الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القرابين:
وتؤلف القرابين جزءًا مهمًّا من عبادة الأمم القديمة، بل تكاد تكون العلامة الفارقة عندهم للدين. والرجل المتدين في عرفهم هو الرجل الذي يتذكر آلهته ويضعها دائمًا نصب عينيه، وذلك بتقديم القرابين لها، ولست أخطئ إذا قلت إنها كانت عندهم أبرز من العبادات العملية كالصلوات؛ لأن الإنسان القديم لم يكن يفهم آنئذ من الحياة إلا مفهومها المادي. وهو يرى بعينيه ويدرك أن ما يقدم إليه من هدايا يؤثر في نفسه كثيرًا، ولذلك كان من الطبيعي أن يتصور بعقله أن القرابين هي أوقع في نفوس آلهته من أي شيء كان، فقدمها على كل شيء، وجعلها عبادة يتقرب بها إلى الآلهة كما يتقرب أهل الأديان السماوية إلى الإله بالدعاء والصلوات، فهي في نظره عبادة تقربه إلى الأرباب.
وقد كان الجاهليون، يعظمون البيت بالدم، ويتقربون إلى أصنامهم بالذبائح، يرون أن تعظيم البيت أو الصنم لا يكون إلا بالذبح، وأن الذبائح من تقوى القلوب. والذبح هو الشعار الدال على الإخلاص في الدين عندهم، وعلامة التعظيم "قال المسلمون: يا رسول الله، كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم، فنحن أحق أن نعظمه"1.
ويظهر من قول أحد الشعراء الجاهليين:
فلا لعمر مسحت كعبته
…
وما هريق على الأنصاب من جسد
أن الجاهليين كانوا يريقون دم الضحية على الأنصاب، وهي موضوعة في الكعبة، ويمسحون الكعبة2.
وكلمة "قربان" وجمعها "قرابين" هي من أصل "ق ر ب"، وقد استعملت وخصصت بهذا المعنى لأنها تقرب إلى الآلهة. والقربان هو كل ما يتقرب به إلى الله. فليس القربان خاصًّا بالذبائح، وإن صار ذلك مدلوله في الغالب3.
1 تفسير الطبري "6/ 48"
2 الاشتقاق "ص206".
3 تاج العروس "1/ 422"، "قرب" اللسان "2/ 158"، قرب".
ومن القرابين ما يقدم في أوقات معينة موقوتة، ومنها ما ليس له وقت محدد ثابت بل يقدم في كل وقت. ومن أمثلة النوع الأول ما يقدم في الأعياد أو في المواسم أو في الأشهر أو في أوقات معينة من اليوم وفي ساعات العبادات، ومن أمثلة النوع الثاني ما يقدم عند ميلاد مولود، أو إنشاء بناء أو القيام بحملة عسكرية أو لنصر وما شابه ذلك من أحوال. ويدخل في النوع الأول الاحتفاء بأعياد الآلهة، حيث تُكسى أصنامها أحسن الحلل، وتزين بأجمل زينة، ثم يوضع أمامها ما لنَّ من الطعام وما حسن من الهدايا، وتذبح لها الذبائح، تذبح على الأنصاب، ويأتي الكهان ليقوموا بتأدية الشعائر الدينية المقررة في هذه الأحوال.
ومعظم نصوص المسند كتابات دونت عند تقديم قربان أو نذر إلى الآلهة في ميلاد مولود، أو شفاء مريض، أو بناء معبد أو بيت، أو حفر خندق أو تشييد برج أو سور، أو حفر بئر أو زواج وما شاكل ذلك. ويظهر منها أن الناس في ذلك العهد كانوا يقدمون القرابين إلى آلهتهم في مناسبات كثيرة؛ تقربًا إليها وإرضاء لها، ولكي تمن على أصحابها بالخير والبركة.
وقد استعملت نصوص المسند لفظة "ذبح"، و"ذبحم" بمعنى "ذبحوا" و"ذبح" و"ذبيحة" و"ذبائح". وقد تسبق بكلمة "يوم"، فتكون "يوم ذبح"، أي "يوم ذبحوا"، ثم يذكر بعدها عدد ما ذبح ونوعه، ثم كلمة "أذبح" بمعنى "ذبائح" في بعض الأحيان. والذبائح التي تقدم إلى الآلهة هي الإبل والبقر والثيران والغنم والمعز، وهي أكثر الحيوانات شيوعًا في الذبح عند الشعوب السامية الأخرى. ولم نجد في نصوص المسند ذكرًا لحيوانات أخرى كالأسماك أو الدجاج مثلًا، ولعل ذلك بسبب ضآلة قيمتها وتفاهتها بالقياس إلى أثمان الحيوانات الأخرى، مما جعل الناس يأنفون من الإشارة إليها في النصوص.
وفي بعض الأديان حرق الذبائح وسكب دمائها على الناس كما يفعل العبرانيون؛ إذ اتخذوا مذبحًا للمحروقات. ويسمى أيضًا بمذبح النحاس. وكانت ناره لا تطفأ، وتقدم إليه الذبائح على الدوام، ويعرف ذلك عندهم بـ"عولاه" Olah، وتفسير الكلمة الشيء الذي يعلو1.
وينفي "ولهوزن" وجود المحارق عند الجاهليين، وعنده أن العرب لم يكونوا
1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 458"، Hestings، p. 111.
يحرقون الذبائح للأرباب، بل كانوا يكتفون بالذبح وبسكب دم الذبيحة على النصب كله أو بعضه، أو أنهم يتركونه يسيل إلى "الغبغب"، وليس في الذي بين أيدينا من نصوص ما يدل على أن الجاهليين كانوا يحرقون ذبائحهم لأربابهم على نحو ما كان يفعله العبرانيون، غير أن ذلك لا يمكن أن يكون مع ذلك دليلًا قاطعًا وحجة كافية في إثبات أن هذه العادة لم تكن عند جميع الجاهليين.
وهناك ذبائح من نوع آخر قدمها الإنسان إلى آلهته. من نوع لا تشمله كلمة خروف أو شاة أو بقرة أو ثور أو جمل، من نوع آخر لا تشمله أية تسمية من هذه التسميات التي تطلق على هذه الحيوانات التي يأكلها الإنسان في العادة هي ذبائح يعاقب القانون كل من يمارسها في الوقت الحاضر بأشد العقوبات، هي ذبائح بشرية قدمها الإنسان إلى آلهته لاعتقاده أنها زلفى محببة إلى نفوسها، وأنها ستفيا المجموع وتنقذه من كثير من الأوبئة والأمراض وأنواع الشر والضر، إن كان الإنسان الحديث يتبرأ منها في الزمن الحاضر ويتنكر لها ويحاول تبرئة أجداد أجداده من ممارستها قبل مئات من السنين، فالتأريخ لا يستطيع أن يجد دليلًا يثبت تبرئة أكثر أديان شعوب العالم القديمة من تقديم هذا النوع من القرابين، وفي التوراة أمثلة عديدة تتحدث عن تقديم العبرانيين لهذا النوع من القرابين إلى "يهوه" ليرضى عن شعبه، ويعفو عنه، ويتقرب منه1. كذلك نجد هذه العادة عند اليونان والرومان والهنود والفراعنة والصينيين واليابانيين وغيرهم.
أما عند الجاهليين، فذكر "فورفيريوس" Forphyrius أن أهل "دومة" Duma كانوا يذبحون في كل سنة إنسانًا عند قدم الصنم تقربًا إليه2. وذكر "نيلوس" Nilus من عادة بعض القبائل تقديم أجمل من يقع أسيرًا في أيديهم إلى الزهرة، ضحية لها تذبح وقت طلوعها، وقد وقع ابنه "تيودولس" Theodolus أسيرًا حوالي سنة 400م في أيدي الأعراب Saracens، وهُيِّئ ليُذبح قربانًا إلى الزُّهرة غير أن أحوالًا وقعت أفاتت عليهم الوقت المخصص لتقديم
1 الملوك الأول، الإصحاح السادس عشر، الآية 34، الملوك الثاني، الإصحاح السادس عشر، الآية 3، الإصحاح السابع عشر، الآية 17 الإصحاح الحادي والعشرون، الآية 6، صموئيل الأول، الإصحاح الخامس عشر، الآية 32، الملوك الثاني، الإصحاح الثالث، الآية 21، القضاة، الإصحاح الحادي عشر، الآية 30 وما بعدها، ومواضع أخرى، Hastings، p. 813، Ency، Religi، p. 864.
2 Reste، s. 115.