الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولم ترد لفظة "الرحمن" إلا مفرده، فليس لها جمع؛ لأنها تعبير عن توحيد، وليس في التوحيد تعدد، فالتعدد شرك. على عكس لفظة "رب"، التي تؤدي معنى "إله"، وهي تعبير عن اعتقاد، لا اسم علم لإله، ولذلك وردت لفظة "أرباب" بمعنى آلهة تعبيرًا عن تعدد الآلهة، وهو الشرك. وقد كان الجاهليون يقولون: ربي وربك وربنا وأربابنا، كما يقولون إلهي وإلاهك وآلهتنا1.
وقد تكون كلمة "هـ رحم""هارحيم"، أي "الرحيم" الواردة في النصوص الصفوية2 وفي النصوص السبئية اسم إله3، وقد تكون صفة من صفات الآلهة على نحو ما تؤديه كلمة "الرحيم" من معنى في الإسلام.
وللعلماء آراء في ظهور عبادة الشرك. ورأي رجال الدين منهم، أن الناس كانوا أمة واحدة في الدين، كانوا على التوحيد جميعًا، ثم ضلوا فعبدوا جملة آلهة وصاروا مشركين4. أما غيرهم من العلماء الذين يستندون إلى الملاحظات ودراسة أحوال القبائل البدائية وعلى فروع العلوم الأخرى المساعدة مثل علم النفس وعلم الاجتماع، فيرون أن عقيدة التوحيد ظهرت متأخرة بالنسبة إلى ظهور الوثنية والشرك ظهرت بعد أن توسعت مدارك الإنسان، فشعر أن ما كان يتصوره من وجود قوى روحانية عليا في الأشياء التي عبدها لم يكن سوى وهم وخداع، وصار يقتصد في الشرك، إلى أن اهتدى إلى عبادة إله واحد.
1
هناك ربك ما أعطاك من حسن
…
وحيثما يك أمر صالح فكن
شرح ديوان زهير "123".
2 Handbuch، I، S. 248، Vogue، Syrie Centrale، Inscriptions Semitlqyes، Paris، 1868-1877، p. 142، No. 402، Dussuad، Voyage Archeologique au Safa، Pareis، 1901، No. 258، Mission، p. 88، Les Arabes en Syrie، p. 152.
3 CIS، 4، 2، No. 40. p. 63، Grahmann، S. 246.
4 Ency. Religi، 10، p. 112.
ظهور الشرك:
هناك عدة عوامل دعت إلى ظهور الشرك، أي تعدد الآلهة، وأثرت في تعدد الآلهة. هناك عوامل طبيعية وعوامل رسية Characteristics، وعوامل
سياسة وعوامل تأريخية واجتماعية واقتصادية وعوامل أخرى، كل هذه أثرت في شكل الشرك وفي تعدد الآلهة وفي كيفية تصور الناس لآلهتهم. ولا يعني هذا أنها أثرت كلها مجتمعة وفي آن واحد، إنما يعني أن ظهور الشرك وشكله هو نتيجة عوامل متعددة وأسباب مختلفة أثرت في ظهوره وفي تكوين صورة الآلهة في نظر المؤمنين بها المتعبدين لها.
وإنا لنجد وجهة نظر الشعوب عن الآلهة أو الإله تختلف باختلاف ثقافتها ومستواها الاجتماعي، وللوضع السياسي دخل كبير في الشرك وفي عدد الآلهة وفي شكل الدين. لقد كان لكل قبيلة إله خاص بتلك القبيلة يحميها من الأعداء ومن المكاره، ويدافع عنها في الحروب والملمات، ويعطيها النصر. كما كان للقرى والمدن آلهتها الخاصة بها. فإذا تحالفت القبائل أو القرى أو المدن تحالفت آلهتها معها، وكونت حلفًا وصداقة متينة بينها. أما إذا تحاربت هذه القبائل أو القرى أو المدن، فيكون لهذه الحرب أثر كبير في مستقبل الآلهة وفي عددها. فقد ينصرف المغلوبون عن آلهتهم إلى عبادة آلهة أخرى؛ لأنها أصبحت ضعيفة لا قدرة لها على الدفاع عن عبدتها. وقد يتأثر الغالبون بعبادة المغلوبين الذين خضعوا لهم، فيضيفون آلهة المغلوبين إلى آلهتهم، فيزيد بذلك عدد الآلهة، ولا سيما إذا كان المغلوبون أصحاب ثقافة عالية، وكان لهم أدب وفن.
والعادة أن آلهة القبائل أو المدن الرئيسية تكون هي الآلهة الرئيسية للحلف أو في المملكة. ويكون إله القبيلة ذات النفوذ أو العاصمة عندئذ، هو إله الحكومة الكبير. أما الآلهة الأخرى، فتكون دونه في المنزلة، ولهذا يرد اسمها في الغالب بعد اسم الإله الكبير.
كذلك يجب ألا ننسى عامل الجوار والاتصال الثقافي في ظهور الشرك، فكثيرًا ما يؤدي هذا الاتصال إلى اقتباس آلهة المجاورين وإضافتها إلى مجموعة الآلهة عند ذلك الشعب، فيزيد بذلك عدد الآلهة أو ينقص فقد تطغى الآلهة الجديدة المقتبسة على الآلهة القديمة، ويقل شأن بعضها فيهمل، ثم يموت اسمها. وقد يحدث ذلك بطريق الحرب أيضًا، كما ذكرت، فيتغير العدد بذلك.
ولرجال الدين ولسادات القبائل وللأمراء وللملوك أثر في ظهور الشرك. كان في إمكانهم إقرار مستقبل الآلهة بإضافة آلهة جديدة على الآلهة القديمة، أو بإبعاد
إله أو آلهة عند عبادة قومهم، فيزيد أو ينقص بذلك عدد الآلهة. وقد كان سادات القبائل والوجوه يغيرون عبادة أتباعهم بإدخال عبادة إله جديد، يأخذونه من زيارتهم لبلد غريب، كأن يكون أحدهم قد أصيب بمرض وهو في ذلك البلد، فيشار عليه بالتعبد وبالتقرب لإله ذلك البلد أو لأحد آلهته، فيصادف أن يشفى، فيظن أنه شفي ببركة ذلك الإله وبقدرته وقوته، فيتقرب له ويتعبد له، فإذا أعاد حمل عبادته إلى أتباعه، فيعبد عندهم. ويضاف على آلهتهم، ويصير أحدهم وقد يطغى اسمه عليها، وذلك حسب درجة تعلق سيد القبيلة به، وحسب درجة ومكانة سيد القبيلة بين الناس. وتأريخ الجاهلية مليء بحوادث تبديل آلهة بسبب تبديل سادات القبائل ووجوه الناس لعقائدهم ولآلهتهم، فتدخل القبيلة كلها في العبادة الجديدة. وقد كان إسلام قبائل برمتها، بسبب دخول سيدها في الإسلام، فالناس تبع لساداتهم ولقادتهم، و"الناس على دين ملوكهم" كما هو معروف ومشهور في أقوال العرب.
ومعظم أسماء الآلهة صفات للآلهة لا اسم علم لها، فود ورضى والمقه وذات حميم وأمثالها، هي صفات في الأصل، مضى عليها الزمن، فاستعملت استعمال الأسماء الأعلام. وظن أنها آلهة قائمة بذاتها فلما جاء الباحثون وجمعوها حسبوها أسماء آلهة، فزاد بذلك عدد الآلهة، واعتبرت الأسماء الكثيرة من سيماء الإفراط في الشرك. بينما هي صفات لإله، أو آلهة لا يزيد عددها على ثلاثة، هي الثالوث الكواكبي المقدس الذي تعبدوا له.
ولا بد لنا من الإشارة إلى اصطلاح أطلقه "ماكس مولر" Max Miiler على مرحلة من العبادة هي بين بين، لا هي توحيد Monotheism ولا هي شرك Polytheism، بل هي مرحلة تعبد فيها الإنسان على رأي هذا الباحث إلى إله واحد هو إله القبيلة، مع الاعتقاد بوجود آلهة أخرى1. وهذا الاصطلاح هو henotheismus. وقد رأى "فلايدلر" Pfleidler أن الساميين لم يكونوا موحدين بطبعهم كما ذهب "رينان" إلى ذلك، بل كانوا يدينون بإله قومي، ومن هذه العقيدة ظهر التوحيد الخالص كما حدث عند الإسرائيليين2.
1 Max Muller، Varlesungen uber den Ursprung und die entwickiung der Religion، 1880، Schmidt، S. 261.
2 Ency. Religi، 10، p. 811، Pfleiler، Phflosophy of Religion، London، 1885-1888، III، p. 19.
وفي القرآن الكريم إشارات إلى أنواع من الشرك كان عليه الجاهليون، وفيه تعريف لمعنى الشرك، فالشرك في قوله تعالى:{أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ، وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} 1 عبادة الأصنام المصنوعة من الحجارة أو الخشب أو المعادن، أي مما لا روح له وقابل للكسر2. وفي بعض الآيات أن من أنواع الشرك القول بأن الجن هم شركاء لله3. ومن أنواعه أيضًا القول بأن الملائكة هم شركاء لله وبناته4. وفي آيات أخرى أن من الشرك اتخاذ آلهة أخرى مع الله5. والآلهة هنا شيء عام. فيه تأليه الكواكب وعبادة الأشياء غير المنظورة، أي غير المادية وعبادة الأصنام.
وفي القرآن الكريم جواب على فلسفة القوم وتعليلهم لعبادة الأصنام واتخاذهم "أولياء" من دون الله؛ إذ يقولون جوابًا عن الاعتراض الموجه إليهم في عبادة غير الله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 6 ويتبين من هذه الآية ومن آيات أخرى أن فريقًا من العرب كانوا يعتقدون بوجود الله، وأنه هو الذي خلق الخلق، وأن له السيطرة على تصرفات عباده وحركاتهم، ولكنهم عبدوا الأصنام وغيرها، واتخذوا الأولياء والشفعاء لتقربهم إلى الله زلفى7.
وفي كتاب الله مصطلحات لها علاقة بعبادة الشرك، منها "شركاء" جمع "شريك" وهو من اتخذه المشركون شريكًا مع الله8. و"أنداد" {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 9 {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} 10. و"أولياء".
1 الأعراف، الآية 191 وما بعدها، يونس، الآية 189.
2 تفسير الجلالين "1/ 139" "طبعة المطبعة المليجية.
3 الأنعام، الآية 100، الجلالين "1/ 116".
4 سبأ، الآية 40 وما بعدها.
5 الأنبياء، الآية 24.
6 الزمر، الآية 3، الجلالين "2/ 133".
7 الزمر، الآية 3، الأنعام، الآية 148، النحل، الآية 35.
8 الأنعام، الآية 100، راجع "فتح الرحمن لطالب آيات القرآن""ص238".
حيث تجد المواضع الواردة في القرآن الكريم.
9 البقرة، الآية 165
10 إبراهيم، الآية 30.
و"ولي" و"وليًّا"1 و"شفعاء" و"شهداء"2. فهذه الكلمات وأمثالها تعبر عن عقائد الجاهليين قبيل الاسلام. وعن اعتقادهم في عبادة أشياء أخرى مع الله كانوا يرون أنها تستحق العبادة وأنها في مقابل الله في العرف الإسلامي، أو أنها شركاء في إدارة الكون أو أنها مساعدة لله.
والشرك في تفسير العلماء المسلمين، أن تعدل بالله غيره، فتجعله شريكًا له، فهو يشمل أشياء عديدة. منها عبادة الكواكب، أي عبادة القوى الطبيعية، وعبادة الجن والملائكة والأمور الخفية، وبمعنى آخر عبادة القوى الخفية، أو القوى الروحية، وعبادة الأمور المادية كالأصنام والأحجار، باعتبار أنها تشفع للإنسان عند الآلهة، وعبادة الإنسان والحيوان، إلى غير ذلك من عبادات.
ومن العبادات التي يجب أن يشار إليها عبادات اصطلح علماء الأديان على تسميتها بمسميات حديثة، تمثل عقائد قديمة، ولبعضها أتباع أحياء يرزقون. ولبعض منها آثار ومظاهر، دخلت في الأديان الباقية، وصبغت بصبغتها، وهي من بقايا العقائد الدينية البدائية التي رسخت في النفوس وفي القلوب حتى صار من الصعب على الإنسان أن يتخلص منها، فبقيت راسخة تحت مسميات جديدة. ومن تلك العقائد: الـ Shamanism و Tstemism، و Fetishism و Ancestor – worship و Animism وغيرها من مسميات سيرد الحديث عنها في هذا الكتاب3.
أما الـ"شمانية"، فقد أخذت من كلمة "شمن" ِ Shaman ومعناها كاهن أو طبيب "شمان"، أو من كلمة Shemen التي معناها صنم أو معبد، أو من أصل آخر. ويراد بها اليوم ديانة تعتقد بالشرك، أي تعدد الآلهة Polytheism أو بعبادة الأرواح Polydomonism مع عبادة الطبيعة Nature – worship لاعتقادها بوجود أرواح كامنة فيها. ويعتقد في هذا الدين أيضًا بوجود إله أعلى هو فوق جميع هذه الأرواح والقوى المؤلهة، وبتأثير السحر4.
1 راجع فهارس القرآن الكريم، مثل فتح الرحمن "ص480".
2 فتح الرحمن "ص240"."
3 A.A. Bowman، Studies in the Philosophy of Religion، London، 1938، p. 67.
4 Ency. Religi، II، p. 441.
ويستعين الـ"شمن"، وهو الكاهن أي رجل الدين، بالقوى الخارقة التي لديه والتي لا يملكها الرجل الاعتيادي في اعتقاد أبناء هذه العقيدة في الاتصال بالأرواح وبما وراء الطبيعة للتأثير فيها. ولدى هذا الكاهن أرواح مأمورة بين يديه للقيام بما يطلب منها القيام به. وهو يمارس أعمالًا سحرية للتأثير في الأرواح فللسحر في هذا الدين أهمية ومقام. ويقوم الـ"شمن" عند أكثر المتدينين بهذا الدين بأعمال الطبيب1.
وأما "الطوطمية"، فقد تحدثت عنها في الجزء الأول من هذا الكتاب2. وقد بينت عقيدتها في "الطوطم"، ورأي العلماء في كيفية ظهور المجتمع "الطوطمي"، وهو مجتمع يقوم على أساس الجماعة أو القبيلة، يرتبط أفراده برباط ديني مقدس، هو رباط "الطوطم"، رمز الجماعة.
وأما الـ Fetishism من أصل Factitus اللاتيني، بمعنى السحر، أي القوة المؤثرة الخفية Magic فللباحثين في تأريخ الأديان آراء متعددة في تعريفها وفي تثبيت حدودها3. والرأي الغالب الشائع بينهم أنها عبادة أو تقديس للأشياء المادية الجامدة التي لا حياة فيها لاعتقاد أصحابها بوجود قوة سحرية فيها، وقوى غير منظورة في تلك الأشياء تلازمها ملازمة مؤقتة أو دائمة ويحمل الـ Fetish "اليد" لجلب السعد إلى صاحبه. وهو في نظر "تيلور" Dr. Tylor بمثابة "إله البيت" وقوة فاعلة خفية تطرد الخبائث عن صاحبه، وتجلب الخير له. ولحدوث الأحلام ونشوئها في نظر الأقوام البدائية دخل كبير في رأي العلماء في ظهور هذه العقيدة4.
وأصحاب هذه العقيدة لا ينظرون على تلك الأشياء المادية على أنها نفسها ذات قوة فعالة خفية، وأنها الرمز أو الصورة للإله المنسوب ذلك الشيء اليه، بل هم يرون أن تلك الأشياء ليست سوى منازل أو مواضع لاستقرار تلك القوى المؤثرة التي يكون لها دخل في إسعاد الإنسان وهو يقدس الأشياء المادية كالحجارة
1 Ency. Religi، vol. 11، p. 441.
2 "ص518 وما بعدها".
3 Ency. Religi، vol. V، p. 894.
4 Ency. Brita، vol. 9. p. 202، Taylor، Primitive Culture، II، p. 143. Waitny، Anthropologie er naturvolker، II، S. 174.
مهما كانت صغيرة أو كبيرة، مهندمة ومصقولة صقلتها يد الإنسان، ومستها أو لم تمسها يد، بل كانت على نحو ما وجدها في شكلها الطبيعي؛ لأنه حينما يتقرب إلى تلك الحجارة، لا يتقرب إليها نفسها، بل يتقرب إلى الروح التي تحل فيها. فالروح هي المعبودة، لا الحجر الذي تحل الروح فيه، وليس الحجر أو المواد الأخرى إلا بيتًا أو فندقًا تنزل الروح فيه.
أما عبادة الأسلاف Ancestor Worship فهي فرع من أهم فروع الدين في نظر بعض العلماء، بل هي الأساس الذي قام عليه الدين في نظر آخرين، ولا سيما عند "سبنسر" H. Spencer1. وأما الأسباب التي دعت البشر إلى هذه العبادة، فهي الحب والتقدير للأبطال والرؤساء والأمل في استمرار دفاعهم عنهم وحمايتهم للجماعة التي تنتمي إليها كما كانت تفعل في حياتهم ورد أذى الأعداء الأموات منهم والأحياء. فتمجيد الأبطال والخوف منهم، هو الذي حمل البشر على عبادة الأسلاف على رأي. وهناك من رأى أن تمجيد الأبطال والإشادة بذكرهم، هو الذي أوجد هذه العبادة، ومنهم من نسبها إلى الخوف منهم حسب2.
وسواء أكان منشأ هذه العبادة الحب والتقدير أو الخوف أو كلاهما، فإن أساس هذه العقيدة هو الإيمان ببقاء الروح، روح الميت، وإن بإمكان هذه الروح نفع الأحياء أو إلحاق الأذى بهم. ورؤية الأحياء وسماع توسلاتهم ودعواتهم لها فالميت وإن كان قد دفن في قبره وغيب بين التراب، إلا أنه يسمع ويعي فروحه حية وبإمكانه النفع والضر. وهذه العقيدة هي التي حملت بعض الشعوب على مخاطبة الأرواح من فجوات مخصوصة في الأرض ومن مواضع أخرى لاستشارتها في بعض الأمور التي تهمها، وللتحدث معها في مسائل خطيرة كتقديم مشورة أو أخذ رأي أو استفسار عن اسم قاتل أو سارق ولهذه الغاية اتخذت مواضع مقدسة oracle يتقرب فيها إلى الأرواح وللاستفسار منها فكان في اليونان مثلًا موضع شهير عرف باسم Thesprotia، وموضع آخر عرف باسم Phigalia في "أركاديا" Arcadia3. وكان في إيطاليا موضع للتنبوء يقع على بحيرة.
1 Ency. Relig، I، pp. 425، 427.
2 Jovons، Intrudction to History of Religion. P. 54.
3 Herodothus، V، 92، Pausanus، III، 17، 8، 9.
"أفيرنوس" Avernus1 وكانت العادة في هذا الموضع أن يتقرب الراغبون في استشارة الأرواح إلى الموضع المقدس بتقديم ضحية، وعندئذ ينام السائل في الموضع المقدس، فتظهر له الروح في المنام، فتحدثه بما يحتاج إليه2.
ولعبادة السلف علاقة بعبادة الأصنام Idolatry ويلاحظ أن عبادة السلف تقود أتباعها في بعض الأحيان إلى الاعتقاد بأن قبيلتهم تنتمي إلى صلب جد واحد، أصله حيوان في رأي الأكثرين، أو من النجوم في بعض الأحيان. وهذا ما يجعل هذه العقيدة قريبة من "الطوطمية"3.
ولهذا العبادة أثر كبير في نظام أصحابها الاجتماعي؛ إذ هي تربط الأجيال الحاضرة بالأجيال الماضية بروابط متينة، وتؤلف من أصحاب هذا المذهب وحدة قوية، كما أن لها أثرًا مهمًّا في الأسرة، فهي في الواقع عبادة تخص الأسرة قبل كل شيء4.
ومعارفنا عن عبادة السلف عند الجاهليين قليلة، ويمكن أن نستنتج من أمر النبي بتسوية القبور ونهيه عن اتخاذها مساجد ومواضع للصلاة أن الجاهليين كانوا يعبدون أرواح أصحاب هذه القبور ويتقربون إليها. ولعل في عبارة "قبر ونفس" أو "نفس وقبر" الواردة في بعض النصوص الجاهلية ما يؤيد هذا الرأي، فإن النفس هي الروح.
ومن آثار عبادة السلف عند العلماء حلق الرأس وإحداث جروح في الجسد واحتفالات دفن الموتى ولبس المسوح والعناية بالقبور والصلاة عليها أو إقامة شعائر دينية فوقها أو علامات خاصة بالميت أو الموتى للتقديس5. ونحن إذا استعرضنا روايات الأخباريين نجد آثار هذه العبادة معروفة بين الجاهليين.
وقد أشار أهل الأخبار إلى قبور اتخذت مزارات، كانت لرجال دين ولسادات قبائل يقسم الناس بها، ويلوذون بصاحب القبر ويحتمون به، كالذي كان من
1 Ency. Religi، I، p. 428.
2 Ency. Religi، vo. I، p. 430، Crooke، Popular Religion، I، 179، Wilken، Het Animisme vj de Volken Indischen Archipel، 1884-1885، I، 74 ff.
3 Ency. Religi، I، p. 536. Taylor، Primitive Cultures، II، p. 193.
4 Ency. Religi، I، p. 432.
5 Hastings، p. 300، Ency. Religi، 7، p. 325، Ancestor-Worship.
أمر ضريح "تميم بن مر"، جد "تميم"، وكالذي ذكروه من أمر اللات" من أنه كان رجلًا في الأصل، اتخذ قبره معبدًا ثم تحول الرجل إلى صنم، ونجد في كتب الحديث نهيًا عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها. وقد أشارت إلى اتخاذ اليهود والنصارى قبور سادتهم وأوليائهم مساجد، تقربوا اليها، لذلك نُهي أهل الإسلام من التشبه بهم في تعظيم القبور1، كما نهي عن تكليل القبور وتجصيصها، والتكليل رفع القبر وجعله كالكلة، وهي الصوامع والقباب التي تُبنى على القبور2.
وأما الـ Animusm فهو اعتقاد بوجود أرواح مؤثرة في الطبيعة كلها Nature ولذلك يؤله كثيرًا من المظاهر الطبيعية المرئية وغير المرئية منها، لاعتقاده بوجود قوى هي فوق الطبيعة، منها ما يكون في جسم، وهو "النفس" Saul، ومنها ما لا يكون في الأجسام وهو "الروح" Spirit3.
ويمكن تقسيم هذه العبادة إلى ثلاث أصناف: عبادة النفس، نفس الإنسان أو الحيوان وخاصة منها عبادة الأموات Nacrolatry، وعبادة الأرواح spiritism وعبادة الأرواح التي تحل في المظاهر الطبيعية، إما بصورة مؤقتة وإما بصورة دائمة naturism4.
والآراء في هذه المعتقدات لا تزال في مراحلها الأولى، وهي موضع جدل بين العلماء؛ لأنها قائمة على أساس الملاحظات والتجارب التي حصلوا عليها من دراساتهم لأحوال المجتمعات البدائية لهنود أمريكا ولقبائل إفريقية وأسترالية، ولا يمكن بالطبع حدوث اتفاق في الدراسات الاستقصائية المبنية على المشاهدات والملاحظات، وإذا كانت هذه الدرسات غير مستقرة وغير نهائية حتى الآن، فقد صعب بالطبع تطبيقها على معتقدات العرب قل الإسلام، وزاد في هذه الصعوبة قلة معلوماتنا في هذه الأمور. وليس من الممكن في نظري أن نتوصل إلى نتائج علمية غير قابلة للأخذ والرد في هذه الموضوعات في الزمن الحاضر، بل ولا في المستقبل.
1 صحيح مسلم "2/ 66"، "باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيهان والنهي عن اتخاذ القبور مساجد".
2 اللسان "11/ 595"، "كلل".
3 Schmidt، s. 24.
4 Ency religi، I، p، 535.