الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من توهم أنَّ الفرض أن يقصد المصلِّي الصَّلاة في مكان لو سار على خطٍّ مستقيم وصل إلى عين الكعبة فقد أخطأ
(من توهم أن الفرض أن يقصد المصلي الصلاة في مكان لو سار على خط مستقيم وصل إلى عين الكعبة؛ فقد أخطأ، ومن فسر وجوب الصلاة إلى العين بهذا وأوجب هذا؛ فقد أخطأ، وإن كان هذا قد قاله قائل من المجتهدين؛ فهذا القول خطأ خالف نص الكتاب والسنة وإجماع السلف؛ بل وإجماع الأمة؛ فإن الأمة متفقة على صحة صلاة الصف المستطيل الذي يزيد طوله على سمت الكعبة بأضعاف مضاعفة وإن كان الصف مستقيماً لا انحناء فيه ولا تقوس.
فإن قيل: مع البعد لا يحتاج إلى الانحناء والتقوس كما يحتاج إليه في القرب، كما أن الناس إذا استقبلوا الهلال أو الشمس أو جبلاً من الجبال؛ فإنهم يستقبلونه مع كثرتهم وتفرقهم، ولو كان قريباً لم يستقبلوه إلا مع القلة والاجتماع.
قيل: لا ريب أنه ليس الانحناء والتقوس في البعد بقدر الانحناء والتقوس في القرب؛ بل كلما زاد البعد قل الانحناء، وكلما قرب كثر الانحناء، حتى يكون أعظم الناس انحناءً وتقوساً الصف الذي يلي الكعبة، ولكن مع هذا؛ فلا بد من التقوس والانحناء في البعد إذا كان المقصود أن يكون بينه وبينها خط مستقيم بحيث لو مشى إليه لوصل إليها، لكن يكون التقوس شيئاً يسيراً جداً، كما قيل: إنه إذا قدر الصف ميلاً وهو مثلاً في الشام كان الانحناء من كل واحد بقدر شعيرة؛ فإن هذا ذكره بعض من نص وجوب استقبال العين، وقال: إن مثل هذا التقوس اليسير يُعفى عنه.
فيقال له: فهذا معنى قولنا: إن الواجب استقبال الجهة، وهو العفو عن وجوب تحري مثل هذا التقوس والانحناء، فصار النزاع لفظياً لا حقيقة له؛ فالمقصود أن من صلى إلى جهتها فهو مصلٍّ إلى عينها وإن كان ليس عليه أن يتحرى مثل هذا، ولا يقال لمن صلى كذلك أنه مخطىء في الباطن معفوٌّ عنه؛ بل هذا مستقبل القبلة باطناً وظاهراً، وهذا هو الذي أمر به، ولهذا لما بنى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مساجد الأمصار كان في بعضها ما لو خرج منه خط مستقيم إلى الكعبة لكان منحرفاً وكانت صلاة المسلمين فيه جائزة باتفاق المسلمين.
وبهذا يظهر حقيقة قول من قال: إن من قرب منها أو من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لا تكون إلا على خط مستقيم؛ لأنه لا يقر على خطأ.
فيقال: هؤلاء اعتقدوا أن مثل هذه القبلة تكون خطأ، وإنما تكون خطأ لو كان الفرض أن يتحرى استقبال خط مستقيم بين وسط أنفه وبينها، وليس الأمر كذلك، بل قد تقدم نصوص الكتاب والسنة بخلاف ذلك.
ونظير هذا قول بعضهم إذا وقف الناس يوم العاشر خطأً أجزأهم؛ فالصواب أن ذلك هو يوم عرفة باطناً وظاهراً، ولا خطأ في ذلك؛ بل يوم عرفة هو اليوم الذي يعرف فيه الناس، والهلال إنما يكون هلالاً إذا استهله الناس، وإذا طلع ولم يستهلوه؛ فليس بهلال، مع أن النزاع في الهلال مشهور هل هو اسم لما يطلع وإن لم يستهل به، أو لما يستهل به؟ وفيه قولان معروفان في مذهب أحمد وغيره، بخلاف النزاع في استقبال الكعبة.
ويدل على ذلك أنه لو قيل بأن على الإنسان أن يتحرى أن يكون بين وسط أنفه وجبهته وبينها خط مستقيم؛ قيل: فلا بد من طريق يعلم بها ذلك؛ فإن الله لم يوجب شيئاً إلا وقد نصب على العلم به دليلاً، ومعلوم أن طريق العلم بذلك لا يعرفه إلا خاصة الناس مع اختلافهم فيه، ومع كثرة الخطأ في
ذلك ووجوب استقبال القبلة عام لجميع المسلمين؛ فلا يكون العلم الواجب خفياً لا يعلم إلا بطريق طويلة صعبة مخوفة مع تعذر العلم بذلك أو تعسره في أغلب الأحوال) (1) .
* * *
(1) * ((مجموع الفتاوى)) (22 / 209 - 212) .