المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الفصل الثاني والسبعون: الحج والعمرة ‌ ‌مدخل … الفصل الثاني والسبعون: الحج والعمرة والحج الذهاب - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١١

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الحادي عشر

- ‌الفصل الحادي والستون: أديان العرب

- ‌الفصل الثاني والستون: التوحيد والشرك

- ‌مدخل

- ‌ظهور الشرك:

- ‌عبادة الكواكب:

- ‌الشفاعة:

- ‌الأصنام:

- ‌عبادة الأصنام:

- ‌الأصنام:

- ‌الوثن:

- ‌الصلم:

- ‌هيأة الأصنام:

- ‌عبادة الأصنام:

- ‌الحلف بالأصنام والطواغيت:

- ‌الفصل الثالث والستون: أنبياء جاهليون

- ‌الفصل الرابع والستون: الله ومصير الإنسان

- ‌مدخل

- ‌الله الخالق:

- ‌الاعتقاد بإله واحد:

- ‌الجبر والاختيار:

- ‌الموت:

- ‌البعث:

- ‌البلية والحشر:

- ‌الفصل الخامس والستون: الروح والنفس والقول بالدهر

- ‌مدخل

- ‌الرجعة:

- ‌الزندقة:

- ‌القضاء والقدر:

- ‌القدرية:

- ‌الحظ:

- ‌الطبع والطبيعة:

- ‌الفصل السادس والستون: الألهة والتقرب إليها

- ‌مدخل

- ‌الآلهة:

- ‌صفات الآلهة:

- ‌الثواب والعقاب:

- ‌التطاول على الأرباب:

- ‌الفصل السابع والستون: التقرب إلى الآلهة

- ‌مدخل

- ‌القرابين:

- ‌الترجيب:

- ‌البحيرة والسائبة والوصيلة والحام:

- ‌حمى الآلهة:

- ‌الفصل الثامن والستون: رجال الدين

- ‌مدخل

- ‌التبرك برجال الدين:

- ‌تنفيذ الأحكام:

- ‌كسور رجال الدين

- ‌الفصل التاسع والستون: الأصنام

- ‌مدخل

- ‌اللات:

- ‌العزى:

- ‌مناة:

- ‌هبل:

- ‌أصنام قوم نوح:

- ‌ود:

- ‌سواع:

- ‌يغوث:

- ‌يعوق:

- ‌نسر:

- ‌عميأنس:

- ‌إساف ونائلة:

- ‌رضى:

- ‌مناف:

- ‌ذو الخلصة:

- ‌سعد:

- ‌ذو الكفين:

- ‌ذو الشرى:

- ‌الأقيصر:

- ‌نهم:

- ‌عائم:

- ‌سعير:

- ‌الفلس:

- ‌أصنام أخرى:

- ‌المحرق:

- ‌الشمس:

- ‌الفصل السبعون: أصنام الكتابات

- ‌مدخل

- ‌الآلهة التي ورد ذكرها في النصوص:

- ‌الفصل الحادي والسبعون: شعائر الدين

- ‌مدخل

- ‌الصوم:

- ‌التحنث:

- ‌الاختتان:

- ‌الحلال والحرام:

- ‌الفصل الثاني والسبعون: الحج والعمرة

- ‌مدخل

- ‌الحمس والطلس والحلة:

- ‌التلبية:

- ‌التجارة في الحج:

- ‌العمرة:

- ‌الأعياد:

- ‌الفصل الثالث والسبعون: بيوت العبادة

- ‌مدخل

- ‌الاستفسار عن المغيبات:

- ‌تكليم الأصنام:

- ‌أشكال المعابد:

- ‌السقاية:

- ‌المذابح:

- ‌المحارق:

- ‌البخور والمباخر:

- ‌سدنة الآلهة:

- ‌فهرس الجزء الحادي عشر:

الفصل: ‌ ‌الفصل الثاني والسبعون: الحج والعمرة ‌ ‌مدخل … الفصل الثاني والسبعون: الحج والعمرة والحج الذهاب

‌الفصل الثاني والسبعون: الحج والعمرة

‌مدخل

الفصل الثاني والسبعون: الحج والعمرة

والحج الذهاب إلى الأماكن المقدسة في أزمنة موقوتة؛ للتقرب إلى الآلهة، وإلى صاحب ذلك الموضع المقدس. وتقابل هذه الكلمة Pilgrinage في الإنكليزية1. والحج بهذا المعنى معروف في جميع الأديان تقريبًا، وهو من الشعائر الدينية القديمة عند الساميين.

وكلمة "حج" من الكلمات السامية الأصيلة العتيقة، وقد وردت في كتابات مختلف الشعوب المنسوبة إلى بني سام2. كما وردت في مواضع من أسفار التوراة3. وهي تعني قصد مكان مقدس وزيارته.

وفي روع الشعوب السامية القديمة وغيرها أن الأرباب لها بيوت تستقر فيها، قيل لها في الأزمنة القديمة "بيوت الآلهة"، ولذلك يرى المتعبدون والمتقون شد الرحال إليها؛ للتبرك بها وللتقرب إليها، وذلك في أوقات تحدد وتثبت، وفي أيام تعين تكون أيامًا حرمًا لكونها أيامًا دينية ينصرف فيها الإنسان إلى آلهته، ولذلك تعد أعيادًا، يعمد فيها الناس، بعد إقامتهم الشعائر الدينية المفروضة.

1 تفسير الطبري "2/ 44"، "البابي"، اللسان "2/ 226"، الإقناع "1/ 334"، الكشاف، للزمخشري "1/ 389 وما بعدها".

Ency. Brita، Vol، 17، p. 925، Ency، Religi، Vol، 10، p. 10.

2 تاج العروس "1/ 16 وما بعدها"، اللسان "3/ 48 وما بعدها". Ency. Religi، 10، p. 23.

3.

Shorter Ency of Islam p. 123

ص: 347

وبعد أدائهم القواعد المرسومة، إلى الفرح والسرور والرقص؛ ليدخلوا السرور إلى قلوب الأرباب. ففي الحج إذن مناسك وشعائر دينية وعبادة تؤدى، واجتماع وسرور وحبور.

ويكون الحج بأدعية وبمخاطبة إلى الآلهة وبتوسلات لتتقبل حج ذلك الشخص الذي قصدها تقربًا إليها. وهذا هو الشائع والمعروف عن الحج، غير أن من الجاهليين من كان يحج حجًّا مصمتًا، أي دون كلام، فلا يتكلم الحاج طيلة أيام حجه. وقد كان ذلك من عمل الجاهلية1.

وقد ميز الشهر الذي يقع فيه الحج عن الأشهر الأخرى بتسميته بـ"شهر ذي الحجة" وبـ"شهر الحج". وذلك لوقوع الحج فيه. وهذه التسمية المعروفة حتى الآن في التقويم الهجري، هي تسمية قديمة، كانت معروفة في الجاهلية، وردت في نصوص الجاهلية. فبين أسماء الأشهر الواردة في نصوص المسند اسم شهر يعرف بـ"ذ حجتن" أي "ذي الحجة"، ويدل ذلك على أنه الشهر الذي يحج فيه. وقد وردت كلمة "حج" في نصوص المسند كذلك2.

وقد ذكر "أفيفانيوس" Epiphanius أن من أسماء الأشهر عند العرب شهرًا اسمه Aggathalbaeith، "حج البيت" 3، أراد به شهر "ذي الحجة" والعرب الذين قصده هذا الكاتب هم عرب "الكورة العربية"، ومعنى هذا أن العرب الشماليين كان لهم شهر يسمى بـ"ذي الحجة" كذلك 4.

ولفظة Aggathalbaeith، هي لفظة عربية النجار حرفت على لسان "أفيفانيوس" وقومه؛ لتناسب منطقهم، فصارت على هذا النحو، وهي من كلمتين عربيتين في الأصل، هما "حجة البيت"، أو "حج البيت" ويكون نص "أفيفانوس" هذا من النصوص المهمة بالنسبة لنا، التي تساعدنا في الرجوع بتأريخ استعمال هذا المصطلح إلى أيامه، ولا بد أن يكون ذلك المصطلح قد استعمل قبل أيام ذلك الكاتب ولا شك.

ويقع شهر الحج "ذي الحجة" -على رواية "أفيفانيوس"– في "تشرين"

1 إرشاد الساري "6/ 175".

2 D. Nielsen، Mondreligion، S. 86، Glaser 1054، Wiener Mus. No. 7.

3 Shorter Ency. Of Islam، p. 124.

4 Reste، s. 85، Ency. Religi، 10، p. 10.

ص: 348

الثاني"1، وأشار "بروكوبيوس" إلى أن العرب كانوا قد جعلوا شهرين من السنة حرمًا لآلهتهم لا يغزون ولا يهاجم بعضهم بعضًا2، كما أشار "فوتيوس" إلى الأشهر الحرم عند العرب3. والشهران اللذان أشار إليهما "بروكوبيوس"، هما شهرا ذو القعدة وذو الحجة في نظر "ونكلر"، وهما يمثلان -في رأيه- "جولاي" و"أغسطس" أي تموز وآب4"

إننا لا نستطيع في الوقت الحاضر أن نقول إن شهر "ذ حجتن" المذكور في المسند، أو Aggathalbaeith الذي ذكره "أفيفانيوس"، هو شهر "ذو الحجة" الشهر المعروف الذي كان من شهور أهل مكة. فمن الجائز أن يكون حج العرب الشماليين أو حج العرب الجنوبيين في وقت آخر يختلف عن وقت حج أهل مكة، فيكون شهرهم المذكور شهر آخر يقع في موسم آخر من السنة، ولا ينطبق مع شهر "ذي الحجة".

ويرى "ونكلر" أن ما ذكره "فوتيوس" من احتفال العرب مرتين في السنة بالحج إلى معبدهم المقدس: مرة في وسط الزبيع عند اقتران الشمس ببرج الثور، وذلك لمدة شهر واحد، ومرة أخرى في الصيف وذلك لمدة شهرين، إنما يراد بذلك شهر رمضان لاقتران الشمس فيه ببرج الثور، وأما الشهران الآخران فهما ذو القعدة وذو الحجة5.

ويظهر من غربلة ما أورده أهل الأخبار من روايات عن موسم الحج في الجاهلية، أن الحج إلى مكة كان في موسم ثابت، هو الربيع على رأي كثير من المستشرقين، أو الخريف على رأي "ولهوزن"6. وذلك بسبب ما ذكر عن النسيء ومن رغبة قريش وغيرها من أن يكون في وقت واحد، كما تحدثت عن ذلك في باب النسيء. وقد ذهب "ولهوزن" إلى أن "الشهر الحرام" المذكور في القرآن الكريم، هو "شهر الحج"، وهو الشهر الأول من السنة،

1 Reste، s. 100، Epiphantus، Haer، 51. 24.

2 Procopius، II، 16.

3 Reste، 101.

4 Winekler، ALF. II، Reihe، Ib، S. 336.

5 Winckler، ALF، II، Reihe. Ibd، S. 336.

6 Shorter، p. 124.

ص: 349

أي شهر محرم، بينما يرى المفسرون أن رجب أو ذو القعدة أو ذو الحجة1. والأصح أنه أي شهر من الأشهر الحرم.

وقد ورد في القرآن الكريم "الحج أشهر معلومات، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج"2. وقد قال "الطبري" "اختلف أهل التأويل في قوله: الحج أشهر معلومات. فقال بعضهم: يعني بالأشهر المعلومات: شوالًا وذو القعدة، وعشرًا من ذي الحجة"، "جعلهن الله سبحانه للحج، وسائر الشهور للعمرة، فلا يصلح أن يحرم أحد بالحج إلا في أشهر الحج. والعمرة يحرم بها في كل شهر"3، وذكر أن الله لم يسم أشهر الحج في كتابه؛ لأنها كانت معلومة عندهم4، وأن المراد بذلك أنه لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج، فإن من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج5. وبناء على ذلك، فلا يكون المراد من الآية أن الحج يقع في كل وقت من أوقات هذه الأشهر، وإنما هو في وقت معين، ولكن الإحرام للحج، أي العزم عليه يكون في أي وقت من هذه الأشهر المذكورة، وليس في الأشهر الأخرى. وذكر "المسعودي" أن أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة6. ومعنى ما تقدم أن الجاهليين كانوا يتهيئون للحج من دخول شهر شوال، فيصلحون أمورهم، ويحضرون ما يحتاجون إليه من لوازم السفر، فإذا أراد أحدهم تجارة وكسبًا ذهب إلى الأسواق، حتى يهل شهر ذو الحجة، وإن لم يرد تجارة، ذهب في أي وقت يراه مناسبًا له. فبدء موسم الحج إذن والتهيؤ له يكون من شهر شوال.

ويظهر من شعر نسب إلى "عوف بن الأحوص" أنه سمى شهر "ذي الحجة""شهر بني أمية" إذ يقول:

وإني والذي حجت قريش

محارمه وما جمعت حراء

وشهر بني أمية والهدايا

إذا حبست مضرجها الدماء7

1 Shorter، P. 409.

2 البقرة، الآية 197.

3 تفسير الطبري "2/ 105.

4 القرطبي "الجامع "2/ 405".

5 تفسير الطبرسي "الجزء الثاني""ص292 وما بعدها"، تفسير ابن كثير "1/ 235".

6 مروج "2/ 189"، الكشاف "1/ 245".

6 مروج "2/ 189"، الكشاف "1/ 254".

7 شرح ديوان لبيد "21".

ص: 350

وقد ذهب "ولهوزن" وجماعة آخرون من المستشرقين إلى تعدد بيوت الأرباب التي كان يحج إليها الجاهليون في شهر "ذي الحجة" وإلى عدم حصر الحج عند الجاهليين بموضع واحد1. ومعنى هذا أن حج أهل الجاهلية لم يكن إلى "مكة" وحدها، بل كان إلى محجات عديدة أخرى. بحيث حج كل قوم إلى "البيت" الذي قدسوه وكانوا يتقربون إليه ووضعوا أصنامهم فيه. ويتفق هذا الرأي مع ما يراه أهل الأخبار من وجود بيوت للأصنام، وكان الناس يزورونها ويتقربون إليها ويذبحون عند أصنامها ويطوفون حولها ويلبون تلبية الصنم الذي يطوفون حوله.

والحج إلى مكة وإلى البيوت المقدسة الأخرى، مثل بيت اللات في الطائف وبيت العزى على مقربة من عرفات وبيت مناة وبيت ذي الخلصة وبيت نجران وبقية البيوت الجاهلية المعظمة، إنما هو أعياد يجتمع الناس فيها للاحتفال معًا بتلك الأيام وهم بذلك يدخلون السرور على أنفسهم وعلى أنفس آلهتهم بحسب اعتقادهم وتقترن هذه الاحتفالات بذبح الحيوانات، كل يذبح على قدر طاقته ومكانته، فيأكل منها في ذلك اليوم من لم يتمكن من الحصول على اللحم في أثناء السنة لفقره، فهي أيام يجد فيها الفقراء لذة ومتعة وعبادة.

ويذكر أهل الأخبار أن الحج إلى مكة كان في الجاهلية كذلك، وأن الجاهليين كانوا يحجون إلى البيت منذ يوم تأسيسه، وأنهم كانوا يقصدون مكة أفواجًا من كل مكان. وأن ملوكهم كانوا يتقربون إلى "بيت الله" بالهدايا والنذور، وأن منهم من حج إليه. وأن الناس كانوا يقسمون بالبيت الحرام لما له من مكانة في نفوس جميع الجاهليين.

غير أننا نجد في روايات بعض أهل الأخبار ما ينافي تعظيم كل العرب للبيت وحجهم إليه واحترامهم للحرم وللأشهر الحرم. فقد ورد أن من العرب من "كان لا يرعى للحرم ولا للأشهر الحرام حرمة"، ومنهم "خثعم" و"طيء"2، وأحياء من قضاعة ويشكر والحارث بن كعب3. وورد أن ذؤبان العرب وصعاليكها.

1 Reste، s. 84.

2 تاج العروس "8/ 241"، "حرم".

3 الجاحظ، الحيوان "7/ 216 وما بعدها"، النجيرمي، أيمان العرب "12"، المحبر "319".

ص: 351

وأصحاب التطاول، كانوا لا يؤمنون على الحرم، ولا يرون للحرم حرمة، ولا للشهر الحرام قدرًا. وقد كانوا خطرًا يهدد البيت وأهله لذلك، ألف "هاشم بن قريش وسادات القبائل ألفة ليحمي بهم البيت. قال "الجاحظ" في تفسيره للإيلاف:"وقد فسره قوم بغير ذلك. قالوا: إن هاشمًا جعل على رءوس القبائل ضرائب يؤدونها إليه ليحمي بها أهل مكة. فإن ذؤبان العرب وصعاليك الأحياء وأصحاب التطاول. كانوا لا يؤمنون على الحرم. لا سيما وناس من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة ولا للشهر الحرام قدرًا، مثل طيء وخثعم وقضاعة وبعض بلحارث بن كعب"1. ورءوس القبائل الذين جعل هاشم عليهم ضرائب يؤدونها إليه ليحمي بها أهل مكة، هم رؤساء مكة ولا شك، ومن كانت له مصلحة تجارية مباشرة بمكة، فكان يأخذ من هؤلاء ما يأخذه ثم يجمعه ويعطيه إلى "المؤلفة قلوبهم" من سادات القبائل النازلين حول مكة وعلى مقربة منها، كما ألف بين مكة وبين سادات القبائل الذين تمر قوافل مكة بأرضهم في طريقها إلى الشأم أو العراق أو اليمن. بروابط "الإيلاف"، أي العقود التي عقدها معهم، بإعطائهم جعلًا معينًا، أو حقوقًا تبين وتكتب، أو ربحًا يدفع مع رءوس المال عن البضائع التي تدفع لقريش لتقوم قوافلها ببيعها في الأسواق. وبذلك أمنت مكة وسلمت تجارتها. ودانت بعض القبائل بدين قريش في الأشهر الحرم، لما فيها من فائدة ومنفعة مادية بينة ظاهرة، فاحترمتها، وبهذا أمن الحج واستراح التجار من قريش ومن غيرهم في ذهابهم بحرية وبأمان في هذه الشهور إلى الأسواق.

وليست لدينا ويا للأسف أخبار مدونة عن مناسك الحج وشعائره عند الجاهليين. لعدم ورود شيء من ذلك في النصوص الواردة إلينا، ما خلا الحج إلى "بيت الله الحرام" بمكة، حيث حفظت الموارد الإسلامية لنا شيئًا من ذلك؛ بسبب فرض الحج في الإسلام، وإقرار الإسلام لبعض شعائره التي لم تتعارض مع مبادئه ولولا ذلك لما عرفنا شيئًا عن الحج إلى مكة عند الجاهليين. ولهذا فسأقتصر في كلامي هنا على الحج إلى مكة فقط. إلا إذا وجدت خبرًا أو نصًّا عن حج غير

1 رسائل الجاحظ "70"، Kister، p. 119. 143. طبقات الشعراء، لابن سلام "61"، الثعالبي، المضاف والمنسوب "89" النقائض "2/ 671"، ابن هشام "1/ 603"، الأزمنة والأمكنة، للمرزوقي "2/ 166"، الأغاني "21/ 42".

ص: 352

أهل مكة من الجاهليين إلى مكة أو إلى بيوت أخرى فسأتكلم عنه حينئذ.

ويظهر من غربلة ما جاء في روايات أهل الأخبار عن "حج البيت"، أن مناسك الحج لم تكن واحدة بالنسبة للحجاج، بل كانت تختلف باختلاف القبائل. فقد انفردت "قريش" بأمور من أمور الحج، واعتبرتها من مناسك حجها، وانفردت قبائل أخرى بمناسك لم تعتبرها "قريش" موجبة لها، ولم تعمل بها ووقفت قريش في مواقف، اعتبرتها مواقف خاصة بها. وأوجبت على من يفد إلى مكة للحج، مناسك معينة سنتحدث عنها. فلما ظهر الإسلام وجد مناسك الحج وثبتها وأوجب على كل مسلم اتباعها.

ويبدأ الحج الحج في الإسلام بلبس "الإحرام" حين بلوغه "الميقات" المخصص للجهة التي جاء منها. و"ميقات" الحج موضع إحرامهم1. وقد عين الرسول أكثر "المواقيت" وثبتها، فجعل "ذا الحليفة" ميقاتًا لأهل "يثرب"، و"الجحفة" ميقاتًا لأهل الشأم، و"يلملم" ميقاتًا لأهل اليمن، و"قرن المنازل" لأهل نجد ومن يأتي من الشرق نحو الحجاز. وأما "ذات عرق"، فميقات أهل العراق، قيل إن الرسول ثبته، وقيل إنه ثبت بعد فتح العراق، أما أهل مكة، فكانوا يحرمون من بيوتهم2. ويجوز أن تكون هذه المواقيت من مواقيت أهل الجاهلية كذلك، وقد ثبتها الإسلام.

ويستعد الجاهليون للحج عند حضورهم موسم "سوق عكاظ" فإذا انتهت أيام السوق، وأراد منهم من أراد الحج، ذهب إلى "مجنة"، فأقام بها إلى هلال ذي الحجة، ثم ارتحل عنها إلى "ذي المجاز"، ومنه إلى "عرفة"، فإن كان يوم التروية، تزودوا بالماء وارتفعوا إلى عرفة. هذا بالنسبة إلى التجار، الذين كانوا يأتون هذه المواضع للتجارة، أما بالنسبة إلى غيرهم، فقد كانوا يقصدون الحج في أي وقت شاءوا، ثم يذهبون إلى "عرفة" للوقوف موقف عرفة، يقصدها "الحلة"، أما الحمس" فيقفون بـ"نمرة"، ثم يلتقون جميعًا بمزدلفة للإفاضة3.

1 تاج العروس "1/ 594"، "وقت".

2 شرح النووي على صحيح مسلم "5/ 190 وما بعدها"، حاشية على إرشاد الساري"، إرشاد الساري "3/ 97 وما بعدها".

3 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 121 وما بعدها".

ص: 353

ويبدأ حج أهل الجاهلية بالإهلال، فكانوا يهلون عند أصنامهم، ويلبون إليها، فإذا انتهوا من ذلك قدموا مكة، فكان الأنصار مثلًا يهلون لمناة في معبده، أي أنهم كانوا يغادرون "يثرب" على معبد الصنم، فيكونون فيه لمراقبة هلال ذي الحجة فإذا أهلوا لبوا، ثم يسير من يسير منهم إلى مكة، لحج البيت1.

والطواف بالبيوت وبالأصنام، ركن من أركان الحج، ومنسك من مناسكه. وكانوا يفعلونه كما دخلوا البيت الحرام، فإذا دخل أحدهم الحرم، وإذا سافر أو عاد من سفر، فأول ما كان يفعله الطواف بالبيت. وقد فعل غيرهم فعل قريش ببيوت أصنامهم، إذ كانوا يطوفون حولها كالذي كان يفعله أهل يثرب من طوافهم بـ"مناة"2.

وقد ذكر الأخباريون أن أهل الجاهلية كانوا يطوفون حول الرجمات، وهي حجارة تجمع فتكون على شبه بيت مرتفع كالمنارة، ويقال لها الرجمة3. وكان الجاهليون يطوفون حول الأصنام والأنصاب كذلك. وذكر "نيلوس" Nilus أن الأعراب كانوا يطوفون حول الذبيحة التي يقدمونها قربانًا للآلهة4. وكانوا يطوفون حول القبور أيضًا: قبور السادات والأشراف من الناس.

وطافوا حول "الأنصاب" ويسمون طوافهم بها "الدوار". فكانوا يطوفون حول حجر ينصبونه طوافهم بالبيت، وسموا تلك الأحجاب الأنصاب5.

وللطواف كلمة أخرى هي "الدوار" من "دار" حول موضع من المواضع، وطاف حوله الشيء، وإذا عاد إلى الموضع الذي ابتدأ منه. ونجد هذا المعنى في شعر الشاعرين الجاهليين: امرئ القيس، وعنترة بن شداد العبسي6. وقد ذكر علماء اللغة أن "الدوار" صنم كانت العرب تنصبه، يجعلون موضعًا حوله يدورون به، واسم ذلك الصنم والموضع الدوار. ومنه قول امرئ القيس:

فعن لنا سرب كأن نعاجه

عذارى دوار، في ملاء مذيل7

1 صحيح مسلم "4/ 68 وما بعدها".

2 شرح صحيح مسلم، للنووي "8/ 21 وما بعدها".

3 تاج العروس "3/ 422 وما بعدها"، "عمر" اللسان "6/ 282".

4 Reste، s. 108.

5 الأصنام "33، 42".

6 اللسان "4/ 296 وما بعدها". Shorter Ency، of Islam ، p 585.

7 اللسان "4/ 297 وما بعدها".

ص: 354

وقيل إنهم كانوا يدورون حوله أسابيع كما يطاف بالكعبة. وقيل حجارة كانوا يطوفون حولها تشبهًا بالكعبة1

وتلعب عبادة الحجر دورًا بارزًا في "الدوار" فقد كان قوم من أهل الجاهلية يقيمون الأحجار، ثم يطوفون حولها، يتخذون الدوار عبادة لهم. وقد تكون الأحجار أصنامًا، وقد تكون حجارة تنتقى فيطاف حولها، و"عن أبي رجاء العطاردي، قال: لما بعث النبي، صلى الله عليه وسلم، فسمعنا به لحقنا بمسيلمة الكذاب، فلحقنا بالنار، وكنا نعبد الحجر في الجاهلية، فإذا وجدنا حجرًا هو أحسن منه، ألقينا ذلك وأخذناه، فإذا لم نجد حجرًا جمعنا حثية من تراب ثم جئنا بغنم فحلبناها عليه ثم طفنا به، وكنا إذا دخل رجب قلنا جاء منصل الأسنة، فلا ندع سهمًا فيه حديدة، ولا حديدة في رمح إلا نزعناها وألقيناها"2.

ويلاحظ أن الجاهليين كانوا يقيمون وزنًا للحليب في أمور العبادة فقد كانوا يسكبونه على الأصنام، كما رأينا في باب الأصنام وفي القصة المتقدمة. ويلاحظ أن الرواية قد خصصت حليب الغنم، ولم تشر إلى حليب الإبل، أو حليب أية ماشية أخرى، مما قد يدل على وجود رابطة بين هذا الحليب وبين "الدوار" وأن له علاقة بالأساطير، وذلك في حالة صدق الخبر بالطبع.

والطواف من أهم طرق التعبد والتقرب إلى الآلهة. يؤدونه كما يؤدون الشعائر الدينية المهمة مثل الصلاة، وليس له وقت معلوم، ولا يختص ذلك بمعبد معين ولا بموسم خاص مثل موسل الحج، بل يؤدونه كلما دخلوا معبدًا فيه صنم، أو كعبة أو ضريح، فهم يطوفون سبعة أشواط حول الأضرحة أيضًا: كما يطوفون حول الذبائح المقدمة إلى الآلهة. فالطواف إذن من الشعائر الدينية التي كان لها شأن بارز عند الجاهليين.

وكانوا يطوفون بالبيت في نعالهم، لا يطئون أرض المسجد تعظيمًا له3. إلا أن يكون الحاج فقيرًا حافيًا. فقد كان منهم من لا يملك نعالًا ولا خفًّا ولا

1 تاج العروس "3/ 216""دار".

2 زاد المعاد" 3/ 32"، "فصل في قدوم وفد بني حنيفة"، إرشاد الساري "6/ 435"، "باب وفد بني حنيفة".

3 اليعقوبي "1/ 226"، "أديان العرب".

ص: 355

سائر ما يلبس بالرجل لفقره. وذكر أن رسول الله قال: "من لم يجد نعلين، فليلبس خفين"1. وقد ذكر "السكري"، أن "الحمس" كانوا "لا يطوفون بالبيت إلا في حذائهم وثيابهم ولا يمسون المسد بأقدامهم تعظيمًا لبقعته"2.

وذكر أن "الحلة" كانوا على العكس منهم. "فإذا دخلوا مكة بعد فراغهم تصدقوا بكل حذاء وكل ثوب لهم، ثم استنكروا من ثياب الحمس تنزيهًا للكعبة أن يطوفوا حولها إلا في ثياب جدد. ولا يجعلون بينهم وبين الكعبة حذاء يباشرونها بأقدامهم"3.

وكانوا يدخلون جوف الكعبة بنعالهم، لا يتأثمون من ذلك. وذكر أن "الوليد بن المغيرة" كان أول من خلع نعليه لدخول الكعبة، تعظيمًا لها، فخلع الناس نعالهم4.

وعدة الطواف حول الكعبة عند الجاهليين سبعة أشواط، ولا أستبعد أن يكون هذا العدد ثابتًا بالنسبة إلى الطواف حول البيوت الأخرى أو حول الرجمات والأنصاب والقبور أيضًا. فقد كان الطواف سبعة أشواط مقررًا عند غير العرب أيضًا، وقد ذكر في "التوراة"؛ إذ كان العبرانيون يمارسونه5. والعدد سبعة هو من الأعداد المقدسة المهمة عند الشعوب القديمة. ولهذا أرى أن غير قريش من العرب كانوا يطوفون هذا الطواف أيضًا حول محجاتهم في ذاك الوقت.

وقد ورد أن من الجاهليين من كان يطوف ويده مربوطة بيد إنسان آخر، بحبل أو بسير، أو بزمام أو منديل، أو خيط أو أي شيء آخر، يفعلونه نذرًا أو حتى لا يفترقا. وقد نُهي عن ذلك في الإسلام. فقد روي أن الرسول رأى أحدهما وقد فعل ذلك، فقطع بيده ذلك الرباط6.

1 صحيح مسلم "4/ 2 وما بعدها"، "كتاب الحج"، إرشاد الساري "3/ 313 وما بعدها"، "باب لبس الخفين للمحرم إذا لم يجد النعلين".

2 المحبر "180".

3 المحبر "180 وما بعدها".

4 ابن رستة، الأعلاق "191".

5 Shorter Ency، of Islam ، p. 585.

6 صحيح البخاري "2/ 179" إرشاد الساري "3/ 173 وما بعدها"، "باب الكلام في الطواف".

ص: 356