الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأجر على قدر منفعة العمل لا على
قدر المشَّقة فقط
(ومما ينبغي أن يُعرف أن الله ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس وحملها على المشاق، حتى يكون العمل كل ما كان أشق كان أفضل، كما يحسب كثير من الجهال أن الأجر على قدر المشقة في كل شيء، لا! ولكن الأجر على قدر منفعة العمل ومصلحته وفائدته، وعلى قدر طاعة أمر الله ورسوله؛ فأي العملين كان أحسن وصاحبه أطوع وأتبع كان أفضل، فإن الأعمال لا تتفاضل بالكثرة، وإنما تتفاضل بما يحصل في القلوب حال العمل.
ولهذا لما نذرت أخت عقبة بن عامر أن تحج ماشية حافية؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لغني عن تعذيب أختك نفسها، مرها فلتركب)) (1)، وروي: أنه أمرها بالهدي، وروي بالصوم. وكذا حديث جويرية في تسبيحها بالحصى أو النوى، وقد دخل عليها ضحى ثم دخل عليها عشية، فوجدها على تلك الحال، وقوله لها:((لقد قلت بعدك أربع كلمات، ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لرجحت)) (2) .
وأصل ذلك أن يعلم العبد أن الله لم يأمرنا إلا بما فيه صلاحنا، ولم ينهنا إلا عما فيه فسادنا، ولهذا يثني الله على العمل الصالح، ويأمر بالصلاح
(1) رواه أحمد في ((المسند)) (4 / 143) ، والترمذي في (الأيمان والنذور، باب ما جاء في كراهة الحلف بغير ملة الإسلام، 1464) ؛ بلفظ: ((إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئاً
…
)) ، وأصله في ((البخاري)) (كتاب الحج، باب المدينة تنفي الخبث، 1866) ، ومسلم في (النذر، باب من نذر أن يمشي إلى الكعبة، 1644) .
(2)
رواه مسلم في (الذكر والدعاء، باب التسبيح أول النهار وعند النوم، 2726) .
والإصلاح وينهى عن الفساد.
فالله سبحانه إنما حرم علينا الخبائث لما فيها من المضرة والفساد، وأمرنا بالأعمال الصالحة لما فيها من المنفعة والصلاح لنا، وقد لا تحصل هذه الأعمال إلا بمشقة؛ كالجهاد، والحج، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وطلب العلم؛ فيحتمل تلك المشقة ويثاب عليها لما يعقبه من المنفعة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة لما أعتمرت من التنعيم عام حجة الوداع:((أجرك على قدر نصبك)) (1) ، وأما إذا كانت فائدة العمل منفعة لا تقاوم مشقته؛ فهذا فساد، والله لا يحب الفساد.
ومثال ذلك منافع الدنيا، فإن من تحمل مشقة لربح كثير أو دفع عدو عظيم كان هذا محموداً، وأما من تحمل كلفاً عظيمةً ومشاقاً شديدةً لتحصيل يسير من المال أو دفع يسير من الضرر كان بمنزلة من أعطى ألف درهم ليعتاض بمئة درهم، أو مشى مسيرة يوم ليتغدى غدوة يمكنه أن يتغدى خيراً منها في بلده.
فالأمر المشروع المسنون جميعه مبناه على العدل والاقتصاد والتوسط الذي هو خير الأمور وأعلاها؛ كالفردوس؛ فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، فمن كان كذلك فمصيره إليه أن شاء الله تعالى.
هذا في كل عبادة لا تقصد لذاتها؛ مثل الجوع، والسهر، والمشي.
وأما ما يُقصد لنفسه؛ مثل معرفة الله، ومحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه؛ فهذه يشرع فيها الكمال، لكن يقع فيها سرف وعدوان بإدخال ما ليس منها فيها، مثل أن يدخل ترك الأسباب المأمور بها في التوكل، أو
(1) رواه البخاري في (الحج، باب أجر العمرة على قدر النصب، 1787) ، ومسلم في (الحج، باب بيان وجوه الإحرام أنه يجوز إفراد الحج والتمتع، 1211) ؛ من حديث عائشة رضي الله عنها.
يدخل استحلال المحرمات وترك المشروعات في المحبة؛ فهذا هذا، والله سبحانه وتعالى أعلم) (1) .
* * *
(1) * ((مجموع الفتاوى)) (25 / 281 - 284) .