الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما كان في القلب
لا بدَّ أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح
(أصل الإيمان في القلب، وهو قول القلب وعمله، وهو إقرار بالتَّصديق والحبِّ والانقياد، وما كان في القلب فلا بدَّ أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح، وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دلَّ على عدمه أو ضعفه، ولهذا كانت الأعمال الظَّاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه، وهي تصديق لما في القلب ودليل عليه وشاهد له، وهي شعبة من مجموع الإيمان المطلق وبعض له؛ لكن ما في القلب هو الأصل لما على الجوارح؛ كما قال أبو هريرة رضي الله عنه: ((إنَّ القلب ملك، والأعضاء جنوده؛ فإن طاب الملك طابت جنوده، وإذا خَبُثَ الملك خبثت جنوده)) (1)، وفي ((الصَّحيحين)) عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:((إنَّ في الجسد مضغة، إذا صَلُحت صَلُح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب)) (2) .
ولهذا ظنَّ طوائف من النَّاس أنَّ الإيمان إنَّما هو في القلب خاصَّة، وما على الجوارح ليس داخلاً في مسمَّاه، ولكن هو من ثمراته ونتائجه الدَّالَّة عليه، حتَّى آل الأمر بغلاتهم - كجهم وأتباعه - إلى أن قالوا: يمكن أن يصدق بقلبه ولا يظهر بلسانه إلَاّ كلمة الكفر مع قدرته على إظهارها، فيكون الذي في القلب إيماناً نافعاً له في الآخرة، وقالوا: حيث حكم الشارع بكفر أحد بعمل أو قول؛ فلكونه دليلاً على انتفاء ما في القلب.
(1)[إسناده ضعيف] . رواه الطبراني في ((مسند الشاميين)) (738) من حديث عائشة رضي الله عنها بإسناد فيه عتبة بن أبي حكيم، وهو ضعيف.
(2)
رواه البخاري في (الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، رقم 52) ، ومسلم في (المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، رقم 1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه .
وقولهم متناقض؛ فإنَّه إذا كان ذلك دليلاً مستلزماً لانتفاء الإيمان الذي في القلب امتنع أن يكون الإيمان ثابتاً في القلب، مع الدَّليل المستلزم لنفيه، وإن لم يكن دليلاً لم يجز الاستدلال به على الكفر الباطن.
والله سبحانه في غير موضع يبيِّن أنَّ تحقيق الإيمان وتصديقه بما هو من الأعمال الظَّاهرة والباطنة؛ كقوله: {إنَّما المُؤْمِنونَ الذينَ إذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وإذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتِهِ زادَتْهُمْ إيماناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلونَ. الذينَ يُقيمونَ الصَّلاةَ ومِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقونَ. أولئكَ هُمُ المُؤْمِنونَ حَقّاً
…
} (1) .
وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لا يُؤْمنونَ حَتَّى يُحَكِّموكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدوا في أنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّموا تَسْليماً} (2) .
فإذا قال القائل: هذا يدلُّ على أنَّ الإيمان ينتفي عند انتفاء هذه الأمور لا يدلُّ على أنَّها من الإيمان.
قيل: هذا اعتراف بأنَّه ينتفي الإيمان الباطن مع عدم مثل هذه الأمور الظَّاهرة؛ فلا يجوز أن يَّدعي أنَّه يكون في القلب إيمان ينافي الكفر بدون أمور ظاهرة: لا قول ولا عمل، وهو المطلوب - وذلك تصديق -، وذلك لأنَّ القلب إذا تحقَّق ما فيه أثَّر في الظَّاهر ضرورةً، لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر؛ فالإرادة الجازمة للفعل مع القدرة التَّامَّة توجب وقوع المقدور، فإذا كان في القلب حبُّ الله ورسوله ثابتاً استلزم موالاة أوليائه ومعاداة أعدائه:{لا تَجِدوا قَوْماً يُؤْمِنونَ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حادَّ اللهَ ورَسُولَهُ وَلَوْ كانوا آباءَهُمْ أوْ أبْناءَهُمْ أوْ إخْوانَهُمْ أوْ عَشيرَتَهُمْ} (3) ، {وَلَوْ
(1) الأنفال: 2.
(2)
النساء: 65.
(3)
المجادلة: 22.
كانوا يُؤْمنونَ باللهِ والنَّبيِّ وما أُنْزِلَ إلَيْهِ ما اتَّخَذوهُمْ أوْلِياءَ} (1) ؛ فهذا التَّلازم أمر ضروريٌّ.
ومن جهة ظنِّ انتفاء التَّلازم غلط غالطون، كما غلط آخرون في جواز وجود إرادة جازمة مع القدرة التامَّة بدون الفعل، حتَّى تنازعوا: هل يعاقب على الإرادة بلا عمل؟ وقد بسطنا ذلك في غير هذا الموضع، وبيَّنَّا أنَّ الهمَّة التي لم يقترن بها فعل ما يقدر عليه الهامُّ ليس إرادة جازمة، وأنَّ الإرادة الجازمة لا بدَّ أن يوجد معها ما يقدر عليه العبد، والعفو وقع عمَّن همَّ بسيِّئة ولم يفعلها لا عن من أراد وفعل المقدور عليه وعجز عن حصول مراده، كالذي أراد قتل صاحبه فقاتله حتى قُتل أحدهما؛ فإنَّ هذا يعاقب لأنَّه أراد وفعل المقدور من المراد، ومن عرف الملازمات التي بين الأمور الباطنة والظَّاهرة زالت عنه شبهات كثيرة في مثل هذه المواضع التي كثر اختلاف النَّاس فيها.
بقي أن يقال: فهل اسم الإيمان للأصل فقط، أو له ولفروعه؟
والتَّحقيق: أنَّ الاسم المطلق يتناولهما، وقد يخصُّ الاسم وحده بالاسم مع الاقتران، وقد لا يتناول إلَاّ الأصل إذا لم يخصَّ إلَاّ هو، كاسم الشَّجرة؛ فإنَّه يتناول الأصل والفرع إذا وُجدت، ولو قُطعت الفروع لكان اسم الشَّجرة يتناول الأصل وحده) (2) .
* * *
(1) المائدة: 81.
(2)
((مجموع الفتاوى)) (7 / 644 - 646) .