الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أقسام الدَّعاوى وأنَّ اليمين تارة تكون على المدَّعي وتارة تكون على المدَّعى عليه
(الدعاوى التي يحكم فيها ولاة الأمور سواء سموا قضاة أو ولاة، أو تسمى بعضهم في بعض الأوقات ولاة الأحداث أو ولاة المظالم، أو غير ذلك من الأسماء العرفية الاصطلاحية؛ فإن حكم الله تبارك وتعالى شامل لجميع الخلائق، وعلى كل من ولي أمر الأمة أو حكم بين اثنين أن يحكم بالعدل والقسط، وأن يحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الشرع المنزل من عند الله، قال الله تعالى: {لَقَدْ أرْسَلْنا رُسُلَنَا بِالبَيِّناتِ وأنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ والميزانَ لِيَقومَ النَّاسُ بالقِسْطِ وأنْزَلْنا الحَديدَ فيهِ بَأْسٌ شَديدٌ وَمَنافِعُ للنَّاسِ} (1)، وقال تعالى:{إنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدُّوا الأماناتِ إلى أهْلِها وإذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ} (2)، وقال تعالى:{إنَّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أراكَ اللهُ} (3)، وقال تعالى:{وأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أنْزَلَ اللهُ ولا تَتَّبِعْ أهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الحَقِّ} (4) .
فالدعاوى ((قسمان)) : دعوى تهمة، وغير تهمة:
فدعوى التهمة: أن يدعى فعلاً يحرم على المطلوب يوجب عقوبته؛ مثل قتل، أو قطع طريق، أو سرقة، أو غير ذلك من أنواع العدوان المحرم كالذي يستخفى به بما يتعذر إقامة البينة عليه في غالب الأوقات في العادة.
وغير التهمة: أن يدعي دعوى عقد من بيع أو قرض أو رهن أو ضمان
(1) الحديد: 25.
(2)
النساء: 58.
(3)
النساء: 105.
(4)
المائدة: 49.
أو دعوى لا يكون فيها سبب فعل محرم؛ مثل دين ثابت في الذمة من ثمن بيع، أو قرض، أو صداق، أو دية خطأ، أو غير ذلك.
فكل من القسمين قد يكون دعوى حد لله عز وجل محض؛ كالشرب والزنى، وقد يكون حقاً محضاً لآدمي؛ كالأموال، وقد يكون فيه الأمران؛ كالسرقة، وقطع الطريق.
فهذان ((القسمان)) إذا أقام المدعي فيه حجة شرعية، وإلا؛ فالقول قول المدعى عليه مع يمينه لما روى مسلم في ((صحيحه)) عن ابن عباس؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو يُعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه)) ، وفي رواية في ((الصحيحين)) عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعى عليه. فهذا الحديث نص أن أحداً لا يُعطى بمجرد دعواه، ونص في أن الدعوى المتضمنة للإعطاء تجب فيها اليمين ابتداءً على المدعى عليه، وليس فيه أن الدعاوى الموجبة للعقوبات لا توجب إلا اليمين على المدعى عليه؛ بل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال للأنصار لما اشتكوا إليه لأجل قتيلهم الذي قُتل بخيبر، وهو عبد الله ابن سهل، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخوه عبد الله وأبناء عمه حويصة ومحيصة وكان محيصة معه بخيبر، وقال:((أتحلفون خمسين يميناً وتستحقون قاتلكم؟)) . قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟! قال: ((فتبريكم يهود بخمسين يميناً؟)) . قالوا: وكيف نأخذ بأيمان قوم كفار (1) ؟ أخرجه أصحاب الصحاح والسنن جميعهم؛ مثل البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي. وفي رواية في ((الصحيحين)) قال: ((يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برمته)) .
(1) انظر: ((صحيح البخاري)) (كتاب الأدب، باب إكرام الكبير ويبدأ الأكبر بالكلام والسؤال، 6142) ، ومسلم (كتاب القسامة والمحاربين، باب القسامة، رقم 1669) .
وقد ثبت في ((صحيح مسلم)) عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشاهدٍ ويمين (1) . رواه الترمذي وابن ماجه من حديث جابر، ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة، وهذه الأحاديث أصح وأشهر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، وابن عباس الذي يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قضى باليمين مع الشاهد، وأن هذا قضى به في دعاوى وقضى بهذا في دعاوى.
وأما الحديث المشهور في ألْسِنة الفقهاء ((البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر)) (2) ؛ فهذا قد روي أيضاً؛ لكن ليس إسناده في الصحة والشهرة مثل غيره، ولا رواه عامة أهل السنن المشهورة، ولا قال بعمومه أحد من علماء الملة؛ إلا طائفة من فقهاء الكوفة مثل أبي حنيفة وغيره؛ فإنهم يرون اليمين دائماً في جانب المنكر، حتى في القسامة يحلفون المدعى عليه ولا يقضون بالشاهد واليمين، ولا يرون اليمين على المدعي عند النكول، واستدلوا بعموم هذا الحديث.
وأما سائر علماء الملة من أهل المدينة ومكة والشام وفقهاء الحديث وغيرهم؛ مثل ابن جريج، ومالك، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد ابن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم؛ فتارة يحلفون المدعي، وتارة يحلفون المدعى عليه، كما جاءت بذلك سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والأصل عند جمهورهم أن اليمين مشروعة في أقوى الجانبين، والبينة عندهم اسم لما يبين الحق، وبينهم نزاع في تفاريع ذلك؛ فتارة يكون لوثاً مع أيمان القسامة، وتارة يكون شاهداً ويميناً، وتارة يكون دلائل غير الشهود
(1) انظر: ((صحيح مسلم)) (كتاب الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد، 1712) .
(2)
[حسن] . رواه البيهقي في ((السنن)) (10 / 252) . وحسن إسناده الحافظ في ((الفتح)) (5 / 283) . وفي ((صحيح البخاري)) و ((مسلم)) بلفظ: ((اليمين على من ادعى عليه)) .
كالصفة لِلُّقَطَة.
وأجابوا عن ذلك الحديث تارة بالتضعيف، وتارة بأنه عام وأحاديثهم خاصة، وتارة بأن أحاديثهم أصح وأكثر وأشهر؛ فالعمل بها عند التعارض أولى.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طلب البينة من المدعي واليمين من المنكر في حكومات معينة ليست من جنس دعاوى التهم) (1) .
* * *
(1) * ((مجموع الفتاوى)) (35 / 389 - 392) .