الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس والستون: الألهة والتقرب إليها
مدخل
…
الفصل السادس والستون: الآلهة والتقرب إليها
لا نملك -ويا للأسف- نصوصًا جاهلية فيها وصف لطبائع الآلهة، ولا أساطير فيها شيء على رأي أهل الجاهلية في أخلاق أربابهم. ولهذا صار مرجعنا وسندنا في تكوين صورة عن طبائع الآلهة وأخلاقها، دراسة وتفسير أسماء الآلهة ونعوتها التي نعتت بها لاستخراج شيء منها يعيننا على تكوين هذه الصورة.
وتفسير أسماء الآلهة ومعرفة أصولها وجذورها، عملية ليست سهلة يسيرة؛ بسبب جهلنا بمعاني بعض تلك الأسماء، وعدم وقوفنا على أصولها التي اشتقت منها؛ لأنه اللهجات التي دونت بها، لا تزال بعيدة عن مداركنا، ولأن قواعد نحوها وصرفها تختلف بعض الاختلاف عن قواعد وصرف عربيتنا، ونحن لا نملك اليوم المؤهلات الكافية، للحكم في تلك اللهجات حكمنا في عربيتنا.
واسم الإله هو صفة في الغالب، ألبسها الزمن بمضي الوقت لباس العلمية، فعدت اسمًا علمًا، فإذا استطعنا الرجوع إلى أصول وجذور هذه الأسماء الصفات، نكون قد استنبطنا شيئًا عن طبائع تلك الآلهة من صفاتها المذكورة ونجحنا بعض النجاح من تكوين رأي عن تلك الديانات الجاهلية.
هنالك أسماء مثل "أل""إيل" يجد الباحثون صعوبة في الاتفاق على تعيين أصولها وضبط معانيها وهناك أسماء واضحة جلية ظاهرة، تدل على أشياء معروفة محسوسة، مثل "شمس" و"ورخ" بمعنى قمر، و"عثتر"، و"الشعرى العبور" و"نجم"، و"ثريا" وأمثال ذلك من أسماء تشير إلى
أشياء مادية، هي كواكب ونجوم، يستدل منها على وجود عبادة الأجرام السماوية عند الجاهليين. وهناك أسماء، هي نعوت في الواقع، لا تدل على ظواهر حسية وإنما تعبر عن أمور معنوية، مثل "ود" بمعنى "حب" و"رضى" و"سعد"، و"حكم"، و"نهي" و"صدق"، و"رحمن"، و"رحم""ها - رحم""الرحيم"، و"سمع"، "سميع"، و"محرمم""محرم"، وأمثال ذلك من ألفاظ، هي نعوت، جرت بين الناس مجرى الأسماء. وعلى هذه الصفات الأسماء سيكون جل اعتمادنا في استنباط الصورة التي نريد تكوينها عن طبيعة آلهة العرب الجنوبيين.
وعلينا أن نضيف على ما تقدم الأعلام المركبة المضافة للأشخاص، مثل "عبد ود"، و"عبد مناف"، و"عبد شمس"، و"عبد يغوث"، و"أمت العزى""أمة العزى"، فالكلمات الثانية من الاسم، أسماء أصنام. وفي تركيب الاسم على هذا النحو، دلالة على تذلل الإنسان تجاه ربه، واعتبار نفسه عبدًا له، وفيه تعبير عن صلة الأشخاص بربهم، أضف إليها الأعلام المركبة تركيبًا إخباريًّا، مثل "ودم أبم"، أي "ود أب" أو "أب ود"، ففي هذا التركيب دلالة على حنو الإله على المؤمنين به، وإشفاقه عليهم، إشفاق الأب على أولاده.
ودراسة الأمور المذكورة، هي مصدر مهم، بل هي تكاد في هذا اليوم أن تكون المصدر الوحيد لفهم ذات الآلهة وإدراك شخصيتها، ولفهم تطور الدين على مر العصور والأجيال، وكيف تطور الدين عند الجاهليين إلى يوم ظهور الإسلام.
هذا؛ ونجد في النصوص العربية الجنوبية المتأخرة، أسماء آلهة لا نجد لها موضعًا في النصوص العربية الجنوبية المتقدمة، واختفاء لأسماء الآلهة القديمة التي كانت لامعة ساطعة في سماء الألوهية عند العرب الجنوبيين قبل الميلاد. ونجد أسماء آلهة قبائل تعبد عند قبائل أخرى مع معبوداتها القديمة، وأسماء آلهة كانت لامعة شهيرة، تحولت إلى آلهة صغيرة. وفي كل هذه الملاحظات دلالة على حدوث تطور في الحياة الدينية عند الجاهليين، وعلى تأثر العقائد بمؤثرات داخلية وخارجية، فأحدثت هذا التطور الذي نبحث عنه.
ومن بين أسماء الآلهة، أسماء مركبة، استهلت بـ"ذ"، أو بـ"ذت". و"ذ"، بمعنى "ذو" في عربيتنا، و"ذت" بمعنى "ذات" و"ذ" للمذكر" و"ذت" للمؤنث، أما الكلمات التالية، فهي صفات. فجملة "عثتر ذ قبضم"، تدل على إله ذكر، اسمه "عثتر ذو القبض" "عثتر ذو قبض" أو "عثتر القابض" بتعبير أصح. وجملة "ذ شقرن"، و"ذ صهرم"1، و"ذ عذبتم"، و"ذ يسرم"2، و"ذامر وشمر"، أي الآمر الناهي3، و"ذ أنبى"، هي جمل تشير إلى إله ذكر، لوجود "ذ" علامة التذكير فيه. وجملة "ذت حمم"، و"ذت بعدن"، و"ذت برن"، و"ذت غضرن"، و"ذت رحبن"، و"ذت صهرن"، و"ذت صنتم"، و"ذت ظهرن"، تشير إلى آلهة إناث، لوجود "ذت" "ذات" في الاسم. ومعنى هذا أن العرب الجنوبيين كانوا قد جعلوا الآلهة كالإنسان إناثًا وذكورًا. وهو ما ورد في القرآن الكريم عن أهل مكة وبعض قبائل الحجاز، من قوله تعالى:{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} 4، ومن قوله:
{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} 5، وقوله تعالى {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} 6، و {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} 7، و {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} 8. وقد ذكر علماء التفسير أنه "لا ينبغي أن يكون لله ولد ذكر ولا أنثى. سبحانه نزه جل جلاله بذلك نفسه عما أضافوا إليه ونسبوه من البنات، فلم يرضوا بجهلهم إذ أضافوا إليه ما لا ينبغي إضافته إليه، ولا ينبغي أن يكون له من الولد أن يضيفوا إليه ما يشتهونه لأنفسهم ويحبونه لها ولكنهم أضافوا إليه ما يكرهونه لأنفسهم ولا يرضونه لها من البنات ما يقتلونها إذا كانت لهم"9. وذكروا "أن مشركي قريش كانوا يقولون: الملائكة بنات الله،
1 Rep Eplgr. 504.
2 Rep Epigr، 2831، 4688.
3 Handbuch، I، s. 244
4 النحل، الرقم 16، الآية 57.
5 الصافات، الرقم 37، الآية 149.
6 الصافات، الرقم 37، الآية 153
7 الزخرف، الرقم 43، الآية 16.
8 الطور، الرقم 52، الآية 39.
9 تفسير الطبري "14/ 83" روح المعاني "14/ 156".
وكانوا يعبدونها"1. وقد وبخهم القرآن الكريم على قولهم هذا، واستخف بأحلامهم وبما قالوه جهلًا وحماقة.
وذكر علماء التفسير أن كفار قريش قالوا: "الملائكة بنات الله. فسأل أبو بكر من أمهاتهن؟ فقالوا سروات الجن. يحسبون أنهم خلقوا مما خلق منه إبليس"2. وأنهم قالوا: "إن الله وإبليس أخوان"، وأن بين الله وبين الجنة نسبًا3. ولم يذكر علماء التفسير من قال هذا القول من كفار قريش. ولا كيف صارت الملائكة بناتًا لله، أو كيف اصطفى الله له البنات ولِمَ فضلهن على البنين؛ إذ لم يذكروا أن أهل الجاهلية نسبوا له ولدًا ذكرًا، ولم يذكروا هل اختار الله البنات اختيارًا من خلقه، أو من زواج؟ وقد رأيت أن رواية نسبت على قريش قولهم إن أمهات الملائكة سروات الجن، وذلك حين سألهم أبو بكر من أمهاتن4.
ولا نجد في نصوص المسند إشارة إلى زواج الآلهة، وإلى وجود بنات لها وما قلناه من وجود آلهة ذكور، وآلهة أناث هو استنباط من وجود علامة التذكير "ذ" وعلامة التأنيث "ذت" في أسماء الآلهة. أما موضوع زواج القمر بالشمس، وظهور ولد ذكر منه هو عثتر" فهو من استنباط علماء العربيات الجنوبية ومن آرائهم التي استخلصوها من دراستهم للنصوص. فليس في المسند أي شيء عنه. وليس في المسند، أي شيء عن دين العرب الجنوبيين، وعن أساطيرهم في الآلهة وفي الخلق، ولا عن صلواتهم وأدعيتهم وكل ما يتعلق بالدين من أمور.
وكل اسم ورد في المسند استهل بلفظة "ذت"، "ذات" فيراد به الشمس، وهي إلهة، وكل لفظة بدأت بـ"ذ"، "ذي" فإنها تعني إلهًا، هو القمر أو عثتر. فنحن أمام ثالوث سماوي، يمثل عقيدة الجاهليين في الألوهية، كما يمثل عقيدة الساميين عمومًا. والثالوث السماوي هو نواة الألوهية عند جميع الساميين، ومنه أنبثقت عقيدة التوحيد فيما بعد.
1 تفسير الطبري "23/ 67 وما بعدها"، روح المعاني "23/ 135".
2 تفسير الطبري "23/ 69".
3 المصدر نفسه.
4 تفسير الطبري "23/ 69".
وعثتر، هو "النجم الثاقب" المذكور في القرآن الكريم1. وقد ذهب المفسرون إلى أن العرب كانت تسمي الثريا النجم. وذكر بعض منهم أن النجم الثاقب هو زحل. والثاقب الذي قد ارتفع على النجوم2. وذكر بعض آخر أن النجم الثاقب هو الجدي3. وأقسم في موضع آخر من القرآن الكريم بـ"النجم"4. وقد ذهب المفسرون إلى أن النجم الثريا5، ونحن لا يهمنا هنا اختلاف علماء التفسير في تثبيت المراد من النجم، إنما يهمنا أن المراد به نجم من النجوم. فنكون أمام ثالوث معبود: هو الشمس والقمر والنجم الثاقب، الذي هو "عثتر" في نصوص العرب الجنوبيين.
وقد ذكر أن العرب تعبدت للشمس وللقمر، وأن طائفة منها، تعبدت لكواكب أخرى مثل الشعرى، حيث تعبدت لها خزاعة وقيس، ومثل "سهيل" حيث تعبدت لها طيء" و"عطارد" وقد تعبد له "بنو أسد" و"الأسد"، وقد تعبد له بعض قريش. و"الدبران" وقد تعبدت له "طسم" و"الزهرة"، وقد تعبد لها أكثر العرب. و"زحل"، وقد تعبد له بعض أهل مكة. حتى إن من الباحثين من زعم أن "الكعبة" كانت معبدًا لزحل في بادئ الأمر. وتعبد للمشترى قوم من لحم وجذام6.
ونجد في الكتابات العربية الجنوبية جملة: "ودم أبم"، أي "ود أب" و"أبم ودم"، أي "أب ود". كما نجد جملة:"ولد ود" و"أولد ود""أولد هو ود"، أي "أولاد ود" بمعنى "شعب معين" وتعبر الجمل الأولى عن معنى أن الإله "ود"، هو إله شفيق رحيم عطوف على الإنسان، هو بالنسبة له بمنزلة الأب من الابن فهو "أب" للإنسان لا بالمعنى الحقيقي بالطبع، أي بمعنى أن الإنسان انحدر من صلبه، بل بالمعنى المجازي الذي أشرت إليه. وبهذا المعنى نفسر جملة:"أولاد ود" تعبيرًا عن معنى "شعب
1 سورة الطارق، رقم 86، الآية 3.
2 تفسير الطبري "30/ 91".
3 تفسير القرطبي، الجامع "20/ 1".
4 سورة النجم، الرقم 53، الآية 1.
5 تفسير الطبري "27/ 24".
6 Johann Ernest Osiander. Studien uber die Varisilamische Religion der Araber. In ZDMG. 1853. S. 463-505، Grohmann، s. 81.
معين"، فالإله "ود" هو أب هذا الشعب يحميه ويدافع عنه ويعطف عليه. وبهذا المعنى وردت أيضًا جملة "ولد عم" عند القتبانيين و"ولد المقه" عند السبئيين. فـ"عم" الذي هو "القمر" في لغة القتبانيين، هو بمنزلة الأب لشعبه، وكذلك "المقه" الذي هو "القمر" في لهجة سبأ1.
وقد عبر عن الشمس بلفظة "هـ إلت"، أي "الإلهة" في النصوص العربية الشمالية2. وقيل لها "نكرح" في النصوص المعينية، و"ذت حمم" ذات حمم" "ذات حميم" في النصوص السبئية، كما قيل لها "ذت بعدن" و"ذت غضرن"، و"ذت برن"، و"ذت ظهرن"، في هذه النصوص كذلك. وقيل لها "ذت صنتم" و"ذت صهرن" و"ذت رحبن" في النصوص القتبانية3.
ومن الممكن التعرف على بعض هذا الأسماء التي أريد بها الشمس. فـ"ذت حمم"، بمعنى "ذات حمم"، و"ذات حميم". وقد وردت لفظة "حميم" و"يحموم" في القرآن الكريم4. والحميم الحار الشديد الحرارة، المتقد من شدة الحر الساخن الشديد السخونة5. وقد ذكر علماء التفسير أن "اليحموم"، دخان حميم، ودخان شديد السواد يخرج من نار جهنم6. فمعنى "ذت حمم" إذن، الإلهة ذات الحرارة الشديدة المتقدة المهلكة، التي تلفح وتحرق. والشمش، نفسها حارة، ملتهبة متقدة. لذلك يكون الناس قد أخذوا صفتها هذه منها. فأطلقوها عليها، وصاروا ينعتونها بها، ويخيفون الناس منها، بانتقامها منهم إن خالفوا أمرها وعملوا عملًا يثير غضبها عليهم.
ويقابل هذه الإلهة ذات الحميم، الإله "الـ حمون""حمون" و"بعل حمون" عند الساميين الشماليين. فهذا الإله الذكر عند الساميين الشماليين، بسبب أن لفظة "الشمس" نفسها مذكرة عندهم، هو ذو حميم وحما. أي ذو سخونة وحماوة وشدة حرارة7. وقد نعت عندهم بالنعت الذي نعت به عند العرب.
1 Handbuch، I، S. 217، D. Nielse. Der Sabalsche Gott Ilmaukag، S. 61.
2 Handbuch، I، S. 224.
3 Handbuch، I، S. 224، 260.
4 الواقعة، الرقم 56، الآية 43.
5 تاج العروس "7/ 259 وما بعدها"، "حمم".
6 تفسير الطبري "27/ 110 وما بعدها".
7 Handbuch، I، S. 225.
الجنوبيين. فهو إله ذو حرارة مفزعة، وحميم لا يوصف. وقد استمد هذا الوصف من الطبيعة بالطبع. فالشمس مبعث الحرارة على هذه الأرض، يدرك الإنسان حرارتها في كل مكان فهي إذن "ذت حمم" حقًّا.
وعرفت الشمس بـ"أثرت" في كتابات قتبانية، ومعناها:"اللامعة"، أو الشديدة اللمعان بعبارة أصح والمتوهجة. فهي في معنى "ذت حمم". وعرفت أيضًا بـ"ذت أثر"، "ذات أثر"، وبـ"ربت أثر"، "ربة أثر"1. ونجد في النصوص النبطية الإلهة الشمس وقد عرفت بـ"ربت الأثر" بمعنى ربة التوهج، مما يدل على أن "أثرت"، و"ذت أثر"، و"ربت أثر"، في القتبانية هذه الإلهة الشمس2.
وقد يعبر عن "الشمس" بـ"الفرس". والفرس من الحيوانات التي قدسها قدماء الساميين. وقد كان العرب الجنوبيون يتقدمون بتماثيل الخيل؛ تقربًا إلى الآلهة. ومنها الإلهة "ذت بعدن" ذات البعد"، أي البعيدة، وهي الشمس3.
وأما "عثتر"، الذي هو "الزهرة"، فيرد اسمه في نصوص عربية جنوبية كثيرة. ولاسمه هذا صلة بأسماء بعض الجاهليين الواردة إلينا، مثل:"أوس عثت" بمعنى "عطية عثتر" و"لحيعثت""لحى عثت"4.
وفي الكتابات العربية الجنوبية أسماء يظن أنها تخص الإله "عثتر". منها: "ذ قبضم"، و"ذ يهرق"، و"ذ جفت"، و"ذ جرب"، و"جرب"، و"متب نطين"، و"متب قبت"، و"متب مضجب"، و"يهر"، و"بر" وغيرها5.
وقد عرف "عثتر" بـ"الشارق" في الكتابات، فورد "عثتر شرقن" أي "عثتر الشارق" وعرف بـ"شرقن" فقط. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن المراد من "شرقن" بمعنى الطالع من الشرق، أو "عثتر المشرق". وهو تفسير رده بعض آخر من الباحثين؛ إذ رأوا أن "شرقن"، بمعنى
1 Handbuch I، S. 226.
2 Handbuch I، S. 226
3 Handbuch I، S. 227.
4 Handbuch I، S. 228
5 Handbuch I، S. 228.
"الشارق" وهي لفظة ترد في اللهجات العربية الشمالية1. وقد سبق لي أن بينت رأي المفسرين في "النجم الثاقب" المذكور في القرآن الكريم، وقلت باحتمال المراد به هذا الكوكب، وإن ذهبوا إلى أنه الثريا أو زحل أو الجدي. و"الشارق" صنم من أصنام الجاهليين تسمى به عدد من أهل الجاهلية، سموا بـ"عبد الشارق"2 قد يكون رمزًا لهذا الإله.
وورد في بعض كتابات المسند: "ذ غريم"، و"عثتر ذ غريم" أي "الغارب" و"عثتر الغارب" ومعنى ذلك "نجمة الغروب"، أو "نجمة المساء"، و"كوكب المساء"، في مقابل "نجمة الصباح" و"كوكب الصباح"3.
وورد "عثتر نورو"، و"نورو"، أي "عثتر نور"، "نور"4. ونور صفة من صفات الله في الإسلام. {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} . ولفظة "نورو" هي نعت من نعوت "عثتر" وورد "سحرن" بمعنى السحر. والسحر، قبيل الصبح وآخر الليل، فيراد بذلك "كوكب السحر"، أي الكوكب الذي يطلع عند طلوع السحر. كما ورد "متب نطين"، أي "الحامل للرطوبة"، وورد "عثتر قهحم"، أي "عثتر القدير" و"عثتر القادر" و"القاهر" و"سمعم"، أي "السميع"، و"نوبم" و"نبعن"5. و"يغل" "يغلن" بمعنى المدمر، والمنتقم. وقد ورد هذا النعت في أحجار القبور بصورة خاصة. وذلك لتذكير من يحاول تغيير الحجر أو أخذه من موضعه أو تدميره أو إلحاق أذى به، أو الاستفادة منه في أغراض أخرى، بأنه في حماية إله قدير منتقم6.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن الإله "رضى""رضو" الذي يرد في النصوص الثمودية والصفوية، هو الإله "عثتر" وهو صنم ذكره أهل الأخبار، لكنهم لم يذكروا شيئًا عن صلته بالكواكب ولا عن المعبود الذي يمثله7.
1 Handbuch، I، S. 228، Fell، in ZDMG، 54، 1900، S. 231-259.
2 تاج العروس "6/ 393"، "شرق".
3 Arabien، S. 245.
4 سورة النور، الآية 35، تفسير الطبري "18/ 104"، "18/ 144".
5 Rep. Epigr. 4194.
6 Arabien، S. 245.
7 Handbuch، I، S. 229.
وقد ورد في الأخبار المتعلقة بـ"الرها" أن أهل هذه المدينة، كانوا يعبدون الشمس ويعتقدون بوجود إله يطلع قبلها اسمه "أزيزوس" Azizos، وإله يظهر بعدها، يسمى "مونيموس" Monimos. وذهب الباحثون إلى أن "أزيزوس"، هو "عزيز" وهو نجم الصباح. ويطلع قبل طلوع الشمس. ويمثل "رضى""رضو"، و"عثتر". ويرد اسم "رضى" في الكتابات التدمرية كذلك1. و"عزيز" "العزيز" من صفات الله في الإسلام.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن الصنم المنحوت على شكل طفل هو رمز لـ"عثتر"، أي "رضى""رضو"، و"عزيز" وقد حفر على شكل طفل عاري الجسم في الكتابات التدمرية. أما الشمس والقمر، فقد مثلا إنسانين كاملين. ونجد هذا التصور للآلهة في الديانات الفطرية، التي استمدت إدراكها لِكُنه الآلهة عن مظاهر الطبيعة2.
ولعل تصور الجاهليين الإله "رضو" على هيئة طفل، هو الذي يحل لنا المشكلة الواردة في أخبار "نيلوس" Nilus" عن تقديم العرب Saracens قرابين أطفالًا لكوكب الصباح. ذكر "نيلوس" أن العرب سرقوا ابنه الجميل الصغير "ثيودولس" Theodulus، وقرروا تقديمه قربانًا لكوكب الصباح. وقد قضى الطفل ليلة تعسة صعبة، فلما طلع الكوكب، وحان وقت تقريب الطفل قربانًا له، نام مختطفوه، ولم يستيقظوا إلا وقد طلعت الشمس، وفات وقت القربان، وبذلك نجا الطفل من الهلاك3. وقد تفسر جملة "إننا نقدم لك قربًا يشبهك" الواردة في دعاء عثر على نصه في "حران" قصة تقديم الأطفال الجميلة قرابين إلى هذا الإله4.
وقد أشار كتاب يونان إلى تعبد العرب إلى الشمس والقمر وكوكب الصباح، وهي أجرام سماوية تراها العين. ذاكرين أن العرب لا يتعبدون لآلهة روحية لا يبصرونها بأعينهم. ولهذا تعبدوا لهذه الأجرام المادية وللأحجار5.
1 Handbuch، I، S. 229.
2 Handbuch، I، S. 231.
3 Handbuch، I، S. 203، Nili Opera، Tomus، 79، 1865، in Migne، Patrologia، Series Graeaca.
4 Handbuch، I، S. 231.
5 المصدر نفسه.
وأما "مونيموس" Monimos، فإنه "منعم". و"منعم" من صفات الله في الإسلام. فالله هو "المنعم" المتفضل على عباده العزيز المقتدر.
وذهب بعض الباحثين إلى أن الصنم "ذو الخلصة" المذكور في كتب أهل الأخبار، والذي كان له بيت يدعى:"الكعبة اليمانية" ويقال له: "الكعبة الشامية" أيضًا، والذي هدم في الإسلام، هو تعبير آخر عن الصنم "عثتر"، أي الإله المكون مع القمر والشمس للثالوث1.
ويظن أن "ملك" اسم آخر من أسماء "عثتر" وقد تسمى به رجل عرف بـ"عبد ملك" كما ورد اسم "عبد ملكا" في النصوص النبطية والإرمية، بمعنى "عبد الملك"2. ويرد اسم "ملك أل" "ملك إيل" كثيرًا في الكتابات الثمودية. كما ورد في كتابة من الكتابات القتبانية "مختن ملكن"3. وقد ظن أن لفظة "ملك" تعني ملكًا، أي رئيس حكومة ملكية، فترجمت جملة "مختن ملكن" بـ"مختن الملك" أي ملك قتبان. غير أن هذه الترجمة وإن كانت ترجمة مقبولة. إلا أنها غير دقيقة. ولو ترجمت لفظة "ملكن" بمعنى "الملك" على أنه اسم إله لكانت الترجمة أدق وأصح فنحن نجد النص القتباني الذي وردت فيه جملة" مختن ملكن" يقول: "بنى الملك ورم مبعد ود وأثرن ومختن ملكن"، أي "بنى الملك ورم معبد ود وأثرت ومختن الملك"، ولو ترجمناها على هذه الصورة:"بنى الملك ورم معبد ود وأثرت ومعبد الإله الملك"، كانت الترجمة أنسب وأقبل. ويجب أن نتذكر أن الله هو: الملك، في الإسلام، وأن "عبد الملك" وهو من أسماء المسلمين كذلك يعني: عبد الله. وإن "الملكوت" من الملك مختصة بملك الله. ورد في القرآن: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 4.
ومن الممكن فهم الصلة بين لفظة "ملك" التي تعني إله، وبين لفظة "ملك" المالك على الأرض، أي الملك الدنيوي. فالإله مالك، والملك مالك أيضًا، مالك شعبه. ومن هنا فلا غرابة إذا ما رأينا عقيدة تقديس الملوك عند الشعوب.
1 Handbuch، I، S. 232.
2.
Handbuch، I، S. 232
3 HOMMEL، AUFS، 206.
4 تاج العروس "7/ 181"، "مالك".