الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع السابع: في الخصومات
قوله: وإذا حلف لا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه فلم يفارقه بل فارقه الغريم، فالظاهر وهو المشهور: أنه لا يحنث الحالف سواء تمكن من منعه أو من متابعته أو لم يتمكن؛ لأنه حلف على فعل نفسه فلا يحنث بفعل الغريم. انتهى.
وما ذكره هنا من أنه لا عبرة بالتمكن، قد خالفه في "المحرر" فإنه شرط لعدم الحنث أن لا يتمكن فقال: وإن هرب صاحبه ولم يمكنه أن يتبعه لم يحنث.
هذا لفظه واستدرك عليه في "المنهاج" وصحح كما في "الروضة".
قوله: ولو قال لغريمه: والله لا يفارقني، فاليمين منعقدة على فعل الغير، ثم قال ما نصه: فإن فارقه ناسيًا أو مكرهًا خرج الحنث على القولين، ونقل صاحب "التهذيب" طريقة أخرى قاطعة بأنه يحنث، والاختيار يعتبر في فعل الحالف لا في فعل غيره. انتهى كلامه.
وما ذكره من التخريج على القولين قد تابعه عليه في "الروضة" وهو غير مستقيم، فإنه قد سبق في الطلاق أنه إذا حلف على فعل غيره ففعل ذلك الغير الشيء المحلوف عليه ناسيًا أو مكرهًا فإن كان ممن لا يبالي بالحالف حنث، وإن كان ممن يبالي كزوجته فعلى القولين.
فينبغي أيضًا مراعاته هنا، والكلام الذي ذكره هنا لا إشعار له بهذا التفصيل بل يشعر بخلافه، إلا أن يقال كونه غريمًا له فجعله ممن يبالي به وهو ضعيف، فإنه قد يكون ممتنعًا عليه أولًا ببينة له.
قوله: وإذا قال: لا أفارقك حتى أستوفي حقي منك، فأفلس الغريم
فمنعه الحاكم من ملازمته ففارقه ففيه قولان: حنث المكره، وإن فارقه باختياره، حنث، وإن كان تركه واجبًا كما لو قال: لا أصلي الفرض، فصلى حنث. انتهى كلامه.
وقد ذكر الرافعي في آخر تعليق الطلاق نظير هذه المسألة -أعني المفارقة بالاختيار- ونقل فيها خلافًا، ومن جملة ما نقله فيها عن الشافعي: أنه لا يحنث، وقد ذكرت المسألة هناك فراجعها.
قوله: ولا يشترط فيه -أي في الضرب المحلوف عليه- الإيلام، ألا ترى أنه يقال: ضربه ولم يؤلمه، ويخالف الحد والتعزير يعتبر فيهما الإيلام؛ لأن الغرض هناك الزجر، وإنما يحصل ذلك بالإيلام، واليمين يتعلق بالاسم، وقال مالك: يشترط الإيلام، وللأصحاب وجه مثله وذكرناه في الطلاق. انتهى كلامه.
وهذا الذي ذكره غريب جدًا، فإنه قد سبق في الطلاق تصحيح العكس، وعبر بالأشهر، ووقع هذا الاختلاف أيضًا في "الروضة" على وجه هو أشد مما وقع في الرافعي، فقال في الطلاق: ويشترط فيه الإيلام على الأصح وقيل: لا يشترط، وعبر هنا بقوله: ولا يشترط الإيلام، وحكى وجه ضعيف. أنه يشترط، وقد سبق في الطلاق. هذا لفظه.
فانظر كيف جعله هناك الأصح وجعله هنا وجهًا ضعيفًا، وجزم الرافعى في "المحرر" والنووي في "المنهاج": بعدم اشتراطه، وبه أجاب الرافعي في البابين من "الشرح الصغير" فإنه صححه في هذا الباب كما صححه في "الكبير"، ونقله في الطلاق عن الأكثرين فقال: شرط بعضهم أن يكون فيه إيلام ولم يشترطه الأكثرون واكتفوا بالصدمة. هذا لفظه.
وهو يقتضي أن ما وقع في "الكبير" هناك من كون الأشهر هو
الاشتراط غلط حصل من سبق قلم أو تحريف من الناقلين من المسودة وهو الظاهر.
واعلم أن محل الخلاف إذا لم يصف الضرب بالشدة، فإن وصفه به فقال: ضربًا شديدًا، فلابد من الإيلام الناجع، كما قاله الإمام في كتاب الأيمان.
قال: ولا حد نقف عنده في تحصيل البر ولكن الرجوع إلى ما يسمى شديدًا، وهذا يختلف لا محالة باختلاف حال الضروب. انتهى.
وهذه المسألة قد صرح بها الشافعي في "المختصر" فقال: وإن لم يقل ضربًا شديدًا فأي ضرب ضربه إياه لم يحنث لأنه ضاربه.
هذه عبارته وذكرها أيضًا القاضي الحسين، والبغوي والرافعي في "المحرر" والنووي في "المنهاج"، وليس لها ذكر في "الشرحين" ولا في "الروضة".
قوله من "زوائده": قلت: ولو ضرب ميتًا لم يحنث، ولو ضرب مغمى عليه أو مجنونًا أو سكرانًا حنث لأنه محل الضرب بخلاف الميت، ذكره المتولي. انتهى.
ومسألة الميت قد تقدم ذكرها من كلام الرافعي في كتاب الطلاق، ونقل فيها خلافًا عن حكاية المتولي.
قوله: ولو حلف ليضربن عبده مائة خشبة أو ليجلدنه مائة فضربه بعثكال عليه مائة شمراخ ضربة واحدة حصل البر إذا تيقن أن الكل أصابه، وما معنى إصابة الكل؟ الظاهر: أنه لا يشترط أنْ تُلاقي القضبان بدنه أو ملبوسه بل يكفي أن ينكبس بعضها على بعض بحيث يناله ثقل الكل، وفيه وجه: أنه لا يكفي الانكباس بل لابد من ملاقاة الجميع بدنه أو ملبوسه. انتهى كلامه.
وما رجحه من عدم اشتراط المماسة قد رجحه أيضًا في "الشرح الصغير" وعبر بالظاهر أيضًا، وتبعه على ترجيحه النووي في "الروضة"، والذي نص عليه الشافعي: اعتبار المماسة لا الانكباس، وقد نقله عنه أيضًا الشيخ أبو حامد في "تعليقه" والماوردي في "الحاوي" وغيرهما.
قالوا: وصورة البر أن يأخذ ضِغثا مشدود الأسفل محلول الأعلى.
قوله: ولو شك في إصابة الكل [فالنص](1) أنه لا يحنث، ونقل المزني عن نصه في ما إذا حلف ليدخلن الدار اليوم إلا أن يشاء زيد فلم يدخل ومات زيد ولم يعلم هل شاء أم لا؟ أنه يحنث، فقيل: فيها قولان، وقيل: بتقرير النصين.
والفرق أن الضرب سبب ظاهر في الانكباس والتثقيل فيكتفي به، وهناك لا أمارة تدل على أنه شاء، والأصل عدم المشيئة، والظاهر في الضرب: أنه لا يحنث، وإن ثبت الخلاف، وفي المشيئة أنه يحنث. انتهى.
فيه أمور:
أحدها: أن هذا الفرق الذي ذكره الرافعي مشهور في كتب الأصحاب على اختلاف طبقاتهم وهو يقتضي وجوه غلبة الظن في الضرب بإصابة الجميع، ولهذا قال في "المهذب": والظاهر إصابة الجميع، وصرح به الإمام أيضًا فقال: والوجه عندنا أن يقع الضرب على حالة يغلب على الظن حصول المطلوب منها، فلو لم يغلب على الظن فيبعد اعتقاد البر من غير ظن.
ثم قال: فإن قيل: إذا كان كذلك فلم اشتراط غلبة الظن؟ قلنا: لا أقل منها، هذه عبارته.
(1) سقط من أ.
وذكر الغزالي نحوه وكذلك الشيخ أبو حامد في "تعليقه"، فإنه نقل عن المزني: أن الشافعي حَنّثه في المشيئة ولم يُحَنِّثه هنا بالشك، فأجاب عنه الشيخ بقوله: قلنا: لا فرق بين الموضعين وإنما حكم بالظاهر فيهما، هذه عبارته، وصرح به أيضًا البندنيجي وغيره.
إذا علمت ذلك فتعبير الرافعي وغيره فاسد مع ذكرهم هذا الفرق، وتصريحهم بغلبة الظن صحيح لأن الشك يطلق ويراد به التردد كيف كان لاسيما عند الفقهاء.
وقد ظن النووي أن الأصحاب مختلفون في اشتراط الظن وأن المراد بالشك عند الرافعي وغيره هو المستوى الطرفين، فقال: قلت: هكذا صور الجمهور مسألة الخلاف في ما إذا شك.
وذكر الدارمي وابن الصباغ والمتولي: أنه إذا شك حنث، وإنما لا يحنث على المنصوص إذا غلب على ظنه إصابة الجميع.
وهذا حسن لكن الأول أصح؛ لأنه بعد هذا الضرب يشك في الحنث والأصل عدمه.
هذا كلامه وهو عجيب يَظْهر فساده مما تقدم فإن كلام الأصحاب متفق على اشتراط الظن هنا تصريحًا أو تلويحًا، ولم نجد أحدًا صرح بأن المراد بالشك هو المستوى الطرفين، ثم إن التعليل الذي ذكره من "زوائده" عليه لا له؛ لأن المسألة إذا كانت مفروضة في ما إذا احتملت الإصابة وعدمها على السواء، وقد تعلق به حكم اليمين، والأصل عدم إصابة الجميع وإذا كان الأصل عدم إصابة الجميع ولا ظاهر يدل على خلافه لزم أن يكون الأصل على هذا التقدير هو الحنث، لا عدم الحنث.
الأمر الثاني: أن ما نقله عن الجمهور وارتضاه من تصوير مسألة الخلاف بالشك، إن أراد به تساوي الاحتمالين فقط فيخرج من كلامه ما إذا رجح
احتمال عدم إصابة الجميع، أو يرجح إصابة الجميع فيقال له: لم تبين حكمهما على القول الذي نسبته إلى الجمهور وصححته، وإن أراد مطلق التردد فيكون قد اختار عدم الحنث مع غلبة الظن بعدم الإصابة، ولا يمكن القول به.
الأمر الثالث: أن ترجيحه في الضرب بعدم الحنث يخالف ما ذكره في الطرف الثاني من كتاب حد الزنا فإنه قد جزم هناك بأنه إذا حصل الشك في الحد لا يجزئ، والمسألتان متشابهتان، ووقعت المسألتان كذلك في "الشرح الصغير" و"الروضة".
قوله: ولو حلف ليضربنه بالسوط لم يبر بالعصا والشماريخ لأنه لا يقع عليه اسم السوط، وإذا قال: مائة سوط، فالظاهر: أنه لا يحصل البر بضربه بعثكال عليه مائة شمراخ، ولكن يبر بأن يجمع مائة سوط ويشدها ويضربه دفعة واحدة، على ما سبق، وفيه وجه: أنه وإن ذكر السوط يبر بالعثكال كما في لفظ الخشبة، وهذا ما أورده صاحب "التهذيب". انتهى كلامه.
فيه أمران:
أحدهما: أن ما صححه من كونه لا يبر بالعثكال عند تعبيره بالسوط ذكر مثله في "الشرح الصغير" وخالف في "المحرر"، فجزم بأنه يبر فقال: ولو حلف ليضربنه مائة سوط أو خشبة فشد مائة وضربه بها ضربة واحدة أو ضربه بعثكال عليه مائة شمراخ بَرّ، هذا لفظه.
ووقع هذا الاختلاف أيضًا بين "الروضة" و"المنهاج".
والصواب الذي عليه الفتوى أنه يكفي كما في "المحرر" و"المنهاج" فإنه المعروف في المذهب ولهذا قطع به الشيخ أبو حامد والبندنيجي والمحاملي والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ والبغوي وغيرهم، ويدل عليه أن الرافعي قد جزم بالاكتفاء -أي: بالعثكال- عند التعبير بالخشبة كما سبق
نقله عنه في المسألة المتقدمة، مع أن الشمراخ لا يطلق عليه اسم الخشب، فإما أن ننظر إلى اللفظ أو إلى المعنى.
والمذكور هنا من كون العثكال لا يكفي عند التعبير بالسوط نقله الإمام في "النهاية" فتابعه عليه الرافعي.
الأمر الثاني: أن مقتضى كلامه أنه لو حلف ليضربنه بالسوط لم يبر بالعصا والشماريخ جزمًا، وأنه إذا قال: مائة سوط، فيبر بها على وجه فتأمله، وهكذا كلام "الروضة" أيضًا، وهو باطل بلا شك فإن الخلاف كما يجري في الثانية يجري في الأولى.
قوله: وإذا حكمنا بعدم الحنث في الناسي والجاهل فهل تَنْحَلّ اليمين؟ فيه وجهان: أشبههما وبه أجاب الصيدلاني: لا تَنْحَلّ اليمين. انتهى.
فيه أمران:
أحدهما: أن هذا الذي ذكره هنا من أنه الأشبه ونقله عن الصيدلاني خاصة قد نقله في كتاب الإيلاء عن الأصحاب فقال: إنه الأوفق لكلام الأئمة.
ذكر ذلك في الحكم الرابع من الباب الثاني فاعلمه.
الأمر الثاني: أنه إذا قال: أنت طالق قبل أن أضربك بشهر، فضربها، فينظر كما قاله الرافعي في أوائل باب تعليق الطلاق: إن ضربها بعد شهر من وقت التعليق تَبَيّنا وقوع الطلاق ولا كلام.
وإن كان الضرب قبل ذلك لم تطلق على الصحيح وتَنْحَل اليمين حتى لو ضربها بعد ذلك لم يقع شيء.
قال: وللإمام احتمال أنها لا تَنْحَلّ لكون الضرب الأول ليس هو المحلوف عليه. هذا كلامه.
وهذه المسألة مع مسألتنا على حد سواء، فإنه إذا علق على الضرب مثلا كان المعلق عليه هو الضرب من حيث هو لا يفيد التعميم ولا يفيد الاختيار؛ إذ لو كان المعلق عليه هو الضرب عمدًا لم يحنث بالناسي قطعًا، ولو كان هو الضرب مطلقًا عمدًا كان أو ناسيًا لكان يحنث بالنسيان قطعًا كما ذكره الرافعي في موضعه، فثبت أن المحلوف عليه قد وجد في كل من المثالين إلا أنه لم يحنث لمانع وهو عدم الاختيار في مسألتنا، واستحالة الحنث قبل اليمين في مسألة الطلاق.
فالمتوجه ما قاله هناك وهو انحلال اليمين لوجود المعلق عليه حقيقة.
قوله: وإذا حلف لا يدخل الدار فحمل بغير إذنه ولكنه كان قادرًا على الامتناع فلم يمتنع، فالظاهر: أنه لا يحنث أيضًا لأنه لم يوجد منه الدخول، ومنهم من جعل سكوته بمثابة الإذن في الدخول، ولو حمل بأمره حنث، وكان كما لو ركب دابة. انتهى كلامه.
وما ذكره من ترجيح عدم الحنث عند القدرة على الامتناع قد ذكر في أواخر الشرط في الطلاق خلافه، وقد ذكرت لفظه هناك فراجعه.
قوله: ولو حلف لا يدخل على زيد وكان الحالف في بيت فدخل عليه زيد، فإن خرج الحالف في الحال [لم يحنث، وإلا فقيل: لا يحنث](1).
وقيل: فيه خلاف، بناء على استدامة الدخول هل هي دخول؟ ، وأجاب ابن الصباغ عن هذا بأن الاستدامة إن جعلت دخولًا كانا كالداخلين معًا فلا يكون أحدهما داخلًا على الآخر. انتهى.
نقل القاضي أبو الطيب عن نصه في "الأم": أنه لا يحنث، واستحسن النووي مقالة ابن الصباغ.
(1) في الأصل والروضة: "لم يحنث، وإلا فقيل: لا يحنث"، ولعل ما أثبتناه هو الصواب.
قال رحمه الله: وليختم الباب بأصول مأثورة وفروع منثورة في فصلين.
قوله: وذكر القاضي ابن كج: أنه إذا قال: والله لا دخلت، وكرر ذلك ونوى التأكيد فهو يمين واحدة، وإن نوى بالثاني يمينًا أخرى أو أطلق فيلزمه بالحنث كفارة أو كفارتان؟ فيه وجهان. انتهى كلامه.
فيه أمور:
أحدها: أن الأصح في ما إذا نوى الاستئناف أنه يلزمه كفارة واحدة، كذا صححه الرافعي في آخر كتاب الإيلاء فقال: إنه الأظهر عند الجمهور، وجزم به أيضًا في آخر الظهار في الكلام على تكرير لفظ الظهار، وقال في "الروضة" هنا من "زوائده": إنه الأصح.
الأمر الثاني: أن الرافعي جعل هذا الخلاف في آخر كتاب الإيلاء قولين على خلاف ما قاله هنا من أنه وجهان.
الأمر الثالث: أن هذه المسألة تشبه تكرار الظهار، وتكرار التحريم في الزوجة والأمة.
فأما الظهار فقال الرافعي: قد يكون الثاني متصلًا بالأول وقد يكون منفصلًا، فإن كان متصلًا: فإن أراد بالثاني التأكيد فهو ظهار واحد، وإن أراد ظهارًا آخر.
فالقديم: أنه ظهار واحد لا يتعلق به إلا كفارة واحدة قياسًا على اليمين.
الجديد: التعدد، لأنه كلام يتعلق به التحريم، فإذا كرره بقصد الاستئناف تكرر حكمه كالطلاق، فإن أطلق وجبت كفارة واحدة في أظهر القولين.
وأما إذا تفاصلت المرات وقصد الاستئناف أو أطلق فكل مرة ظهار برأسه، وفيه قول: إنه لا يكون الثاني ظهارًا آخر ما لم يكفر عن الأول.
هذا كلامه.
وأما ما إذا كرر التحريم في الزوجة أو الأمة فينظر، إن قال ذلك في مجلس واحد لزمه كفارة واحدة، فإن اختلف المجلس ونوى التأكيد فكذلك، وإن نوى الاستئناف تعددت الكفارة على الصحيح، وإن أطلق فعلى قولين، كذا نقله الرافعي في أركان الطلاق عن الصيدلاني ولم يخالفه، وجزم به في "الروضة" من غير نقله عن الصيدلاني، وهذان الفرعان قد اشتركا في أن كلًا منهما يقتضي كفارة ناجزة لا تتوقف على الوطء، وقد أوجبوا فيهما عند الاستئناف كفارتين بخلاف اليمين، وقد تقدم الفرق في كلام الرافعي بين الظهار واليمين، وذلك الفرق لا يأتي في ما إذا قال: أنت عليَّ حرام.
فإنها لا تحرم بذلك، وقد يفرق بين اليمين وبينهما بفرق واحد شامل وهو أن التحريم والظهار يوجبان الكفارة إيجابًا منجزًا، فلما أتى اللفظ الثاني وجد الكفارة قد استقرت باللفظ الأول فتعين إيجاب أخرى له، وإلا لزم إلغاؤه بخلاف اليمين، فإن وجوب الكفارة متأخر عنهما لتوقفه على فعل المحلوف عليه فأمكن الاقتصار على كفارة واحدة.
نعم أطلقوا في اليمين ولم يفصلوا بين أن يحلف على مستقبل أو لا، فإن كان الحكم كذلك فلا يزول الإشكال بما ذكرناه.
ويشكل على الفرق أيضًا ما ذكره الرافعي في آخر الظهار فقال: فرع: قال في "التهذيب": لو قال إن دخلت الدار فأنت عليّ كظهر أمي، وكرر هذا اللفظ ثلاثًا فإذا دخلت الدار صار مظاهرًا، فإن قصد التأكيد لم تجب إلا كفارة واحدة وإن قالها في مجالس، وإن قصد الاستئناف تعددت الكفارة ويجب الجميع بعود واحد بعد الدخول، فإن طلقها عقب الدخول لم يجب شيء وإن أطلق فهل يحمل على التأكيد أم الاستئناف؟ قولان. هذا كلامه.
وجزم به في "الروضة" ولم ينقله عن "التهذيب" كما نقله الرافعي.
ووجه الإشكال أن وجوب الكفارة متوقف على الدخول، ومع ذلك فقد حكموا بالتعدد ولم يسووا بينه وبين اليمين، فإن قيل: لعل الفرق أن الظهار لما كان محرمًا قلنا فيه بالتعدد تغليظًا.
قلنا: فيلزم التفصيل في اليمين بين أن يحلف على فعل معصية أم لا.
وهاهنا تنبيه آخر: وهو أن الرافعي غاير بين التحريم وبين الظهار فيما إذا نوى الاستئناف في المجلس الواحد، فإنه أوجب به كفارة واحدة في التحريم وحكم بالتعدد في الظهار، وذكر الرافعي أيضًا في آخر الإيلاء أنه إذا أطلق فهل يحمل على التأكيد أم الاستئناف؟ فيه قولان، ثم قال المتولي: الأظهر: الحمل على التأكيد عند اتحاد المجلس، وعلى الاستئناف عند تعدده.
قوله: في كتب أصحاب أبي حنيفة أن المعرفة لا تدخل تحت النكرة لمغايرتهما، فإذا قال: لا يدخل داري أحد ولا يلبس ثوبي أحد، دخل في اليمين غير الحالف لأنه صار معرفًا بإضافة الدار والقميص إليه.
قالوا: ولو عرف نفسه بإضافة الفعل بأن قال: لا أُلبس هذا القميص أحدًا، أو عَرّف غيره بالإضافة إليه، لأنه صار معرفًا، وكذا لو قال: لا يقطع هذه اليد أحد، وأشار إلى يده، لم يدخل هو، وقد يتوقف في هذه الصورة الأخيرة والسابق إلى الفهم في غيرها ما ذكروه ويجوز أن تخرج الصورة الأولى على الخلاف في المخاطب هل يندرج تحت الخطاب؟ انتهى.
قال في "الروضة": الوجه الجزم بكل ما ذكروه، والله أعلم.
قوله: وفي كتبهم أن كلمة "أو" إذا دخلت بين نفيين اقتضت انتفاء كل منهما، ويشبه أن يكون حالفًا على الامتناع من أحدهما، فإذا فعل واحدًا أو امتنع من الآخر لم يحنث. انتهى ملخصًا.
وذكر بعد تعليل عن الماوردي كلامًا مخالفًا لهذا فقال: وفي "الإقناع" للماوردي أنه لو قال: لا أكلت خبزًا أو لحمًا، يرجع إلى مراده منهما فيتعلق به اليمين. هذا كلامه، وظاهره أنه أراد بالمراد تعيين [ما شاء. وقد راجعت عبارته فوجدتها ظاهرة فيه. فإنه عبر بالتعيين] (1) لا بالتبيين فقال: فتعين يمينه فيه.
وقد ذكرنا في أوائل تعليق الطلاق مسائل مما نحن فيه فراجعها.
قوله: ولو قال: لا أدخل هذه الدار، فهدمت ثم أعيدت بغير الآلة فدخلها لم يحنث، وإن أعيدت بتلك الآلة، فوجهان. انتهى.
والأصح: الحنث، كذا صححه النووي في "زيادات الروضة" و"تصحيح التنبيه"، وسوف أذكر لك في نهاية الباب ما يقتضي أن الرافعي يرجح عدم الحنث.
قوله: حلف لا يشم الريحان لم يحنث بالورد والياسمين والبنفسج والنرجس والمرزنجوش والزعفران، ويمكن أن يقال: هذا في ما إذا عرف الريحان، أما إذا قال: لا أشم ريحانًا فيحنث بها جميعًا، فلا يبعد إطلاق اسم الرياحين عليها. انتهى.
قال في "الروضة": الظاهر من حيث الدليل ومن مقتضى كلام الأصحاب: أنه لا فرق ولا يحنث مطلقًا بما سوى الضيمران.
قوله: حلف لا يتسرى، ففيه ثلاثة أوجه عن ابن سريج:
أظهرها ويحكي عن نصه في "الأم": أن التسري يحصل بثلاثة أمور: ستر الجارية عن أعين الناس، والوطء، والإنزال.
والثاني: يكفي الستر والوطء.
(1) سقط من أ.
والثالث: يكفي الوطء. انتهي كلامه.
وهذه الأوجه التي ذكرها ونقلها عن ابن سريج قد ذكرها في آخر كتاب الوصية في الكلام على الرجوع ناقلًا لها عن ابن سريج أيضًا ولم يذكر فيها الوجه الذي صححه هنا بالكلية، بل ذكر عوضه وجهًا آخر لم يذكره هنا وهو الوطء مع الإنزال خاصة ولم يذكر معه الستر، فقال: واستشهد على هذا بأن الشافعي رضي الله عنه قال في الإيلاء: لو حلف أن لا يتسرى فوطيء جارية من جواريه وعزل لم يحنث، وإن لم يعزل حنث، لأنه قد طلب الولد وطلب الولد هو التسري، ثم قال بعد ذلك: وأما مسألة اليمين فعن ابن سريج في التسري ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه الوطء من غير عزل.
والثاني: أن التسري هو مجرد الوطء.
والثالث: أنه الوطء مع المنع من الخروج.
وعلى هذين الوجهين لا فرق بين أن يعزل وبين أن لا يعزل. هذا لفظه بحروفه.
والاختلاف الذي ذكرناه واضح، ولم يذكر المسألة في "الروضة" هناك.
واعلم أن بين التعبيرين تفاوتًا آخر من وجهين:
أحدهما: أنه عبر هناك بقوله: "من غير عزل"، وعبر هنا بقوله:"مع الإنزال"، فمن وطيء ولم ينزل يصدق عليه أنه لم يعزل، لأن العزل هو الإنزال خارجًا عنها ولم يوجد منه ذلك، ولا يقال أنزل فيها.
الثاني: أنه عبر هنا "بالستر عن الناس" وعبر في "الروضة""بالمنع من الخروج"، فمن برزت في بيته للضيفان خارجة عن العبارة الأولى
وداخلة في الثانية.
قوله: نقلًا عن "فتاوى القفال": وأنه لو حلف لا يفعل كذا فجن وفعله في حال جنونه ففي الحنث قولان. انتهى.
لم يصحح في "الروضة" شيئًا منها هاهنا، والصحيح في الرافعي و"الروضة" في آخر كتاب الإيلاء: عدم الحنث، وزادا على ذلك فنقلا طريقة القولين عن البغوي والمتولي، ونقلا عن العراقيين قاطبة القطع بعدم الحنث، فيكون جزمه هنا بطريقة القولين مخالفًا لما عليه الأكثرون.
قوله: أيضًا نقلا عنه: وأنه لو حلف لا يلبس ثوبًا من غزلها فرقع ثوبه برقعة كرباس من غزلها حنث، وقال أبو عاصم العبادي: لا يحنث، وتلك الرقعة تبع.
وإن التحف بلحاف من غزلها لم يحنث، وفي "الرقم": أنه لو طبخ أرزًا وعدسًا بودك فهو طبيخ، وإن طبخ بزيت أو سمن فليس بطبيخ. انتهى.
وهذه المسائل قد تكلم عليها في "الروضة" فقال في الأولى: الصحيح قول أبي عاصم لأنه لا يسمى لابسًا ثوبًا من غزلها، وأما الالتحاف: فيجئ فيه الخلاف السابق في التدثر، وأما الثالثة: فالصواب فيها أن الكل طبيخ.
قوله: وفي "المبتدأ" للروياني: أنه لو قيل له: كلم زيدًا اليوم، فقال: والله لا كلمته. انعقدت اليمين على الأبد إلا أن ينوي اليوم، فإن كان ذلك في طلاق وقال: أردت اليوم، لم يُقْبل في الحكم. انتهى.
استدرك في "الروضة" فقال: الصواب قبوله في الحكم كما سبق في نظائره، والله أعلم.
وهذه المسألة -أعني عدم القبول في الحكم- قد حصل فيها اضطراب
شديد في كلام الرافعي و"الروضة" وقد أوضحته في الباب الأول من أبواب الأيمان.
واعلم أن حمل اليمين في أمثال هذه المسائل على التأبيد عند الإطلاق قد سبق ما يخالفه في آخر تعليق الطلاق، وخالف البغوي فقال: تتقيد بالحالة الراهنة للعرف.
قوله: وفي كتب الحنفية: أنه لو حلف ليضربن زوجته حتى يغشى عليها أو تموت حمل على الحقيقة، ولو قال: حتى أقتلها أو ترفع ميتة، حُمِلَ على أشد الضرب، ويظهر على أصلنا الحمل على الحقيقة أيضًا. انتهى.
وما ذكره بحثًا من اعتبار الحقيقة في نحو هذا، وتابعه عليه في "الروضة" قد جزم به قبيل كتاب الرجعة بأسطر، فقال نقلًا عن تعليق الشيخ إبراهيم المروذي: إنه لو قال لزوجته أفرغي البيت من قماشك، فإن دخلت ووجدت فيه شيئًا من قماشك ولم أكسره على رأسك فأنت طالق، فدخل فوجد في البيت هاونًا لها فوجهان:
أحدهما: لا تطلق للاستحالة.
والثاني: تطلق عند اليأس قُبَيْل موتها أو موته. هذا كلامه.
وحاصله: الجزم بمراعاة الحقيقة من أن إرادتها في المثال المذكور هناك أبعد من إرادتها في المثال المذكور في هذا الباب، ولكن لما كانت الحقيقة هناك مستحيلة حكى وجهين في وقوع الطلاق في الحال كغيره من التعليقات المستحيلة فتفطن لذلك.
وقماش البيت هو متاعه كما قاله الجوهري؟ فلذلك جعلوا الهاون منه.
قوله: وفي كتبهم أيضًا: أنه لو حلف لا يجلس على هذه الأسطوانة أو الحائط فأعيد بناؤها بعد النقض وجلس على المعاد، لم يحنث، وإن حلف
لا يدخل هذا المسجد فزيد فيه فدخل موضع الزيادة لم يحنث، فإن حلف لا يدخل مسجد بني فلان فزيد فيه فدخل موضع الزيادة حنث وإن حلف لا يكتب بهذا القلم فكسره ثم براه وكتب به لم يحنث، وبأجوبتهم يحنث فيما عدا القلم وأن الكسب هو ما يمتلكه من المباحات وبالعقود دون ما يرثه، وقد يتردد في ما يدخل في ملكه باحتطاب عبده وقبوله الهبة والوصية فيجوز أن يلحق بما يدخل في ملكه إرشادًا، ويجوز أن يقال: تملك العبد أو إمساكه اكتساب، لما يستفيده، ويجوز أن يفرق بين أن يكون العبد مكتسبًا أو موروثًا، وأن الحلواء: كل حلو ليس في جنسه حامض نحو الخبيص والعسل والسكر دون العنب والأجاص.
والأشبه: أنه يشترط في إطلاق الحلو [أن يكون معمولًا. وأن يخرج عنه العسل والسكر. فالحلواء غير الحلوى](1).
وقال العبادي في "الرقم": هل يدخل في الحلوى اللوزينج والجوزينج؟ فيه وجهان. انتهى ملخصًا فيه جملة مسائل:
فأما المسألة الأولى: فقد وافق النووي فيها على أن جوابنا فيها كجواب الحنفية فلابد فيها من تفصيل ذكره القاضي أبو الطيب في كتاب الصلح من "تعليقته" في نظير المسألة، فقال: لو حلف لا يكتب بهذا القلم وهو مبري، فكسره ثم براه وكتب به لم يحنث، وإن كانت الأنبوبة واحدة لأن القلم اسم للمبري دون القصبة، وإنما تسمى القصبة قبل البري قلمًا مجازًا، لأنها ستصير قلمًا.
وكذا إذا قال: لا أقطع بهذا السكين فأبطل حدها وجعله في ظهرها وقطع بها لم يحنث.
ولو حلف لا يستند إلى هذا الحائط فهدم ثم بنى واستند، إن بني بتلك الآلة حنث، وإن أعيد بغيرها أو ببعضها لم يحنث. هذا كلامه.
(1) سقط من أ.
ويؤيد ما ذكره أيضًا القاضي ما سبق قريبًا أنه إذا حلف لا يدخل دارًا فهدمت ثم أعيدت بنقضها فإنه يحنث على الصحيح، إلا أن الرافعي رحمه الله لم يرجح في تلك المسألة شيئًا، والتصحيح المذكور من كلام النووي ولا يستقيم معه الدعوى بأنّا نوافق الحنفية فيه.
ويؤخذ من كلام الرافعي هنا ترجيح عدم الحنث هناك على خلاف ما رجحه في "الروضة".
وأما المسألة الثانية: فقد غلط فيها النووي في "الروضة" فإنه قال: نقلا عنهم ما نصه: ولو حلف لا يدخل هذا المسجد فزيد فيه فدخل الزيادة حنث. هذا لفظه، فأسقط جواب مسألته الإشارة وتصوير الثانية أيضًا، ونقل جواب الثانية فجعله الأولى فلزم الخطأ في الحكم، وكأنه سقط من نسخته من قوله:"فزيد فيه" إلى "فزيد فيه" أو انتقل نظره، ثم إنه بعد اختصاره رأي أن ذلك غير مستقيم، فاعترض على الرافعي ظنًا منه أن ما نقله عنه في "الروضة" مطابق لما قاله فقال: قلت: في موافقتهم في مسألة زيادة المسجد نظر وينبغي أنه لا يحنث بدخولها لأن اليمين لم تتناوله حالة الحلف. هذا لفظه.
ويدل على عدم الحنث عند الإشارة أن الأفضلية الثانية لمسجده عليه الصلاة والسلام المستفادة من قوله "صلاة في مسجدي هذا"(1) خاصة بما كان في زمنه دون ما زيد فيه بعد ذلك، وممن جزم بذلك النووي في مناسك الحج وغيره.
وأما المسألة الثالثة: وهي مسألة القلم فالنقل فيها عندنا على عكس ما نقله الرافعي عن الحنفية؛ وقد تقدم ذكره في ما نقلناه عن القاضي.
وأما المسألة الرابعة: وهي مسألة الكسب فقد حذف في "الروضة" ما
(1) تقدم.
ذكره "الرافعي" في كسب الصيد.
وأما المسألة الخامسة: وهي مسألة الحلوى فالصواب فيها كما قاله في "الروضة": هو ما قاله الرافعي، وفي الحديث الصحيح:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلوى والعسل"(1).
واعلم أن اللوزينج: قطائف حشوه لوز وسكر، والجوزينج: حشوه جوز بعسل أو دبس.
قوله: ولو قال: لا أكلمه اليوم ستة أشهر. فعليه أن يدع الكلام في ذلك اليوم كلما دار في الستة أشهر. انتهى.
وهذه المسألة وقعت محرفة في كثير من نسخ الرافعي وفي فهمها قلق فحذفها النووي من "الروضة"، وحذف معها مسائل أخرى قريبة من ذلك في القلق والتحريف، وإن كان ساترها رقيقًا غير كثيف، بعضها من كلام الحنفية كما سنبينه، فإن الرافعي قد نقل عنهم هنا مسائل فما وافق عليه وارتضاه أقره وأبقاه، وإلا تتبعه بعدم التعويل عليه والركون لديه فلنقرر هذه المسائل ثم نتبعها بالسواقط.
فاعلم أن اليوم الواحد يدور في الشهر أربع مرات أو خمس مرات، فالحالف المذكور حينئذ قد حلف على ترك الكلام في ذلك اليوم في مدة دورانه في الستة أشهر، فإذا حلف في يوم السبت مثلًا فطريق البر أن يمتنع عن كلامه في كل سبت يأتي إلى انقضاء ستة أشهر.
قوله: ولو قال: في يوم السبت لا أكلمه اليوم عشرة أيام، [فاليمين](2) على سبتين، وكذا لو قال: لا أكلمه يوم السبت يومين، ولو حلف لا يكلم
(1) أخرجه البخاري (5115) ومسلم (1474) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
في ب: فالكلام.
فلانًا الشتاء فأول ذلك إذا لبس الناس الحشو والفراء وأخرها إذا ألقوها في البلد الذي حلف فيه، والصيف على خلاف ذلك، والربيع آخر الشتاء ومستقبل الصيف إلى أن يتبين العشب، والخريف فصل بين الشتاء والصيف.
والظاهر عندنا: حملها على المُدَد المعلومة وأنه لو حلف لا يكلم فلانًا وفلانًا أو فلانًا يحنث بكلام الثالث، أو كلام الأولين، ولكن يجوز أن يريد أن لا يكلم الأول ولا أحد الأخيرين، وحينئذ فيحنث بكلام الأول أو أحد الأخيرين، لكن يجوز أن يريد أنه لا يكلم الثالث ولا يكلم أحد الأولين وحينئذ فيحنث بكلام الثالث أو بكلام أحد الأولين. انتهى.
وهذه المسائل أيضًا من اللواتي قد أسقطن.
فأما المسألة الأولى: فمعناها معنى التي قبلها.
وأما الثانية: وهي مسألة الفصول فواضحة.
وأما الثالثة: فمشتملة على صورتين:
الأولى: منها عطف فيها الثاني بالواو والثالث بأو.
والصورة الثانية: بالعكس.
فإذا استحضرت ما ذكرناه سهل فهمها، وما ذكره الرافعي من الرجوع إلى مراده ليس على إطلاقه بل محله إذا وصل الكلام وأداه على حالة واحدة، فإن فصل بوقفة أو مد صوت ونحو ذلك كما يتضح ويظهر لك بالتجربة عمل بمقتضاه، ويكون كما لو بين وهذا التفصيل ذكره الرافعي في باب الشك في الطلاق في الكلام على الألفاظ التي يحصل بها البيان، وقد سبق ذكره هناك للتنبيه على أغلاط وقعت للرافعي فيه وتبعه عليها في "الروضة" فراجعه.
قوله: وأنه لو حلف لا يساكنه، ذكر أصحابنا وجهين في أنه إذا نوى أن
لا يسكن هو والمحلوف عليه في البلد هل يحمل اليمين على ما نوى؟
وجه المنع: أن ذلك ليس بمساكنة، وإذا نوى ما لا يطابق اللفظ لم تعمل النية بمجردها وقاسوه على ما إذا قال: لا أساكنه وزعم أنه أراد المساكنة في إقليم. انتهى.
وهذه المسألة أيضًا من السواقط، والخلاف الذي فيها سبق ذكره في موضعه، وأما عدم الحمل على الإقليم إذا نواه، وإن كان أغلظ في حقه فلم يتقدم له ذكر، وهي مسألة حسنة فتفطن لها.
قوله: وفي "فتاوي" الفقيه أبي الليث -يعني: السمرقندي الحنفي- كما قاله الرافعي في الطلاق: أن بعضهم سئل عن قَصّار ذهب من حانوته ثوب فاتهم أجيرًا له فقال: أنت خُنتني، فقال: والله ما خنتك، وكان قد أخذ الثوب وهو لغير القصار.
فقال: أخشى أن يحنث، ومال إليه الرافعي، وأنه لو قال: حقًا أفعل كذا، ليس بيمين عند بعضهم كقوله: صدقًا.
وقال آخرون: هو يمين، فإن الحق هو الله تعالى فكأنه قال: الله لأفعلن كذا، وينبغي أن يجعل كناية، وأن بعضهم قال: إذا حلف لا يأكل من [مال](1) فلان، ثم تناهدا فأكل الحالف من ذلك لا يحنث لأنه أكل في عرف الناس من مال نفسه، ولينظر أكان مال فلان مخلوطًا بماله فأكل منه أو أكل من مال فلان خاصة.
فالمتناهدان تارة يخلطان وتارة يتناوبان على إحضار الطعام، وينجر النظر إلى أن الضيف يأكل ملك المضيف، أو يملك ما يتناوله؟
وأنه لو حلف لا يصطاد مادام الأمير في البلد فخرج الأمير منها فاصطاد
(1) سقط من ب.
ثم رجع الأمير فاصطاد لا يحنث، لأنه لما خرج من البلدة سقطت اليمين.
وأنه لو حلف لا يركب فركب ظهر إنسان فعبر به النهر لم يحنث.
وأن بعضهم قال: لو قال: بسم الله لأفعلن كذا، فهو يمين، ولو قال بصيغة -الله تعالى- فلا، لأن الأول من أيمان الناس، ألا ترى أن القائل يقول: باسم الذي أنزلت من عنده السور، ولك أن تقول: إذا قلنا: الاسم حس المسمى، فالحلف بالله تعالى، وكلذا إن جعل الاسم صلة -أي زائد.
وإن أراد بالاسم التسمية لم يكن يمينًا.
وأما صيغة -الله تعالى- فتشبه أن تكون يمينًا إلا أن يريد به الوصف. انتهى كلامه.
وهذه المسائل قد أسقطها أيضًا، وقد علمت ما للرافعي فيها من الكلام والأولى مذكورة في الرافعي بالعجمية فترجمها بعضهم.
والمناهدة: بالنون والدال المهملة هي: أكل المسافرين مجتمعين من أزوادهم.
وقد ذكر الرافعي المسألة في آخر تعليق الطلاق عن أبي العباس الروياني ونقل عنه أنه يحنث وأقره، وبحث النووي فيها وقد أسلفتها هناك فراجعها.
وأما مسألة الاصطياد فهي مسألة مهمة محتاج إليها لكثرة وقوع صورها في "الفتاوى" وقد ذكر الرافعي ما يوافق جواب أبي الليث في آخر تعليق الطلاق نقلًا عن البوشنجي فقال: وأنه لو قال لزوجته: إن دخلت دار فلان مادام فيها فأنت طالق، فتحول فلان منها ثم عاد إليها فدخلتها لا تطلق.
والمعنى الذي لمحوه هنا وأشار إليه أبو الليث بقوله: سقطت اليمين، هو انقطاع دوام كونه في البلد أو غيره مما حلف عليه بوجود الخروج مثلًا.