الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي المثل: "الناس على دين ملوكهم" لقد أضاف سادة أصنامًا إلى قبائلهم، فعبدت وتمسك أتباعهم بعبادتها، وكأنهم قد تلقوا أوامرهم من السماء، ونبذت قبائل بعض أصنامها، بأمر من سادتها. ودخلت قبائل في الإسلام؛ لدخول سيدها فيه، ودخلت أخرى قبل ذلك في النصرانية، بتنصر سادتها، بكلمة أقنعت الرئيس، أو بعد محاورة، أو بإبلال من مرض قيل له إنه كان ببركة ذلك الدين، فدخل أتباعه في ذلك الدين من غير سؤال ولا جواب.
عبادة الأصنام:
ويتبين من غربلة روايات الأخباريين أن عبادة الأصنام كانت منتشرة انتشارًا واسعًا قبيل الإسلام، حتى كان أهل كل دار قد اتخذوا صنمًا في دارهم يعبدونه "فإذا أراد الرجل منهم سفرًا، تمسح به حين يركب، فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجه إلى سفره، وإذا قدم من سفره تمسح به، فكان أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله"1 وقد كان أشق شيء في نظر قريش نبذ تلك الأصنام وتركها وعبادة إله واحد {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ، أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ، وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} 2.
يقول ابن الكلبي: "واشتهرت العرب في عبادة الأصنام فمنهم من اتخذ بيتًا، ومنهم من اتخذ صنمًا. ومن لم يقدر عليه ولا على بناء البيت، نصب حجرًا أمام الحرم وأمام غيره مما استحسن، ثم طاف به كطوافه بالبيت.... فكان الرجل إذا سافر فنزلا منزلًا، أخذ أربعة أحجار، فنظر إلى أحسنها فاتخذه ربًّا، وجعل ثلاث أثافي لقدره. فإذا ارتحل تركه، فإذا نزل منزلًا آخر، فعل مثل ذلك. فكانوا ينحرون ويذبحون عند كلها ويتقربون إليها"3. وروي أنه لم يكن حي.
1 ابن هشام "1/ 64""هامش الروض"، ابن هشام "1/ 84" الأصنام "32" خزانة الأدب "3/ 245".
2 سورة ص، الآية 4 وما بعدها.
3 الأصنام "33".
من أحياء العرب إلا وله صنم يعبده يسمونه: "أنثى بني فلان. ومنه قوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} 1. والإناث كل شيء ليس فيه روح مثل الخشبة والحجارة"2. وقد كان المشركون يعبدون الأصنام "ويسمونها بالإناث من الأسماء كاللات والعزى ونائلة ومناة وما أشبه ذلك"3.
ولم يذكر "ابن الكلبي" العوامل التي دفعت بعبدة الأحجار إلى اختيار أربعة أحجار من بين عدد عديد من الأحجار، ثم اختيار حجر واحد من بين هذه الأحجار الأربعة المختارة. فهل أخذ هذا العدد من نظرية العناصر الأربعة التي وضعها الفيلسوف "إمبدوكلس" "Empedokles" "490-430 قبل الميلاد" نظرية أن الكون قد تكون من عناصر أربعة هي: النار، والماء، والهواء، والتراب، فكانوا يختارون لذلك أربعة أحجار، تمثل هذه القوى الأربع المكونة على رأي الناس في ذلك الوقت لأساس الكون، ثم يختارون حجرًا واحدًا من بينها يكون أحسنها وأجملها؛ ليكون رمزًا لها، وممثلًا للإله.
وقد كان من الجاهليين من يختار الأحجار الغربية فيتعبد لها. فإذا رأوا حجرًا أحسن وأعجب تركوا الحجارة القديمة وأخذوا الحجارة الجديدة. قال "ابن دريد": "الحارث بن قيس: وهو الذي كان إذا وجد حجرًا أحسن من حجر أخذه فعبده. وفيه نزلت: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} 4. فهذه هي عبادة الأحجار عند الجاهليين.
ولدينا أمثلة عديدة تفيد أن كثيرًا من الجاهليين كانوا يحتفظون في بيوتهم بأصنام يتقربون إليها كل يوم، ولا يعني ذلك بالطبع أن تلك الأصنام كانت أصنامًا كبيرة منحوتة نحتًا فنيًّا، بل كان أكثرها تماثيل صغيرة، وبعضها أحجارًا غير منسقة ولا منحوتة نحتًا جيدًا، وإنما هي أحجار تمثل الصنم الذي يتقرب إليه المرء. روي أن "أحمر بن سواء بن عدي السدوسي"، كان له صنم يعبده، فعمد إليه فألقاه في بئر، ثم جاء إلى الرسول فأسلم5.
1 النساء، الآية 117.
2 اللسان "122/ 349"، "صنم".
3 تفسير الطبري "5/ 179 وما بعدها"، روح المعاني "5/ 134".
4 الاشتقاق "76".
5 الإصابة "1/ 22".
وكان بين الجاهليين قوم كرهوا الأصنام وتأففوا منها، رأوا أنها لا تنفع ولا تضر ولا تشفع، فلم يتقربوا إليها، وقالوا بالتوحيد، ومن هؤلاء "مالك بن التيهان"، وهو من الأنصار ومن المسلمين الأولين الذين دخلوا في الإسلام من أهل "يثرب" و"أسعد بن زرارة".
وقد شك بعض المستشرقين في وجود أصنام عند العرب الجنوبيين2، ويظهر أن الذي حملهم على قول هذا القول، هو ما رأوه من تعبد العرب الجنوبيين لآلهة منظورة في السماء هي الكواكب الثلاثة المعروفة، فذهبوا إلى انتفاء الحاجة لذلك إلى عبادة أصنام ترمز إلى تلك الآلهة. وعندي أن في إصدار رأي في هذا الموضوع نوع من التسرع؛ لأننا لم نقم حتى اليوم بحفريات علمية عميقة في مواضع الآثار في العربية الجنوبية حتى نحكم حكمًا مثل هذا لا يمكن إصداره إلا بعد دراسات علمية عميقة لمواضع الآثار، فلربما تكشف دراسات المستقبل عن حل مثل هذه المشكلات. إن الإسلام قد هدم الأصنام وأمر بتحطيمها، فذهبت معالمها، إلا أنه من الممكن احتمال العثور على عدد منها، لا زال راقدًا تحت التربة؛ لأنه من الأصنام القديمة التي دفنت في التربة قبل الإسلام بسبب دمار حل بالموضع الذي عبد فيه، أو من الأصنام التي وصلت إليها أيدي الهدم، فطمرت في الأتربة، وعلى كلٍّ فالحكم في هذا الرأي هو كما ذكرت للمستقبل وحده، وعليه الاعتماد.
والرأي الذائع بين الأخباريين عن كيفية نشوء عبادة الأصنام قريب من رأي بعض العلماء المحدثين في هذا الموضوع. عندهم أن الناس لم يتعبدوا في القديم وفي بادئ بدء الأصنام، ولم يكونوا ينظرون إليها على أنها أصنام تعبد، إنما صوروها أو نحتوها لتكون صورة أو رمزًا تذكرهم أو يذكرهم بالإله أو الآلهة أو الأشخاص الصالحين. فلما مضى عهد طويل عليها، نسي الناس أصلها، ولم يعرفوا أمرها، فاتخذوها أصنامًا وعبدوها من دون الله. وتحملنا رواياتهم في بعض الأحيان على الاعتقاد أنهم كانوا يعتقدون بعقيدة المسخ، كالذي رووه عن الصنمين إساف ونائلة من أنهما "رجل وامرأة من جرهم، وأن إسافًا وقع عليها في الكعبة فمسخا"3، وبعقيدة التقمص كالذي رووه عن الصنم اللات من أنه كان إنسانًا
1 طبقات ابن سعد "3/ 448""صادر".
2 Arabien، s. 247.
3 الروض الأنف "1/ 64".
من ثقيف، فلما مات قال لهم عمرو بن لحي:"لم يمت، ولكن دخل في الصخرة ثم أمرهم بعبادتها وأن يبنوا عليها بنيانًا يسمى اللات"1 أو كالذي رووه عن الأصنام ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، من أن هؤلاء كانوا نفرًا من بني آدم صالحين، "وكان لهم أتباع يقتدون بهم. فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم فلما ماتوا ودب إليهم إبليس، فقال إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم"2.
وهذه العقيدة هي التي خلقت للأخباريين جملة قصص عن وجود أرواح كامنة في تلك الأصنام، كانت تتحدث إلى الناس، وهي التي أوحت إليهم بذلك القصص الذي رووه بمناسبة أمر النبي بهدم الأصنام، من خروج جن من أجوافها حينما قام بهدمها المسلمون. وقد كان أولئك الجنة على وصفهم إناثًا، والغالب أنهن على هيأة زنجيات شمطاوات عجائز، وقد نثرن شعورهن3. وهي صور مرعبة ولا شك في نظر الناس، ومن عادة الناس منذ القديم أن يمثلوا الجنة على هيأة نساء طاعنات في السن مرعبات.
والخوف من هذه الأرواح أو الجنة التي كانت تقيم في أجواف الأصنام على رأي الجاهليين، حمل بعض من عهد إليهم تحطيم تلك الأصنام على التهيب من الإقدام على مثل ذلك العمل خشية ظهورها وفتكها بمن تجاسر عليها. وهذا الخوف هو الذي أوحى إليهم ولا شك برواية القصص المذكور.
ويمثل الصنم قوة عليا هي فوق الطبيعة، وقد يظن أنها كامنة فيه4. وتكون الأصنام على أشكال مختلفة، قد تكون على هيئة بشر، وقد تكون على هيئة حيوان أو أحجار أو أشكال أخرى. ولهذه الأصنام عند عابديها مدلولات وأساطير. وهي تصنع من مواد مختلفة، من الحجارة ومن الخشب ومن المعادن ومن أشياء أخرى بحسب درجة تفكير عبدتها وتأثرهم بالظواهر الطبيعية والمؤثرات التي تحيط
1 البلدان "7/ 310""اللات".
2 تفسير الطبري" 29/ 62".
3 البلدان "7/ 310""اللات".
4 Ency، Rellgi، 7p.112.
بهم. وقد تستخدم خُشُبٌ خاصة تؤخذ من أشجار ينظر إليها نظرة تقديس واحترام في عمل الأصنام منها. ويتوقف صنعها على المهارة التي يبديها الفنان في الصنع. ويحاول الفنان في العادة أن يعطيها شكلًا مؤثرًا علاقة بالأساطير القديمة وبالكائن الذي سيمثله الصنم. وقد يكون الصنم من حجارة طبيعية عبدها عن أجداده كأن يكون من حجارة البراكين، وقد يكون من النيازك عبدها لظنه بوجود قوة خارقة فيها.
ولعبادة الأصنام صلة وثيقة بتقديس الصور Images وكذلك بصور السحر Magical Images فكل هذه الأشكال الثلاثة هي في الواقع عبادة. ونعني هنا بتقديس الصور، الصور المقدسة التي تمثل أسطورة دينية أو رجالًا مقدسين كان لهم شأن في تطور العبادة، أو جاءوا بديانة، وأمثال ذلك فأحب المؤمنون بهم حفظ ذكراهم وعدم نسيانهم أو الابتعاد عنهم. وذلك بحفظ شيء يشير إليهم ويذكرهم بهم، وهذا الشيء قد يكون صورة مرسومة، وقد يكون صورة محفورة أو منحوتة أو مصنوعة على هيئة تمثال أو رمز يشير إلى ذلك المقدس1.
فالصور المرسومة إذن، هي نوع من العبادة أيضًا، ينظر إليها نظرة تقديس وإجلال.
ونجد في روايات أهل الأخبار عن منشإ عبادة الأصنام عند العرب ما يؤيد هذا الرأي فهناك رواية طريفة عن الصنم "سواع" تزعم أن سواعًا كان ابنًا لشيث، وأن يغوث كان ابنًا لسواع، وكذلك كان يعوق ونسر، كلما هلك الأول صورت صورته وعظمت لموضعه من الدين ولما عهدوا في دعائه من الإجابة فلم يزالوا هكذا حتى خلف الخلوف، وقالوا: ما عظم هؤلاء آباءنا إلا لأنها ترزق وتنفع وتضر، واتخذوها آلهة. وهناك رواية أخرى تزعم أن الأوثان التي كانت في قوم نوح، كانت في الأصل أشخاصًا صالحين من قوم نوح. فلما هلكوا، أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسونها أنصابًا، وسموها بأسمائها، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنوسخ العلم بها عبدت2.
1 Ency. Religi. Vol. 7، p. 110.
2 الروض الأنف "1/ 62"، تفسير الطبرسي "5/ 364".