الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اشتمال بعض الأعمال على الخير والشر في آن واحد وفيه كلام غريب
!
(اعلم أن من الأعمال ما يكون فيه خير لاشتماله على أنواع من المشروع، وفيه أيضاً شر من بدعة وغيرها؛ فيكون ذلك العمل خيراً بالنسبة إلى ما اشتمل عليه من أنواع المشروع وشراً بالنسبة إلى ما اشتمل عليه من الإعراض عن الدين بالكلية، كحال المنافقين والفاسقين، وهذا قد ابتلى به أكثر الأمة في الأزمان المتأخرة؛ فعليك هنا بأدبين:
أحدهما: أن يكون حرصك على التمسك بالسنة باطناً وظاهراً في خاصتك وخاصة من يطيعك، وأعرف المعروف وأنكر المنكر.
الثاني: أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان، فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شر منه؛ فلا تدعو إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه، أو بترك واجب أو مندوب تركه أضر من فعل ذلك المكروه، ولكن إذا كان في البدعة من الخير فعوض عنه من الخير المشروع بحسب الإمكان؛ إذْ النفوس لا تترك شيئاً إلا بشيء، ولا ينبغي لأحد أن يترك خيراً إلاّ إلى مثله أو إلى خير منه، فإنه كما أن الفاعلين لهذه البدع معيبون قد أتوا مكروهاً؛ فالتاركون أيضاً للسنن مذمومون، فإن منها ما يكون واجباً على الإطلاق، ومنها ما يكون واجباً على التقييد، كما أن الصلاة النافلة لا تجب، ولكن من أراد أن يصليها يجب عليه أن يأتي بأركانها، وكما يجب على من أتى الذنوب من الكفارات والقضاء والتوبة والحسنات الماحية، وما يجب على من كان إماماً أو قاضياً أو مفتياً أو والياً من الحقوق وما يجب على طالبي العلم، أو نوافل العبادة من الحقوق.
ومنها: ما يُكره المداومة على تركه كراهة شديدة.
ومنها: ما يُكره تركه أو يجب فعله على الأئمة دون غيرهم وعامتها يجب تعليمها والحض عليها والدعاء إليها.
وكثير من المنكرين لبدع العبادات والعادات تجدهم مقصرين في فعل السنن من ذلك أو الأمر به، ولعل حال كثير منهم يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك العبادات المشتملة على نوع من الكراهة، بل الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا قوام لأحدهما إلا بصاحبه؛ فلا يُنهى عن منكر إلاّ ويؤمر بمعروف يغني عنه كما يؤمر بعبادة الله سبحانه ويُنهى عن عبادة ما سواه؛ إذ رأس الأمر شهادة أن لا إله إلا الله، والنفوس خلقت لتعمل لا لتترك، وإنما الترك مقصود لغيره، فإن لم يشتغل بعمل صالح، وإلا لم يترك العمل السيىء أو الناقص، لكن لما كان من الأعمال السيئة ما يفسد عليها العمل الصالح نُهيت عنه حفظاً للعمل الصالح.
فتعظيم المولد واتخاذه موسماً قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد، ولهذا قيل للإمام أحمد عن بعض الأمراء أنه أنفق على مصحف ألف دينار أو نحو ذلك؛ فقال: دعهم؛ فهذا أفضل ما أنفقوا فيه الذهب. أو كما قال، مع أن مذهبه أن زخرفة المصاحف مكروهة، وقد تأول بعض الأصحاب أنه أنفقها في تجويد الورق والخط، وليس مقصود أحمد هذا، إنما قصده أن هذا العمل فيه مصلحة وفيه أيضاً مفسدة كره لأجلها، فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا، وإلا؛ اعتاضوا بفساد لا صلاح فيه، مثل أن ينفقها في كتاب من كتب الفجور من كتب الأسمار أو الأشعار أو حكمة فارس والروم.
فتفطن لحقيقة الدين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية والمفاسد؛ بحيث تعرف ما مراتب المعروف ومراتب المنكر،
حتى تقدم أهمها عند الازدحام، فإن هذا حقيقة العلم بما جاءت به الرسل، فإن التمييز بين جنس المعروف وجنس المنكر أو جنس الدليل وغير الدليل يتيسر كثيراً.
فأما مراتب المعروف والمنكر ومراتب الدليل؛ بحيث يقدم عند التزاحم أعرف المعروفين، وينكر أنكر المنكرين، ويرجح أقوى الدليلين؛ فإنه هو خاصة العلماء بهذا الدين.
فالمراتب ثلاث:
أحدها: العمل الصالح المشروع الذي لا كراهة فيه.
والثاني: العمل الصالح من بعض وجوهه أو أكثرها: إما لحسن القصد، أو لاشتماله مع ذلك على أنواع من المشروع.
والثالث: ما ليس فيه صلاح أصلاً: إما لكونه تركاً للعمل الصالح مطلقاً، أو لكونه عملاً فاسداً محضاً) (1) .
* * *
(1) * ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2 / 620 ـ 623) .