الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تحزيب السُّور وكراهة القراءة بأواخر السُّور وأوساطها
(إذا كانت التجزئة بالحروف محدثة من عهد الحجاج بالعراق؛ فمعلوم أن الصحابة قبل ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده كان لهم تحزيب آخر؛ فإنهم كانوا يقدرون تارة بالآيات، فيقولون: خمسون آية، ستون آية. وتارة بالسور، لكن تسبيعه بالآيات لم يروه أحد ولا ذكره أحد؛ فتعين التحزيب بالسور.
فإن قيل: فترتيب سور القرآن ليس هو أمراً واجباً منصوصاً عليه، وإنما هو موكول إلى الناس، ولهذا اختلف ترتيب مصاحف الصحابة رضي الله عنهم، ولهذا في كراهة تنكيس السور روايتان عن الإمام أحمد:
إحداهما: يُكره لأنه خلاف المصحف العثماني المتفق عليه.
والثانية: لا يُكره كما يلقنه الصبيان؛ إذ قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران.
قيل: لا ريب أن قراءة سورة بعد سورة لا بد أن يكون مرتباً، أكثر ما في الباب أن الترتيب يكون أنواعاً، كما أنزل القرآن على أحرف، وعلى هذا؛ فهذا التحزيب يكون تابعاً لهذا الترتيب، ويجوز أيضاً أن يكون هذا التحزيب مع كل ترتيب، فإنه ليس في الحديث تعيين السور.
وهذا الذي كان عليه الصحابة هو الأحسن؛ لوجوه:
أحدها: أن هذه التحزيبات المحدثة تتضمن دائماً الوقوف على بعض الكلام المتصل بما بعده، حتى يتضمن الوقف على المعطوف دون المعطوف عليه، فيحصل القارىء في اليوم الثاني مبتدئاً بمعطوف؛ كقوله
تعالى: {والمُحْصَناتِ مِنَ النِّساءِ إلَاّ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ} (1)، وقوله:{وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ للهِ وَرَسولِهِ} (2) ، وأمثال ذلك، ويتضمن الوقف على بعض القصة دون بعض ـ حتى كلام المتخاطبين ـ حتى يحصل الابتداء في اليوم الثاني بكلام المجيب؛ كقوله تعالى:{قالَ ألَمْ أقُلْ لَكَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطيعَ مَعي صَبْراً} (3) .
ومثل هذه الوقوف لا يسوغ في المجلس الواحد إذا طال الفصل بينهما بأجنبي، ولهذا لو أُلحق بالكلام عطف أو استثناء أو شرط ونحو ذلك بعد طول الفصل بأجنبي لم يسغ باتفاق العلماء، ولو تأخر القبول عن الإيجاب بمثل ذلك بين المتخاطبين لم يسغ ذلك بلا نزاع، ومن حكى عن أحمد خلاف ذلك فقد أخطأ، كما أخطأ من نقل عن ابن عباس في الأول خلاف ذلك، وذلك أن المنقول عن أحمد أنه فيما إذا كان المتعاقدان غائبين، أو أحدهما غائب والآخر حاضراً؛ فينقل الإيجاب أحدهما إلى الآخر، فيقبل في مجلس البلاغ، وهذا جائز، بخلاف ما إذا كانا حاضرين والذي في القرآن نقل كلام حاضرين متجاورين؛ فكيف يسوغ أن يفرق هذا التفريق لغير حاجة؟! بخلاف ما إذا فرق في التلقين لعدم حفظ المتلقن ونحو ذلك.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت عادته الغالبة وعادة أصحابه أن يقرأ في الصلاة بسورة كـ (ق) ونحوها، وكما كان عمر رضي الله عنه يقرأ بـ ((يونس)) و ((يوسف)) و ((النحل)) ، ولما قرأ صلى الله عليه وسلم بسورة ((المؤمنين)) في الفجر أدركته سعلة، فركع في أثنائها وقال: ((إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن
(1) النساء: 24.
(2)
الأحزاب: 31.
(3)
الكهف: 75.
أطيلها، فأسمع بكاء الصبي، فأخفف لما أعلم من وجد أمه به)) (1) .
وأما ((القراءة بأواخر السور وأوساطها)) ؛ فلم يكن غالباً عليهم، ولهذا يتورع في كراهة ذلك، وفيه النزاع المشهور في مذهب أحمد وغيره، ومن أعدل الأقوال قول من قال: يُكره اعتياد ذلك دون فعله أحياناً؛ لئلا يخرج عما مضت به السنة وعادة السلف من الصحابة والتابعين.
وإذا كان كذلك؛ فمعلوم أن هذا التحزيب والتجزئة فيه مخالفة السنة أعظم مما في قراءة آخر السورة ووسطها في الصلاة، وبكل حال؛ فلا ريب أن التجزئة والتحزيب الموافق لما كان هو الغالب على تلاوتهم أحسن.
و ((المقصود)) أن التحزيب بالسورة التامة أولى من التحزيب بالتجزئة) (2) .
* * *
(1) رواه البخاري في (الأذان، باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي، 710) ، ومسلم في (الصلاة، باب أمر الأئمة تخفيف الصلاة في تمام، 470) ؛ من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
* ((مجموع الفتاوى)) (13 / 409 - 412) .
دعاء الغائب للغائب أعظم إجابة من دعاء الحاضر
(دعاء الغائب للغائب أعظم إجابة من دعاء الحاضر؛ لأنه أكمل إخلاصاً وأبعد عن الشرك؛ فكيف يشبه دعاء من يدعو لغيره بلا سؤال منه إلى دعاء من يدعو الله بسؤاله وهو حاضر؟!
وفي ((صحيح مسلم)) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة؛ إلا وكَّل الله به ملكاً كلما دعا لأخيه بدعوة قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثله)) (1) .
وذلك أن المخلوق يطلب من المخلوق ما يقدر المخلوق عليه، والمخلوق قادر على دعاء الله ومسألته؛ فلهذا كان طلب الدعاء جائزاً، كما يطلب منه الإعانة بما يقدر عليه والأفعال التي يقدر عليها.
فأما ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى؛ فلا يجوز أن يُطلب إلا من الله سبحانه، لا يُطلب ذلك لا من الملائكة ولا من الأنبياء ولا من غيرهم، ولا يجوز أن يقال لغير الله: اغفر لي، واسقنا الغيث، وانصرنا على القوم الكافرين، أو اهد قلوبنا، ونحو ذلك) (2) .
(1) انظر: ((صحيح مسلم)) (كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب، 2732) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.
(2)
* ((مجموع الفتاوى)) (1 / 328 - 329) .