الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسائل متفرِّقة في علاج من به مسٌّ من الجنِّ ومن ذلك استخدام الضَّرب وقد فعله ابن تيميَّة كثيراً
(
…
وأما من سلك في دفع عداوتهم [يعني: الجن] مسلك العدل الذي أمر الله به ورسوله؛ فإنه لم يظلمهم، بل هو مطيع لله ورسوله في نصر المظلوم وإغاثة المهلوف والتنفيس عن المكروب بالطريق الشرعي التي ليس فيها شرك بالخالق ولا ظلم للمخلوق، ومثل هذا لا تؤذيه الجن؛ إما لمعرفتهم بأنه عادل، وإما لعجزهم عنه، وإن كان الجن من العفاريت وهو ضعيف فقد تؤذيه، فينبغي لمثل هذا أن يحترز بقراءة العوذ؛ مثل آية الكرسي، والمعوذات، والصلاة، والدعاء، ونحو ذلك مما يقوي الإيمان ويجنب الذنوب التي بها يسلطون عليه؛ فإنه مجاهد في سبيل الله، وهذا من أعظم الجهاد؛ فليحذر أن ينصر العدو عليه بذنوبه؛ وإن كان الأمر فوق قدرته؛ فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فلا يتعرض من البلاء لما لا يطيق.
ومن أعظم ما ينتصر به عليهم آية الكرسي
…
... فقد جرب المجربون الذين لا يحصون كثرةً أن لها من التأثير في دفع الشياطين وإبطال أحوالهم ما لا ينضبط من كثرته وقوته، فإن لها تأثيراً عظيماً في دفع الشيطان عن نفس الإنسان وعن المصروع وعن من تعينه الشياطين؛ مثل أهل الظلم والغضب، وأهل الشهوة والطرب، وأرباب السماع المكاء والتصدية، إذا قرئت عليهم بصدق؛ دفعت الشياطين، وبطلت الأمور التي يخيلها الشيطان، ويبطل ما عند إخوان الشياطين من مكاشفة شيطانية وتصرف شيطاني؛ إذ كانت الشياطين يوحون إلى أوليائهم بأمور يظنها الجهال من كرامات أولياء الله المتقين، وإنما هي من تلبيسات الشياطين على أوليائهم المغضوب عليهم والضالين.
والصائل المعتدي يستحق دفعه سواء كان مسلماً أو كافراً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:((من قُتل دون ماله؛ فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه؛ فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه؛ فهو شهيد)) (1) ، فإذا كان المظلوم له أن يدفع عن مال المظلوم ولو بقتل الصائل العادي؛ فكيف لا يدفع عن عقله وبدنه وحرمته؟! فإن الشيطان يفسد عقله ويعاقبه في بدنه، وقد يفعل معه فاحشة إنسي بإنسي، وإن لم يندفع إلا بالقتل؛ جاز قتله
…
فهذا من أفضل الأعمال، وهو من أعمال الأنبياء والصالحين؛ فإنه ما زال الأنبياء والصالحون يدفعون الشياطين عن بني آدم بما أمر الله به ورسوله، كما كان المسيح يفعل ذلك، وكما كان نبينا صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك
…
وقد ثبت في ((الصحيحين)) حديث الذين رقوا بالفاتحة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:((وما أدراك أنها رقية؟)) (2) ، وأذن لهم في أخذ الجعل على شفاء اللديغ بالرقية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للشيطان الذي أراد قطع صلاته:((أعوذ بالله منك، ألعنك بلعنة الله التامة - ثلاث مرات -)) (3) ، وهذا كدفع ظالمي الإنس من الكفار والفجار؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإن كانوا لم يروا الترك ولم يكونوا
(1)[صحيح] . رواه الترمذي في (الديات، باب ما جاء فيمن قُتل دون ماله فهو شهيد، 1421) ، والنسائي في (تحريم الدم، باب من قاتل دون دينه، 4059) ، وأبو داود في (السنة، باب في قتال اللصوص، 4772) ؛ من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه. وشطره الأول: ((من قُتل دون ماله؛ فهو شهيد)) في ((البخاري)) في (المظالم والغصب، باب من قُتل دون ماله، 2480) ، وفي ((مسلم)) في (الإيمان، باب الدليل على أن من قصد أخذ مال بغير حق، 202) ؛ من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وانظر: ((صحيح الجامع)) (6445) .
(2)
رواه البخاري في (الإجارة، باب ما يعطى في الرقية، 2276، وفي الطب، باب الرقى بفاتحة الكتاب، 5736) ، ومسلم في (السلام، باب جواز أخذ الأجرة على الرقية، 2201) ؛ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3)
رواه مسلم في (المساجد، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة، 843) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.
يرمون بالقسي الفارسية ونحوها مما يُحتاج إليه في القتال؛ فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتالهم، وأخبر أن أمته ستقاتلهم، ومعلوم أن قتالهم النافع إنما هو بالقسي الفارسية، ولو قوتلوا بالقسي العربية التي تشبه قوس القطن لم تغن شيئاً؛ بل استطالوا على المسلمين بقوة رميهم؛ فلا بد من قتالهم بما يقهرهم.
وقد قال بعض المسلمين لعمر بن الخطاب: إن العدو إذا رأيناهم قد لبسوا الحرير وجدنا في قلوبنا روعة. فقال: وأنتم؛ فالبسوا كما لبسوا. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في عمرة القضية بالرمل والاضطباع ليرى المشركين قوتهم، وإن لم يكن هذا مشروعاً قبل هذا؛ ففُعل لأجل الجهاد ما لم يكن مشروعاً بدون ذلك.
ولهذا قد يحتاج في إبراء المصروع ودفع الجن عنه إلى الضرب، فيضرب ضرباً كثيراً جدّاً، والضرب إنما يقع على الجني ولا يحس به المصروع حتى يفيق المصروع ويخبر أنه لم يحس بشيء من ذلك، ولا يؤثر في بدنه، ويكون قد ضُرب بعصا قوية على رجليه نحو ثلاث مئة أو أربع مئة ضربة وأكثر وأقل، بحيث لو كان على الإنسي لقتله، وإنما هو على الجني، والجني يصيح ويصرخ ويحدث الحاضرين بأمور متعددة كما قد فعلنا نحن هذا وجربناه مرات كثيرة يطول وصفها بحضرة خلق كثيرين.
وأما الاستعانة عليهم بما يُقال ويُكتَب مما لا يُعرف معناه؛ فلا يشرع، لا سيما إن كان فيه شرك؛ فإن ذلك محرم، وعامة ما يقوله أهل العزائم فيه شرك، وقد يقرؤون مع ذلك شيئاً من القرآن ويظهرونه، ويكتمون ما يقولونه من الشرك، وفي الاستشفاء بما شرعه الله ورسوله ما يغني عن الشرك وأهله.
والمسلمون وإن تنازعوا في جواز التداوي بالمحرمات كالميتة والخنزير؛ فلا يتنازعون في أن الكفر والشرك لا يجوز التداوي به بحال؛ لأن
ذلك محرم في كل حال، وليس هذا كالتكلُّم به عند الإكراه؛ فإن ذلك إنما يجوز إذا كان قلبه مطمئناً بالإيمان، والتكلم به إنما يؤثر إذا كان بقلب صاحبه، ولو تكلم به مع طمأنينة قلبه بالإيمان لم يؤثر، والشيطان إذا عرف أن صاحبه مستخفٌّ بالعزائم لم يساعده، وأيضاً؛ فإن المُكرَه مضطرٌّ إلى التكلُّم به، ولا ضرورة إلى إبراء المصاب به؛ لوجهين:
أحدهما: أنه قد لا يؤثر أكثر مما يؤثر من يعالج بالعزائم، فلا يؤثر بل يزيده شرّاً.
والثاني: أن في الحق ما يغني عن الباطل) (1) .
* * *
(1) * ((مجموع الفتاوى)) (19 / 53 - 61) .