الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الورع المشروع والورع الواجب والورع الفاسد
(الورع المشروع المستحب الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم؛ هو اتقاء من يخاف أن يكون سبباً للذم والعذاب عند عدم المعارض الراجح، ويدخل في ذلك أداء الواجبات والمشتبهات التي تشبه الواجب وترك المحرمات والمشتبهات التي تشبه الحرام، وإن أدخلت فيها المكروهات قلت: نخاف أن تكون سبباً للنقص والعذاب.
وأما الورع الواجب؛ فهو اتقاء ما يكون سبباً للذم والعذاب، وهو فعل الواجب وترك المحرم، والفرق بينهما فيما اشتبه: أمِنَ الواجب هو أم ليس منه، وما اشتبه تحريمه: أمن المحرم أم ليس منه؟
فأما ما لا ريب في حله؛ فليس تركه من الورع، وما لا ريب في سقوطه؛ فليس فعله من الورع، وقولي عند عدم المعارض الراجح؛ فإنه قد لا يترك الحرام البين أو المشتبه إلا عند ترك ما هو حسنة موقعها في الشريعة أعظم من ترك تلك السيئة، مثل من يترك الائتمام بالإمام الفاسق فيترك الجمعة والجماعة والحج والغزو، وكذلك قد لا يؤدي الواجب البين أو المشتبه إلا بفعل سيئة أعظم إثماً من تركه، مثل من لا يمكنه أداء الواجبات من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لذوي السلطان إلا بقتال فيه من الفساد أعظم من فساد ظلمه.
والأصل في الورع المشتبه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن ترك الشبهات استبرأ عرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام؛ كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه)) (1) ، وهذا في ((الصحيحين)) ، وفي ((السنن))
(1) رواه البخاري في (الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، 52) ، ومسلم في (المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، 1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
قوله: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) (1)، وقوله:((البر ما اطمأنت إليه النفس وسكن إليه القلب)) (2)، وقوله في ((صحيح مسلم)) في رواية:((البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وإن أفتاك الناس)) (3)، وأنه رأى على فراشه تمرة فقال:((لولا أني أخاف أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها)) (4) .
…
لكن يقع الغلط في الورع من ثلاث جهات:
أحدها: اعتقاد كثير من الناس أنه من باب الترك؛ فلا يرون الورع إلا في ترك الحرام لا في أداء الواجب، وهذا يُبتلى به كثير من المتدينة المتورعة، ترى أحدهم يتورع عن الكلمة الكاذبة وعن الدرهم فيه شبهة لكونه من مال ظالم أو معاملة فاسدة، ويتورع عن الركون إلى الظلمة من أجل البدع في الدين وذوي الفجور في الدنيا، ومع هذا يترك أموراً واجبةً عليه إما عيناً وإما كفايةً وقد تعينت عليه؛ من صلة رحم، وحق جار ومسكين وصاحب ويتيم وابن سبيل، وحق مسلم وذي سلطان وذي علم، وعن أمر بمعروف ونهي عن منكر، وعن الجهاد في سبيل الله إلى غير ذلك مما فيه نفع للخلق في دينهم ودنياهم مما وجب عليه، أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعالى، بل من جهة التكليف ونحو ذلك.
(1)[صحيح] . رواه النسائي في (الأشربة، باب الحث على ترك الشبهات، 5711) ، والترمذي في (صفة القيامة، باب منه، 2518) ؛ من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما. ورواه أحمد في ((المسند)) (3 / 153) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وانظر: ((الإرواء)) (12، 2074) .
(2)
[حسن] . رواه أحمد في ((المسند)) (4 / 227، 228) ، والدارمي (2/245) ، وأبو يعلى (1586) ؛ من حديث وابصة رضي الله عنه. وأورده النووي في ((الأربعين حديثاً)) وحسنه.
(3)
رواه مسلم في (البر والصلة، باب تفسير البر والإثم، 2553) من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه بلفظ: ((البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس)) ، وأما لفظه:((وإن أفتاك الناس)) ؛ فهي جزء من الحديث السابق.
(4)
رواه بنحوه البخاري في (البيوع، باب ما يتنزه من الشبهات، 2055) ، ومسلم في (الزكاة، باب تحريم الزكاة على رسول الله وعلى آله، 1017) من حديث أنس رضي الله عنه.
وهذا الورع قد يوقع صاحبه في البدع الكبار؛ فإن ورع الخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم من هذا الجنس، تورعوا عن الظلم وعن ما اعتقدوه ظلماً من مخالطة الظلمة في زعمهم، حتى تركوا الواجبات الكبار من الجمعة والجماعة والحج والجهاد ونصيحة المسلمين والرحمة لهم، وأهل هذا الورع ممن أنكر عليهم الأئمة، كالأئمة الأربعة، وصار حالهم يذكر في اعتقاد أهل السنة والجماعة.
الجهة الثانية من الاعتقاد الفاسد أنه إذا فعل الواجب والمشتبه وترك المحرم والمشتبه؛ فينبغي أن يكون اعتقاد الوجوب والتحريم بأدلة الكتاب والسنة وبالعلم لا بالهوى، وإلا؛ فكثير من الناس تنفر نفسه عن أشياء لعادة ونحوها، فيكون ذلك مما يقوي تحريمها واشتباهها عنده، ويكون بعضهم في أوهام وظنون كاذبة، فتكون تلك الظنون مبناها على الورع الفاسد، فيكون صاحبه ممن قال الله تعالى فيه:{إنْ يَتَّبِعونَ إلَاّ الظَّنَّ وما تَهْوَى الأنْفُسُ} (1) ، وهذه حال أهل الوسوسة في النجاسات؛ فإنهم من أهل الورع الفاسد المركب من نوع دين وضعف عقل وعلم) (2) .
* * *
(1) النجم: 23.
(2)
* ((مجموع الفتاوى)) (20 / 137 - 140) .