الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الخامسة
التشبه بالكفار
وردت الأدلة من الكتاب والسنة في النهي عن التشبه بالكفار، قال تعالى:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)} [الجاثية]. «فأخبر سبحانه أنه أنعم على بني إسرائيل بنعم الدين والدنيا، وأنهم اختلفوا بعد مجيء العلم بغياً من بعضهم على بعض، ثم جعل محمداً صلى الله عليه وسلم على شريعة شرعها له وأمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وقد دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعته، وأهواؤهم كل ما يهوونه وما هم عليه من الهدى الظاهر الذي هو من موجبات دينهم الباطل، وموافقتهم فيه اتباع لما يهوونه، ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين لهم في بعض أمورهم، ويودون لو يبذلوا مالاً عظيماً لتحصيل ذلك، ولو فرض أن الفعل ليس من اتباع أهوائهم فمخالفتهم فيه أحسم لمتابعتهم في أهوائهم، وأعون على حصول مرضاة الله في تركها»
(1)
.
(1)
مختصر اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 22) بتحقيق: د. ناصر العقل بتصرف.
ومنها قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 149 - 150].
(1)
.
روى أبو داود في سننه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»
(2)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وأقل أحواله يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم،
(1)
مختصر اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 23) بتحقيق: د. ناصر العقل.
(2)
برقم 4031، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا إسناد جيد، كما حسنه الحافظ ابن حجر كما في فتح الباري (6/ 98).
كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، فقد يحمل هذا على التشبه المطلق، فإنه يوجب الكفر، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك، وقد يحمل على أنه صار منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه، فإن كان كفراً أو معصية أو شعاراً للكفر أو للمعصية كان حكمه كذلك»
(1)
.
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَتَتبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ، قَالوا: يَا رَسُولَ اللَّه، الْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ»
(2)
.
وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِأخْذِ الْقُرُونِ قَبْلَهَا، شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ» ، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ كَفَارِسِ وَالرُّومِ؟ قَالَ:«وَمَنِ النَّاسُ إِلا أُولَئِكَ»
(3)
.
«ومشابهة بعض طوائف اليهود والنصارى، وفارس والروم، مما ذمه الله ورسوله وهو المطلوب، ولا يقال: فإذا كان الكتاب والسنة قد دلا على وقوع ذلك، فما فائدة النهي عنه؟ لأن الكتاب والسنة - أيضاً - قد دلا على أنه لا يزال في هذه الأمة طائفة
(1)
مختصر اقتضاء الصراط المستقيم ص 88 - 89 بتحقيق د. ناصر العقل.
(2)
صحيح البخاري برقم 7320 وصحيح مسلم برقم 2669.
(3)
صحيح البخاري برقم 7319.
متمسكة بالحق الذي بُعث به محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، وأنها لا تجتمع على ضلالة، ففي النهي عن ذلك تكثير هذه الطائفة المنصورة وتثبيتها، وزيادة إيمانها، فسَأل الله المجيب أن يجعلنا منها
(1)
. أ- هـ
وأما الإجماع، فمن ذلك أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وكذلك الصحابة والأئمة من بعده وسائر الفقهاء، جعلوا في الشروط المشروطة على أهل الذمة من النصارى وغيرهم فيما شرطوه على أنفسهم أن نوقر المسلمين، ونقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم، كسوة أو عمامة، أو نعلين
(2)
.. إلى آخر الشروط.
وروى الحافظ أبو الشيخ الأصفهاني في شروط أهل الذمة بإسناده أن عمر رضي الله عنه كتب أن لا تكاتبوا أهل الذمة، فيجري بينكم وبينهم المودة، ولا تُكْنوهم وأذلوهم ولا تظلموهم
(3)
.
(1)
مختصر اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بتحقيق د. ناصر العقل ص 49.
(2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 363 - 365) رواه حرب] وهو الكرماني [بإسناد جيد، وقال محققه د. ناصر العقل أخرج البيهقي أكثره مع اختلاف في السياق بسنده في السنن الكبرى، كتاب الجزية باب الإمام يكتب كتاب الصلح على الجزية (9/ 202) وانظر أحكام أهل الذمة لابن القيم ص 452 - 453، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً (1/ 365) وهذه الشروط أشهر شيء في كتب الفقه والعلم، وهي مجمع عليها في الجملة بين العلماء من الأئمة المتبوعين وأصحابهم وسائر الأئمة.
(3)
نقلاً عن اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 367). وانظر أحكام أهل الذمة لابن القيم رحمه الله ص 452 - 455.
ومن ذلك ما ورد عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: «من بنى ببلاد الأعاجم، وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك، حشر معهم يوم القيامة»
(1)
. وغير ذلك من الآثار عن الصحابة ومن بعدهم.
(2)
.
(1)
سنن البيهقي الكبرى (9/ 234) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وروي بإسناد صحيح عن أبي أسامة حدثنا عون عن أبي المغيرة عن عبدالله ابن عمرو قال: من بنى ببلاد الأعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حُشر معهم يوم القيامة. اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 200).
(2)
مختصر اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. تحقيق د. ناصر العقل ص 220 - 221.
بل إن التشبه ظاهراً دليل على التشبه باطناً، قال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118].
والحال شاهد على ذلك، فمن تزيا بزي أهل العلم والصالحين وجد من نفسه قوة على الاقتداء بهم، والابتعاد عن خلاف ذلك، والعكس أن من تزيا بزي السفهاء وأهل الفسق، سهل على نفسه متابعتهم وتقليدهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين، هم أقل كفراً من غيرهم، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقل إيماناً من غيرهم ممن جرد الإسلام»
(1)
.
والتشبه منهي عنه وإن لم يقصده فاعله، فعلى سبيل المثال: لو حلق لحيته ولم يقصد التشبه بالكفار، فإن فعله تشبه لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ أَحْفُوا الشَّوَارِبَ، وَأَوْفُوا اللِّحَى»
(2)
.
كما يحصل التشبه وإن لم يكن من عمل الإنسان، ويمثل ذلك بالتشبيب، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ
(1)
مختصر اقتضاء الصراط المستقيم تحقيق د. ناصر العقل ص 220.
(2)
صحيح مسلم برقم 259.
فَخَالِفُوهُمْ»
(1)
. فالتشبيب من فعل الله وخلقه لا من فعل العبد، ومع ذلك فتركه وعدم تغييره من التشبه المنهي عنه، فما بالك إذن بمن يختار ما عليه أهل الكفر والفسوق على ما عليه أهل الهدى والصلاح.
وحين جاء أبو بكر الصديق بأبيه أبي قحافة يوم فتح مكة يحمله حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى رأسه كأنها الثغامة بياضاً، قال:«غَيِّرُوا هَذَا بِشَيءٍ»
(2)
، وفي رواية:«واجْتَنِبُوا السَّوَادَ»
(3)
؛ ولذلك على المسلم أن يغير هذا الشيب بالحناء والكتم، كما ورد بذلك الحديث حتى تحصل المخالفة لليهود والنصارى.
أحكام التشبه:
قد يصل التشبه بصاحبه إلى الكفر، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51].
قال الشنقيطي: «ذُكر في هذه الآية الكريمة أن من تولى اليهود والنصارى من المسلمين، فإنه يكون منه بتوليه إياهم»
(4)
.
(1)
صحيح البخاري برقم 3462 وصحيح مسلم برقم 2103.
(2)
صحيح مسلم برقم 2101.
(3)
صحيح مسلم برقم 2101.
(4)
أضواء البيان للشنقيطي (2/ 132).
وبين في موضع آخر: «أن محل ذلك فيما إذا لم تكن الموالاة بسبب خوف وتقية، وإن كانت بسبب ذلك فصاحبها معذور، وهو قوله تعالى:{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28]، فهذه الآية الكريمة فيها بيان لكل الآيات القاضية بمنع موالاة الكفار مطلقاً، وإيضاح أن محل ذلك في حالة الاختيار، وأما عند الخوف والتقية، فيرخص في موالاتهم بقدر المداراة التي يُكتفى بها شرهم، ويشترط في ذلك سلامة الباطن من تلك الموالاة:
ومَنْ يَأتِي الأُمُورَ عَلى اضْطِّرارٍ
…
فَلَيْسَ كَمْثِلِ آتَيِهَا اختيارًا
ويفهم من ظواهر هذه الآيات أن من تولى الكفار عمداً اختياراً رغبة فيهم أنه كافر مثلهم»
(1)
.
وقد يصل التشبه إلى البدعة، فكل من جاء بعبادة لم يأت بها الشرع فقد شابه اليهود والنصارى، قال الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: «وقد ثبت عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن السلف الصالح بعدهم التحذير من البدع، والترهيب منها، وما ذاك إلا لأنها زيادة في الدين، وشرع لم يأذن به الله، وتشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى في زيادتهم في دينهم وابتداعهم فيه ما لم يأذن به الله، ولأن لازمها التنقص للدين الإسلامي، واتهامه
(1)
أضواء البيان للشنقيطي (2/ 133).
بعدم الكمال، ومعلوم ما في هذا من الفساد العظيم، والمنكر الشنيع، والمصادمة لقول الله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]»
(1)
. ومثال ذلك بدعة الاحتفال بالمولد النبوي، وقد تشبه مبتدعوها بالنصارى حذو القذة بالقذة.
ومن التشبه ما يكون كبيرة من الكبائر، مثل تهنئة الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم بأعيادهم، لما في ذلك من إعانتهم وإقرارهم على ما هم عليه من الفجور والضلال.
قال ابن القيم رحمه الله: «وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به، فحرام بالاتفاق مثل أن تهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثماً عند الله، وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر، وقتل النفس، وارتكاب الفرج الحرام .. ونحوه، وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك وهو لا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة، أو كفر، فقد تعرض لمقت الله وسخطه، وقد كان أهل الورع من أهل العلم يتجنبون تهنئة الظلمة بالولايات، وتهنئة الجهال بمنصب القضاء والتدريس والإفتاء تجنباً لمقت الله
(1)
رسالة للشيخ بعنوان التحذير من البدع ص 11.
وسقوطهم من عينه»
(1)
. اهـ
ومن التشبه ما يدخل به المتشبه في المعصية لله ورسوله، وإن كان لا يُستطاع الجزم بوقوعه في الكبيرة، فقد روى الترمذي في سننه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا، لَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ، وَلَا بِالنَّصَارَى، فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْيَهُودِ الإِشَارَةُ بِالأَصَابِعِ، وَتَسْلِيمَ النَّصَارَى الإِشَارَةُ بِالأَكُفِّ»
(2)
.
ومن التشبه ما لا يقطع بتحريمه إلا أن تركه أولى، والآثار على ذلك من السلف الصالح كثيرة جداً، فقد كره بعضهم الرمي بالقوس الفارسية وكان بعضهم يكره الشرب في الكأس الذي له ساق، وكان بعضهم يكره الصمت عند الأكل حتى لا يتشبه بالأعاجم .. وغير ذلك كثير.
سُئلت اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية، يقول السائل: شاع في كثير من بلاد المسلمين لبس البدلة؛ ذلك اللباس المكون من جاكيت وبنطلون، وقد تقتصر الملابس على بنطلون وقميص أو فانيلا بكم أو بنصف كم في الصيف لشدة الحر، فهل لبس هذا اللباس
(1)
أحكام أهل الذمة (1/ 144).
(2)
برقم 2848 وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله كما في صحيح سنن الترمذي برقم 2168.
يدخل تحت باب التشبه بغير المسلمين؟ أو لا؟
الجواب: الأصل في أنواع اللباس الإباحة؛ لأنه من أمور العادات، قال تعالى:
…
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]. ويستثنى من ذلك ما دل الدليل الشرعي على تحريمه أو كراهته كالحرير للرجال، والذي يصف العورة؛ لكونه شفافاً يُرى من ورائه لون الجلد، أو لكونه ضيقاً يحدد العورة؛ لأنه حينئذ في حكم كشفها وكشفها لا يجوز، وكالملابس التي هي من سيما الكفار الخاصة بهم، فلا يجوز لبسها لا للرجال ولا للنساء؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بهم، وكلبس الرجال ملابس النساء ولبس النساء ملابس الرجال؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، وليس اللباس المسمى بالبنطلون والقميص مما يختص لبسه بالكفار، بل هو لباس عام في المسلمين والكافرين في كثير من البلاد والدول، وإنما تنفر النفوس من لبس ذلك في بعض البلاد لعدم الألف ومخالفة عادة سكانها في اللباس، وإن كان ذلك موافقاً لعادة غيرهم من المسلمين، لكن الأولى بالمسلم إذا كان في بلد لم يعتد أهلها ذلك اللباس ألا يلبسه في الصلاة ولا في المجامع العامة ولا في الطرقات»
(1)
.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
(1)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (24/ 38 - 39) برقم 1620.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو
…
عضو
…
نائب الرئيس
…
الرئيس
عبدالله بن قعود
…
عبدالله بن غديان
…
عبدالرزاق عفيفي
…
عبدالعزيز بن باز
ومن مظاهر التشبه بالكفار ما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها وابن عباس رضي الله عنهما قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال: وهو كذلك «لَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا»
(1)
.
وفي الصحيحين عنهما من حديث عائشة أن أم سلمة وأم حبيبة ذكرنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة، رأينها بأرض الحبشة يقال لها: مارية، وذكرتا من حسنها وتصاوير فيها، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم «أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الْعَبْدُ الصَّالِحُ أَوِ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّه»
(2)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فهذا التحذير منه واللعن عن مشابهة أهل الكتاب في بناء المساجد على قبر الرجل الصالح صريح في النهي عن المشابهة في هذا، ودليل على الحذر من
(1)
صحيح البخاري برقم 435 وصحيح مسلم برقم 531.
(2)
صحيح البخاري برقم 427 وصحيح مسلم برقم 528.
جنس أعمالهم، حيث لا يؤمن في سائر أعمالهم أن تكون من هذا الجنس، ثم من المعلوم ما قد ابتلى به كثير من هذه الأمة، من بناء المساجد على القبور، واتخاذ القبور مساجد بلا بناء، وكلا الأمرين محرم ملعون فاعله بالمستفيض من السنة»
(1)
.
ومن مظاهر التشبه بالكفار ما يحصل من شباب وفتيان المسلمين من التشبه بالكفار في ملابسهم وهيئاتهم ولبس السلاسل، ووصل الشعر، وكذلك قصات الشعر الخاصة بهم، ومشاهدة حياتهم اليومية في الأفلام والمسلسلات، والإعجاب بهم والتحدث بلغتهم من غير حاجة إلى ذلك.
روى مسلم في صحيحه من حديث عبدالله بن عمرو قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم علىَّ ثوبين معصفرين فقال: «إِنَّ هَذِهِ ثِيَابُ الْكُفَّارِ، فَلا تَلْبَسْهَا»
(2)
.
علل النهي عن لبسها بأنها من ثياب الكفار، وسواء أراد أنها مما يستحله الكفار بأنهم يستمتعون بخلاقهم في الدنيا، أو مما يعتاده الكفار لذلك، كما في الحديث قال صلى الله عليه وسلم: «لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في
(1)
مختصر اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية بتحقيق د. ناصر العقل ص 106، 107.
(2)
صحيح مسلم برقم 2077.
صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة»
(1)
. ولهذا كان العلماء يجعلون اتخاذ الحرير وأواني الذهب والفضة تشبهاً بالكفار
(2)
.
ومنها التشبه بالكفار في إقامة الأعياد، فمن الاحتفال بالمولد النبوي، إلى الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، وهذه كلها أحدثت محاكاة للكفار، وكذلك الأعياد الوطنية والقومية، ورأس السنة، وعيد الميلاد، ومن آخرها ما يسمى بعيد الحب، يرتدون فيها الشباب والفتيات الملابس الحمراء، ويتبادلون الورود الحمراء.
ومنها الاعتماد في التاريخ على الميلاد والأشهر الإفرنجية، أي ميلاد عيسى عليه السلام متابعة للنصارى، ويريدون من المسلمين أن يتركوا التاريخ الهجري، ويعتمدون على التاريخ الميلادي النصراني.
ومنها تربية الكلاب واقتناؤها لغير حاجة، ولا شك في حرمة ذلك، إلا كلب الصيد والماشية والحرث، كما وردت بذلك النصوص، بل ويشترون هذه الكلاب بأثمان غالية كل هذا تقليداً ومحاكاة للكفار.
(1)
صحيح البخاري برقم 5426 وصحيح مسلم برقم 2067.
(2)
اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية، للمحقق د. ناصر العقل ص 120.
ومنها حلق اللحى، وفيه تشبه بالمشركين والمجوس واليهود والنصارى، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ، وَفِّرُوا اللِّحَى وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ»
(1)
.
وروى مسلم في صحيحه من حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جُزُوا الشَّوَارِبَ، وَأَرْخُوا اللِّحَى، خَالِفُوا الْمَجُوسَ»
(2)
.
ومما يشبه الأمر بمخالفة الكفار، الأمر بمخالفة الشياطين، لما روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لَا يَأْكُلنَّ أَحَدٌ مِنْكُم بِشِمَالِهِ وَلَا يَشْرَبْ بِهَا، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِهَا»
(3)
.
فإنه علل النهي عن الأكل والشرب بالشمال، بأن الشيطان يفعل ذلك، فعلم أن مخالفة الشيطان أمر مقصود مأمور به، ونظائره كثيرة
(4)
.
والمظاهر كثيرة، وما ذكرته فيض، وقليل من كثير، ومن أراد الاستزادة فعليه بمراجعة كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
(1)
صحيح البخاري برقم 5892 وصحيح مسلم برقم 259.
(2)
برقم 260.
(3)
برقم 2020.
(4)
مختصر اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 147 بتحقيق د. ناصر العقل.
اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، فإنه كتاب عظيم النفع والفائدة
(1)
.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* * *
(1)
هذه الكلمة منقولة من كتاب المؤلف موسوعة الدرر المنتقاه (8/ 361 - 374).