الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشَّرع المنزَّل والشَّرع المؤوَّل والشَّرع المبدَّل
(لفظ الشرع في هذه الأزمنة ((ثلاثة أقسام)) :
أحدها: الشرع المُنَزَّل، وهو الكتاب والسنة، واتباعه واجب، من خرج عنه وجب قتله، ويدخل فيه أصول الدين وفروعه، وسياسة الأمراء وولاة المال، وحكم الحكام، ومشيخة الشيوخ، وغير ذلك؛ فليس لأحد من الأولين والآخرين خروج عن طاعة الله ورسوله.
والثاني: الشرع المؤوَّل، وهو موارد النزاع والاجتهاد بين الأمة، فمن أخذ فيما يسوغ فيه الاجتهاد أقر عليه ولم يجب على جميع الخلق موافقته إلا بحجة لا مرد لها من الكتاب والسنة.
والثالث: الشرع المبدَّل، مثل ما يثبت من شهادات الزور، أو يُحكم فيه بالجهل والظلم بغير العدل والحق حكماً بغير ما أنزل الله، أو يُؤمر فيه بإقرار باطل لإضاعة حق، مثل أمر المريض أن يقر لوارث بما ليس بحق ليبطل به حق بقية الورثة؛ فإن الأمر بذلك والشهادة عليه محرمة، وإن كان الحاكم الذي لم يعرف باطن الأمر إذا حكم بما ظهر له من الحق لم يأثم؛ فقد قال سيد الحكام صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه:((إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه؛ فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار)) (1)(2) .
(1) رواه البخاري في (الشهادات، باب من أقام البينة بعد اليمين 2680، وفي الحيل، باب إذا غصب جارية فزعم أنها ماتت 6967، وفي الأحكام، باب موعظة الإمام للخصوم، 7169) ، ومسلم في (الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، 1713) ؛ من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
(2)
* ((مجموع الفتاوى)) (35 / 395 - 396) .
..
وقال أيضاً: (اسم ((السنة)) و ((الشريعة)) قد يكون في العقائد والأقوال، وقد يكون في المقاصد والأفعال؛ فالأولى في طريقة العلم والكلام، والثانية في طريقة الحال والسماع، وقد تكون في طريقة العبادات الظاهرة والسياسات السلطانية؛ فالمتكلمة جعلوا بإزاء الشرعيات العقليات أو الكلاميات، والمتصوفة جعلوا بإزائها الذوقيات والحقائق، والمتفلسفة جعلوا بإزاء الشريعة الفلسفة، والملوك جعلوا بإزاء الشريعة السياسة، وأما الفقهاء والعامة؛ فيخرجون عما هو عندهم من الشريعة إلى بعض هذه الأمور، أو يجعلون بإزائها العادة أو المذهب أو الرأي.
والتحقيق أن الشريعة التي بعث الله بها محمداً صلى الله عليه وسلم جامعة لمصالح الدنيا والآخرة، وهذه الأشياء ما خالف الشريعة منها فهو باطل، وما وافقها منها فهو حق؛ لكن قد يغير أيضاً لفظ الشريعة عند أكثر الناس؛ فالملوك والعامة عندهم أن الشرع والشريعة اسم لحكم الحاكم، ومعلوم أن القضاء فرع من فروع الشريعة، وإلا؛ فالشريعة جامعة لكل ولاية وعمل فيه صلاح الدين والدنيا، والشريعة إنما هي كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه سلف الأمة في العقائد والأحوال والعبادات والأعمال والسياسات والأحكام والولايات والعطيات.
ثم هي مستعملة في كلام الناس على ثلاثة أنحاء: شرع منزل؛ وهو ما شرعه الله ورسوله، وشرع متأول؛ وهو ما ساغ فيه الاجتهاد، وشرع مُبَدَّل؛ وهو ما كان من الكذب والفجور الذي يفعله المبطلون بظاهر من الشرع أو البدع أو الضلال الذي يضيفه الضالون إلى الشرع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وبما ذكرته في مسمى الشريعة والحكم الشرعي والعلم الشرعي يتبين أنه ليس للإنسان أن يخرج عن الشريعة في شيء من أموره، بل كلما يصلح
له؛ فهو في الشرع من أصوله وفروعه وأحواله وأعماله وسياسته ومعاملته وغير ذلك، والحمد لله رب العالمين.
وسبب ذلك أن الشريعة هي طاعة الله ورسوله وأولي الأمر منا، وقد قال تعالى:{يا أيُّها الذينَ آمَنوا أطيعوا اللهَ وأطيعوا الرَّسولَ وأولي الأمْرِ مِنْكُمْ} (1) ، وقد أوجب طاعته وطاعة رسوله في آي كثير من القرآن، وحرم معصيته ومعصية رسوله، ووعد برضوانه ومغفرته ورحمته وجنته على طاعته وطاعة رسوله، وأوعد بضد ذلك على معصيته ومعصية رسوله؛ فعلى كل أحد من عالم أو أمير أو عابد أو معامل أن يطيع الله ورسوله فيما هو قائم به من علم أو حكم أو أمر أو نهي أو عمل أو عبادة أو غير ذلك.
وحقيقة الشريعة: اتباع الرسل والدخول تحت طاعتهم، كما أن الخروج عنها خروج عن طاعة الرسل، وطاعة الرسل هي دين الله الذي أمر بالقتال عليه؛ فقال:{وقاتِلوهُمْ حَتَّى لا تَكونَ فِتْنَةٌ وَيَكونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ} (2) ؛ فإنه قد قال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسولَ فَقَدْ أطاعَ اللهَ} (3) ، والطاعة له دين له، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:((من أطاعني؛ فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري؛ فقد أطاعني، ومن عصاني؛ فقد عصا الله، ومن عصى أميري؛ فقد عصاني)) (4) ، والأمراء والعلماء لهم مواضع تجب طاعتهم فيها، وعليهم هم أيضاً أن يطيعوا الله والرسول فيما يَأمَرون؛ فعلى كلٍ من الرعاة والرعية والرؤوس والمرؤوسين أن يطيع كل منهم الله ورسوله في حاله، ويلتزم شريعة الله التي
(1) النساء: 59.
(2)
البقرة: 193.
(3)
النساء: 80.
(4)
رواه البخاري في (الأحكام، باب قوله تعالى: {وأَطيعُوا اللهَ وأَطيعُوا الرَّسُولَ وأُولِيْ الأمرِ مِنْكُم} ، 7137) ، ومسلم في (الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، 1835) ؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
شرعها له.
وهذه جملة تفصيلها يطول، غلط فيها صنفان من الناس:
صنف سوغوا لنفوسهم الخروج عن شريعة الله ورسوله وطاعة الله ورسوله؛ لظنهم قصور الشريعة عن تمام مصالحهم جهلاً منهم أو جهلاً وهوى أو هوى محضاً.
وصنف قصروا في معرفة قدر الشريعة؛ فضيقوها حتى توهموا هم والناس أنه لا يمكن العمل بها، وأصل ذلك الجهل بمسمى الشريعة ومعرفة قدرها وسعتها، والله أعلم) (1) .
* * *
(1) * ((مجموع الفتاوى)) (19 / 307 - 310) .