا لَا تُوجَدُ إلَّا فِي الذِّكْرِ الْمَحْضِ أَوْ الْمُحَرَّمِ لِذَاتِهِ أَوْ الْمَكْرُوهِ لِذَاتِهِ أَوْ سَفَاسِفِ الْأُمُورِ وَقَدْ أَخْرَجَ مَا ذُكِرَ بِقَوْلِهِ وَلَمْ يَكُنْ ذِكْرًا مَحْضًا إلَخْ اهـ أَيْ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ ذِكْرًا أَصْلًا بَلْ كَانَ مِنْ الْعِبَادَاتِ كَالْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ عَلَى الْخِلَافِ وَذَبْحِ النُّسُكِ أَوْ مِنْ الْمُبَاحَاتِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَكَانَ ذِكْرًا غَيْرَ مَحْضٍ كَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ وَالْبَرَكَاتِ إلَّا أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ ذِكْرًا مَحْضًا كَمَا لَا يَخْفَى فَلِذَا شُرِعَتْ فِيهَا الْبَسْمَلَةُ.
وَأَمَّا مَا لَا تُشْرَعُ فِيهِ فَسِتَّةُ أَنْوَاعٍ كَمَا يُفِيدُهُ الضَّابِطُ الْمَذْكُورُ: الْأَوَّلُ مَا جَعَلَ الشَّارِعُ لَهُ مَبْدَأً غَيْرَ الْبَسْمَلَةِ كَالصَّلَوَاتِ وَالْأَذَانِ فَإِنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ مَبْدَأَهُمَا التَّكْبِيرَ وَكَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُ جَعَلَ مَبْدَأَهُمَا التَّلْبِيَةَ وَالثَّانِي مَا كَانَ ذِكْرًا مَحْضًا كَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ.
وَالثَّالِثُ مَا كَانَ مِنْ سَفَاسِفِ الْأُمُورِ وَالرَّابِعُ مَا كَانَ مُحَرَّمًا لِذَاتِهِ كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالْخَامِسُ مَا كَانَ مَكْرُوهًا لِذَاتِهِ كَأَكْلِ الْبَصَلِ النِّيءِ عَلَى مَا نَقَلَهُ الأنبابي عَنْ الْعَلَّامَةِ الشَّرْقَاوِيِّ فِي حَاشِيَةِ التَّحْرِيرِ فِي بَابِ الْوُضُوءِ مِنْ أَنَّهُ بِالْقَيْدِ الْمَذْكُورِ تَلْزَمُهُ الْكَرَاهَةُ لِذَلِكَ خِلَافًا لِمَنْ جَعَلَهُ مِنْ الْمَكْرُوهِ لِعَارِضٍ وَالسَّادِسُ نَحْوُ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ فَمَا أُبِيحَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُحَقَّرَاتِ وَلَا مِنْ ذَوَاتِ الْبَالِ فَلَمْ تُشْرَعْ فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ بَدْؤُهُ بِغَيْرِهَا وَلَا فِي الثَّانِي لِاتِّحَادِ النَّوْعِ فَكَمَا لَا تَبْدَأُ الْبَسْمَلَةُ بِالْبَسْمَلَةِ لِأَنَّهَا تُزَكِّي نَفْسَهَا وَغَيْرَهَا كَالشَّاةِ مِنْ الْأَرْبَعِينَ كَذَلِكَ لَا يَبْدَأُ الذِّكْرُ الْمَحْضُ بِهَا لِمَا ذُكِرَ فِيهَا لَا سِيَّمَا وَقَدْ رُوِيَ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ» فَتَأَمَّلْ بِإِنْصَافٍ وَلَا فِي الثَّالِثِ لِأَنَّ الْأَوْلَى فِي مِثْلِ ذَلِكَ تَرْكُهَا تَعْظِيمًا لِاسْمِهِ تَعَالَى نَعَمْ إنْ قَصَدَ بِهَا عِنْدَ مُحَقَّرٍ كَامْتِخَاطِهِ التَّحَصُّنَ وَالتَّبَرُّكَ لِنَفْسِهِ بِأَنْ يُقَدِّرَ الْمُتَعَلِّقَ بِسْمِ اللَّهِ أَتَحَصَّنُ مِنْ ضَرَرِ هَذَا الْفِعْلِ أَوْ أَسَتَنْزِلُ الْبَرَكَةَ عَلَيَّ لَامْتَخَطَ يَرْجِعُ لِذَوَاتِ الْبَالِ كَمَا فِي شَرْحِ الْمَجْمُوعِ وَضَوْءِ الشُّمُوعِ وَلَا فِي الرَّابِعِ وَالْخَامِسِ لِقَوْلِ الشَّيْخِ الْبَاجُورِيِّ فَتَحْرُمُ عَلَى الْمُحَرَّمِ لِذَاتِهِ وَتُكْرَهُ عَلَى الْمَكْرُوهِ.
وَكَذَلِكَ قَالَ الأنبابي عَلَيْهِ: هَذَا أَحَدُ أَقْوَالٍ حَاصِلُهَا أَنَّهُ قِيلَ: تُكْرَهُ التَّسْمِيَةُ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْمَكْرُوهِ وَالْمُحَرَّمِ وَلَوْ لِعَارِضٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُرَاغَمَةِ الشَّارِعِ بِجَعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَحَلًّا لِلْبَرَكَةِ وَقِيلَ: تَحْرُمُ التَّسْمِيَةُ عَلَيْهِمَا إذْ الْمُرَاغَمَةُ تَقْتَضِي التَّحْرِيمَ بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ
يَعْرِفُ الْمَعْرُوفَ كَيْفَ يَأْمُرُ بِهِ أَوْ لَا يَعْرِفُ الْمُنْكَرَ كَيْفَ يَنْهَى عَنْهُ قُلْت: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مُخَالَفَتَهُمَا فِي الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ لَا تَجُوزُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الَّذِي رَدَّهُ عليه السلام لِأَبَوَيْهِ عَنْ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ مَعَهُ لِأَنَّ الْحَاضِرَ يَقُومُ مَقَامَهُ وَهَذِهِ الْفَتْوَى تَقْتَضِي أَنَّهُ تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُمَا فِي فُرُوضِ الْكِفَايَةِ فَبَيْنَهُمَا تُعَارَضُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ نَقُولَ: الْعِلْمُ وَضَبْطُ الشَّرِيعَةِ وَإِنْ كَانَ فَرْضَ كِفَايَةٍ غَيْرَ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ لَهُ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ وَهِيَ مَنْ جَادَ حِفْظُهُمْ وَرَقَّ فَهْمُهُمْ وَحَسُنَتْ سِيرَتُهُمْ وَطَابَتْ سَرِيرَتُهُمْ فَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ الِاشْتِغَالُ بِالْعِلْمِ فَإِنَّ عَدِيمَ الْحِفْظِ أَوْ قَلِيلَهُ أَوْ سَيِّئَ الْفَهْمِ لَا يَصْلُحُ لِضَبْطِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَكَذَلِكَ مَنْ سَاءَتْ سِيرَتُهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْوُثُوقُ لِلْعَامَّةِ فَلَا تَحْصُلُ بِهِ مَصْلَحَةُ التَّقْلِيدِ فَتَضِيعُ أَحْوَالُ النَّاسِ وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ مُتَعَيِّنَةً بِهَذِهِ الصِّفَاتِ تَعَيَّنَتْ بِصِفَاتِهَا وَصَارَ طَلَبُ الْعِلْمِ عَلَيْهَا فَرْضَ عَيْنٍ فَلَعَلَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى كَلَامِ سَحْنُونٍ وَأَبِي الْوَلِيدِ وَالْجِهَادُ يَصْلُحُ لَهُ عُمُومُ النَّاسِ فَأَمْرُهُ سَهْلٌ وَلَيْسَ الرَّمْيُ بِالْحَجَرِ وَالضَّرْبُ بِالسَّيْفِ كَضَبْطِ الْعُلُومِ فَكُلُّ بَلِيدٍ أَوْ ذَكِيٍّ يَصْلُحُ لِلْأَوَّلِ وَلَا يَصْلُحُ لِلثَّانِي إلَّا مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَافْهَمْ ذَلِكَ.
(الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ) قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ: إنْ أَرَادَ سَفَرًا لِلتِّجَارَةِ يَرْجُو بِهِ مَا يَحْصُلُ لَهُ فِي الْإِقَامَةِ فَلَا يَخْرُجُ إلَّا بِإِذْنِهِمَا وَإِنْ رَجَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ فِي كَفَافٍ وَإِنَّمَا يَطْلُبُ ذَلِكَ تَكَاثُرًا فَهَذَا لَوْ أَذِنَا لَهُ لَنَهَيْنَاهُ لِأَنَّهُ غَرَضٌ فَاسِدٌ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ دَفْعَ حَاجَاتِ نَفْسِهِ أَوْ أَهْلِهِ بِحَيْثُ لَوْ تَرَكَهُ تَأَذَّى بِتَرْكِهِ كَانَ لَهُ مُخَالَفَتُهُمَا لِقَوْلِهِ عليه السلام «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَكَمَا نَمْنَعُهُ مِنْ إذَايَتِهِمَا نَمْنَعُهُمَا مِنْ إَذايَتِهِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهُ طَعَامٌ إنْ لَمْ يَأْكُلْهُ هَلَكَ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلَاهُ هَلَكَا قُدِّمَتْ ضَرُورَتُهُ عَلَيْهِمَا قَالَ: فَإِنْ قُلْت قَدْ قَالَ مَالِكٌ: إذَا احْتَلَمَ الْغُلَامُ ذَهَبَ حَيْثُ شَاءَ وَلَيْسَ لِأَبَوَيْهِ مَنْعُهُ قَالَ: قُلْت هَذَا فِي الْحَضَانَةِ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ كَانَ تَصَرُّفُهُ بِإِذْنِ كَافِلِهِ فَإِذَا بَلَغَ ذَهَبَ حَجَرُ الْحَضَانَةِ وَتَجَدَّدَ حَجْرُ الْبِرِّ وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الَّذِي دَعَاهُ أَبُوهُ مِنْ السُّودَانِ وَمَنَعَتْهُ أُمُّهُ فَمَنَعَهُ مَالِكٌ مِنْ الْخُرُوجِ بِغَيْرِ إذْنِ الْأُمِّ وَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَاك وَلَا تَعْصِ أُمَّك فَهُوَ بَعْدَ الْبُلُوغِ يَمْشِي فِي الْبَلَدِ حَيْثُ شَاءَ دُونَ السَّفَرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رِيبَةٍ وَهُمَا يَتَأَذَّيَانِ بِهِ فَيَمْنَعَانِهِ مُطْلَقًا.
(سُؤَالٌ) قَوْله تَعَالَى {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] وَالنِّكَاحُ مُبَاحٌ وَقَدْ نُهِيَ الْأَبُ عَنْ مَنْعِ ابْنَتِهِ فَلَا تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي تَرْكِ الْمُبَاحِ وَلَا فِي تَرْكِ الْمَنْدُوبِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
(جَوَابُهُ) أَنَّ الْبِنْتَ لَهَا حَقٌّ فِي الْإِعْفَافِ وَالتَّصَوُّنِ وَدَفْعِ ضَرَرِ مُوَاقَعَةِ الشَّهْوَةِ وَسَدِّ ذَرَائِعِ الشَّيْطَانِ عَنْهَا بِالتَّزْوِيجِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ حَقًّا لَهَا وَأَدَاءُ الْحُقُوقِ وَاجِبٌ عَلَى الْأَبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُوبِ الْحَقِّ عَلَيْهِمْ لِلْأَبْنَاءِ جَوَازُ إذَايَةُ الْآبَاءِ بِاسْتِيفَاءِ ذَلِكَ الْحَقِّ أَلَا تَرَى أَنَّ مَالِكًا فِي الْمُدَوَّنَةِ مَنَعَ مِنْ تَحْلِيفِ الْأَبِ فِي حَقٍّ لَهُ وَقَالَ: إنْ حَلَّفَهُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ: (الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ قَالَ: أَبُو الْوَلِيدِ إلَى آخِرِهَا) قُلْتُ: مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ غَيْرَ قَوْلِهِ قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ فَإِنَّهُ أَبُو بَكْرٍ.
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
إنَّ التَّسْمِيَةَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ كُفْرٌ وَلَا يَخْفَى أَنَّ كُلًّا مِنْ أَصْحَابِ الْقَوْلَيْنِ يَقُولُ بِتَفَاوُتِ مَا قَالَ بِهِ مِنْ الْكَرَاهَةِ أَوْ الْحُرْمَةِ وَقِيلَ: تُكْرَهُ عَلَى الْمَكْرُوهِ وَتَحْرُمُ عَلَى الْمُحَرَّمِ مُطْلَقًا وَقِيلَ: وَهُوَ الرَّاجِحُ تُكْرَهُ عَلَى الْمَكْرُوهِ لِذَاتِهِ وَتَحْرُمُ عَلَى الْمُحَرَّمِ لِذَاتِهِ إذْ الْمُرَاغَمَةُ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ حِينَئِذٍ دُونَ مَا إذَا كَانَ لِعَارِضٍ لِأَنَّ الْعَارِضَ إنَّمَا يَتَسَبَّبُ عَنْهُ مَنْعُ الِاسْتِعْمَالِ فَقَطْ وَلَا يَمْنَعُ التَّسْمِيَةَ إذْ الْمَحَلُّ فِي ذَاتِهِ قَابِلٌ لَهَا فَلَا مُرَاغَمَةَ كَذَا فِي حَوَاشِي الْبَهْجَةِ نَقْلًا عَنْ الْعُبَابِ وَغَيْرِهِ وَأَخَذَ مِنْ هَذَا بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَشْيَاخِنَا أَنَّهُ لَوْ عَرَضَ الْإِبَاحَةُ لِمَا نُهِيَ عَنْهُ لِذَاتِهِ كَأَنْ اضْطَرَّ لِأَكْلِ الْمَيِّتَةِ أَوْ شُرْبِ جَرْعَةِ خَمْرٍ لِإِسَاغَةِ مَا غَصَّ بِهِ أَوْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُرِيدُ الْأَدَمَ سِوَى الْبَصَلِ النِّيءِ تَبْقَى التَّسْمِيَةُ عَلَى الِامْتِنَاعِ إذْ الْمَحَلُّ فِي ذَاتِهِ غَيْرُ قَابِلٍ لَهَا وَالضَّرُورَةُ لَا دَخْلَ لَهَا فِي التَّسْمِيَةِ فَتَدَبَّرْ اهـ وَقَالَ: الْأَمِيرُ فِي شَرْحِ مَجْمُوعِهِ وَحَاشِيَتِهِ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْأَظْهَرَ تَحْرِيمُهَا فِي الْمُحَرَّمِ مُطْلَقًا لِمَا وَرَدَ أَنَّ اللَّهَ يَذْكُرُ عَبْدَهُ بِمِثْلِ مَا ذَكَرَهُ وَحَالُ التَّحْرِيمِ يُمَاثِلُهُ مِنْهُ الْعِقَابُ جَزَاءً وِفَاقًا وَذَلِكَ أَنَّ حَالَ التَّحْرِيمِ إعْرَاضٌ عَنْ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى وَمُلَابَسَةٌ لِمَا يَكْرَهُهُ وَالْعِقَابُ إبْعَادٌ لِلْعَبْدِ وَإِيصَالُ مَا يَكْرَهُهُ إلَيْهِ.
وَقَدْ رُوِيَ «يَا دَاوُد قُلْ لِلظَّالِمَيْنِ لَا يَذْكُرُونِي فَإِنَّهُمْ إنْ ذَكَرُونِي ذَكَرْتُهُمْ وَإِذَا ذَكَرْتُهُمْ مَقَتُّهُمْ» نَعَمْ الْقَوْلُ بِكَرَاهَتِهَا فِيهِ وَجِيهٌ فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ الْحَسَنَاتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ لَا الْعَكْسُ يَعْنِي الْغَالِبُ قُوَّةُ نَامُوسِ حَسَنَةٍ عَلَى السَّيِّئَةِ بِدَلِيلِ كَثْرَةِ الْكَفَّارَاتِ مِنْ الطَّاعَاتِ لِلذُّنُوبِ.
وَلِذَا كَانَتْ الْحَسَنَةُ بِعَشْرٍ وَالسَّيِّئَةُ بِوَاحِدَةٍ وَنَاهِيكَ بِحَدِيثِ بِطَاقَةِ التَّوْحِيدِ حَيْثُ تَرْجَحُ فِي الْمِيزَانِ عَلَى سِجِلَّاتٍ كَثِيرَةٍ وَالْبَسْمَلَةُ حَسَنَةٌ لِأَنَّهَا فِي ذَاتِهَا ذِكْرٌ فَلَا يَتَسَلَّطُ عَلَيْهَا نَامُوسُ السَّيِّئَةِ حَتَّى تَنْحَطَّ لِرُتْبَةِ التَّحْرِيمِ قُصَارَى الْأَمْرِ الْكَرَاهَةُ لِلْمُجَاوَرَةِ وَقَدْ رَجَّحَ الْكَرَاهَةَ شَيْخُنَا فِي حَاشِيَةِ الْكَرْشِيِّ فِي مَبْحَثِ تَسْمِيَةِ الْوُضُوءِ تَبَعًا لِلشَّبْرَخِيتِيِّ وَغَيْرِهِ وَلَمْ نَتْبَعْهُ لِقَوْلِ الْخَادِمِيِّ فِي بَسْمَلَتِهِ إنْ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ إلَخْ عِنْدَ شُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ يَكْفُرْ عَلَى مَا فِي الْخُلَاصَةِ لِأَنَّ التَّبَرُّكَ وَالِاسْتِعَانَةَ بِذِكْرِهِ لَا تُتَصَوَّرُ إلَّا فِيمَا أَذِنَهُ وَرَضَاهُ وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي آخِرِ صَيْدِ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ وَرَأَيْت بِخَطِّ ثِقَةٍ سَرَقَ شَاةً فَذَبَحَهَا بِتَسْمِيَةٍ فَوَجَدَ صَاحِبَهَا هَلْ تُؤْكَلُ؟ الْأَصَحُّ لَا لِكُفْرِهِ بِتَسْمِيَةٍ عَلَى الْحَرَامِ الْقَطْعِيِّ بِلَا تَمَلُّكٍ وَلَا إذْنٍ اهـ وَإِنْ كَانَ مَذْهَبُنَا الْأَكْلَ
كَانَ جُرْحَةً فِي حَقِّ الْوَلَدِ فَالْآيَةُ مَا دَلَّتْ إلَّا عَلَى الْوُجُوبِ عَلَى الْآبَاءِ لَا عَلَى إبَاحَةِ إذَايَتِهِمْ بِالْمُخَالَفَةِ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ) فِي بَيَانِ الْوَاجِبِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ قَالَ الشَّيْخُ الطُّرْطُوشِيُّ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إنَّمَا تَجِبُ صِلَةُ الرَّحِمِ إذَا كَانَ هُنَاكَ مَحْرَمِيَّةٌ وَهُمَا كُلُّ شَخْصَيْنِ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالْآخَرُ أُنْثَى لَمْ يَتَنَاكَحَا كَالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَإِنْ عَلَوْا وَالْأَوْلَادِ وَأَوْلَادِهِمْ وَإِنْ سَفُلُوا وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ فَأَمَّا أَوْلَادُ هَؤُلَاءِ فَلَيْسَتْ الصِّلَةُ بَيْنَهُمْ وَاجِبَةً لِجَوَازِ الْمُنَاكَحَةِ بَيْنَهُمْ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَالْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَتَرْكُ الْحَرَامِ وَاجِبٌ وَبِرُّهُمَا وَتَرْكُ إذَايَتِهِمَا وَاجِبَةٌ وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ بِنْتَيْ الْعَمِّ وَبِنْتَيْ الْخَالِ وَإِنْ كُنَّ يَتَغَايَرْنَ وَيَتَقَاطَعْنَ وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ بَيْنَهُمَا لَيْسَتْ وَاجِبَةً، وَقَدْ لَاحَظَ أَبُو حَنِيفَةَ هَذَا الْمَعْنَى فِي التَّرَاجُعِ فَقَالَ: يَحْرُمُ التَّرَاجُعُ فِي الْهِبَةِ بَيْنَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ.
(سُؤَالٌ) مَا مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «صِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمْرِ» وَقَوْلُهُ عليه السلام «مَنْ سَرَّهُ السَّعَةُ فِي الرِّزْقِ وَالنَّسَاءُ فِي الْأَجَلِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» مَعَ أَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ وَقَدْ قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى جَمِيعَ الْمُمْكِنَاتِ مَا وُجِدَ مِنْهَا وَمَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْأَزَلِ فَتَعَلَّقَتْ إرَادَتُهُ الْقَدِيمَةُ الْأَزَلِيَّةُ بِوُجُودِ كُلِّ مُمْكِنٍ أَرَادَ وُجُودَهُ وَبِعَدَمِ كُلِّ مُمْكِنٍ أَرَادَ بَقَاءَهُ عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ أَوْ أَرَادَ عَدَمَهُ بَعْدَ وُجُودِهِ فَجَمِيعُ الْجَائِزَاتِ وُجُودًا أَوْ عَدَمًا قَدْ نَفَذَتْ فِيهَا مَشِيئَتُهُ سبحانه وتعالى فَكَيْفَ بَقِيَتْ الزِّيَادَةُ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَيْسِيرِ سَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ.
(جَوَابُهُ) مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: إنَّمَا ذَلِكَ بِزِيَادَةِ الْبَرَكَةِ فِيمَا قُدِّرَ فِي الْأَزَلِ مِنْ الرِّزْقِ وَالْأَجَلِ.
وَأَمَّا نَفْسُ الْأَجَلِ وَالرِّزْقِ الْمُقَدَّرَيْنِ فَلَا يَقْبَلَانِ الزِّيَادَةَ قُلْت: وَهَذَا الْجَوَابُ عِنْدِي ضَعِيفٌ بِسَبَبِ أَنَّ الْبَرَكَةَ أَيْضًا مِنْ جُمْلَةِ الْمُقَدَّرَاتِ فَإِنْ كَانَ الْقَدَرُ مَانِعًا مِنْ الزِّيَادَةِ فَلْيَمْنَعْ مِنْ الْبَرَكَةِ فِي الْعُمْرِ وَالرِّزْقِ كَمَا مَنَعَ مِنْ الزِّيَادَةِ فِيهِمَا بَلْ هَذَا الْجَوَابُ يَلْزَمُ مِنْهُ مَفْسَدَتَانِ: أَحَدُهُمَا إيهَامُ أَنَّ الْبَرَكَةَ خَرَجَتْ عَنْ الْقَدَرِ فَإِنَّ الْمُجِيبَ قَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ تَعَلُّقَ الْقَدَرِ مَانِعٌ فَحَيْثُ لَا مَانِعَ لَا قَدَرَ وَهَذَا رَدِيءٌ جِدًّا وَثَانِيهِمَا أَنَّهُ يُقِلُّ الرَّغْبَةَ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ بِالنِّسْبَةِ لِظَاهِرِ اللَّفْظِ فَإِنَّا إذَا قُلْنَا لِزَيْدٍ إنْ وَصَلْت رَحِمَك زَادَك اللَّهُ تَعَالَى فِي عُمُرِك عِشْرِينَ سَنَةً فَإِنَّهُ يَجِدُ مِنْ الْوَقْعِ لِذَلِكَ مَا لَا يَجِدُهُ مِنْ قَوْلِنَا إنَّهُ لَا يَزِيدُك اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ يَوْمًا وَاحِدًا بَلْ يُبَارَكُ لَك فِي عُمُرِك فَقَطْ فَيَخْتَلُّ الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ: (الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ فِي بَيَانِ الْوَاجِبِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ) قُلْتُ: مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ الْأَجْوِبَةِ وَغَيْرِهَا صَحِيحٌ غَيْرَ قَوْلِهِ وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ يَتَّضِحُ لَك أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ اطَّلَعَ عَلَى الْغَيْبِ لَذَهَبَتْ عَنْهُ جَهَالَاتٌ كَثِيرَةٌ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُسْتَنْكَرٌ مُسْتَقْبَحٌ يَجِبُ تَجَنُّبُ مِثْلِهِ وَيَمْتَنِعُ إطْلَاقُهُ فِي جَانِبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِي جَانِبِ سَائِرِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَمَنْعَ عِلَّةِ التَّكْفِيرِ إذْ لَمْ يَتَهَاوَنْ وَلَمْ يَسْتَحِلَّ فَإِنَّهُ الْمُعِينُ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ عَلَى أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الِاسْتِعَانَةَ وَالتَّبَرُّكَ بِهِ لَا تُتَصَوَّرُ إلَّا فِيمَا فِيهِ إذْنُهُ وَرَضَاهُ فَهُوَ أَمْرٌ لَمْ يَقْصِدْهُ وَإِنَّمَا هُوَ لَازِمٌ لِمَا فَعَلَهُ وَلَازِمُ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ إذَا لَمْ يَكُنْ اللُّزُومُ بَيِّنًا كَمَا هُنَا خُصُوصًا فِي مِثْلِ كُفْرِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالْكُفْرِ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَقْضِيَ تَرْجِيحَ الْقَوْلِ بِالتَّحْرِيمِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْكَرَاهَةِ وَإِنْ كَانَ وَجِيهًا نَعَمْ رُبَّمَا خَفَّ الْأَمْرُ فِي الْحَرَامِ الْعَارِضِ كَالْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ اهـ
قُلْتُ: وَلَا يُعَارِضُ قَاعِدَةَ قُوَّةِ نَامُوسِ الْحَسَنَةِ عَلَى السَّيِّئَةِ حَدِيثُ «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» إلَخْ لِقَوْلِ الْعَلَّامَةِ الْأَمِيرِ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى عَبْدِ السَّلَامِ إنَّ الْمَنْفِيَّ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ الْمُصَاحِبُ لِلْمُرَاقَبَةِ إذْ لَوْلَا حِجَابُ الْغَفْلَةِ مَا عَصَى أَوْ أَنَّهُ إنْ اسْتَحَلَّهُ وَمَا يُقَالُ إنَّ الْإِيمَانَ يُرْفَعُ ثُمَّ يَرْجِعُ لَهُ يَلْزَمُهُ عَدَمُ إيمَانِهِ إنْ مَاتَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَمَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَشَرْحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِرَفْعِهِ يُحْمَلُ عَلَى رَفْعِ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ اهـ وَمِمَّا يَشْهَدُ لِكَوْنِ الْمَنْفِيِّ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ الْإِيمَانَ الْكَامِلَ مَا حُكِيَ لِي أَنَّ امْرَأَةً جَمِيلَةً ذَاتَ عِفَّةٍ وَدِيَانَةٍ جَاعَتْ وَطَلَبَتْ مِنْ جَارِهَا مَا تَتَقَوَّتُ بِهِ فَأَبَى إلَّا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا فَامْتَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ وَصَبَرَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى اشْتَدَّ جُوعُهَا فَأَتَتْهُ وَقَالَتْ لَهُ: قَوِّتْنِي وَافْعَلْ مَا تُرِيدُ فَلَمَّا تَمَكَّنَ مِنْهَا هَمَّ لِغَلْقِ الطَّاقَةِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَرَاهُ جَارُهُ فَقَالَتْ لَهُ: مَا تُرِيدُ؟ فَأَخْبَرَهَا بِذَلِكَ فَقَالَتْ لَهُ: يَا مَجْنُونُ تَخْشَى الْجَارَ وَلَا تَخْشَى الْجَبَّارَ الَّذِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ وَأَثَّرَ كَلَامُهَا فِي قَلْبِهِ وَتَرَكَ الزِّنَا بِهَا وَأَعْطَاهَا مَطْلُوبَهَا وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الصَّفْتِيُّ الْمَالِكِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ ابْنِ تُرْكِيٍّ عَلَى الْعَشْمَاوِيَّةِ: وَالنَّدْبُ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ الشَّامِلِ لِلسُّنَّةِ وَالْمُسْتَحَبُّ هُوَ حُكْمُ الْبَسْمَلَةِ الْأَصْلِيِّ لِأَنَّهَا ذِكْرٌ وَأَقَلُّ مَرَاتِبِهِ عِنْدَ عَدَمِ مُنَافِي التَّعْظِيمِ النَّدْبُ فَتُسَنُّ عَيْنًا كَمَا فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ كَمَا اعْتَمَدَهُ الشَّيْخُ عَلِيٌّ الْعَدَوِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْخَرَشِيِّ وَارْتَضَاهُ شَيْخُنَا الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ عُبَادَةَ.
وَقِيلَ: تُسَنُّ كِفَايَةً فِي الْأَكْلِ وَتُسْتَحَبُّ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيُطْلَبُ الْإِتْيَانُ بِهَا فِي غَالِبِ الْأُمُورِ ذَوَاتِ الْبَالِ وَلَوْ شِعْرًا إذَا كَانَ مُحْتَوِيًا عَلَى عِلْمٍ أَوْ وَعْظٍ لَا إنْ كَانَ شِعْرًا حَرَامًا فَإِنَّهَا تَحْرُمُ فِيهِ كَمَا أَفَادَهُ الْحَطَّابُ وَغَيْرُهُ وَقَدْ يَعْرِضُ لَهَا الْوُجُوبُ بِالنَّذْرِ كَمَا إذَا قُلْتَ: نَذْرٌ عَلَيَّ أَنْ أُبَسْمِلَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مَثَلًا فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْوُجُوبُ أَصَالَةً أَبَدًا إلَّا عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -
مِنْ الْمُبَالَغَةِ فِي الْحَثِّ عَلَى صِلَةِ الرَّحِمِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهَا بَلْ الْحَقُّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ لَهُ سِتِّينَ سَنَةً مُرَتَّبَةً عَلَى الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ مِنْ الْغِذَاءِ وَالتَّنَفُّسِ فِي الْهَوَاءِ وَرَتَّبَ لَهُ عِشْرِينَ سَنَةً أُخْرَى مُرَتَّبَةً عَلَى هَذِهِ الْأَسْبَابِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ.
وَإِذَا جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى سَبَبًا أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا تَزِيدُ فِي الْعُمْرِ حَقِيقَةً كَمَا نَقُولُ الْإِيمَانُ يُدْخِلُ الْجَنَّةَ وَالْكُفْرُ يُدْخِلُ النَّارَ بِالْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ لَا بِالِاقْتِضَاءِ الْعَقْلِيِّ وَمَتَى عَلِمَ الْمُكَلَّفُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَبَ صِلَةَ الرَّحِمِ سَبَبًا لِزِيَادَةِ النَّسَاءِ فِي الْعُمْرِ بَادَرَ إلَى ذَلِكَ كَمَا يُبَادِرُ لِاسْتِعْمَالِ الْغِذَاءِ وَتَنَاوُلِ الدَّوَاءِ وَالْإِيمَانِ رَغْبَةً فِي الْجِنَانِ وَيَفِرُّ مِنْ الْكُفْرِ رَهْبَةً مِنْ النِّيرَانِ وَبَقِيَ الْحَدِيثُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ يُخِلُّ بِالْحَدِيثِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الرِّزْقِ حَرْفًا بِحَرْفٍ وَكَذَلِكَ نَقُولُ الدُّعَاءُ يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ وَالرِّزْقِ وَيَدْفَعُ الْأَمْرَاضَ وَيُؤَخِّرُ الْآجَالَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا شُرِعَ فِيهِ الدُّعَاءُ فَهُوَ مِنْ الْقَدَرِ وَلَا يُخِلُّ بِشَيْءٍ مِنْ الْقَدَرِ بَلْ مَا رَتَّبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَقْدُورًا إلَّا عَلَى سَبَبٍ عَادِيٍّ وَلَوْ شَاءَ لَمَا رَبَطَهُ بِهِ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْجَوَابُ عَنْ سُؤَالٍ صَعْبٍ وَرَدَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188] فَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: هُنَا سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ عليه السلام إذَا عَلِمَ الْغَيْبَ وَاَلَّذِي فِي الْغَيْبِ هُوَ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنْ الْخَيْرِ فَكَيْفَ يَسْتَكْثِرُ مِنْ الْخَيْرِ عَلَى تَقْدِيرِ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ بَلْ لَوْ قَدَرَ الِاطِّلَاعَ عَلَى الْغَيْبِ لَبَقِيَ عَلَى مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْخَيْرِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَجَعَلَ لِكُلِّ مَقْدُورٍ سَبَبًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وَيَرْتَبِطُ بِهِ وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ الْأَسْبَابُ الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا مِنْ الْعُلُومِ وَالْجَهَالَاتِ فَالْجَهْلُ سَبَبٌ عَظِيمٌ فِي الْعَالَمِ لِمَفَاسِدَ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَفَوَاتِ الْمَصَالِحِ وَالْعِلْمُ سَبَبٌ عَظِيمٌ لِتَحْصِيلِ مَصَالِحَ وَدَرْءِ مَفَاسِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَالْمَلِكُ الَّذِي دُفِعَ لَهُ السُّمُّ فَأَكَلَهُ فَمَاتَ مِنْهُ كَيْدًا مِنْ أَعْدَائِهِ إنَّمَا قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَمُوتَ بِالسُّمِّ مَعَ جَهْلِهِ بِتَنَاوُلِهِ أَمَّا لَوْ عَلِمَهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ.
وَكَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا كَانَ قَدْ قَدَّرَ نَجَاتَهُ مِنْهُ قَدَّرَ اطِّلَاعَهُ عَلَيْهِ فَيَسْلَمُ فَيَكُونُ سَبَبُ سَلَامَتِهِ عِلْمُهُ بِهِ فَالْمُقَدَّرُ عَلَى تَقْدِيرِ الْجَهْلِ نَحْنُ نَمْنَعُ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ عَلَى تَقْدِيرِهِ الْعِلْمَ بَلْ الْمُقَدَّرُ عَلَى تَقْدِيرِ الْعِلْمِ ضِدُّهُ فَالرِّزْقُ الْحَقِيرُ إنَّمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَهْلِهِ عَلَى تَقْدِيرِ جَهْلِهِمْ بِالْكُنُوزِ وَعَمَلِ الْكِيمْيَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ أَمَّا مَعَ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ الْعَظِيمَةِ الْمُوجِبَةِ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ سَعَةَ الرِّزْقِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ ضِيقَ الرِّزْقِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ كَمَا نَقُولُ مَا قَدَّرَ اللَّهُ مِنْ دُخُولِ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ إلَّا عَلَى تَقْدِيرِ الْإِيمَانِ أَمَّا مَعَ عَدَمِهِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ لَهُمْ الْجَنَّةَ وَمَا قَدَّرَ لِلْكُفَّارِ النَّارَ إلَّا عَلَى تَقْدِيرِ جَهْلِهِمْ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ عِلْمِهِمْ بِهِ تَعَالَى فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ قَدَّرَ لَهُمْ النَّارَ وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ يَتَّضِحُ لَك أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ اطَّلَعَ عَلَى الْغَيْبِ لَذَهَبَتْ عَنْهُ جَهَالَاتٌ كَثِيرَةٌ كَثُرَ عِنْدَهُ مِنْ الْخَيْرِ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ الْآنَ وَمَا مَسَّهُ السُّوءُ وَلَقَدْ نَجْزِمُ أَنَّ الْمِحْنَةَ فِي أُحُدٍ وَقَتْلَ حَمْزَةَ وَغَيْرِهِ إنَّمَا قَدَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
عَنْهُ الْقَائِلِ بِأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ الْفَاتِحَةِ أَوْ عَلَى قَوْلِ ابْنِ نَافِعٍ مِنْ أَئِمَّتِنَا بِوُجُوبِهَا فِي الصَّلَاةِ وَالْوَاجِبُ فِي الذَّبْحِ بِقَيْدِ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ مُطْلَقُ ذِكْرٍ لَا خُصُوصُ الْبَسْمَلَةِ كَمَا فِي شُرَّاحِ الْمُخْتَصَرِ وَكَلَامُنَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا بِخُصُوصِهَا وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ يُقْتَصَرُ فِي الذَّبْحِ عَلَى بِسْمِ اللَّهِ فَقَطْ وَلَا يَزِيدُ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ وَالْأَكْلِ لِأَنَّهُ تَعْذِيبٌ لِلْحَيَوَانِ وَكَوْنُ الْأَكْلِ فِيهِ تَعْذِيبٌ لِلُّقْمَةِ بِالْمَضْغِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ وَإِلَّا فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ أَوْ اسْتِعْمَالَهُ بِالْوُضُوءِ فِيهِ حَتْفٌ لَهُ وَلَا وَجْهَ لَهُ وَنَذْرُهَا فِي صَلَاةٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لَا نَصَّ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى لُزُومِهِ كَمَا قَالُوا بِهِ فِيمَنْ نَذَرَ صَوْمَ رَابِعِ النَّحْرِ مَعَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ أَوْ عَدَمُ لُزُومِهِ لِكَرَاهَتِهَا فِيهَا وَالنَّذْرُ إنَّمَا يَلْزَمُ بِهِ مَا نُدِبَ نَعَمْ اسْتَظْهَرَ شَيْخُنَا الْأَمِيرُ أَنَّهَا تَلْزَمُ لِأَنَّهَا عُهِدَ لَهَا طَلَبٌ فِي الْجُمْلَةِ فِيمَا إذَا قَصَدَ الْخُرُوجَ مِنْ الْخِلَافِ وَتَتَعَلَّقُ بِهَا الْكَرَاهَةُ فِي الْأُمُورِ الْمَكْرُوهَةِ كَعِنْدَ شُرْبِ الدُّخَانِ لِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ عَلَى الْأَظْهَرِ وَكَالْإِتْيَانِ بِهَا فِي الْوَطْءِ الْمَكْرُوهِ كَأَنْ يَطَأَ الْجُنُبُ ثَانِيًا قَبْلَ غَسْلِ فَرْجِهِ كَمَا فِي الْخَرَشِيِّ وَيُكْرَهُ الْإِتْيَانُ بِهَا أَيْضًا فِي الْأَذَانِ وَالذِّكْرِ.
وَصَلَاةِ الْفَرْضِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا شَرَفٌ عَظِيمٌ شَرْعًا وَعُرْفًا لِأَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الذِّكْرِ أَوْ هِيَ نَفْسُهَا ذِكْرٌ فَلَا تَحْتَاجُ لِذِكْرٍ آخَرَ فَتَأَمَّلْ وَلَمْ أَرَ نَصًّا فِي الْمَذْهَبِ عَلَى حُكْمِ الْإِتْيَانِ بِهَا فِي أَوَّلِ بَرَاءَةٍ وَفِي أَثْنَائِهَا إلَّا أَنَّ الْمُعْتَمَدَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا أَخْبَرَنِي بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الثِّقَاتِ مِنْ أَشْيَاخِي مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْعَلَّامَةُ الرَّمْلِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ كَرَاهَتِهَا فِي أَوَّلِ بَرَاءَةٍ وَاسْتِحْبَابِهَا فِي أَثْنَائِهَا خِلَافًا لِقَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ تَحْرُمُ فِي أَوَّلِهَا وَتُكْرَهُ فِي أَثْنَائِهَا فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ وَتَعْرِضُ لَهَا الْحُرْمَةُ فِي تِلَاوَتِهَا لِلْجُنُبِ عَلَى أَنَّهَا الَّتِي فِي سُورَةِ النَّمْلِ لَا عَلَى أَنَّهُ ذِكْرٌ بِقَصْدِ التَّحَصُّنِ وَفِي ابْتِدَاءِ الْمُحَرَّمَاتِ كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ عَلَى الْأَظْهَرِ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهَا الْإِبَاحَةُ عَلَى الظَّاهِرِ لِأَنَّهَا ذِكْرٌ وَأَقَلُّ مَرَاتِبِهِ النَّدْبُ نَعَمْ قَالَ الْخَادِمِيُّ: إنَّهَا مُبَاحَةٌ فِي أَوَّلِ الْقُعُودِ وَالْقِيَامِ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُطْلَبُ فِي ذِي الْبَالِ دُونَ هَذَا انْتَهَى لَكِنَّهُ مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ إنْ أَتَى بِهَا فِي غَيْرِ ذِي الْبَالِ إنْ كَانَ قَصْدُهُ التَّبَرُّكَ أَوْ التَّحَصُّنَ فَيَرْجِعُ لِلذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ التَّهَاوُنَ فَهُوَ كُفْرٌ وَقَوْلُهُمْ تُطْلَبُ فِي ذِي الْبَالِ أَيْ تَتَأَكَّدُ فِيهِ وَأَمَّا الطَّلَبُ الْكُلِّيُّ الَّذِي أَتَى لَهَا مِنْ حَيْثُ الذِّكْرُ فَلَا بُدَّ مِنْهُ أَيْ فِي غَيْرِ ذِي الْبَالِ عِنْدَ عَدَمِ مُنَافٍ لِلتَّعْظِيمِ كَمَا هُنَا
بِسَبَبِ عَدَمِ الْعِلْمِ بِأُمُورٍ وَعَوَاقِبِهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَوْ قُدِّرَ حُصُولُ الْعِلْمِ بِعَوَاقِبِ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ كَثُرَتْ لَك النَّظَائِرُ لِتَسْتَيْقِظَ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَسِرِّ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ فَيَنْدَفِعُ السُّؤَالُ وَهُوَ مَوْضِعٌ حَسَنٌ.
(فَائِدَةٌ) أَطْلَقَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْقَوْلَ بِأَنَّ لِلْأُمِّ ثُلُثَيْ الْبِرِّ لِقَوْلِ النَّبِيِّ عليه السلام لَمَّا «قَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّك قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّك قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّك قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أَبُوك» وَرُوِيَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ وَرُوِيَ ثَلَاثًا فَعَلَى رِوَايَةِ مَرَّتَيْنِ قَالُوا: يَكُونُ لَهَا ثُلُثُ الْبِرِّ وَعَلَى رِوَايَةِ ثَلَاثَةٍ يَكُونُ لَهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْبِرِّ لِأَنَّ الْأَبَ جَاءَ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ وَهَذَا يُعْتَقَدُ أَنَّهُ سَهْلٌ وَلَيْسَ بِالسَّهْلِ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ السَّائِلِ أَيُّ النَّاسِ أَحَقُّ إنَّمَا سَأَلَ عَنْ أَعْلَى الرُّتَبِ فَلَمَّا أُجِيبَ عَنْهَا عَرَفَهَا الرُّتْبَةَ الْعَالِيَةَ فَأَخَذَ يَسْأَلُ عَنْ الرُّتْبَةِ الَّتِي تَلِيهَا بِصِيغَةِ ثُمَّ الَّتِي لِلتَّرَاخِي الدَّالَّةِ عَلَى تَرَاخِي رُتْبَةِ الْفَرِيقِ الثَّانِي عَنْ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ فِي الْبِرِّ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ: أُمُّك فَلَا يَكُونُ هَذَا الْجَوَابُ مُطَابِقًا حَتَّى تَكُونَ هَذِهِ الرُّتْبَةُ الثَّانِيَةُ أَخْفَضَ رُتْبَةً مِنْ الْأُولَى وَكَذَلِكَ الْأَجْوِبَةُ الَّتِي بَعْدَهَا بِتِلْكَ الرُّتَبِ الْمُجَابِ بِهَا وَكَمَا وَجَبَ نُقْصَانُ الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ الْأُولَى وَجَبَ أَيْضًا نُقْصَانُ الرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ عَنْ الثَّانِيَةِ عَمَلًا بِثُمَّ الدَّالَّةِ عَلَى التَّرَاخِي وَالنُّقْصَانِ ثُمَّ رُتْبَةُ الْأَبِ تَكُونُ أَخْفَضَ الرُّتَبِ وَأَقَلِّهَا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا تَكُونُ رُتْبَةُ الْأَبِ مُشْتَمِلَةً عَلَى ثُلُثِ الْبِرِّ إذْ لَوْ اشْتَمَلَتْ لَكَانَتْ الرُّتَبُ مُسْتَوِيَةً.
وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ وَأَنَّ الْأَخِيرَةَ أَقَلُّ مِمَّا هُوَ أَقَلُّ وَأَنَّهُ يَجِبُ نُقْصَانُ كُلِّ رُتْبَةٍ فَضْلًا عَمَّا قَبْلَهَا فَيَتَعَيَّنُ نُقْصَانُ الرُّتْبَةِ الْأَخِيرَةِ بِمَقَادِيرَ عَدِيدَةٍ عَنْ الرُّتْبَةِ الْأُولَى بَعْدَ تَعَدُّدِ الْأَسْئِلَةِ وَالْأَجْوِبَةِ فَيَكُونُ نَصِيبُ الْأَبِ أَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ بِمِقْدَارَيْنِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَثَلَاثِ مَقَادِيرَ عَلَى رِوَايَةِ الثَّلَاثِ فَيَكُونُ نَصِيبُ الْأَبِ أَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ وَأَقَلَّ مِنْ الرُّبُعِ قَطْعًا فَيَبْطُلُ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ ثُلُثُ الْبِرِّ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ الْبِرِّ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى بَلْ أَقَلُّ بِكَثِيرٍ وَكَمَا وَجَبَ نُقْصَانُ الْأَبِ عَنْ الرُّبُعِ أَوْ الثُّلُثِ وَجَبَ أَيْضًا أَنْ لَا يُقَالَ: لِلْأُمِّ ثُلُثَا الْبِرِّ أَوْ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِأَنَّ الْأَنْصِبَاءَ الْمَضْمُومَةَ إلَيْهَا مُخْتَلِفَةُ الْمَقَادِيرِ كَمَا تَقَدَّمَ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ مَا قَالُوا أَنْ لَوْ كَانَتْ الْمَقَادِيرُ مُسْتَوِيَةً فَإِنْ قُلْت: فَهَلْ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بَعْدَ تَسْلِيمِ بُطْلَانِ الْمِقْدَارِ الْمَذْكُورِ؟ قُلْت: ذَلِكَ عَسِيرٌ عَلَيَّ وَإِنَّمَا الَّذِي يَتَيَسَّرُ لِي إيرَادُ السُّؤَالِ أَمَّا تَحْرِيرُ الْمِقْدَارِ فَلَا أَعْلَمُ إلَّا أَنَّ ثُمَّ اقْتَضَتْ أَصْلَ النُّقْصَانِ مَعَ زِيَادَةٍ فِي النُّقْصَانِ يَحْصُلُ بِهَا التَّرَاخِي بِثُمَّ أَمَّا مَا مِقْدَارُ ذَلِكَ الَّذِي بِهِ حَصَلَ فَلَا يَتَعَيَّنُ لِي بَلْ جَزَمْت بِالتَّفَاوُتِ فَقَطْ فَإِنْ تَيَسَّرَ الضَّبْطُ فِي ذَلِكَ فَاضْبِطْهُ.
فَإِنْ قُلْت: ثُمَّ حَرْفُ عَطْفٍ تَقْتَضِي مَعْطُوفًا وَمَعْطُوفًا عَلَيْهِ وَلَيْسَ مَعَنَا قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا إلَّا كَلَامٌ فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى نَفْسِهَا فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَالْقَاعِدَةُ الْعَرَبِيَّةُ أَنَّ الشَّيْءَ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ قُلْت أَيْضًا: هَذَا سُؤَالٌ مُشْكِلٌ يَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ وَتَحْرِيرٍ عَلَى الْقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ ثُمَّ إنَّ السَّائِلَ إنَّمَا سَأَلَ عَنْ غَيْرِ الْأُمِّ وَالتَّرَاخِي عَنْهَا فِي الرُّتْبَةِ فَكَيْفَ أُجِيبَ بِالْأُمِّ وَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّ التَّرَاخِيَ عَنْ الْأُمِّ فِي الْبِرِّ هُوَ لِلْأُمِّ حَتَّى يَحْصُلَ الْجَوَابُ بِهِ وَهَذَا أَيْضًا
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَطَلَبُهَا لِلْكَنِيفِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِذِي بَالٍ وَمُنَافٍ لِلتَّعْظِيمِ إمَّا لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَحَلٌّ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ يَكُونُ ذَا بَالٍ كَمَا لِلشَّيْخِ مُحَمَّدِ عِبَادَةَ.
وَإِمَّا لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْهَا حِينَئِذٍ التَّحَصُّنُ مِنْ الْجِنِّ وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ يَأْتِي بِهَا عِنْدَ كَبِّ الْمَاءِ وَالتَّفِلَةِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْمُحَقَّرَاتِ أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ التَّحَصُّنَ وَالتَّبَرُّكَ لِنَفْسِهِ لَا لِكَبِّ الْمَاءِ وَلَا لِلتَّفِلَةِ صَوْنًا لِاقْتِرَانِ اسْمِهِ تَعَالَى بِالْمُحَقَّرَاتِ كَمَا لِلْخَادِمِيِّ وَالْمُرَادُ بِالْجَوَازِ فِي قَوْلِ الْمُخْتَصَرِ وَجَازَتْ كَتَعَوُّذِ بِنَفْلِ عَدَمِ تَأَكُّدِ الطَّلَبِ وَنَفْيِ الْكَرَاهَةِ فَلَا يُنَافِي نَدْبُهَا وَكَوْنُ الْإِتْيَانِ بِذِكْرِ اللَّهِ وَلَا ثَوَابَ لَهُ بَعِيدٌ كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا الْأَمِيرُ اهـ بِتَلْخِيصٍ وَتَوْضِيحِ مَا وَحَذْفٍ وَظَاهِرُهُ كَرَاهَتُهَا فِي الْمَكْرُوهِ مُطْلَقًا وَحُرْمَتُهَا فِي الْمُحَرَّمِ مُطْلَقًا وَبِالْجُمْلَةِ فَالْبَسْمَلَةُ شُرِعَتْ فِي غَالِبِ ذَوَاتِ الْبَالِ أَصَالَةً أَوْ لِعَارِضِ قَصْدِ التَّحَصُّنِ وَالتَّبَرُّكِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مَا عَدَا نَحْوَ الصَّلَوَاتِ مِمَّا جَعَلَ الشَّارِعُ مَبْدَأَهُ بِغَيْرِهَا وَمَا عَدَا الذِّكْرَ الْمَحْضَ وَغَيْرَ ذَوَاتِ الْبَالِ مِنْ الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ مُطْلَقًا أَيْ وَلَوْ كَانَا لِعَارِضٍ وَنَحْوَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالْأُمُورِ الْخَسِيسَةِ وَلَمْ تُشْرَعْ فِي سِتَّةِ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ نَحْوُ الصَّلَوَاتِ مِمَّا جَعَلَ الشَّارِعُ مَبْدَأَهُ بِغَيْرِهَا وَالثَّانِي الذِّكْرُ الْمَحْضُ وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ الْمُحَرَّمُ وَالْمَكْرُوهُ وَلَوْ كَانَا لِعَارِضٍ وَالْخَامِسُ الْأُمُورُ الْخَسِيسَةُ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهَا وَعَدَمِ قَصْدِ التَّحَصُّنِ وَالتَّبَرُّكِ لِنَفْسِهِ وَإِلَّا رَجَعَتْ بِذَلِكَ لِذَوَاتِ الْبَالِ وَالسَّادِسُ نَحْوُ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ مِمَّا أُبِيحَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُحَقَّرَاتِ وَلَا مِنْ ذَوَاتِ الْبَالِ وَحُكْمُهَا فِيمَا شُرِعَتْ فِيهِ مِنْ ذَوَاتِ الْبَالِ تَأَكُّدُ النَّدْبِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ الشَّامِلِ لِلسُّنَّةِ وَالْمُسْتَحَبِّ عَلَى مَا مَرَّ، وَمِنْهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْمُحَرَّمُ وَالْمَكْرُوهُ لِعَارِضٍ لِمَا عَلِمْت وَفِي نَحْوِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ وَالذِّكْرِ الْمَحْضِ الْكَرَاهَةُ وَفِي الْمُحَرَّمِ مُطْلَقًا عِنْدَنَا أَوْ لِذَاتِهِ فَقَطْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَلَوْ أَبَاحَتْهُ الضَّرُورَةُ التَّحْرِيمُ عَلَى الْأَظْهَرِ وَفِي الْمَكْرُوهِ مُطْلَقًا عِنْدَنَا أَوْ لِذَاتِهِ فَقَطْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَلَوْ أَبَاحَتْهُ الضَّرُورَةُ الْكَرَاهَةُ نَعَمْ الْحُرْمَةُ عِنْدَنَا فِي الْمُحَرَّمِ لِعَارِضٍ وَالْكَرَاهَةُ فِي الْمَكْرُوهِ لِعَارِضٍ أَخَفُّ مِنْهُمَا فِي الْمُحَرَّمِ لِذَاتِهِ وَالْمَكْرُوهِ فَافْهَمْ وَفِي الْأُمُورِ الْخَسِيسَةِ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهَا خِلَافُ الْأَوْلَى صَوْنًا لِاقْتِرَانِ اسْمِهِ تَعَالَى بِالْمُحْتَقَرَاتِ وَمَعَ قَصْدِ التَّحَصُّنِ وَالتَّبَرُّكِ لِنَفْسِهِ النَّدْبُ لِرُجُوعِهَا لِذَوَاتِ الْبَالِ بِذَلِكَ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى نَحْوُ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَإِنْ لَمْ تُشْرَعْ فِيهِ لِأَنَّ أَقَلَّ مَرَاتِبِ الذِّكْرِ النَّدْبُ وَإِنْ لَمْ يَتَأَكَّدْ إلَّا فِي ذَوَاتِ الْبَالِ فَافْهَمْ.
2 -
إشْكَالٌ آخَرُ وَالْجَوَابُ أَنْ نَقُولَ: هَذَا عَطْفٌ وَكَلَامٌ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى كَأَنَّ السَّائِلَ لَمَّا قِيلَ لَهُ: أَحَقُّ النَّاسِ وَأَوْلَاهُمْ أُمُّك قَالَ: فَلِمَنْ أَتَوَجَّهُ بِالْبِرِّ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَشْتَغِلُ بِهِ قِيلَ لَهُ أَيْضًا لِأُمِّكَ فَقُوبِلَ مَا فُهِمَ مِنْهُ مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ الْأُمِّ بِالْأَمْرِ بِالْمُلَازَمَةِ إظْهَارًا لِتَأْكِيدِ حَقِّهَا فَقَالَ: إذَا تَوَجَّهْت أَيْضًا إلَيْهَا وَفَرَغْت فَلِمَنْ أَتَوَجَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَيْضًا فَقِيلَ لَهُ: أُمُّك فَقُوبِلَ أَيْضًا مَا فُهِمَ مِنْهُ مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ الْأُمِّ بِالْبِرِّ وَالْمُلَازَمَةِ إظْهَارًا لِتَأْكِيدِ حَقِّهَا فَصَارَتْ الْأُمُّ مَعْطُوفَةً عَلَى نَفْسِهَا بِنِسْبَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ إلَى رُتْبَتَيْنِ مُتَبَايِنَتَيْنِ فَهِيَ بِقَيْدِ الرُّتْبَةِ الدُّنْيَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى نَفْسِهَا بِقَيْدِ الرُّتْبَةِ وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ إذَا أُخِذَ مَعَ وَصْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ صَارَ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ ابْنٌ وَأَخٌ وَفَقِيهٌ وَتَاجِرٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَالْمَوْصُوفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَاحِدٌ غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا أُخِذَ مَعَ الْمُخْتَلِفَاتِ صَارَ مُخْتَلِفًا فَهَذَا السِّرُّ هُوَ الْمُحْسِنُ لِلْعِطْفِ وَإِعَادَةِ الْأُمِّ فِي الرُّتَبِ وَهَذَا الْحَدِيثُ كَمَا تَرَى فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ الْقَلِقِ وَالْإِشْكَالِ مَعَ أَنَّهُ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ وَكَمْ مِنْ شَيْءٍ يَكُونُ ظَاهِرًا فِي بَادِئِ الرَّأْيِ فَإِذَا اُخْتُبِرَ خَرَجَ مِنْهُ غَرَائِبُ.
(فَصْلٌ) إذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ وَهَذِهِ الْمَبَاحِثُ ظَهَرَ لَك الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْوَاجِبِ لِلْأَجَانِبِ وَالْوَاجِبِ لِلْوَالِدَيْنِ فَإِنَّ كُلَّ مَا يَجِبُ لِلْأَجَانِبِ يَجِبُ لِلْوَالِدَيْنِ وَضَابِطُ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْوَالِدَانِ دُونَ الْأَجَانِبِ هُوَ اجْتِنَابُ مُطْلَقِ الْأَذَى كَيْفَ كَانَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الِابْنِ وَوُجُوبُ طَاعَتِهِمَا فِي تَرْكِ النَّوَافِلِ وَتَعْجِيلِ الْفُرُوضِ الْمُوَسَّعَةِ وَتَرْكِ فَرَوْضِ الْكِفَايَةِ إذَا كَانَ ثَمَّ مَنْ يَقُومُ بِهَا وَمَا عَدَا ذَلِكَ لَا تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيهِ وَإِنْ نُدِبَ إلَى طَاعَتِهِمْ وَبِرِّهِمْ مُطْلَقًا وَكَذَلِكَ الْأَجَانِبُ يُنْدَبُ بِرُّهُمْ مُطْلَقًا غَيْرَ أَنَّ النَّدْبَ فِي الْأَبَوَيْنِ أَقْوَى فِي غَيْرِ الْقُرَبِ وَالنَّوَافِلِ وَلَا نَدْبَ فِي طَاعَةِ الْأَجَانِبِ فِي تَرْكِ النَّوَافِلِ بَلْ الْكَرَاهَةُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ وَأَمَّا مَا يَجِبُ لِذَوِي الْأَرْحَامِ مِنْ غَيْرِ الْأَبَوَيْنِ فَلَمْ أَظْفَرْ فِيهِ بِتَفْصِيلٍ كَمَا وَجَدْتُ تِلْكَ الْمَسَائِلَ فِي الْأَبَوَيْنِ بَلْ أَصْلُ الْوُجُوبِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ فَهَذَا هُوَ الَّذِي قَدَرْت عَلَيْهِ فِي هَذَا الْفَرْقِ وَقَدْ رَأَيْتُ جَمْعًا عَظِيمًا عَلَى طُولِ الْأَيَّامِ يَعْسُرُ عَلَيْهِمْ تَحْرِيرُ ذَلِكَ.
(الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تُؤَثِّرُ فِيهِ الْجَهَالَاتُ وَالْغَرَرُ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ) وَرَدَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي نَهْيِهِ عليه السلام عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَعَنْ بَيْعِ الْمَجْهُولِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ عَمَّمَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ وَهُوَ الشَّافِعِيُّ فَمَنَعَ مِنْ الْجَهَالَةِ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِبْرَاءِ وَالْخُلْعِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ: (الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تُؤَثِّرُ فِيهِ الْجَهَالَاتُ وَالْغَرَرُ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ) قُلْتُ: مَا قَالَهُ: فِي هَذَا الْفَرْقِ صَحِيحٌ ظَاهِرٌ.
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَصْلٌ) فِي زِيَادَةِ تَحْرِيرِ هَذَا الْفَرْقِ بِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ لِذَاتِهِ وَبَيْنَ الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ لِعَارِضٍ قَالَ الْعَلَّامَةُ الأنبابي فِي تَقْرِيرَاتِهِ عَلَى بَاجُورِيّ السُّنُوسِيَّةِ: يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحَرَّمِ لِذَاتِهِ وَالْمَكْرُوهِ لِذَاتِهِ مَا لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمُهُ وَكَرَاهَتُهُ لِعِلَّةٍ يَدُورُ مَعَهَا وُجُودًا وَعَدَمًا وَالْمُحَرَّمِ لِعَارِضٍ وَالْمَكْرُوهِ لِعَارِضٍ مَا كَانَ تَحْرِيمُهُ وَكَرَاهَتُهُ لِعِلَّةٍ يَدُورُ مَعَهَا وُجُودًا وَعَدَمًا فَالزِّنَا وَشُرْبُ الْخَمْرِ مِنْ قَبِيلِ الْمُحَرَّمِ لِذَاتِهِ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الزِّنَا لَا يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ الَّتِي هِيَ اخْتِلَاطُ الْأَنْسَابِ وُجُودًا وَعَدَمًا إذْ قَدْ تَنْتِفِي الْعِلَّةُ وَيُوجَدُ التَّحْرِيمُ كَمَا إذَا وَطِئَ رَجُلٌ صَغِيرَةً.
وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ شُرْبِ الْخَمْرِ لَا يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ الَّتِي هِيَ الْإِسْكَارُ إذْ قَدْ يَنْتَفِي الْإِسْكَارُ وَيُوجَدُ التَّحْرِيمُ كَمَا إذَا اعْتَادَ الشَّخْصُ شُرْبَ الْخَمْرِ بِحَيْثُ لَا يُؤَثِّرُ فِي عَقْلِهِ شَيْءٌ أَوْ شَرِبَ قَدْرًا لَا يُسْكِرُ وَالْوُضُوءُ بِمَاءٍ مَغْصُوبٍ مِنْ الْمُحَرَّمِ لِعَارِضٍ لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ الَّتِي هِيَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ عُدْوَانًا وُجُودًا وَعَدَمًا وَالنَّظَرُ لِفَرْجِ الْحَلِيلَةِ مِنْ قَبِيلِ الْمَكْرُوهِ لِذَاتِهِ لِأَنَّ كَرَاهَتَهُ لَا تَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ الَّتِي هِيَ خَوْفُ الطَّمْسِ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إذْ قَدْ تَنْتِفِي الْعِلَّةُ وَتُوجَدُ الْكَرَاهَةُ كَمَا إذَا أَخْبَرَهُ مَعْصُومٌ بِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ طَمْسٌ إذَا نَظَرَ لِفَرْجِ حَلِيلَتِهِ وَالْوُضُوءُ بِالْمَاءِ الْمُشَمَّسِ مِنْ الْمَكْرُوهِ لِعَارِضٍ لِأُنِرَ كَرَاهَتَهُ تَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ الَّتِي هِيَ خَوْفُ الْبَرَصِ وُجُودًا وَعَدَمًا فَإِذَا امْتَنَعَتْ الْعِلَّةُ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ تَشْمِيسُهُ فِي نُحَاسٍ أَوْ كَانَ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ الْقُطْرُ حَارًّا انْتَفَتْ الْكَرَاهَةُ وَبِهَذَا انْدَفَعَ مَا يُقَالُ لَا يُعْقَلُ فَرْقٌ بَيْنَ الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ لِذَاتِهِمَا وَبَيْنَ الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ لِعَارِضٍ لِأَنَّهُ إذَا نُظِرَ لِلشُّرْبِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فَجَائِزٌ وَإِنْ نُظِرَ لِكَوْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِالْخَمْرِ فَهُوَ حَرَامٌ كَمَا أَنَّهُ إنْ نُظِرَ لِلْوُضُوءِ فِي ذَاتِهِ فَهُوَ جَائِزٌ وَإِنْ نُظِرَ لِكَوْنِهِ بِمَاءٍ مَغْصُوبٍ فَهُوَ حَرَامٌ وَكَذَا يُقَالُ فِي الْمَكْرُوهِ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ لِذَاتِهِمَا مَا كَانَ تَحْرِيمُهُ وَكَرَاهَتُهُ لَا لِعِلَّةٍ وَلَا لِعَارِضٍ مَا كَانَ مَا ذُكِرَ لَهَا وَرُدَّ عَلَيْهِ أَنَّ لِلْكُلِّ عَدْلًا وَلَا فَرْقَ اهـ بِتَوْضِيحِ وَتَغْيِيرِ مَا وَتَمْثِيلُهُ لِلْمَكْرُوهِ لِذَاتِهِ بِالنَّظَرِ لِفَرْجِ الْحَلِيلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِهِ وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِنَا فَمُبَاحٌ فَفِي مَجْمُوعِ الْأَمِيرِ مَعَ شَرْحِهِ وَحَوَاشِيهِ وَحَلَّ بِالْعَقْدِ أَيْ بِشَرْطِ الْإِشْهَادِ غَيْرَ الْإِيلَاجِ بِدُبْرٍ مِنْ نَظَرِ فَرْجٍ وَغَيْرِهِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: نَظَرُ الْفَرْجِ يُورِثُ الْعَمَى نَعَمْ الْأَكْمَلُ خِلَافُهُ كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -