الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن والستون: رجال الدين
مدخل
…
الفصل الثامن والستون: رجال الدين
أقصد برجال الدين، أولئك الذين خدموا الأصنام، أو زعموا أنهم ألسنة الأرباب الناطقة على سطح الأرض، والذين كانوا يوجهون الناس توجيهًا روحيًّا دينيًّا، ويرعون حرمة المعابد والأماكن المقدسة وشعائر الدين ويحافظون عليها، ويضعون قواعدها للناس.
ومعارفنا عن هذا الموضوع قليلة ضئيلة؛ لعدم وجود نصوص جاهلية تتحدث عن ذلك، ولعدم ورود شيء مهم عنه في روايات أهل الأخبار. وليس لنا من أمل في زيادة علمنا بهذه الناحية، إلا في المستقبل، فلعله يكشف عن نصوص جاهلية جديدة، قد يرد فيها شيء جديد عن رجال الدين عند الجاهليين، أو في موارد أخرى عربية أو غير عربية قديمة، قد تكون مختبئة مطمورة، يأمر الزمن بإخراجها؛ ليقف عليها الباحث عن هذا الموضوع.
ومن الألفاظ الخاصة برجال الدين، لفظة "رشو"، الواردة في النصوص المعينية والقتبانية، أطلقت على من كان يقوم بخدمة الإله "ود" إله معين الرئيس و"عم" إله شعب قتبان الرئيس1. فهي في معنى سادن في لغة أهل الحجاز ووردت لفظة "شوع" في المعينية أيضًا في المعنى نفسه. و"رشوت""رشوة"
1 Handbuch، I، S. 131. 218. Katab. Texte، II، s. 80
بمعنى سادنة وكاهنة. مما يدل على وجود سادنات وكاهنات بين رجال الدين الجاهليين1.
ووردت في المعينية وفي اللحيانية لفظة "إفكل""أفكل" بمعنى رشو" وسادن، أي القائم بأمر الصنم، والسادن له. فورد: "أفكل ود"، أي سادن ود2. وتقابل هذه اللفظة لفظة "أبكلو" APkalu في الأكادية3. وعرفت السادنة والكاهنة بـ"أفكلت" "أفكلة"4.
والسدنة، قومة الأصنام ومتولو أمرها. وكان أمر فتح البيت بمكة وغلقه وتولي أمره إلى السادن. وهو من "بني عبد الدار"، وقد أقر الرسول السدانة فيهم عام الفتح5. ويعرف السادن بـ"الحاجب" كذلك. فالسدانة والحجابة هما بمعنى واحد6. غير أن الحجابة تخصصت بحجابة الملوك والأحكام، فصارت وظيفة إدارية ذات مدلول خاص. فالحاجب هو الذي يتولى تقديم الناس إلى الملوك أو منعهم من الوصول إليهم، وذلك في الجاهلية وفي الإسلام أما السدانة، فإنها ظلت محافظة على معناها هذا الخاص بالمعابد والمواضع المقدسة ولهذه المنزلة ولصلتها بالآلهة وبالأصنام عدت السدانة من درجات الشرف والجاه. وكانت لأصحابها حرمة ومكانة في النفوس.
والسدانة، تنتقل بالإرث من الآباء إلى أكابر الأبناء وتنحصر في الأسرة فتكون من حقها ومن نصيبها، لا يمكن انتزاعها منها إلا بقوة لا يمكن التغلب عليها ومن واجب العشيرة التي تنتمى هذه الأسرة إليها الدفاع عنها إن حاول غريب انتزاع هذا الشرف منها. ولقد كانت سدانة الكعبة في "بني عبد الدار"، وكانت حجابة "ود" في "دومة" الجندل إلى "بني عامر الأجدار"، "بنو الفرافصة بين الأحوص" من كلب7. وكانت سدنة العزى "من بني
1 Arabien، s. 249.
2 Grahmann، s. 87 Jaussen – Savignac، II، 380.
3 Grohmann. S. 249.
4 راجع النصوص رقم 9، 12، 21، 104، وكتاب W. Caskel. s. 132
5 تاج العروس "9/ 233"، "سدن".
6 Reste، s. 130.
7 المحبر "316" Reste. S. 130.
صرمة بن مرة" وكان سدنة "جهار" من "آل عوف" من "بني نصر"1، وكان سدنة "سواع" "بنو صاهلة" من هذيل2، وكان سدنة بيت "الربة" أي الشمس، من "بني أوس بن مخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم"، وكان سدنة "الفلس"، "بنو بولان" وكان سدنة "مناة" "الغطاريف" من الأزد. وسدنة "السعيدة" "بنو العجلان"، وسدنة "ذو الخلصة"، "بنو هلال بن عامر"، وكان سدنة "ذو اللبا"، "بنو عامر"، وسدنة "المحرق"، "آل الأسود" العجليون. وسدنة "مرحب" "ذو مرحب" أي من يتولى أمر الصنم3.
وكان "مسعود" الثقفي، زوج "سبيعة"، وقائد ثقيف في الفجار، من من سدنة اللات4. وهو من سادات ثقيف. ومن أبنائه "عروة بن مسعود، وأمه "سبيعة" بنت "عبد شمس". وذكر أنه الذي ذكر الله عز وجل في التنزيل من القريتين عظيم. وأحد أربعة اتصل سؤددهم في الجاهلية والإسلام5.
وكان لهذه الأسر التي تولت السدانة، مكانة كبيرة في قومها، فعدت من الأسر الشريفة ذات النفوذ عند الجاهليين، وقد استفادت من النذور والقرابين التي تقدم إلى بيوت الأصنام؛ إذ تكون من حقها ونصيبها، وقد ظهر من "بني مخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم"، حكام حكموا بعكاظ6. والحكومة من أمارات الشرف والجاه والتقدير، كما ظهر منها أئمة تولوا الإجازة بالمواسم، وهي من علائم التعظيم والتفخيم عندهم.
غير أن هذا الحق لا يستوجب ولا يشترط أن تكون السدانة في أسرة من القبيلة أو الموضع الذي فيه بيت الصنم أو الأصنام، فقد كان كثير من سدنة الأصنام من قبيلة لا تنتمي إليها من يقع بيت الصنم في أرضها. فكانت السدانة مثلًا لبني أنعم في جرش، ولبني الغطريف في قديد، ولبني شيبان في نخلة،
1 المحبر "315".
2 المحبر "316".
3 المحبر "316 وما بعدها".
4 المشرق، السنة 1938م، "الجزء الأول"، "ص7 وما بعدها".
5 الاشتقاق "2/ 186".
6 المحبر "134".
ولآل أمامة في تبالة وهكذا1. ويظهر أن هؤلاء توارثوا هذا الحق من عهد سابق، إما لأنهم استوردوا الصنم أو تلك الأصنام إلى هذه المواضع فأقاموا فيها، وإما لأنهم كانوا يسكنون مع قبيلتهم في تلك الأماكن، ثم حدث لسبب من الأسباب أن جلت قبيلتهم عن المواضع. أما السدنة ففضلوا البقاء في الموضع الذي كانوا فيه حيث أصنامهم والبيت. ونجد مثل ذلك أيضًا عند العبرانيين2.
ويظهر من تفسير لفظة "صوفة" و"صوفان"، على رأي بعض العلماء، أن هذه الكلمة كانت تقال لكل من ولي البيت شيئًا من غير أهله، أو قام بشيء من خدمة البيت أو بشيء من أمر المناسك3. ومعنى هذا أن خدمة البيت: بيت مكة أو غيره، لم تكن خاصة بأهل الموضع الذي يكون فيه هذا البيت، بل كان من الجائز أن يتولاها أناس من أهل ذلك الموضع، وأناس من غيرهم أيضًا كأن يقيم أشخاص في ذلك المكان، فتطول إقامتهم به، وتظهر منهم زعامة أو من أولادهم تؤدي بهم إلى الاستحواذ على رئاسة البيت ورئاسة ذلك المكان، كالذي كان من أمر "قصي" مثلًا.
ولا بد من إدخال "النسأة". في رجال الدين فقد كان الناسيء هو الذي ينسئ النسيء يعين موسم الحج ويثبته للناس. فهو إذن فقيه القوم وعالمهم ومفتيهم في أمر الحج4.
وقد كان من أهم واجبات "النسأة"، تثبيت وتعيين الأشهر. فقد كانت لدى الجاهليين أشهر حرم. لها حرمة ومنزلة خاصة في نفوسهم، لما كان لها من علاقة بآلهتهم وبتعبدهم لها. وبالحج فيها إلى معابد الآلهة. مثل شهر "ذ الألت""ورخن ذ الألت"، وهو شهر خصص بالآلهة، كما يظهر من تسميته بها. يظهر أنه كان شهر تقرب وعبادة للأرباب. ومثل شهر "ذ عم"، "ذو عم"، و"عم" هو إله قتبان الرتيس، فيظهر أنه شهر مقدس خصص بعبادة هذا الإله، أو أن يومًا أو عيدًا خاصًّا به، كان يقع فيه، فدعي لذلك باسمه. ومثل شهر "ذ حجتن"، أي شهر "ذو الحجة"، وهو شهر خصص
1 Reste، S. 130.
2.
Reste، S. 31
3 الروض الانف "1/ 85".
4 المحبر "156 وما بعدها" المعاني الكبير "3/ 1171".
بالحج. ومثل الأشهر الأربعة الحرم التي تتحدث عنها الموارد الإسلامية.
والإجازة بعرفة من الأعمال التي لها تماس بالدين، فهي من شعائر الحج ومناسكه. ولا بد وأن نعد "المجيز" وهو الذي يجيز الناس من المزدلفة إلى منى من رجال الدين. وممن كانت له منزلة وحرمة في قومه؛ لما لمركزه من أهمية في الحج.
وقد أشار "السكري" إلى "أئمة العرب"، فذكر أنهم الذين تولوا أمر المواسم، وأمر القضاء بعكاظ، والذين كانوا سدنتهم على دينهم وأمناءهم على قبلتهم، وكانوا من قريش، والذين تولوا الإفتاء في دينهم. وهم من "بني مالك بن كنانة"1. ولما تحدث عن "النسأة"، قال: "نسأة الشهور من كنانة وهم القلامسة، وأحدهم قلمس، وكانوا فقهاء العرب والمفتين لهم في دينهم"2. والفقيه العالم "وفقيه العرب عالمهم"3. والفقه العلم، "وقد جعلته العرب خاصًّا بعلم الشرعية" وفقهه تفقيهًا علمه. "ومنه الحديث: اللهم علمه الدين وفقهه في التأويل، أي علمه تأويله"4.
وفي القرآن الكريم: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} 5. والفقه العلم بالشيء والفهم له والفطنة6. وقد خصصت اللفظة بعلم الفقه في الإسلام مما يدل على أن لها صلة منذ أيام الجاهلية بالعلم والدين. وأن "الفقهاء" العلماء بأمور الدين عند الجاهليين كذلك. وفيه ألفاظ يستدل منها على وجود مفهوم العلم والعلماء والتعلم والدين وفهمه والشريعة والأحكام عند الجاهلين، ولا تكون هذه عند قوم ليس لهم علماء ورجال دين يعلمون من هم دونهم أحكام الدين؛ ليتفقهوا فيه وليتعلموا ما هو واجب عليهم وما هو غير واجب ومفروض عليهم.
والإفتاء الإجابة عن مسألة: ومن قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} و"الفتيا" و"الفتوى" ما أفتى به الفقيه في مسألة7. وقد استفتى أصحاب
1 المحبر "181 وما بعدها".
2 المحبر "156".
3 تاج العروس "9/ 402"، "فقه".
4 تاج العروس "9/ 402"، "فقه".
5 التوبة، الرقم 9، الآية 122، تفسير الطبري "11/ 48"، روح المعاني "11/ 43".
6 تاج العروس "9/ 402"، "فقه".
7 تاج العروس "10/ 2375"، "فتى".
رسول الله الرسولَ في أمر النساء وإرثهن فنزل الوحي:
{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} 1. فقد كان أهل الجاهلية يستفتون فقهاءهم وأهل الفتيا منهم فيما يشكل عليهم من أمور الدين، فيفتون لهم ما يرونه من رأي واجتهاد. فنحن إذن أمام فقه في الدين واجتهاد فيه عند أهل الجاهلية.
والإمام ما ائتم به قوم من رئيس أو غيره، كانوا على دين أو كانوا مشركين فهو الذي يقتدى به2. وقد وردت الكلمة في سبعة مواضع من القرآن الكريم في حالة الإفراد، ووردت خمس مرات في حالة الجمع، أي "أئمة"، أطلقت على أئمة الكفر وعلى الغواة كما أطلقت فيه على المؤمنين الهادين إلى الحق. وأئمة الكفر في قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} ، أبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وأبو سفيان، وهم الذين كانوا يؤذون الرسول، وهمُّوا بإخراجه وعادوه3. فالإمام إمام دين وإمام دنيا: رجل دين يقتدى به، ورئيس قبيلة وشريف قوم وسيدهم. ونظرًا لقلة استعمال اللفظة في الرئاسة الدينية ولاستعمالها في معنى الرئاسة الدينية في الغالب، ولا سيما في الإسلام حيث خصصت برئاسة دينية، من إمامة للمسلمين، وإمامة في الفقه، وإمامة في الصلاة، ولعدم إطلاق الجاهلين لها على سادات القبيلة أو سادة القوم، إلا في القليل. فإن في استطاعتنا القول أنها كانت عندهم في معنى الرئاسة الدينية كما هو الحال في الإسلام.
ونجد في أخبار أهل الأخبار ما يفيد بوجود رجال دين كان لهم رأي في الخلق وفي الخالق وفي الحياة، منهم من بشر برأيه وحاول نشره: ومنهم من تبتل واعتكف وقنع بإيمانه برأيه وبصحة عقيدته. حتى إن منهم من كان قد تبتل وتنسك وسلك طريق الزهاد في اجتناب الطيبات ولذات الحياة، ومن ذلك أكل اللحم. فقد عرف "عبد الله بن عبد الملك بن عبد الله"4 الغفاري، بـ"أبي اللحم""آبي اللحم"؛ لأنه كان يأبى أن يأكل اللحم. وكان شريفًا شاعرًا، ينزل "الصفراء"، وشهد "حنينًا" وقتل بها5.
1 النساء، الآية 127، تفسير الطبري "5/ 191"، روح المعاني "5/ 143".
2 تاج العروس "8/ 193"، "أمم".
3 التوبة، الرقم 9، الآية 12، تفسير الطبري "10/ 62".
4 ذكر "ابن الكلبي" أن اسمه "خلف بن عبد الملك"، وقيل اسمه الحويرث،
5 الإصابة "1/ 23"، "رقم 1".
وعرف "عثمان بن مظعون" بتبتله، حتى إنه ابتعد عن زوجه، فلم يقربها، وكاد أن يختصى، حتى نهاه عن ذلك رسول الله، وكان على هذا الرأي في جاهليته من شدة التمسك بالزهد عن الدنيا والابتعاد عن ملذاتها، وقد كان نصرانيًّا متأثرًا بالرهبانية، أخذ آراءه هذه من زهاد النصارى، الذين غلب التصوف عليهم، وابتعدوا عن الدنيا، ورأوا أن الخلاص من الخطيئة والإثم، هو بالتقشف والابتعاد عن كل حلو محبوب في هذه الدنيا1.
وقد عرفت الجاهلية رجالًا آخرين كانوا مثل عثمان بن مظعون والرهبان في التأمل والتفكر والابتعاد عن الناس. وهي رهبانية حاربها الإسلام؛ إذ نهى عن الرهبنة. رأى "عمر" رجلًا مطأطئًا رأسه، فقال: ارفع رأسك، فإن الإسلام ليس بمريض. ورأى رجلًا متماوتًا، فقال: لا تمت علينا ديننا، أماتك الله.
ونظرت عائشة إلى رجل كاد يموت تخافتًا، فقالت: ما لهذا؟ قيل: إنه من القراء، فقالت: كان عمر سيد القراء، وكان إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع2. وذكر أن عشرة من الصحابة اجتمعوا في بيت "عثمان بن مظعون"، واتفقوا على أن يصوموا النهار، ويقوموا الليل ولا يناموا على الفراش، ولا يأكلون اللحم والودك. ويلبسوا المسوح، فسمع رسول الله بهم فنهاهم عن ذلك3.
و"الصارورة" والصرار الذين تبتلوا وتركوا النكاح. وهذا من فعل الرهبان. وهو معروف عند العرب. والصرورة الرجل في الجاهلية يحدث حدثًا فيلجأ إلى الكعبة. فلا يهج فكان إذا لقيه ولي الدم في الحرم، قيل له هو صرورة ولا تهجه، تعظيمًا للبيت واحترامًا له4.
ومثل "صرمة" المعروف بـ"أبي قيس"، وكان ترهب في الجاهلية واغتسل من الجنابة، وهمَّ بالنصرانية ثم أمسك. وكان قوالًا بالحق لا يدخل بيتًا فيه جنب ولا حائص إلى أن أدرك الإسلام، فأسلم5. ويظهر من ذلك،
1 إرشاد الساري "8/ 10 وما بعدها".
2 اللسان "2/ 94"، "موت".
3 الطبرسي، مجمع البيان "3/ 236".
4 اللسان "4/ 453"، "صرر"، تاج العروس "3/ 331"، صرر".
5 الإصابة "2/ 176"، "رقم 4061".
أن الاغتسال من الجنابة والابتعاد عن الحائض من الشعائر التي راعاها المتدينون من أهل الجاهلية، من الموحدين الذين تأثروا باليهودية، لكنهم لم يدخلوا فيها ولا في النصرانية، بل أمسكوا عن الديانتين، ودعوا إلى عبادة واحد أحد، وماتوا على هذا الدين.
ومثل "وكيع بن سلمة" الإيادي، صاحب الصرح بحزورة مكة، فقد كان كاهنًا ورجل دين، وقالوا كان صديقًا من الصديقين. اتخذ صرحًا يصعد إليه بسلالم، فكان يدعي أنه يناجي ربه من ذلك الموضع1. وكان يعظ الناس وينصحهم بالتدين بدينه وبالابتعاد عن عبادة الأوثان، على شاكلة الأحناف، وهو في الواقع واحد منهم، ويجب اعتباره أحدهم؛ لأن ما ينسب إليه ينسب أيضًا إلى الحنفاء.
والصديق الكثير الصدق، ومن صدق بقوله واعتقاده وحقق صدقه بفعله، "قال الله تعالى {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} . وقال تعالى:{وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} ، أي مبالغة في الصدق والتصديق"2. وهم من آمن بالله وصدق به وبشر بعبادته بين الناس، وكان بارًّا بنفسه وبغيره. وهي بمعنى "بار" في لغة بني إرم3.
وقد نسب أهل الأخبار إلى رجال من الجاهليين فتاوى وأحكام صارت سننًا في قومهم. من ذلك ما نسبوه إلى "قصي" من أمور، زعموا أنها صارت سنة احتذت بها قريش، وأن بعضًا من أحكامه بقيت إلى الإسلام فأقرها4، وما نسبوه إلى "عامر بن الظرب" العدواني من حكم في "الخنثى" جرى حكم الإسلام به5. وما ذكروه من إفتاء "عامر بن جشم بن غنم" المعروف بـ"ذي المجاسد". في التوريث على قاعدة: "أن للذكر مثل حظ الأنثيين، وهو حُكم حَكَمَ به الإسلام. ومن أمور أخرى، يرد ذكرها في المواضع المناسبة من هذا الكتاب6، مما يدل على أن الحياة الدينية عند الجاهليين، هي آراء وفتاوى، أفتى بها رجال من أهل الدين والمروءة والعقل والعلم من أهل الجاهلية، فأخذ بها قوم من
1 المحبر "136".
2 تاج العروس "6/ 405 وما بعدها". "صدق" تفسير الطبري "16/ 67".
3 غرائب اللغة "192".
4 المحبر "236".
5 المحبر "236".
6 المحبر "236 وما بعدها".
أتباعهم، وساروا بموجبها وبقي بعض منها إلى الإسلام. غير أن تلك الفتاوى لم تكن عامة، شملت كل العرب، بل حتى كل قوم ذلك المفتي أو الإمام؛ إذ لم تكن عند العرب سنة واحدة ملزمة لسبب أنهم كانوا شيعًا وقبائل ولكراهتهم الخضوع للقيود العامة إلا كرهًا، وذلك في الأمور التي لا بد لهم من الخضوع لحكمها لأنها من أصول الأعراف التي يقوم عليها وجودهم مثل عرف الأخذ بالثأر.
ومن الصعب تصور وجود طبقة خاصة كبيرة لرجال الدين على نحو ما كان عند المصريين مثلًا أو الآشوريين أو البابليين أو اليونان أو الرومان أو في الكنيسة، بسبب النظام القبلي الذي كان غالبًا على جزيرة العرب. وصغر المجتمعات الحضرية. فالأصنام هي أصنام محلية، أصنام قبلية، لذلك كان عبدتها هم عبدة القبيلة أو القبائل المتعبدة لها. وفي محيط اجتماعي ضيق مثل هذا المحيط، لا يمكن ظهور طبقة خاصة برجال الدين ذات نفوذ واسع، إنما تكون قدرتها بقدرة المحيط الذي تعيش فيه. ولما كانت حياة البداوة حياة بسيطة غير معقدة، تعذر علينا أن نتصور حياة دينية معقدة عند أبناء البادية. وكل ما يمكن وجوده عندهم، هو ما كان له علاقة بمحيطهم وبمعيشتهم البسيطة، مثل السدانة والكهانة وأمثال ذلك مما يحتاج إليه البدوي لحل مشكلات حياته ولجلب السعادة له.
ولم أجد في نصوص الجاهليين ولا في أخبار أهل الأخبار، ما يفيد قيام رجال الدين من أهل الجاهلية. بتلقين الناس أصول الدين وتعاليمه، أو شرح نصوص دينية لهم أو تعليمهم الناس مبادئ القراءة والكتابة في المعابد على نحو ما كان يفعله اليهود والنصارى في ذلك الوقت. ولكن هذا لا يكون دليلًا على نفي وجود شيء من ذلك عندهم. فقد يجوز أن يعثر في المستقبل على نصوص تفيد بوجود ذلك عندهم. ذكر أن رجلًا من "خثعم" قال:"كانت العرب لا تحرم حلالًا ولا تحلل حرامًا. وكانوا يعبدون الأوثان ويتحاكمون إليها"1.
1 ابن عساكر، التأريخ الكبير "1/ 317".
{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ، وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} 1، وآيات أخرى وكلمات تفيد وجود تشريع ومشرعين لدى الجاهليين، أي رجال دين يبينون لهم الحلال والحرام وأوامر الأصنام، ويشرعون لهم من تشريع كالذي نراه في هذه الآيات وغيرها من أحكام وضعوها للناس باسم آلهتهم، فوبخهم الله في القرآن على افترائهم هذا على الله وعلى الأصنام التي لا تنطق ولا تعقل.
وكان من أهم واجبات رجال الدين والزهاد والمتنسكين، الأشراف على المعابد وصيانة أموالها، وخدمة الأصنام وتنفيذ الأحكام، وتلبية طلبات الناس في التوسط لدى الآلهة برفع الضر والكرب عنهم، أيام الشدة وساعات العسر. من ذلك التوسل إلى الآلهة. بحفظ القوافل، وإنزال الرحمة بالناس سني القحط. ومن ذلك ما يسمونه بالاستسقاء. فقد كانوا يستسقون إذا أجدبوا، فإذا أرادوا ذلك أخذوا من ثلاثة أشجار وهي: سلع وعشر وشبرق، من كل شجرة شيئًا من عيدانها وجعلوا ذلك حزمة، وربطوا بها ظهر ثور وأضرموا فيها الناس، ويرسلون ذلك الثور، فإذا أحس بالنار عدا حتى يحترق ما على ظهره ويتساقط. وقد يهلك ذلك الثور فيسقون2.
وذكر أنهم كانوا إذا أرادوا الاستمطار في الجاهلية اجتمعوا وجمعوا ما قدروا عليه من البقر ثم عقدوا في أذنابها وبين عراقيبها السلع والعشر، ثم صعدوا بها في جبل وعر، وأشعلوا فيها النيران، وضجوا بالدعاء والتضرع. فكانوا يرون أن ذلك من أسباب السقيا. ولأمية بن أبي الصلت شعر في ذلك3.
وكان من عادة أهل مكة في الاستسقاء، أنهم كانوا إذا أجدبوا وقحطوا، واشتدت بهم الحاجة، خرج من كل بطن منهم رجل، ثم يغتسلون بالماء، ويتطيبون، ثم يلتمسون الركن ويطوفون بالبيت العتق سبعًا، ثم يرقون أبا قبيس، فيتقدم رجل منهم، يكون من خيارهم، ومن رجال الدين فيهم، ممن يتبركون به، فيدعو الله ويستغيث طالبًا الرحمة والغوث بالمتوسلين إليه. ويذكرون أن "عبد المطلب"، كان ممن استسقى لأهل مكة ولغيرهم مرارًا4.
1 الأنعام، الرقم 6، الآية 137 وما بعدها.
2 السيرة الحلبية "1/ 132".
3 الحيوان "4/ 466 وما بعدها".
4 السيرة الحلبية "1/ 132 وما بعدها".