الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أوجه معرفة زيادة الإيمان الذي أمر الله به
(وزيادة الإيمان الذي أمر الله به والذي يكون من عباده المؤمنين يعرف من وجوه:
أحدها: الإجمال والتفصيل فيما أمروا به؛ فإنه وإن وجب على جميع الخلق الإيمان بالله ورسوله، ووجب على كل أمة التزام ما يأمر به رسولهم مجملاً؛ فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله، ولا يجب على كل عبد من الإيمان المفصل مما أخبر به الرسول ما يجب على من بلغه غيره
…
الوجه الثاني: الإجمال والتفصيل فيما وقع منهم، فمن آمن بما جاء به الرسول مطلقاً فلم يكذبه قط، لكن أعرض عن معرفة أمره ونهيه وخبره وطلب العلم الواجب عليه، فلم يعلم الواجب عليه ولم يعمله، بل اتبع هواه، وآخر طلب علم ما أمر به فعمل به، وآخر طلب علمه فعلمه وآمن به ولم يعمل به، وإن اشتركوا في الوجوب، لكن من طلب علم التفصيل وعمل به؛ فإيمانه أكمل به، فهؤلاء ممن عرف ما يجب عليه والتزمه وأقر به، لكنه لم يعمل بذلك كله، وهذا المقر بما جاء به الرسول المعترف بذنبه الخائف من عقوبة ربه على ترك العمل أكمل إيماناً ممن لم يطلب معرفة ما أمر به الرسول ولا عمل بذلك ولا هو خائف أن يعاقب، بل هو في غفلة عن تفصيل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أنه مقر بنبوته باطناً وظاهراً.
فكلما علم القلب ما أخبر به الرسول فصدقه، وما أمر به فالتزمه؛ كان ذلك زيادة في إيمانه على من لم يحصل له ذلك؛ وإن كان معه التزام عام وإقرار عام
وكذلك من عرف أسماء الله ومعانيها فآمن بها؛ كان إيمانه أكمل
ممن لم يعرف تلك الأسماء، بل آمن بها إيماناً مجملاً أو عرف بعضها، وكلما ازداد الإنسان معرفة بأسماء الله وصفاته وآياته كان إيمانه به أكمل.
الثالث: أن العلم والتصديق نفسه يكون بعضه أقوى من بعض، وأثبت وأبعد عن الشك والريب، وهذا أمر يشهده كل أحد من نفسه، كما أن الحس الظاهر بالشيء الواحد مثل رؤية الناس للهلال وإن اشتركوا فيها؛ فبعضهم تكون رؤيته أتم من بعض، وكذلك سماع الصوت الواحد وشم الرائحة الواحدة وذوق النوع الواحد من الطعام؛ فكذلك معرفة القلب وتصديقه يتفاضل أعظم من ذلك من وجوه متعددة! والمعاني التي يؤمن بها من معاني أسماء الرب وكلامه يتفاضل الناس في معرفتها أعظم من تفاضلهم في معرفة غيرها.
الرابع: أن التصديق المستلزم لعمل القلب أكمل من التصديق الذي لا يستلزم عمله؛ فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به.
الخامس: أن أعمال القلوب مثل محبة الله ورسوله وخشية الله تعالى ورجائه ونحو ذلك هي كلها من الإيمان، كما دل على ذلك الكتاب والسنة واتفاق السلف، وهذه يتفاضل الناس فيها تفاضلاً عظيماً.
السادس: أن الأعمال الظاهرة مع الباطنة هي أيضاً من الإيمان، والناس يتفاضلون فيها.
السابع: ذكر الإنسان بقلبه ما أمره الله به واستحضاره لذلك بحيث لا يكون غافلاً عنه أكمل ممن صدق به وغفل عنه؛ فإن الغفلة تضاد كمال العلم والتصديق والذكر، والاستحضار يكمل العلم واليقين
…
الثامن: أن الإنسان قد يكون مكذباً ومنكراً لأمور لا يعلم أن الرسول
أخبر بها وأمر بها، ولو علم ذلك لم يكذب ولم ينكر؛ بل قلبه جازم بأنه لا يخبر إلا بصدق ولا يأمر إلا بحق، ثم يسمع الآية أو الحديث، أو يتدبر ذلك، أو يفسر له معناه، أو يظهر له ذلك بوجه من الوجوه؛ فيصدق بما كان مكذباً به، ويعرف ما كان منكراً، وهذا تصديق جديد وإيمان جديد ازداد به إيمانه، ولم يكن قبل ذلك كافراً؛ بل جاهلاً، وهذا وإن أشبه المجمل والمفصل لكون قلبه سليماً عن تكذيب وتصديق لشيء من التفاصيل وعن معرفة وإنكار لشيء من ذلك، فيأتيه التفصيل بعد الإجمال على قلب ساذج، وأما كثير من الناس، بل من أهل العلوم والعبادات؛ فيقوم بقلوبهم من التفصيل أمور كثيرة تخالف ما جاء به الرسول وهم لا يعرفون أنها تخالف؛ فإذا عرفوا رجعوا، وكل من ابتدع في الدين قولاً أخطأ فيه أو عمل عملاً أخطأ فيه وهو مؤمن بالرسول، أو عرف ما قاله وآمن به لم يعدل عنه؛ هو من هذا الباب، وكل مبتدع قصده متابعة الرسول؛ فهو من هذا الباب، فمن علم ما جاء به الرسول وعمل به أكمل ممن أخطأ ذلك، ومن علم الصواب بعد الخطأ وعمل به؛ فهو أكمل ممن لم يكن كذلك) (1)
(1) * ((مجموع الفتاوى)) (7 / 332 - 337) .