المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحمس والطلس والحلة: - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١١

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الحادي عشر

- ‌الفصل الحادي والستون: أديان العرب

- ‌الفصل الثاني والستون: التوحيد والشرك

- ‌مدخل

- ‌ظهور الشرك:

- ‌عبادة الكواكب:

- ‌الشفاعة:

- ‌الأصنام:

- ‌عبادة الأصنام:

- ‌الأصنام:

- ‌الوثن:

- ‌الصلم:

- ‌هيأة الأصنام:

- ‌عبادة الأصنام:

- ‌الحلف بالأصنام والطواغيت:

- ‌الفصل الثالث والستون: أنبياء جاهليون

- ‌الفصل الرابع والستون: الله ومصير الإنسان

- ‌مدخل

- ‌الله الخالق:

- ‌الاعتقاد بإله واحد:

- ‌الجبر والاختيار:

- ‌الموت:

- ‌البعث:

- ‌البلية والحشر:

- ‌الفصل الخامس والستون: الروح والنفس والقول بالدهر

- ‌مدخل

- ‌الرجعة:

- ‌الزندقة:

- ‌القضاء والقدر:

- ‌القدرية:

- ‌الحظ:

- ‌الطبع والطبيعة:

- ‌الفصل السادس والستون: الألهة والتقرب إليها

- ‌مدخل

- ‌الآلهة:

- ‌صفات الآلهة:

- ‌الثواب والعقاب:

- ‌التطاول على الأرباب:

- ‌الفصل السابع والستون: التقرب إلى الآلهة

- ‌مدخل

- ‌القرابين:

- ‌الترجيب:

- ‌البحيرة والسائبة والوصيلة والحام:

- ‌حمى الآلهة:

- ‌الفصل الثامن والستون: رجال الدين

- ‌مدخل

- ‌التبرك برجال الدين:

- ‌تنفيذ الأحكام:

- ‌كسور رجال الدين

- ‌الفصل التاسع والستون: الأصنام

- ‌مدخل

- ‌اللات:

- ‌العزى:

- ‌مناة:

- ‌هبل:

- ‌أصنام قوم نوح:

- ‌ود:

- ‌سواع:

- ‌يغوث:

- ‌يعوق:

- ‌نسر:

- ‌عميأنس:

- ‌إساف ونائلة:

- ‌رضى:

- ‌مناف:

- ‌ذو الخلصة:

- ‌سعد:

- ‌ذو الكفين:

- ‌ذو الشرى:

- ‌الأقيصر:

- ‌نهم:

- ‌عائم:

- ‌سعير:

- ‌الفلس:

- ‌أصنام أخرى:

- ‌المحرق:

- ‌الشمس:

- ‌الفصل السبعون: أصنام الكتابات

- ‌مدخل

- ‌الآلهة التي ورد ذكرها في النصوص:

- ‌الفصل الحادي والسبعون: شعائر الدين

- ‌مدخل

- ‌الصوم:

- ‌التحنث:

- ‌الاختتان:

- ‌الحلال والحرام:

- ‌الفصل الثاني والسبعون: الحج والعمرة

- ‌مدخل

- ‌الحمس والطلس والحلة:

- ‌التلبية:

- ‌التجارة في الحج:

- ‌العمرة:

- ‌الأعياد:

- ‌الفصل الثالث والسبعون: بيوت العبادة

- ‌مدخل

- ‌الاستفسار عن المغيبات:

- ‌تكليم الأصنام:

- ‌أشكال المعابد:

- ‌السقاية:

- ‌المذابح:

- ‌المحارق:

- ‌البخور والمباخر:

- ‌سدنة الآلهة:

- ‌فهرس الجزء الحادي عشر:

الفصل: ‌الحمس والطلس والحلة:

‌الحمس والطلس والحلة:

والأخباريون يذكرون أن الطائفين بالبيت كانوا على صنفين: صنف يطوف عريانًا، وصنف يطوف في ثيابه. ويعرف من يطوف بالبيت عريانًا بـ"الحِلة". أما الذين يطوف بثيابهم، فيعرفون بـ"الحمس"1. وأضاف بعض أهل الأخبار إلى هذين الصنفين، صنفًا ثالثًا قالوا له: "الطلس"2.

وقبائل الحلة من العرب: تميم بن مر كلها غير يربوع، ومازن، وضبة، وحميس، وظاعنة، والغوث بن مر، وقيس عيلان بأسرها ما خلا ثقيفًا وعدوان، وعامر بن صعصعة، وربيعة بن نزار كلها. وقضعة كلها ما خلا علافًا وجنابًا. والأنصار وخثعم، وبجيلة، وبكر بن عبد مناة بن كنانة، وهذيل بن مدركة، وأسد وطيء، وبارق. وقد ذكر هذه الأسماء "محمد بن حبيب"3. وذكرها "اليعقوبي" على هذا النحو: تميم وضبة ومزينة والرباب وعكل وثور وقيس عيلان كلها ما خلا عدوان وثقيف وعامر بن صعصعة وربيعة بن نزار كلها، وقضاعة وحضرموت وعك وقبائل من الأزد4.

وهم يذكرون أن "الحلة" ما عدا الحمس وأنهم كانوا يطوفون عراة إن لم يجدوا ثياب أحمس، وكانوا يقصدون من طرحهم ثيابهم طرحهم ذنوبهم معها5. ويذكرون أنهم كانوا يقولون:"لا نطوف في الثياب التي قارفنا فيها الذنوب"، "ولا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها"، "ولا نطوف في ثياب عصينا الله فيها"، وذكر أنهم "كانوا إذا طافوا خلعوا ثيابهم وقالوا لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها، فيلقونها عنهم، ويسمون ذلك الثوب اللقى"6. وفي رواية أن من يطوف

1 تفسير الطبري "2/ 170"، البخاري، "كتاب الحج، الباب 91"، "كتاب التفسير، الباب 35"، البلدان "4/ 620 وما بعدها"، الأزرقي "1/ 113" اليعقوبي "1/ 226"، "النجف 1964م"، المحبر "178"، ابن هشام "1/ 212"، الكشاف "1/ 256"، شرح حماسة أبي تمام، للتبريزي "1/ 7"، شرح المفضليات، للأنباري "259"، ابن رشيق، العمدة "2/ 188"، ابن الفقيه، مختصر كتاب البلدان "18".

2 المحبر "178 وما بعدها".

3 المحبر "179".

4 اليعقوبي "1/ 226"، "النجف 1964م".

5 الروض الأنف "1/ 133".

6 الأزرقي "1/ 117"، اللسان "20/ 122"، الكشاف "2/ 60".

ص: 357

من "الحلة" بثيابه يضرب وتنتزع منه ثيابه1. فجعلت هذه الرواية خلع الثياب واجب على الحلة محتم عليهم، لا يجوز مخالفته، وإلا تعرض المخالف للعقاب.

وتخضع النساء لهذه القاعدة أيضًا إذا كن من الحلة، فكانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة2. وقيل تضع إحداهن ثيابها كلها إلا درعًا مفرجًا عليها ثم تطوف فيه3. وقيل كانت تقف على باب المسجد، فتقول: من يعير مصونًا؟ من يعير ثوبًا؟ من يعيرني تطوافًا؟ فإن أعارها أحد ثوبًا أو كراه لها طافت به وإلا طافت عريانة كما يطوف الرجال على حد زعم الروايات. لا يستر عورتها لباس أو قماس، بل كانت تضع إحدى يديها على قبلها واليد الأخرى على دبرها وتطوف حول البيت على هذا النحو. وهم يروون في ذلك بيتًا ينسبونه لامرأة جميلة، قيل هي: ضباعة بنت عامر بن صعصعة بالبيت عريانة وهي تقول:

اليوم يبدو بعضه أو كله

وما بدا منه فلا أحله4

وشاءت بعض الروايات أن تخفف من وقع طواف النساء على هذه الصورة في النفوس، فذكرت أن بعض النساء كانت تتخذ سيورًا فتعلقها في حقوتها تستتر بها5، وذكرت روايات أخرى أنهن كن يطفن ليلًا، وبذلك يتخلصن من وقوع سترهن في أعين الرجال؛ لأن طواف الرجال في النهار6.

وقد وصفت بعض الروايات طواف العريان فقالت: "يبدأ بإساف فيستلمه، ثم يستلم الركن الأسود، ثم يأخذ عن يمينه ويطوف ويجعل الكعبة عن يمينه، فإذا ختم طوافه سبعًا، استلم الركن ثم استلم نائلة فيختم بها طوافه، ثم يخرج فيجد ثيابه كما تركها لم تمس، فيأخذها فيلبسها ولا يعود إلى الطواف بعد ذلك.

1 الكشاف "2/ 60"، الأزرقي "1/ 112 وما بعدها".

2 صحيح مسلم "18/ 162".

3 سيرة ابن هشام "1/ 133""حاشية على الروض"

4 الأزرقي "1/ 115، 117"، اللسان "11/ 129"، "طوف" الروض "1/ 133"، صحيح مسلم "18/ 162"، تفسير الطبري "8/ 118"، تفسير القرطبي، الجامع "7/ 189".

5 الأزرقي "1/ 117".

6 الأزرقي "1/ 117"، الطبرسي "3/ 414".

ص: 358

عريانا"1. هذا هو طواف أهل الجاهلية قبل الإسلام على رواية أهل الأخبار. وجاء في بعض الروايات: "كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس والحمس قريش وما ولدت، كانوا يطوفون بالبيت عراة، إلا أن تعطيهم الحمس ثيابًا، فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء"، "فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره ثوبًا ولا يسار يستأجر به، كان بين أحد أمرين: إما أن يطوف بالبيت عريانًا، وإما أن يطوف في ثيابه، فإذا فرع من طوافه ألقى ثوبه عنه، فلم يمسه أحد. وكان ذلك الثوب يسمى اللقى"2. وجاء أيضًا أن "الحمس" كانوا "يقولون نحن أهل الحرم، فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا"3.

وورد أنهم "كانوا يطوفون بالبيت عراة، وهم مشبكون بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون"4.

ويذكر بعض أهل الأخبار أن طواف الطائف عريانًا إنما يكون للمرة الأولى، فإذا عاد فطاف بعد ذلك، لبس ملابسه، وطاف بملابسه كالحمس لا يلقيها خارج حدود الحرم.

والتفسير الذي ذكره الأخباريون لطواف العري، هو رغبة الطائف حول البيت أن يكون نقيًّا متحررًا عن ذنوبه وآثامه بعيدًا عن الأدران. واعتقاده أن طوافه بملابسه طواف غير صحيح؛ لأن ملابسه شاركته في آثامه، فهي ملوثة نجسة، ولذلك هاب من لبسها، فإذا أتم طوافه تركها في موضعها، ولبس ملابس أخرى جديدة5.

ويذكر الأخباريون أن تلك الملابس التي يلقيها المحرم تبقى في مكانها، لا يمسها أحد، ولا يحركها حتى تبلى من وطء الأقدام ومن الشمس والرياح. ويقال لهذه الثياب التي تطرح بعد الطواف "اللقى" وقد أشير إليها في شعر

1 الأزرقي "1/ 114".

2 تفسير القرطبي "7/ 189".

3 المصدر نفسه".

4 تفسير النيسابوري "9/ 157"، "حاشية على تفسير الطبري" تفسير الطبري "9/ 157 وما بعدها".

5 الأزرقي "1/ 117"، اللسان "20/ 122"، الكشاف "2/ 60".

ص: 359

لـ"ورقة بن نوفل"1. ولعل اعتقاد القوم بأن تلك الملابس ملوثة بالأدران، هو الذي منع الناس الآخرين من لمس تلك الملابس والاستفادة منها، فتركوها لذلك للأرض وللشمس والرياح تعبث بها إلى أن تتمزق وتهرى2.

ولكننا نجد الأخباريين يعودون فيروون روايات تناقض ما ذكروه عن "اللقى". إذ يقولون: كان الحلة إذا ختموا طوافهم وأتموه بنائلة، خرجوا إلى ثيابهم التي ألقوها خارج باب المسجد، فلبسوها، فإذا أرادوا الطواف مرة أخرى طافوا بملابسهم3. فهم يقرون في هذه الرواية طواف العري، ولكنهم ينكرون ترك "اللقى" على الأرض لتدوس عليها الأقدام ولتلعب بها الرياح وتعبث بها الأهوية والأتربة، ويجعلون أصحابها يعودون إليها فيلبسونها تارة أخرى.

ونقرأ في كتبهم رواية أخرى تذكر أن أحدًا من الحلة إذا لم يجد ثياب أحمسي يطوف فيها ومعه فضل ثياب يلبسها، غير ثيابه التي عليه فطاف في ثيابه ثم جعلها لقى يطرحها بين إساف ونائلة فلا يمسها أحد ولا ينتفع بها منتفع حتى تبلى من وطء الأقدام والشمس والرياح والأمطار4.

وقد ذكر "محمد بن حبيب" أن "الحلة" كانوا إذا دخلوا مكة "تصدقوا بكل حذاء وكل ثوب لهم ثم استكروا لهم من ثياب الحمس تنزيهًا للكعبة أن يطوفوا حولها إلا في ثياب جدد. ولا يجعلون بينهم وبين الكعبة حذاء يباشرونها بأقدامهم. فإن لم يجدوا ثيابًا طافوا عراة. وكان لكل رجل من الحلة حرمي من الحمس يأخذ ثيابه. فمن لم يجد ثوبًا طاف عريانًا. وإنما كانت الحلة تستكري الثياب للطواف في رجوعهم إلى البيت لأنهم كانوا إذا خرجوا حجاجًا لم يستحلوا أن يشتروا شيئًا ولا يبيعوه حتى يأتوا منازلهم إلا اللحم. وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حرمي عياض بن حمار المجاشعي: كان إذا قدم مكة طاف في ثياب رسول الله"5.

1

كفى حزنا كري عليه، كأنه

لقى بين أيدي الطائفين حريم

الأزرقي "1/ 112، 114" اللسان "20/ 122"، النهاية في غريب الحديث "4/ 29"، تفسير القرطبي، الجامع "7/ 189".

2 Robertson smith، p. 751.

3 الأزرقي "1/ 114".

4 الأزرقي "1/ 114".

5 المحبر "ص180 وما بعدها".

ص: 360

فالذي يطوف بالبيت عريانًا، هو ضعيف "الحلة"، ممن لا قبل له على استكراء ثياب له من أحمسي، وممن لا صاحب له من الحمس، يعطيه ثيابًا ليلبسها. أما المتمكن من "الحلة" ومن له صديق من الحمس، فلا يطوف عريانًا، وإنما يطوف بثياب أحمسي.

ويرى "روبرتسن سمث" أن الذي أوحى إلى الجاهليين وجوب طرح ملابس الحلة إذا أحرم فيها. واعتقادهم بتقدس تلك الملابس في أثناء الإحرام مما يجعلها في حاكم الـ"تابو" Tabu عند الأقوام البدائية، ولذلك لا يجوز استعمالها مرة أخرى، وهم أنفسهم قوم غير مقدسين1.

وقد منع الإسلام طواف "العري" في أي وقت كان، وحتم على الجميع قريش وغيرهم لبس "الإحرام"2. وقد ذكر علماء التفسير في تفسير قوله تعالى:{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 3. أن هذه الآية نزلت في حق المتعرين الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة، "فإذا قيل لهم: لِمَ تفعلون ذلك؟ قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها"، "فنحن نفعل مثل ما كانوا يفعلون، ونقتدي بهديهم ونستن بسنتهم. والله أمرنا به فنحن نتبع أمره فيه"4. فنحن إذن أمام سنة جاهلية قديمة، ترجع طواف العري إلى أمر سابق وشريعة سابقة.

وأما "الحمس"، فهم الذين كانوا يطوفون بثيابهم، ثم يحتفظون بها فلا يلقونها، فلهم من هذه الناحية ميزة امتازوا بها على الحلة، ولهم على الحلة ميزة أخرى، هي أنهم كانوا يقفون الموقف في طرف الحرم من "غرة": يقفون به عشية عرفة، ويظلون به يوم عرفة في الأراك من نمرة، ويفيضون منه إلى المزدلفة5. ولا يقفون موقف غيرهم بعرفة، فقصروا عن مناسك الحج والموقف من عرفة وهو من الحل. وحجتهم أنهم أهل الحرم فلا يخرجون منه مثل سائر.

1 R. Smith، p. 751.

2 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 111".

3 الأعراف، الرقم 27 الآية 28".

4 تفسير الطبري "8/ 114"، تفسير القرطبي، الجامع "7/ 187".

5 الأزرقي "1/ 116 وما بعدها""2/ 158 وما بعدها"، النهاية "1/ 233"، شرح النووي، "8/ 180" وما بعدها"، Enci، II، p. 335.

ص: 361

الناس. ويقولون: "نحن أهل الحرمة وولاة البيت وقطان مكة وساكنها، فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلتنا ولا تعرف له العرب مثل ما نعرف"1.

وتفسير كلمة "الحمس" في رأي علماء اللغة التشدد في الذين، سموا حمسًا لأنهم كانوا يتشددون في دينهم، فكانوا إذا زوجوا امرأة منهم لغريب عنهم، أي لمن كان من الحلة اشترطوا عليه أن كل من ولدت له، فهو أحمسي على دينهم. وكانوا إذا أحرموا لا يأتقطون الأقط، ولا يأكلون السمن ولا يسلئونه ولا يمخضون اللبن، ولا يأكلون الزبد، ولا يلبسون الوبر ولا الشعر ولا يستظلون به ما داموا حرمًا، ولا يغزلون الوبر ولا الشعر ولا ينسجونه، وإنما يستظلون بالأدم، ولا يأكلون شيئًا من نبات الحرم. وكان يعظمون الأشهر الحرم ولا يخفرون فيها الذمة ولا يظلمون فيها، ويطوفون بالبيت وعليهم ثيابهم. وكانوا إذا أحرم الرجل منهم في الجاهلية وأول الإسلام، فإن كان من أهل المدر نقب نقبًا في ظهر بيته فمنه يدخل ومن يخرج ولا يدخل من بابه. وكانوا يقولون: لا تعظموا شيئًا من الحل، ولا تجاوزوا الحرم في الحج فلا يهاب الناس حرمكم، ويرون ما تعظمون من الحل كالحرم، فقصروا عن مناسك الحج والموقف من عرفة وهو من الحل، فلم يكونوا يقفون به ولا يفيضون منه، وجعلوا موقفهم في طرف الحرم من نمرة: يقفون به عشية عرفة، ويظلون به يوم عرفة في الأراك من نمرة، ويفيضون منه إلى المزدلفة. فإذا عممت الشمس رءوس الجبال دفعوا. وكانوا يقولون: نحن أهل الحرم، لا نخرج من الحرم، ونحن الحمس. وكانوا إذا أرادوا بعض أطعمتهم ومتاعهم، تسوروا من ظهر بيوتهم وأدبارها حتى يظهروا على السطوح، ثم ينزلون في حجرتهم، ويحرمون أن يمروا تحت عتبة الباب2. فهم يحرمون إذن أشياء لم تكن العرب تحرمها3.

1 ابن هشام "1/ 132""هامش على الروض".

2 الأزرقي "1/ 116 وما بعدها"، النهاية "1/ 233، 293" الاشتقاق "153"، ابن هشام "1/ 211"، الكامل، لابن الأثير "1/ 391"، الطبرسي "2/ 411".

Caetani، Annali، I، s، 121، Ency، II، p. 335، Snouck Hurgounje، Het، Mek-kaanische، feest، p. 21. 77، 111، 130.

3 المعاني "2/ 998".

ص: 362

والحمس: قريش ومن ولدت قريش وكنانة وجديلة على رواية1. تضاف إليهم خزاعة والأوس والخزرج وجشم وبنو ربيعة بن عامر بن صعصعة وأزد شنوءة وجذم زبيد وبنو ذكوان من بني سليم وعمرو اللات وثقيف وغطفان والغوث وعدوان وعلاف وقضاعة على رواية للأزرقي2. وهم: "قريش" وكنانة وجديلة قيس، وفهم، وعدوان، وثقيف، وعامر بن صعصعة على رواية أخرى3. وقد ذكر "ابن سعد"، أن الحمس هم: قريش وكنانة وخزاعة ومن ولدته قريش من سائر العرب. أو حليف قريش. وذكر بعض الرواة أنهم قريش وعامر بن صعصعة، والحارث بن كعب4. وذكرهم بعض آخر على هذا النحو: قريش، وكنانة، وخزاعة، وثقيف، وخثعم، وعامر بن صعصعة، ونصر بن معاوية. وأضاف "القرطبي" جشمًا إليهم5. وورد أن "الحمس لقب قريش ومن ولدت قريش، وكنانة وجديلة قيس. وهم: فهم وعدوان ابنا عمرو بن قيس عيلان، وبنو عامر بن صعصعة، ومن تابعهم في الجاهلية. هؤلاء الحمس. وإنما سموا لتحمسهم في دينهم أي تشددهم فيه، وكذا في الشجاعة فلا يطاقون، أو لالتجائهم بالحمساء وهي الكعبة"6.

وأورد "ابن حبيب" أسماء الحمس من العرب، فقال: "قبائل الحمس من العرب: قريش كلها. وخزاعة لنزولها مكة، ومجاورتها قريشًا. وكل من ولدت قريش من العرب وكل من نزل مكة من قبائل العرب.

فممن ولدت قريش: كلاب، وكعب، وعامر، وكلب بنو ربيعة بن عامر بن صعصعة، وأمهم مجد بنت تيم بن غالب بن فهر. وإياها عنى لبيد بن ربيعة بقوله:

سقى قومي بني مجد وأسقى

نميرًا والقبائل من هلال

1 النهاية في غريب الحديث "1/ 293"، تاج العروس "4/ 132 وما بعدها"، "حمس"، اللسان "7/ 257 وما بعدها"، حمس، إرشاد الساري "3/ 200"، البلخي، البدء والتأريخ "4/ 32 وما بعدها".

2 البلدان، "مكة"، Kister، p. 138.

3 الطبقات "1/ 72"، "صادر".

4 ابن هشام "1/ 212"، ابن قتيبة، المعارف "269" المعاني "989"، المرزوقي، شرح الحماسة "31"، Kister، p 132.

5 القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "2/ 345"، أبو حيان، البحر المحيط "2/ 63"، kister، p. 132.

6 تاج العروس "4/ 132"، حمس".

ص: 363

والحارث بن عبد مناة بن كنانة. ومدلج بن مرة بن عبد مناة بن كنانة، بنزولهم حول مكة وعامر بن عبد مناة بن كنانة. ومالك، وملكان، ابنا كنانة، وثقيف، وعدوان، ويربوع بن حنظلة. ومازن بن مالك بن عمرو بن تميم. وأمهما جندلة بن فهر بن مالك بن النضر. ويقال: إن بني عامر كلهم حمس لتحمس أخوتهم من بني ربيعة بن عامر، وعلاف، وهو ربان بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. وجناب بن هبل بن عبد الله من كلب. وأمه آمنة بنت ربيعة بن عامر بن صعصعة. وأمها مجد بنت تيم الأدرم بن غالب بن فهر"1.

ويتبين مما تقدم أن "الحمس"، لم يكونوا قريشًا وحدهم وسكان الحرم، وأنهم لم يكونوا جماعة قامت وظهرت على رابطة الدم والنسب، كما هو الحال بالنسبة إلى القبيلة. بل هم قريش وكل من نزل الحرم وسكن مكة، وطوائف من العرب شاركت قريشًا في مناسك حجها، وسارت على نهجها في الحج، وشاطرتها الرأي في دينها. قد ذكر "الجاحظ" أن "عامربن صعصعة"، و"خزاعة"، و"ثقيفًا"، والحارث بن كعب، كانوا ديانين، أي على رأي ودين2. وكانوا على دين قريش. وقال غيره:"وصارت بنو عامر من الحمس وليسوا من ساكني الحرم لأن أمهم قرشية. وهي مجد بنت تيم بن مرة. وخزاعة إنما سميت خزاعة؛ لأنهم كانوا من سكان الحرم فخزعوا عنه، أي خرجوا. ويقال إنهم من قريش انتقلوا ببنيهم إلى اليمن. وهم من الحمس"3.

وقد ميز بعض العلماء بين "الحمس" وهم نزلاء الحرم وبين المتحمسين الذين دخلوا في الحمس؛ لأن أمهاتهم من قريش، بأن أطلقوا عليهم لفظة "الأحامس". فقالو:"والأحماس من العرب الذين أمهاتهم من قريش"4.

وجاء في بعض الأخبار أن "غطفان"، لما اتخذت لها بيتًا أرادت به مضاهاة الكعبة، وجعلت له حرمًا كحرمة مكة. أغار "زهير بن جناب الكلبي" عليه.

1 المحبر "178 وما بعدها"، ابن دريد، الاشتقاق "540"، ابن عبد البر، إنباه "87" المفضليات، شرح الأنباري "259".

2 Kister، p. 136.

3 تاج العروس "4/ 132"، "حمس".

4 تاج العروس "4/ 133"، "حمس".

ص: 364

وهدامه1. وكان زهير من الحمس.

وقد وصف "ابن سعد""التحمس" بقوله: "والتحمس أشياء أحدثوها في دينهم تحمسوا فيها، أي شددوا على أنفسهم فيها، فكانوا لا يخرجون من الحرم إذا حجوا، فقصروا عن بلوغ الحق، والذي شرع الله، تبارك وتعالى، لإبراهيم وهو موقف عرفة، وهو من الحل، وكانوا لا يسلئون السمن ولا ينسجون مظال الشعر، وكانوا أهل القباب الحمر من الأدم، وشرعوا لمن قدم من الحاج أن يطوف بالبيت وعليه ثيابه ما لم يذهبوا إلى عرفة، فإذا رجعوا من عرفة لم يطوفوا طواف الإفاضة بالبيت إلا عراة أو في ثوبي أحمسي، وإن طاف في ثوبيه لم يحل له أن يلبسهما"2.

وللجاحظ ملاحظات قيمة عن قريش لها صلة بالتحمس، وقد تفسر لنا معنى التحمس وسبب شموله أناسًا هم من غير قريش.

ذكر أن الإسلام لما ظهر، لم تكن هنالك أية امرأة قرشية، كانت مسبية عند غير قريش، ولم تكن هنالك أية امرأة مسبية في أيدي القبائل وأمها من قريش. ويذكر أيضًا أن قريشًا لم تكن تزوج بناتها من أبناء أشراف القبائل حتى تشترط عليهم أن من تلد منهن، فيكون من يلدن من الحمس. أما هم، فكانوا إذا تزوجوا من بنات قبائل أخرى، فإنهم لم يشترطوا على أنفسهم أي شرط، وكان من هذه القبائل عامر بن صعصعة وثقيف وخزاعة والحارث بن كعب، "وكانوا ديانين" وكانوا على دين قريش في أمورها. وكانت قريش كريمة، ولم ترض بالغارات والغزو ولا بالظلم ولم تقبل بالوأد ولا بالدخول بمن يقع في أيديهم أسرى من النساء. وكان من فضائلهم أن منَّ الله عليهم بالإيلاف. فأغناهم وجعلهم "لقاحًا". فلم يخضعوا لملك ولم يستعبدهم سلطان أجنبي3. ولم يدفعوا أي شيء عنهم الملك من الملوك. بل كانت الملوك تأتي إلى مكة وتعظم البيت وتحترم سكانه. وهم قريش الحمس4.

1 الأغاني "12/ 121"، "21/ 63".

2 ابن سعد، الطبقات"1/ 72"، "صادر".

3 أخذت هذه الملاحظات من "كستر" KISTER لعدم وجود مخطوطة الجاحظ التي نقل منها عندي. وهي: مختارات فصول الجاحظ، الموجودة في المتحف البريطاني برقم 3183.

4 ابن الفقيه، كتاب البلدان "18".

ص: 365

ويظهر من ملاحظات الجاحظ المذكورة، أن من أهم مبادئ الحمس، نبذ الغارات أي الغزو، حتى جعلته قريش ركنًا من أركان دينها. كما تمسكت بركن آخر، هو عدم الدخول بمن يقع في أيدهم من النساء السبايا في حالة ما إذا أغارت قبيلة عليهم، واعتدت عليهم، فانتصرت قريش عليهم، وأخذت منها سبايا. أما الحمس الآخرون، مثل عامر بن صعصعة وثقيف والحارث بن كعب، وأمثالهم ممن تحمسوا، فلم يتمسكوا بهذه الأصول. وذكر "ابن الفقيه" أن القبائل المذكورة لم تكن في الأصل حمسًا، على دين قريش، وإنما تحمست وصارت من الخمس بتأثير قريش عليها1. وقريش تمسكوا وحدهم بالحمس، "وصاروا بأجمعهم تجارًا خلطاء"2. وقد عرفت مكة بـ"دار الحمس"، كما جاء ذلك في شعر ينسب إلى "الكاهن اللهبي"3. وعرفت قريش بـ "أهل الله"4.

ونجد بين "الحمس" والحرم صلة متينة، تشير إلى الأصل الديني للحمس وإلى ارتباطهم بالكعبة. فذهب "الزمخشري" إلى أن "حمس" من "حرم"5، ومن دلائل هذه الصلة أيضًا ما ورد في كتب أهل الأخبار من أن الكعبة كان قد عرفت بـ"الحمساء" سميت بذلك "لأن حجرها أبيض إلى السواد"6.

ومن أن الحمس هم نزلاء الحرم7. فبين الحمس والحرم، صلة متينة إذن حتى قيل أن المنسوب إلى الحرم من الناس "حرمي"8. و"أن عياض بن حمار المجاشعي، كان حرمي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكان إذا حج طاف في ثيابه. وكان أشراف العرب الذين يتحمسون على دينهم، أي يتشددون إذا حج أحدهم لم يأكل إلا طعام رجل من الحرم: ولم يطف إلا في ثيابه.

1 Kister، p. 137.

2 الثعالبي، ثمار القلوب "8"، أهل الله" Kister، p. 137.

3 الروض الأنف "1/ 118". ابن دريد. الاشتقاق "491". Wellhausen، Reste، s. 134. Kister، 138.

4 Kister، p. 139.

5 الزمخشري، الفائق، "حمس"، kister، p. 138.

6 تاج العروس "4/ 132"، "حمس".

7 تاج العروس "4/ 132"، حمس".

8 بالكسر.

ص: 366

فكان لكل رجل من أشرافهم رجل من قريش. فيكون كل واحد منهما حرمي صاحبه"1. ويفسر لنا هذا المعنى أيضًا قولهم: "رجل حرام: داخل في الحرم"، و"الحرم بالكسر الرجل المحرم. يقال: أنت حل وأنت حرام"2.

وقد أنجب الزواج المشروط بين قريش وبين من يتزوج منها حمسًا جددًا، انتقل الحمس إليهم عن طريق "شرط عقد الزواج" من جهة الأمهات. أما نسل هؤلاء الحمس الجدد، الذين هم في الواقع أنصاف أحماس، فقد صار حمسًا مثل قريش؛ لأنهم ولدوا من والد حسب من الحمس ومن والدة أحمسية. وبذلك لم يعد الحمس أهل مكة وحدهم، بل شمل أهل مكة ومن تزوج مكيات فأنجبن ولدًا، عدوا حمسًا بشرط العقد.

وتذكر بعض الروايات أن عقيدة "الحمس" لم تكن قديمة، بل ظهرت قبيل الإسلام:"قال ابن إسحاق" كانت قريش لا أدري قبل الفيل أو بعده، ابتدعت أمر الحمس رأيًا. فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج، إلا أنهم قالوا: نحن أهل الحرم. ونحن الحمس. والحمس أهل الحرم. قالوا: ولا ينبغي للحمس أن يتأقطوا الأقط ولا يسلئوا السمن، وهم حرم، ولا يدخلوا بيتًا من شعر، ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرمًا، ثم قالوا: لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به من الحل إلى الحرم إذا جاءوا حجاجًا أو عمَّارًا، ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس"3. ولم تذكر هذه الرواية سبب ظهورها، ولا من أوجدها من رجال قريش.

ويتبين من غربلة ما ذكره أهل الأخبار عن الحمس، أن الحمس هم أهل مكة الأحرار في الأصل، ثم من دان بدينهم. وجدوا أنفسهم في ضنك شديد، في واد غير ذي زرع، لا شيء عندهم غير "البيت"، فتحمسوا في دينهم وتشددوا وتعاونوا فيما بينهم على العمل معًا، وعلى الدعوة إلى عبادة رب البيت وإقراء الضيف والامتناع عن غزو غيرهم. وعن التحرش بأحد، إلا إذا تحرش بهم، وعلى إغاثة الملهوف ومساعدة من يأت البيت حاجًّا أو معتمرًا أو قاصدًا.

1 تاج العروس "8/ 243"، "حرم".

2 تاج العروس "8/ 243"، حرم".

3 إرشاد الساري "3/ 200".

ص: 367

تجارة، وتقديم الرفادة له. ونصرة الغريب. وحافظوا على الحرمات: حرمة البيت وحرمة الحج وحرمة الأشهر الحرم، ووضعوا لأنفسهم قواعد صارمة في آداب السلوك في موسم الحج وفي غيره، تشعر أنهم كانوا ينظروا إلى أنفسهم كأنهم "جنس" فضله الله على بقية أجناس العرب، لهم مناسكهم، ولبقية العرب مناسكهم، ولهم قباب خاصة يضربونها لأنفسهم في سوق عكاظ وفي المواضع الأخرى تميزهم عن سائر من يفد إلى هذه المواضع، وترفعوا عن مصاهرة سائر الناس إلا إذا وجدوا أنهم أكفاء لهم، والكفاءة: القوة والمال. وأقاموا مجتمعهم الخاص هذا على قواعد دينية تعاونية اقتصادية "صاروا بأجمعهم تجارًا خلطاء"1. شعارهم أنهم "أهل الله"2، دينهم "التحمس والتشدد في الدين، فتركوا الغزو كراهة للسبي واستحلال الأموال، فلما زهدوا في الغصوب لم يبق مكسبة سوى التجارة: فضربوا في البلاد إلى قيصر بالروم، والنجاشي بالحبشة، والمقوقس بمصر، وصاروا بأجمعهم تجارًا خلطاء"3. وكان أن تفردوا بالإيلاف، وللإيلاف ارتباط بالحمس، وتوجهوا إلى التجارة والاتجار، وجمعوا بين الدين والمال، وأفسحوا المجال لمن به نشاط وهمة أن يجمع مالًا وأن يكون غنيًّا على أن يساهم بنصيبه في تحمل أعباء مجتمعهم، للدفاع عن "بيت الله" ولكسب المتحالفين معهم وتوزيع العدل فيما بينهم توزيعًا يخفف من حدة التفاوت فيما بين الغني والفقير، حتى لا يقع اختلال في التوازن بين طبقات المجتمع، يحمل الفقراء على انتزاع المال من الأغنياء كرهًا وقسرًا. وجعلوا ذلك واجبًا من واجباتهم، فحثوا على رفع الظلم، واتخذوا السقاية والرفادة، وعقدوا "حلف الفضول" للدفاع عن المحتاج، وجعلوا "الإيلاف" الذي سأتكلم عنه في الجزء الخاص بالحياة الاقتصادية، سببًا من أسباب إشاعة الرحمة ومساعدة الفقراء وتخفيف وطأة الفقر في هذه القرية:"أم القرى"، وفي ذلك يقول "مطرود بن كعب الخزاعي". في رثائة عبد المطلب.

1 الثعالبي، ثمار القلوب "18"، "أهل الله"، "ص11"، "تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم".

2 ثمار "ص10".

3 ثمار "ص11 وما بعدها"، سيرة ابن دحلان "1/ 140" حاشية على السيرة الحلبية".

ص: 368

يا أيها الرجل المحول رحله

ألا نزلت بآل عبد مناف

هبلتك أمك لو نزلت عليهم

ضمنوك من جوع ومن إقراف

الآخذون العهد من آفاقها

والراحلون لرحلة الإيلاف

والمطعمون إذا الرياح تناوحت

ورجال مكة مسنتون عجاف

والمفضلون إذا المحول ترادفت

والقائلون هلم للأضياف

والخالطون غنيهم بفقيرهم

حتي يكون فقيرهم كالكافي

كانت قريش بيضة فتفلقت

فالمح خالصة لعبد مناف1

قام رجال من رجال مكة بالإنفاق على المحتاجين فعدوا ذلك دينًا ومروءة وشهامة فكان "نعيم بن عبد الله" العدوي، ينفق على أرامل بني عدي وأيتامهم2. وكان "حكيم بن حزام" ينفق من أرباحه على المحتاجين من آله وذويه3. وكان صديق النبي قبل المبعث4. وتذكر كتب السير والتراجم أسماء رجال آخرين عرفوا بتصدقهم على الفقراء والمحتاجين، اعتبروها منقبة وقربة لهم في الجاهلية، وقد أقرهم الرسول عليها.

فالحمس "أهل الله"، وأمته، تجمعهم عبادة الله والأصنام، والمناسك والشعائر التي وضعوها لهم، والتجارة التي جعلوها مثل شعائر دينهم، ينفقون من أرباحهم منها في سبيل "الله". أي بيت الله وأهله المستضعفون، حتى جعلوا الصدقة وإطعام المحتاج من أمور الدين. فمجتمعهم مجتمع جمع بين الدين والتجارة، وبين الدين والمال. حثهم على التعاون بخلط رءوس أموالهم والاتجار معًا بقوافل، وفيه ربح كبير مضمون، وحثهم على إنصاف من ليس له شيء حتى يصير.

1 أخذت هذه الأبيات من أمالي المرتضى "2/ 268" وتختلف بعض الاختلاف عن أمالي القالي "1/ 241 وما بعدها"، التي فيها:

منهم علي والنبي محمد

القائلان هلم للأضياف

وعن سيرة ابن هشام "1/ 117"، "حاشية على الروض الأنف"، وعن معجم الشعراء "375" وشرح ابن أبي الحديد "3/ 453"، والعيني "4/ 140" والبكري، سمط "547 وما بعدها" وعن تفسير الطبرسي "حـ30 ص545"، "طبعة طهران"، تفسير سورة لإيلاف قريش، وعن ابن العربي، محاضرات الأبرار "2/ 119"، والبلاذري، أنساب "1/ 58"، والدياربكري، تأريخ الخميس "1/ 156".

2 الإصابة "3/ 527"، "رقم 8778".

3 نسب قريش "1/ 367""رقم 644"، Kister، p. 125.

4 الإصابة "1/ 348 وما بعدها""رقم 1800".

ص: 369

مكتفيًا غير محتاج لا يوجه عينه نحو غيره حسدًا وحقدًا. شعار هذا المجتمع الله والأصنام والحج والتجارة، مجتمع لم يكن يخلو بالطبع من أحامس بخلاء شذوا عن الطريق، واغتصبوا أموال الفقراء، كما هو الحال في كل مجتمع بشري.

وقد اقتصرت "قريش" وهم من الحمس، على استعمال القباب المصنوعة من الأدم لا يضربها غيرها بـ"منى"1. لأنهم "كانوا لا ينسجون مظال الشعر، وكانوا أهل القباب الحمر من الأدم"2. وقد استعمل الرسول في حجة هذا النوع من القباب3. ولا بد أن يكون لاقتصار قريش على استعمال هذا النوع من القباب دون غيرها في هذا الموضع، سبب ما، الأرجح أنه عامل ديني واجتماعي4. ويلاحظ أنه كان للقباب الحمر ذكر خطير، وجاه عظيم في نظر الجاهليين، فكان أصحابها يفتخرون على غيرهم بأنهم "أهل القباب الحمر"5، وقد كان الملوك والسادة يضربون لأنفسهم القباب الحمر. فهي من إمارات الجاه والمكانة والنفوذ.

ويظهر من بعض الأسماء أو الجمل التي وردت فيها كلمة "أحمس" و"حمس" أن هذه الكلمة هي نعت أو اسم من أسماء الآلهة عند الجاهليين في الأصل، ثم تغير معناها بعد ذلك فصارت على النحو الذي ذكره علماء اللغة نقلًا عن الروايات التي ترجع ذلك المعنى إلى الجاهلية المتصلة بالإسلام. ففي الأسماء الواردة إلينا:"أحمس الله"، و"بنو أحمس"، و"أبو أحمس"، و"الأحامس"6، ما يفيد أن الأصل بعيد جدًّا عن المعنى فهمه وذهب إليه أهل الأخبار، وأن للكلمة معنى دينيًّا خاصًّا قديمًا، هو التشدد في الدين والتمسك به، وبعبادة الصنم، والمحافظة على سنة الآباء والأجداد مع تصلب وتقشف.

1 "كانت قباب قريش من الأدم. لا يضربها غيرهم بمنى" المشرق، السنة السابعة والثلاثون كانون الثاني - آذار 1939 "ص95".

2 ابن سعد، الطبقات "1/ 41".

3 ابن سعد، الطبقات "2/ 88"، أسد الغاية "1/ 251".

4 المشرق، السنة السابعة والثلاثون، كانون الثاني - آذار، 1939 "ص95".

5

أهل القباب الحمر

والنعم المؤبل والمدامه

ديوان عبيد الأبرص "29"، "طبعة لايل".

6 الأغاني "2/ 46"، الاشتقاق "153"، تاج العروس "4/ 132 وما بعدها"، "حمس".

ص: 370

والأحماس من العرب الذين أمهاتهم من قريش1، صاروا من الحمس بسبب أمهاتهم.

هذا وقد نزل الوحي بتنظيم الحج وفق مبادئ الإسلام، فأباح للحجاج ما كانت الحمس حرمته على نفسها من طعام الحج إلا طعام أحمسي" على نحو ما ذكرت قبل قليل. وما ذكر من أن قومًا كانوا قد حرموا على أنفسهم ما يخرج من الشاة لبنها وسمنها ولحمها، إذا حجوا أو اعتمروا2. كما نزل بوجوب ستر العورة ولبس الإحرام في الحج، وذلك بالنسبة إلى المحلين، وأغلبهم من الأعراب ومن الفقراء، حيث كانوا يطوفون عراة، وفي ضمنهم النساء3. فنزل الوحي بـ: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} 4. ونهوا عن ذلك5. وذكر عن أبي هريرة أنه قال: "بعثني أبو بكر الصديق في الحجة التي أمره عليها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر، لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان"6.

كما نزل الوحي بجواز دخول الحجاج بيوتهم وخيامهم وما يأوون إليه من بيوتها، من أبوابها، لا كما كان يفعل بعضهم في الجاهلية وفي أول الإسلام، من أنه إذا أحرم الرجل منهم بالحج أو العمرة لم يدخل حائطًا ولا بيتًا ولا دارًا من بابه، فإنه كان من أهل المدن نقب نقبًا في ظهر بيته منه يدخل ويخرج أو يتخذ سلمًا فيصعد فيه، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط ولا يدخل من الباب حتى يحل من إحرامه ويرون ذلك ذمًّا، إلا أن يكون من الحمس. وهم: قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وخثعم وبنو عامر بن صعصعة، وبنو النضر بن معاوية. نزل الوحي بذلك في الآية:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَْ} 7.

1 تاج العروس "4/ 133"، "حمس"

2 تفسيير الطبري "8/ 121".

3 تفسير الطبري "8/ 118".

4 الأعراف، الآية 31.

5 تفسير الطبري "8/ 118 وما بعدها"، أسباب نزول "168 وما بعدها".

6 صحيح مسلم "4/ 107"، باب لا يحج البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان وبيان الحج الأكبر".

7 البقرة، الآية 189.

ص: 371

وقد ذهب بعض أهل الأخبار والسير إلى أن الآية المذكورة، نزلت في أمر الحمس، "لأن الحمس لا يدخلون تحت سقف ولا يحول بينهم وبين السماء عتبة باب ولا غيرها، فإن احتاج أحدهم إلى حاجة في داره تسنم البيت من ظهره، ولم يدخل من الباب"1. وذهب المفسرون إلى أنها نزلت في الأنصار، فقد كانوا إذا حجوا فجاءوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها، فجاء رجل فدخل من قبل بابه، فكأنه عير بذلك، فنزلت هذه الآية. وورد: "كانت قريش تدعى الحمس، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام، فبينما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في بستان، إذ خرج من بابه وخرج معه قطبة بن عامر الأنصاري، فقالوا: يا رسول الله إن قطبة بن عامر رجل فاجر، وإنه خرج معك من الباب! فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: فإن ديني دينك! فأنزل الله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} 2. وقد أغفلت بعض الروايات اسم من كان لا يدخل البيوت من أبوابها، بأن قالت: "كان أهل الجاهلية يأتون البيوت من ظهورها ويرونه برًّا"، أو "كانوا في الجاهلية إذا أحرموا أتوا البيوت من ظهورها، ولم يأتوا من أبوابها" أو "إن ناسًا كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا حائطًا من بابه ولا دارًا من بابها أو بيتًا" أو "كان ناس من أهل الحجاز، إذا أحرموا لم يدخلوا من أبواب بيوتهم ودخلوها من ظهورها"3. وذكر أن من كان يفعل ذلك، فإنما يفعله؛ لأنهم كانوا يتحرجون من أن يكون بينهم وبين السماء حائل4.

وقد جعل "اليعقوبي" العرب في الجاهلية على دينين: دين الحمس ودين الحلة. وذلك بالنسبة للمشركين. وذكر أن منهم من دخل في دين اليهودية وفي النصرانية، ومنهم من تزندق وقال بالثنوية، وبهذه الفرق حصر "اليعقوبي" أديان أهل الجاهلية. إذ قال: "فهاتان الشريعتان اللتان كانت العرب عليهما. ثم دخل قوم من العرب في دين اليهود، وفارقوا هذا الدين. ودخل آخرون.

1 الروص الأنف "1/ 134 وما بعدها".

2 أسباب النزول "ص35 وما بعدها".

3 تفسير الطبري "2/ 108" وما بعدها.

4 المصدر نفسه.

ص: 372

في النصرانية، وتزندق منهم قوم، فقالوا بالثنوية"1.

والتعميم الذي يطلقه "اليعقوبي" وبقية المؤرخين والأخباريين في قولهم "وكانت العرب في أديانهم" لا يمكن التسليم به، إلا بالنسبة لأهل مكة ولمن كان يقصدهم من العرب. أما بالنسبة لجميع العرب، فهذا ما لا يمكن التسليم به.

وأما "الطلس" فقد وصفهم "محمد بن حبيب" بقوله إنهم: "بين الحلة والحمس: يصنعون في إحرامهم ما يصنع الحلة، ويصنعون في ثيابهم ودخولهم البيت ما يصنع الحمس. وكانوا لا يتعرون حول الكعبة، ولا يستعيرون ثيابًا، ويدخلون البيوت من أبوابها، وكانوا لا يئدون بناتهم، وكانوا يقفون مع الحلة ويصنعون ما يصنعون"2. وهم سائر أهل اليمن، وأهل حضرموت، وعك وعجيب، وإياد بن نزار3.

وذكر أن من الحجاج من كان يحج بغير زاد، وأن منهم من كان إذا أحرم رمى بما معه من الزاد، واستأنف غيره من الأزودة، وأن "قبائل من العرب يحرمون الزاد إذا خرجوا حجاجًا وعمَّارًا"، فنزل الوحي:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} 4، فأمر من لم يكن يتزود منهم بالتزود لسفره، ومن كان منهم ذا زاد أن يحتفظ بزاده فلا يرمي به5. وقد عرف هؤلاء بـ"المتوكلة"؛ لتوكلهم على "رب البيت" في أطعام أنفسهم، واعتمادهم في ذلك على السؤال.

وقد ذكر علماء التفسير أن الآية: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} نزلت "في طائفة من العرب كانت تجيء إلى الحج بلا زاد، ويقول بعضهم: كيف نحج بيت الله ولا يطعمنا، فكانوا يبقون عالة على الناس، فنهوا عن ذلك، وأمروا بالزاد. وكان للنبي صلى الله عليه وسلم في مسيره راحلة عليها زاد، وقدم عليه ثلاثمائة رجل من مزينة فلما أرادوا أن ينصرفوا قال: يا عمر زود

1 اليعقوبي "1/ 226".

2 المحبر "ص181".

3 المحبر "ص179"، الروض "1/ 133".

4 البقرة الآية "197.

5 تفسير الطبري "2/ 162"، "أن قومًا كانوا يرمون بأزوادهم ويتسمون بالمتوكلة، فقيل لهم تزودوا من الطعام، ولا تلقوا كلكم على الناس"، تفسير الطبرسي "1/ 294.

ص: 373

القوم

كما روى البخاري عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس"1.

ويظهر مما تقدم أن "المتوكلة" لم يكونوا جميعًا من الفقراء المحتاجين، بل كان منهم قوم أغنياء فضل الله عليهم، بدليل أنهم كانوا إذا حجوا رموا زادهم، أو أعطوه للمحتاج إليه، يفعلون ذلك ديانة وتقربًا إلى الله، كما فعل "المتوكلة" من بعدهم في الإسلام. فهم إذن طائفة من الطوائف الجاهلية المتدينة، ترى أن التقشف في الحج، يزيد في ثوابه، ويقرب أصحابه إلى رب البيت.

ويريد أهل الأخبار بالثياب "الإحرام" على ما يظهر. وهو قديم وقد عرف عند غير العرب أيضًا. وهو محاكاة لملابس رجال الدين الذين يخدمون المعابد، ويتقربون إلى الآلهة. وهو يتكون من قطعتين من: إزار ومن وشاح. ويكون أبيض اللون. واللون الأبيض من الألوان التي تعبر عن معان دينية. فقد كان رجال الدين والكهنة يلبسون الثياب البيض. كما أنه شعار الحزن عند بعض الشعوب، وفي جملتهم عرب الحجاز2. ويظهر أن أهل مكة وهم قريش، كانوا يلبسون الإحرام، أو يكرهونه لغيرهم من العرب أو يعيرونه لهم إن كانوا من حلفائهم فيحرمون كإحرام قريش. أما من لم يتمكن من الحصول على الإحرام، فقد كان يضطر بحكم الضرورة إلى الطواف عريانًا على نحو ما يقصه علينا أهل الأخبار.

أما بالنسبة إلى أهل العربية الجنوبية من معينيين وسبئيين وقتبانيين وحضرميين، فإننا لا نستطيع أن نتحدث عن سنة الطواف حول المعابد عندهم؛ لعدم ورود شيء عن ذلك في النصوص الواصلة إلينا. ولكني لا أستبعد احتمال طوافهم حول بيوت أصنامهم على نحو ما كان يفعله أهل الحجاز؛ لأن الطواف حول بيوت الأصنام أو حول الصنم من السنن الشائعة بين العرب وعند جماعات من بين إرم والنبط.

1 تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن "2/ 411"، تفسير بن كثير "1/ 239".

2 Shorter Ency، of Islam، p. 160.

ص: 374