المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الفصل الثالث والسبعون: بيوت العبادة ‌ ‌مدخل … الفصل الثالث والسبعون: بيوت العبادة والمعبد هو - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١١

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الحادي عشر

- ‌الفصل الحادي والستون: أديان العرب

- ‌الفصل الثاني والستون: التوحيد والشرك

- ‌مدخل

- ‌ظهور الشرك:

- ‌عبادة الكواكب:

- ‌الشفاعة:

- ‌الأصنام:

- ‌عبادة الأصنام:

- ‌الأصنام:

- ‌الوثن:

- ‌الصلم:

- ‌هيأة الأصنام:

- ‌عبادة الأصنام:

- ‌الحلف بالأصنام والطواغيت:

- ‌الفصل الثالث والستون: أنبياء جاهليون

- ‌الفصل الرابع والستون: الله ومصير الإنسان

- ‌مدخل

- ‌الله الخالق:

- ‌الاعتقاد بإله واحد:

- ‌الجبر والاختيار:

- ‌الموت:

- ‌البعث:

- ‌البلية والحشر:

- ‌الفصل الخامس والستون: الروح والنفس والقول بالدهر

- ‌مدخل

- ‌الرجعة:

- ‌الزندقة:

- ‌القضاء والقدر:

- ‌القدرية:

- ‌الحظ:

- ‌الطبع والطبيعة:

- ‌الفصل السادس والستون: الألهة والتقرب إليها

- ‌مدخل

- ‌الآلهة:

- ‌صفات الآلهة:

- ‌الثواب والعقاب:

- ‌التطاول على الأرباب:

- ‌الفصل السابع والستون: التقرب إلى الآلهة

- ‌مدخل

- ‌القرابين:

- ‌الترجيب:

- ‌البحيرة والسائبة والوصيلة والحام:

- ‌حمى الآلهة:

- ‌الفصل الثامن والستون: رجال الدين

- ‌مدخل

- ‌التبرك برجال الدين:

- ‌تنفيذ الأحكام:

- ‌كسور رجال الدين

- ‌الفصل التاسع والستون: الأصنام

- ‌مدخل

- ‌اللات:

- ‌العزى:

- ‌مناة:

- ‌هبل:

- ‌أصنام قوم نوح:

- ‌ود:

- ‌سواع:

- ‌يغوث:

- ‌يعوق:

- ‌نسر:

- ‌عميأنس:

- ‌إساف ونائلة:

- ‌رضى:

- ‌مناف:

- ‌ذو الخلصة:

- ‌سعد:

- ‌ذو الكفين:

- ‌ذو الشرى:

- ‌الأقيصر:

- ‌نهم:

- ‌عائم:

- ‌سعير:

- ‌الفلس:

- ‌أصنام أخرى:

- ‌المحرق:

- ‌الشمس:

- ‌الفصل السبعون: أصنام الكتابات

- ‌مدخل

- ‌الآلهة التي ورد ذكرها في النصوص:

- ‌الفصل الحادي والسبعون: شعائر الدين

- ‌مدخل

- ‌الصوم:

- ‌التحنث:

- ‌الاختتان:

- ‌الحلال والحرام:

- ‌الفصل الثاني والسبعون: الحج والعمرة

- ‌مدخل

- ‌الحمس والطلس والحلة:

- ‌التلبية:

- ‌التجارة في الحج:

- ‌العمرة:

- ‌الأعياد:

- ‌الفصل الثالث والسبعون: بيوت العبادة

- ‌مدخل

- ‌الاستفسار عن المغيبات:

- ‌تكليم الأصنام:

- ‌أشكال المعابد:

- ‌السقاية:

- ‌المذابح:

- ‌المحارق:

- ‌البخور والمباخر:

- ‌سدنة الآلهة:

- ‌فهرس الجزء الحادي عشر:

الفصل: ‌ ‌الفصل الثالث والسبعون: بيوت العبادة ‌ ‌مدخل … الفصل الثالث والسبعون: بيوت العبادة والمعبد هو

‌الفصل الثالث والسبعون: بيوت العبادة

‌مدخل

الفصل الثالث والسبعون: بيوت العبادة

والمعبد هو الموضع المخصص للعبادة. وقد وردت في النصوص الجاهلية وفي عربية القرآن الكريم ألفاظ تؤدي هذا المعنى، فقد كان الجاهليون قد اتخذوا معابد ثابتة ومعابد منتقلة مثل بيوت الوبر، تعبدوا بها إلى معبوداتهم قبل الإسلام وقبل الميلاد.

فقد كانت القبائل في حركة دائمة؛ بحثًا عن الغزو والكلإ والماء. وكانت آلهتها في حركة دائمة أيضًا، ترحل مع المتعبدين لها، وتستقر عند استقرارهم بمكان ما. وعند نزول القبيلة في موضع ما توضع الأصنام في قبتها. وهي خيمة تقوم مقام المعبد الثابت عند أهل المدر، وتكون للخيمة بسبب ذلك قدسية خاصة، وللموضع الذي تثبت عليه حرمة ما دامت الخيمة فوقه، وقد كانت معابد القبائل المتنقلة كلها في الأصل على هذا الطراز1. ولم يكن من السهل على أهل الوبر تغيير طراز هذا المعبد، واتخاذ معبد ثابت؛ لخروج ذلك على سنن الآباء والأجداد. ولذلك لم يرض العبرانيون عن المعبد الثابت الذي أقامه سليمان، لما فيه من نبذ للخيمة المقدسة التي كانت المعبد القديم لهم وهم في حالة تنقل من مكان إلى مكان ثم إن أهل الوبر قوم رحل، ولا يمكن لمن هذا حاله اتخاذ معبد ثابت له، لما كان عليه من وجوب نقل أصنامه معه حيث يذهب.

1 Die Araber، III، s. 132.

ص: 398

ولبيوت الأصنام سدنة، يحفظون الأصنام بها ويرعونها، وينقلونها معهم حيث ترحل القبيلة، فإذا نزلت نزلوا بها، ليقيموا لها الواجبات الدينية المفروضة في الخيمة المقدسة. حيث فرضت طبيعة البداوة على أصحابها هذا النوع من أنواع البيوت المقدسة، وهذه الطقوس الدينية التي تلائم حياة الأعراب.

وبيوت العبادة عند الجاهليين ثلاثة أنواع: بيوت عبادة خاصة بالمشركين عبدة الأصنام، وهم الكثرة الغالبة، وبيوت عبادة خاصة باليهود، وبيوت عبادة خاصة بالنصارى. أما بيوت عبادة المجوس، فقد عرفت في العربية الشرقية وفي العربية الجنوبية، ولكن عبادها هم من المجوس، أي العجم، فالمجوسية لم تنتشر بين العرب، ولم تدخل بينهم إلا بين عدد قليل من الناس.

وما ذكرته عن بيوت العبادة، خاص بالمعابد العامة، وهناك مواضع عبادة خاصة، جعلت في البيوت، وضع أصحابها أصنامهم في ركن من أركانها، وتقربوا إليها. روي أن العباس، كان قد أقام الصنمين إسافًا ونائلة في ركن داره، وكانا حجرين عظيمين1. واحتفظ غيرة بأصنام في بيوتهم للتبرك بها، ولحماية البيت، وكانوا إذا سافروا حملوا أصنامهم الصغيرة معهم للاحتماء بها، وأخذ بعض شباب المدينة ما وجده من أصنام في البيوت، تعبَّد لها آباؤهم فحطمها، ومنهم من رماها في مواضع العذرة والقاذورات.

وقد استطعنا اليوم بفضل جهود السياح والمنقبين والباحثين من الحصول على بعض المعلومات عن معابد جاهلية كانت عامرة يومًا ما. وذلك بعثور المذكورين على ألواح مكتوبة وجدت في خرائب تلك المعابد. ولكن ما عثر عليه، لا صلة له بالدين في الغالب. فليس فيه أدعية أو صلوات أو كتابات تفصح عن عقائد القوم وعن أمور دينهم. ولهذا فإن علمنا بديانات الجاهليين لا يزال ضحلًا، لم يتقدم تقدمًا مرضيًا، وأملنا الوحيد في زيادته هو في المستقبل، فلعله يخرج من صناديق سره المكتومة ما يفصح عن عقائد القوم.

وقد اتخذ بعض العرب، وهم المتمكنون، بيوتًا وكعبات لعبادة أصنامهم، وضعوا أصنامهم في أجوافها، ومنهم من اتخذ صنمًا، فلم بين عليه بناءً؛ لعدم استطاعته ذلك. ومن لم يقدر عليه، ولا على بناء بيت نصب حجرًا أمام

1 الأزرقي "1/ 112"، "2/ 188".

ص: 399

الحرم، وأمام غيره، مما استحسن، ثم طاف به كطوافه بالبيت، وسموها الأنصاب1.

وذكر أن "وكيع بن سلمة بن زهير الإيادي"، كان قد اتخذ له صرحًا بالحزورة، سوق كانت بمكة، يرتقيه بسلالم يتعبد فيه، فعرف بصاحب الصرح2.

والبيت، مأوى الإنسان ومسكنه في الأصل، ثم تجوز الناس فأطلقوا اللفظة على المعبد، باعتبار أنه بيت الآلهة أو الإله؛ لاعتقادهم أن الآلهة تحل به3.

وقد كانوا يضعون الصنم أو الأصنام فيه. ويقال للبيت عندئذ "بيت الله" أو "بيت ريام" وهو بيت يذكر "ابن الكلبي" أنه كان لحمير بصنعاء، وأن الناس كانوا يعظمونه ويتقربون عنده بالذبائح4، أو "بيت الربة" وما شاكل ذلك، بحسب اختصاص البيت بالصنم.

كذلك أطلقت كلمة "بيت" بمعنى معبد في نصوص المسند، فورد،:"وقدسو بيت مرب"، أي "وقدسوا بيت مأرب" أو "وبيت مأرب المقدس"5.

فلفظة بيت هي اللفظة التي استعملت لمواضع العبادة، أي المعبد، أطلقت قبل اسم الإله أو الموضع لتدل على التخصيص، وهي ترد في لغات سامية أخرى في هذا المعنى نفسه.

وأما "الكعبة" فالبيت المربع، وكل بيت مربع كعبة عند العرب. وقد خصصت في الإسلام بالبيت الحرام بمكة. والكعبة الغرفة أيضًا. وقد كان لربيعة بيت يطوفون به، يسمونه الكعبات، وقيل: ذو الكعبات، وقد ذكره الأسود بن يعفر في شعره، فقال:

والبيت ذي الكعبات من سنداد6

والمسجد كل موضع يتعبد فيه7. وقد استعملها الجاهليون بهذا المعنى أيضًا.

1 الأصنام "21""روزا".

2 تاج العروس "2/ 139"، "صرح".

3 المفردات "64".

4 الأصنام "7""روزا".

5 CIH 541، Le Museon، 1934، LXVII، p. 103.

6 اللسان "1/ 718"، المفردات "446".

7 اللسان "3/ 204 وما بعدها"، تاج العروس "2/ 371"، "سجد".

ص: 400

وقد وردت اللفظة في نصوص بني إرم وفي النصوص النبطية والصفوية. ورد على هذه الصورة "مسجدا" في نصوص بني إرم. وورد على هذه الصورة في النصوص الصفوية أيضًا، وقد عنت به معبدًا1.

وقد عبر عن المعبد بلفظة "مكربن"، أي "المكرب" أو "المكراب" في بعض نصوص المسند؛ إذ ورد "مكربن يعق"، بمعنى "معبد يعوق"2. ومن هذا الأصل أخذت كلمة "مكراب" في الحبشية، ومعناها "معبد"3. ولهذا ذهب "كلاسر" وغيره إلى أنه "مكربة" Mocoraba المدينة المذكورة في "جغرافيا""بطلميوس" هي "مكة"؛ لأنها "مقربة" إلى الأصنام، فهي بمعنى "البيت" و"الكعبة" في لهجتنا4.

وتقابل كلمة المعبد كلمة Templum اللاتينية التي تعني موضعًا مربعًا، فهي بمعنى "الكعبة"، و"كعبة" في اللغة العربية. ويلاحظ توافق تام بين معنى الكلمتين في هاتين اللغتين5. ولا بد أن يكون لاتخاذ هذا الشكل للمعبد سبب؛ إذ لا يعقل أن يكون قد جاء ذلك عفوًا، ولا سيما أننا نلاحظ أن الكلمتين: اللاتينية والعربية، قد جاءتا من شكل البناء ونوعه وطرازه.

وذكر علماء اللغة أن في جملة الألفاظ التي تطلق على بيوت الأصنام والعبادة والتصاوير، لفظة "البد". وهي تؤدي معنى "صنم" كذلك. وذكروا أنها من الألفاظ المعربة عن الفارسية، عربت من "بت"6، وأنها تعني البيت إذا كان فيه أصنام وتصاوير7.

وذكروا أن في جملة الألفاظ التي أطلقت على بيوت الأصنام لفطة "الطاغوت" والجمع "الطواغيت". ورد أن العرب "كانت قد اتخذت مع الكعبة طواغيت وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب، وتهدي إليها، كما

1 العرب في سورية قبل الإسلام "119".

Shorter Ency، of Islam ، p. 330. Cooke، North، Semitic Inscriptions، p. 238.

2 Le Museon، 1954، LXVII، p. 100

3 Ency، II، p. 586.

4 Glaser skinzze، II، S. 235.

5 Ency، Religi، Vol، 12، p. 236.

6 تاج العروس "2/ 295"، "بدد".

7 شمس العلوم "جـ1، ق1، ص119"، غرائب اللغة "218".

ص: 401

تهدي إلى الكعبة، وتطوف بها كطوافها بها، وتنحر، عندها، وهي تعرف فضل الكعبة عليها؛ لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم الخليل ومسجده"1. وورد أن "الطاغوت" الصنم، وكل معبود من دون الله، ولما تقدم سُمي الساحر والكاهن والمارد من الجن والصارف عن طريق الخير طاغوتًا"2. واللفظة تعني في لغة "بني إرم": رئيس عقيدة ضلال، وشيطان وصنم3.

و"الهيكل" من الألفاظ الدالة على موضع العبادة، استعملت لبيوت الأصنام مجازًا، ولمعابد النصارى4. والظاهر أن استعمالها كان عند العرب الشماليين في الغالب. مثل عرب العراق وعرب بلاد الشأم، ولا سيما عند النصارى منهم. أخذوها من الآراميين، إذ هي بمعنى بيت الصنم، أي معبد الوثنيين عندهم5. وقد وردت في لغة المسند كذلك، وردت بمعنى قصر "6"، ومعبد في أيام دخول النصرانية على اليمن.

وقد أطلق "الديدانيون" على بيت "بعل سمن"، لفظة:"أحرم" بمعنى "الحرم" تعظيمًا وتمجيدًا له. فهو ذلك الإله7. وترد لفظة "محرم" -التي لا زالت حية معروفة يطلقها أهل اليمن على محرم "بلقيس"- في لغة المسند، بمعنى المعبد، والمسجد الحرام. وقد وردت في عدد من النصوص8.

وبيوت العبادة أنواع. بيوت عبادة كبيرة، يحج إليها في أوقات معينة، ومواسم محددة، من مواضع قريبة أو بعيدة، هي محجات يحج إليها في وقت معين ثابت، يتقرب بها المتعبدون إلى رب المحجة أو أربابها بأداء واجب الخضوع والطاعة. وتكون محجة واحدة في الغالب، اختارها الإله أو الآلهة من بين سائر أماكن الأرض لتكون موضعًا مقدسًا وحرمًا آمنًا، فهي أقدس بقعة وأعز مكان في نظر المتعبدين لها على وجه هذه الدنيا. فلا تدانيها المعابد الأخرى ولا تبلغ منزلتها في الحرمة والمكانة.

1 ابن هشام "1/ 86 وما بعدها"، هامش على الروض الأنف "1/ 64".

2 المفردات، للأصفهاني "307"، الأصنام "6"، تاج العروس "10/ 225"، "طغا".

3 غرائب اللغة "194"، Hughes، Dictionary، of Islam، p. 625.

4 تاج العروس "8/ 170"، "هيكل".

5 غرائب اللغة "209".

6 Jamme، South، Arab، Inscriptions، p. 433.

7 Histoire، IV، P. 312، Preislamiques، p. 20

8 Jamme، South، Arabi، Inscriptions، p. 440.

ص: 402

وهناك بيوت عبادة أخرى تكون دون المحجات في الأهمية والدرجة؛ لأن الآلهة لم تخترها لنفسها ولم تنص على اسمها، وإنما هي دور عبادة أقامها الناس تقربًا إلى تلك الآلهة. وهي متفاوتة في الدرجة أيضًا، فيها المعابد الكبيرة التي صرف على إقامتها مال كثير، وفيها معابد بسيطة، يقيمها الناس تقربًا إلى أربابهم.

والناس في ذلك العهد، كالناس في أيامنا هذه، لا يكتفون بتشييد معبد واحد في المدينة، بل نجدهم يقيمون جملة بيوت للعبادة، وقد خصص بعضها بعبادة جملة آلهة، وخصص بعضها بعبادة إله واحد معين، يذكر اسمه على باب المعبد. وقد تبنى في الموضع الواحد جملة معابد لإله واحد؛ لأن المعابد من الأعمال الخيرية التي يقوم بها المؤمنون تقربًا إلى الآلهة، لذلك يصادف قيام جملة أسر ببناء معابد لذلك الإله، تسميها باسمه وتنقش اسم الأسرة أو المتبرع بالبناء على موضع بارز من المعبد. وبفضل هذه الطريقة القديمة، التي لا تزال البشرية تتبعها، تمكنا من الحصول على معلومات عن تلك المعابد وعن الآلهة التي خصصت لها وعن أسماء المؤمنين الذين أقاموها.

وقد اتخذ الإنسان من الكهوف بيوتًا للعبادة، كما اتخذ من الجبال والمواضع المرتفعة أمكان بنى عليها معابده؛ ليكون في رأيه ونظره أقرب إلى السماء، حيث تقيم الآلهة، فتسمع دعاءه، وتصل إليها كلمته، وتستجيب له أكثر من استجابتها له لو كان على سطح الأرض. وبنى الحضري معبده في المواطن التي يقيم فيها، وحاول جهده الإنفاق عليها، والتفنن في بنائها وزحرفتها؛ لتكون بيوتًا تليق بسكنى الأرباب. أما البدو، فكانت معابدهم في الخيام، تحفظ فيها أصنامها، فتنتقل معها، وتضرب في الموضع الذي تحل القبيلة فيه، ينظرون إليها نظرة تقديس وإجلال؛ لأنها حرم الآلهة وأماكنها وبيوتها المقدسة، فلا يجوز تدنيسها ولا انتهاك حرمتها. لهذا لم يكن يسمح لأحد بالدخول إليها إلا إذا كان من رجال الدين.

ولهذه الخيام المقدسة سدنة، يضعون الصنم أو الأصنام في جوفها، ويسهرون على خدمتها، وينقلونها معهم حيث تنتقل القبيلة. وهم يتوارثون خدمتها. وإذا استقرت القبيلة وتحضرت، تحضر معبد صنمها بتحضرها كذلك. ووجد الصنم

ص: 403

عندئذ له مستقرًّا دائمًا ومقامًا ثابتًا، ويصير عندئذ في عداد الأصنام الثابتة. ويكون للصنم عندئذ معبد تتناسب قيمته وأهميته ودرجة عمرانه مع مكانة القبيلة وعدد رجالها وغناها وما عندها من مال.

وللعين أهمية كبيرة في تقييم المعبد وفي نشر العبادة وفي تكوين شخصية الإله رب المعبد فيما بين الناس فكما أن قيمة الإنسان بملبسه وبأناقته وبحسن مظهره، كذلك تكون قيمة المعبد بضخامته وبما يزين به من نقوش وزخارف وبما يعلق على الموضع المقدس منه من ذهب وفضة وأحجار كريمة فالمعبد الضخم، يدل على قوة الإله وقدرته في نظر من ينظر بعينه لا بعقله إلى قيم الأمور، أي في نظر السواد، وهم الكثرة الغالبة، ولذلك يجلبهم إليه، وتلقى ضخامته في نفوسهم تأثيرًا كبيرًا يجعلهم يشعرون أنهم أمام بيت إله حقًّا، لما فيه من روعة ولما تفوح في داخله من روائح البخور والطيب، لذا حرص رجال الدين على جعل معابدهم ضخمة فخمة؛ لتجلب لها أكبر عدد ممكن من المتعبدين.

ومن أشهر المواضع المرتفعة التي حج إليها المتعبدون للتبتل والتعبد، والتي ورد ذكرها في قصص أهل الأخبار: حراء، وأبو قبيس، وثبير.

أما "حراء" فقد ورد في بيت منسوب إلى شاعر جاهلي:

فإني والذي حجت قريش

محارمه، وما جمعت حراء1

وجعل أحد الأجبل الخمسة التي بُني من حجارتها البيت2. وإليه كان يلجأ كبار قريش لدعوة آلهتهم في الملمات، وإليه أيضًا كان يأتي بعض المتحنثين النساك الزاهدين في عبادة الأوثان للتفكير والتأمل. وفيه غار تحنث فيه النبي، ويعرف بـ"جبل النور"3. وورد أن أبا طالب أرسل عقيلًا ليأتي بالرسول إليه، فذهب إلى "كبس"، وأخرجه منه. والكبس الغار4. ويظهر أنه أراد به غار حراء.

1 البكري "2/ 432"، "حراء" هو "عوف بن الأعوص"، العامري، شرح ديزان لبيد "21".

2 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 26"، "ما ذكر من بناء إبراهيم عليه السلام الكعبة".

3 تاج العروس "10/ 87"، "حرو".

4 تاج العروس "4/ 239"، "كبس".

ص: 404

وأما "أبو قبيس"، فيظهر من غربلة أخبار الأخباريين أنه كان من المواضع المقدسة الداخلة في شعائر الحج، يرتقي الحجاج ظهره؛ ليتموا بذلك مناسك حجهم، وليدعوا آلهتهم بما يطلبون ويرغبون. وكان مقصودًا عند نزول الشدة والبلاء. فالمظلوم يجد محله فوق هذا الجبل للدعاء عند انحباس المطر، لنزول الغيث1.

وقد زعم بعض أهل الأخبار، أنه سمي "أبا قبيس" برجل من مذحج حداد؛ لأنه أول من بنى فيه، أو بقبيس بن شالخ، رجل من جرهم، كان قد وشى بين عمرو بن مضاض وبين ابنة عمه "مية"، فنذرت أن لا تكلمه، وكان شديد الكلف بها فحلف ليقتلن قبيسًا، فهرب منه في الجبل المعروف به وانقطع خبره. فإما مات وإما تردى منه، فسمي الجبل أبا قبيس. "وله خبر طويل ذكره ابن هشام في غير هذا الكتاب، وكان أبو قبيس الجبل هذا يسمى الأمين؛ لأن الركن، أي الحجر الأسود، كان مستودعًا فيه"2. "وكان الله عز وجل استودع للركن أبا قبيس حين غرق الله الأرض زمن نوح"، فلما أقام "إبراهيم" قواعد البيت، "جاءه جبريل بالحجر الأسود"3. والظاهر أن بيتًا للعبادة كان عليه، وأنه كانت له صلة بالبيت، فتجسمت هذه الصلة في الذي ذكروه عن الحجر الأسود ووجوده فيه.

وأما "ثبير"، فقد كانوا يفيضون منه في الحج على نحو يذكر في شعائر الحج.

ويلاحظ أن أهل العربية الجنوبية وأهل السراة قدسوا قمم الجبل، فجعلوا فيها معابد لعبادة الآلهة، مثل معبد "أوم""أوام" في "ألو". وقد أزيلت معالم تلك المعابد في الإسلام، ولكن بعضها أخذ طابعًا إسلاميًّا فصير مثلًا قبًرا من قبور الأنبياء مثل:"حضور نبي شعيب"، الذي يقع على قمة جبل تعد من أعلا قمم جبال العربية الجنوبية، و"نبي أيوب" و"مقلى" على محر "مبلقة"4.

1 المشرق: السنة التاسعة والثلاثون، تموز- أيلول 1941، "ص252 وما بعدها".

2 تاج العروس "4/ 212"، "قبس".

3 الأزرقي "1/ 27"، "ما ذكر من بناء إبراهيم عليه السلام الكعبة".

4 تاج العروس "3/ 148"، "حضر"، Beitrage، S. 85، Ency، II، p. 222

ص: 405

وترجع قدسية المواضع المقدسة وحرمتها إلى الاعتقاد بنزول الآلهة في هذه المواضع، وإلى وجود قوى خارقة فيها، أو إلى وجود مقدسين فيها قبروا في باطنها، فقدست تلك المواضع لهذه الأسباب. وتعرف هذه المواضع المقدسة بأسماء من تقدست بهم، وبأسماء المواضع التي تقع فيها.

وإنا لنرى كثيرًا من الأماكن المقدسة قد أقيمت في جزيرة العرب عند الينابيع والآبار المقدسة حيث تروى الأرض بالماء فتنمو به المزروعات ويستقي منها الناس. وقد صوَّر هذا الخصب لسكان تلك المناطق وجود قوى خارقة كامنة في تلك الأرضين كانت السبب في نظرهم في بعث الحياة للإنسان ولهذه الأرض1.

وقدست بعض المواضع وأقيمت المعابد بها؛ بسبب وجود أشجار مقدسة بها، ونجد في أخبار أهل الأخبار أن بعض المعابد مثل معبد العزى، كان المتعبدون يتقربون بها إلى سمرات، أي شجرات ثلاثة، أو إلى شجرة واحدة، فكانوا يعلقون عليها الحلى ويزينونها، ومثل معبد "ذات أنواط"، وهي شجرة كانت تعبد في الجاهلية، وهي سمرة كان المتعبدون لها ينوطون بها سلاحهم ويعكفون حولها2.

وقدست مواضع أخرى لوجود أحجار مقدسة بها، كانوا يطوفون حولها، من هذه المواضع:"عكاظ" فكان الناس يأتون الموضع في الموسم، فينصبون فيه خيامهم، ويقيمون سوقهم، ويطوفون بأحجار عكاظ، يقيمون على ذلك أيام الموسم. فهي أيام عبادة وتجارة وفرح.

ولهذه القدسية والحرمة، لم يسمح للسواد الأعظم من الناس بدخول الغرف المقدسة المخصصة بالآلهة؛ لأنها بيوت الآلهة، وعوض لهم عن هذا التحريم بالطواف حولها أو بلمس جدرانها، وللسبب نفسه، حتم على القاصدين لها غسل أجسامهم وتنظيفها ولبس ملابس طاهرة نظيفة، كان سدنة بعض تلك المعابد، أو أهل المواضع التي تقع فيها المعابد يؤجرونها للناس بأجر معين مرسوم، إن كانت تلك المعابد من المعابد الكبيرة وفي مواسم الحج. كذلك لم يكن يسمح لأحد بالدخول إلى المعابد والأحذية في أرجلهم فلا بد من خلعها والدخول بغير أحذية.

1 Ency، Religi، 6، p. 753. Robertson، p. 115.

2 تاج العروس "5/ 236"، "نوط".

ص: 406

احترامًا لقدسية المكان وخشية التدنيس1. وقد حتم الجاهليون على من يريد دخول الكعبة من المتمكنين خلع نعليه؛ احترامًا للبيت. ذكر أهل الأخبار أن أول من خلع نعليه لدخول الكعبة "الوليد بن المغيرة"، فخلع الناس نعالهم في الإسلام2.

وقد عثر على كتابات جاهلية تبين منها، أن الجاهليين كانوا يعدون طهارة الملابس وطهارة الجسم من الأمور الملازمة لمن يريد دخول المعبد، فإذا دخل إنسان معبدًا وهو نجس عدَّ آثمًا، وقد ورد أن رجلًا اتصل بامرأة، ثم دخل المعبد بملابسه التي كان يلبسها حين اتصل بها، فعدَّ آثمًا، ودفع فدية عن إثمه إرضاءً للآلهة3. وورد أن رجلًا دخل معبد الإله "رب السماء" "ذ سموى" بمعطف نجس، فدفع فدية عن ذلك، جزاء ما ارتكبه من إثم4. فدخول المعابد بملابس نجسة، نجاسة: مادية أو معنوية، إثم، تعاقب الآلهة عليه، لهذا اشترطت ديانتهم عليهم عدم دخول بيوت الآلهة، إلا بملابس طاهرة نظيفة حرمة وتقديرًا لهذه البيوت.

وللسبب المذكور اشترط سدنة الصنم "الجلد" على من يريد من عباده تقديم قربان إليه، أو تكليمه كراء ثياب مسدنة، للبسها بدلًا من ملابسهم؛ لأنها ملابس نظيفة طاهرة، لم تمسها أدران مادية أو معنوية5. وهو شرط نجده عند غير العرب أيضًا كالعبرانيين6. وقد كانت المعابد تدخر ملابس تكريها لمن يريد أداء شعائر زيارة بيوت الأصنام.

وورد في كتب أهل الأخبار، أن الجاهليين حتموا على المرآة الحائض ألا تمس الصنم ولا تتمسح به، وألا تدخل بيته لنجاسة الحيض7. وورد أن "فاختة" أم "حكيم بن حزام بن خويلد"، كانت دخلت الكعبة وهي حامل متم بحكيم.

1 Ency، Rengi،6، p. 53.

2 ابن رسته، الأعلاق "191"، صبح الأعشى "1/ 428".

3 Glaser، 1052، Hofmus، 6، CIH، 523، Grohmann،s. 251. f.

4 Rep، Epigr، 3956، Grohmann، s. 252.

5 البلدان "3/ 122".

6 "ثم قال الله ليعقوب: قم فاصعد إلى بيت إيل، وأقم هناك، واصنع هناك مذبحا لله الذي ظهر لك عند هربك من وجه عيسو أخيك. فقال يعقوب لأخيه وسائر من معه: أزيلو هذه الآلهة الغريبة التي بينكم وتطهروا وابدلوا ثيابكم. وهلموا تصعد إلى بيت إيل"، التكوين، الفصل "35"، الآية 1 وما بعدها.

7 الأصنام "33"، خزانة الأدب "3/ 245".

ص: 407

ابن حزام فأجاءها المخاض، فلم تستطع الخروج من الكعبة، فوضعته فيها فلفت في الأنطاع هي وجنينها، وطرح مثبرها وثيابها التي كانت عليها، فجعلت لقى لا تقرب1. فيظهر من هذا الخبر أن أهل كانوا يعتبرون دم المخاض والولادة نجسًا، ولهذا اعتبرت الأنطاع التي وضعت "فاختة" جنينها عليها بل اعتبرت هي نجسة أيضًا فلفت بالأنطاع وألقيت، وجعلت لقى لا يمسها أحد.

وعثر المنقبون على أحواض داخل المعابد في العربية الغربية يظهر أنها كانت للوضوء؛ لتطهير الجسم قبل الدخول إلى المسجد، موضع الصنم

وذلك بغسل الوجه واليدين والقدمين وربما الأبدان كذلك، قبل الدخول إلى بيت الصنم، ولكون هذا الوضوء تطهيرًا للجسم، عرفت "الميضأة" بالمطهرة؛ لأنها تطهر من الأدران2. ولهذا السبب، حفرت الآبار في المعابد؛ لتموين هذه الأحواض بالماء، وللتبرك أيضًا بالماء المقدس، ولاستعماله في أغراض أخرى، منها تنظيف الجسم من الأدران بعد قضاء الحاجة.

ولهم آداب اتبعوها حين دخولهم بيت الصنم وحين خروجهم منه. من ذلك أن القبائل كانت تتجنب أن تجعل ظهورها على مناة إعظامًا للصنم. فكانت تنحرف في سيرها، حتى لا يكون الصنم إلى ظهرها. وفي ذلك قال الكميت بن زيد، أحد بني أسد بن خزيمة بن مدركة:

وَقَد آلَت قَبَائِلُ لَا تُوَلِي

مَنَاةَ ظُهُورِهَا مُتَحَرِّفِينَا3

وقد تطورت أشكال المعابد وهندستها بتطور الحضارة، وبشكل طبيعة الأرض التي يقام المعبد عليها. وهي تتناسب مع درجة تطور الشعوب ودرجة رقيها وطراز تفكيرها واختلاطها بالأمم المجاورة. ولذلك نجد معابد "تدمر" مثلًا قد تأثرت بطراز البناء الإغريقي؛ لتغلغل الثقافة اليونانية فيها، ولتأثر سكان المدينة باليونان. كذلك نجد هذا الأثر والأثر الروماني في معابد بلاد الشأم وفلسطين فالمعبد إذن

1 الروض الأنف "1/ 134"، الإصابة "1/ 348"، "رقم 1800" كتاب نسب قريش "231".

2 تاج العروس "1/ 134"، "وضوء".

3 ابن هشام "1/ 900"، المشرق، السنة 1938م، "الجزء الأول"، "ص11". ابن هشام "1/ 65"، "حاشية على الروض الأنف"، "قصة عمرو بن لحي، وذكر أصنام العرب".

ص: 408