الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني: في جامع آداب القضاء
وفيه فصول:
الفصل الأول: في آداب متفرقة وهي عشرة
قوله: ويستحب أن يدخل يوم الإثنين. انتهى.
فيه أمران:
أحدهما: أنه إذا فاته الإثنين دخل الخميس وإلا فالسبت، وقد ذكر صاحب "التتمة" ما ذكرناه، ونبه عليه في "الروضة" من "زوائده".
نعم لم يرتب في "التنبيه" بين الخميس والسبت، فإنه عبر بقوله: فإن فاته دخل السبت أو الخميس.
الأمر الثاني: وقد ذكره أيضًا في "التنبيه" أنه يستحب أن يكون دخوله صبيحة النهار، ولم يذكره في "الروضة".
نعم ذكره في تعليق له مع نظائر المسألة وبسط القول فيها فقال: يستحب لمن كان له وظيفة من قراءة قرآن أو حديث أو تسبيح أو اعتكاف أو نحوها من العبادات أو صنعة من الصنائع أو عمل من الأعمال مطلقًا يتمكن من فعله في أول النهار أن يفعله في أوله، وكذلك من أراد سفرًا أو أنشأ أمرًا كعقد النكاح وغيره أو غير ذلك من الأمور، ودليل هذه القاعدة ما ثبت في الحديث الصحيح عن صخر بن وداعة -بفتح الواو- الغامدي -بالغين المعجمة. وبالدال- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"اللهم بارك لأمتي في بكورها".
قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية أو جيشًا بعثهم أول النهار
[وكان صخر رجلًا تاجرًا، وكان إذا بعث تجارته بعثها أول النهار](1) فأثرى وكثر ماله (2)، رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم بأسانيد مختلفة.
وقال الترمذي فيه: إنه حديث حسن.
قوله: ومنها: أن يقول: حبست ظلمًا: فإن كان الخصم معه فعلى الخصم الحجة والقول قول المحبوس مع يمينه، وإن ذكر خصمًا غائبًا فطريقان:
أحدهما: القطع بأنه يطلق لأن الحبس عذاب، وانتظار الغائب يطول.
وأظهرهما: أنه على الوجهين. انتهى.
واعلم أن الرافعي لم يتقدم له في هذا الكلام ذكر وجهين حتى يحكي في هذه المسألة طريقتين الثانية منها إجراء الوجهين، ولما أشكل ذلك على الناظرين في هذه المسألة، ولم يجدوا ما يعود عليه الوجهان حذف بعضهم أداة التعريف من الوجهين، والموجود في "الروضة" إثباتها كما في البعض الآخر، وقد انكشف الغطاء عن هذا بحمد الله تعالى، وظهر أنه قد سقط من هذا الكلام مسألة علمت من "الشرح الصغير" فإنه قال فيه -أعني: في "الشرح الصغير": وإن قال: حبست ظلمًا، فعلى الخصم الحجة والمحبوس مصدق بيمينه، وإن لم يكن الخصم هناك وذكر خصمًا آخرًا
(1) سقط من ب.
(2)
أخرجه أبو داود (2606) والترمذي (1212) وابن ماجه (2236) وأحمد (15481) والدارمي (2435) وابن حبان (4754) والطيالسي (1246) والطبراني في "الكبير"(7275) وفي "الأوسط"(6883) وسعيد بن منصور (2382) وابن أبي شيبه (6/ 534) والبيهقي في "الكبرى"(18237) وابن الجعد (1696) والقضاعي في "مسند الشهاب"(1493) وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(2402) من حديث صخر رضي الله عنه.
حاضرًا في البلد فأحد الوجهين: أنه يطلق، لأن الأصل أن لا شيء عليه.
وأظهرهما: أنه يحضر أولًا، فإن الظاهر أنه حبس بالحق، فإن ذكر خصمًا غائبًا، ففي طريق يطلق لأن الحبس عذاب وانتظار الغائب يطول وأظهرهما: أن فيه وجهين. هذا لفظه بحروفه.
فأسقط الناقلون من مسودة "الكبير" من لفظ الغائب إلى الغائب، ولم يتفطن في "الروضة" لذلك فتابعه عليه كما ذكرناه، وهذا الساقط ذكره أيضًا في "الوجيز"، وقد وقع للرافعي أمثال ذلك في ما سبق.
قوله: وقول "الوجيز" فيطلق كل من حبس بظلم. كان المراد منه إذا اعترف الخصم بأنه ظلمه أو كان القاضي عالمًا، وقلنا: إنه يقضي بعلمه، فأما إذا قال المحبوس: أنا مظلوم، فهو مذكور من بعد. انتهى كلامه.
وتخريجه الإطلاق من الحبس عند علم القاضي بالظلم على القضاء بالعلم باطل، فإنه قد ذكر بعد هذا أن القاضي لا يقضي بخلاف علمه بالإجماع، فلو رده إلى الحبس حتى يؤدي الحق المدعى به لكان قاضيًا بخلاف ما يعلمه، وسيأتي في الكلام على القضاء بالعلم أمثلة كثيرة مما نحن فيه نفى عنها الخلاف، ولم يتعرض في "الروضة" لهذا الكلام الذي ذكره الرافعي وكأنه اعتقد صحته فتركه لاندراجه في الخلاف الآتي في القضاء بالعلم.
قوله: وذكر فيه وفي "الوسيط" أيضًا إطلاق من حبس في تعزير وسكتت معظم الكتب عنه، ولعل وجه ما ذكره أن التعزير يتعلق بنظر الحاكم الذي بانت عنده الجناية، ولا يدري أن الحاكم المصروف هل كان يديم حبسه لو لم يصرف؟ ، لكن لو ثبتت جنايته عند الثاني ورأى إدامة حبسه فالقياس: الجواز. انتهى.
تابعه عليه في "الروضة" أيضًا، وذكر نحوه في "الشرح الصغير"
وهو يقتضي عدم وقوفه على نقل في المسألة، وأن الغزالى منفرد بالتصريح بها وليس كذلك، فقد صرح بها الماوردي في "الحاوي" وكذلك الروياني في "البحر" وجزما بعكس البحث الذي ذكره الرافعي فقال بإطلاقه، وعللاه بأن التعزير قد استوفى بعزل الأول وإن لم يستكمل مدة حبسه مع بقاء نظر الأول، لأن القاضي الثاني لا يعزر لذنب كان مع غيره، ورأيته أيضًا مجزومًا به في "المحيط شرح الوسيط" للإمام محمد بن يحيى، ثم نص الماوردي والروياني على أن القاضي لا يطلقه بل يوكل به حتى يتأدى عليه ثلاثًا ويحلفه أيضًا أنه ما حبس بحق خصم، كما قاله ابن أبي الدم، وقال ابن عصرون: عندي أنه لا يحتاج إلى النداء الثاني.
قوله: وإذا أطلق من ادعى الظلم لغيبة خصمه فحضر فعليه إثبات الحق الذي يدعيه ببينة تقوم على نفس الحق، أو على أن القاضي المصروفي حكم عليه بذلك.
وفي "أمالي أبي الفرج": أنه يكفي لاستدامة الحبس قيام البينة على أن القاضي المصروف حبسه بحق هذا المدعي وإن لم يبين جنس الدَّين وقَدْرِه. انتهى كلامه.
وهذه المسألة بما فيها من الخلاف قد أسقطها النووي من "الروضة"، وسبب إسقاطه لها وقوعها في الكلام على ألفاظ "الوجيز".
قوله: حتى لا يخدع من غرة أو بمال.
الغرة: بكسر الغين وتشديد الراء تطلق على الغفلة، والغار: الغافل ويطلق أيضًا على عدم تجريب الأمور، تقول: رجل غرة غرير وجارية غرة وغريرة وغر أيضًا.
قوله في "الروضة": لا يجوز عقد الإجارة على القضاء، وفي "فتاوى" القاضي الحسين وجه: أنه يجوز. انتهى.
هذا الكلام مقتضاه أن القاضي نقل في "فتاويه" عن غيره وجهًا أنه يجوز وليس كذلك، فقد قال الرافعي: وفي "فتاوى" القاضي الحسين إلحاقه بالأذان حتى تجوز الإجارة عليه على رأي. هذا لفظه، وهو كذلك في "الفتاوي" المذكورة.
قوله: ولو رَزَقَ الإمامُ القاضي من مال نفسه أو رَزَقهُ أهل ولايته أو واحد منهم، فالذي خرجه صاحب "التلخيص": أنه لا يجوز له قبوله، لكن ذكرنا في باب الأذان: أنه كما يجوز أن يكون رزق المؤذن من بيت المال يجوز أن يكون من مال الإمام أو واحد من الرعية، وذكر الصيمري في المفتى: أنه يجوز أن يرزقه أهل البلد، ويمكن أن يفرق بأن ذلك مما لا يورث تهمة وميلًا في حق المؤذن لأن عمله لا يختلف، فالقاضي أجدر بالاحتياط من المفتي. انتهى كلامه.
فيه أمران:
أحدهما: أن مقتضى هذا الكلام إقرار صاحب "التلخيص" على ما قاله من المنع، لأنه شرع يقيسه على ما يقتضي الجواز، ثم إنه فرق بينهما فبطل القياس بالتفرقة وبقي النقل سالمًا عن المعارض، ولكن قد أعاد الرافعي المسألة في الكلام على الرشوة وهو بعد هذا بقليل، ورجح الجواز، فإنه ذكر: أنه يجوز للقاضي إذا لم يكن له رزق من بيت المال أن يقول للخصمين: لا أقضي بينكما حتى تجعلا لي رزقًا.
ثم ذكر مسألتنا هذه، وهي ما إذا رزقه أهل ولايته ونحوهم، وقال فيها ما نصه: ويشبه أن يجوز ذلك إذا جاز الأخذ من الخصمين. هذا لفظه.
وأسقطه من "الروضة" هناك، وأبقى الكلام المذكور هنا على حاله.
الأمر الثاني: أن ما قاله الصيمري قد تقدم الكلام عليه في أثناء "الزيادات"
التي ذكرها النووي.
قوله: ويرزق المترجم من بيت المال في أقرب الوجهين، فإن قلنا: لا، فمؤنة من يترجم للمدعي عليه على المدعي عليه، والمسمع كالمترجم ففي مؤنته هذان الوجهان، وهذه هي مسألة "الكتاب". انتهى.
ذكر مثله في "الروضة" أيضًا، ولنقدم على الكلام في هذه المسألة ما هو مذكور في أصول كلام الرافعي ممن تعرض للمسألة، فنقول: قال الإمام: فرع: حق على القاضي أن يرتب المزكي والمترجم والمسمع إن كان بأذنه وقر، وفي مؤنة هؤلاء وجهان:
أحدهما: أنها على طالب الحق، فإن قيامهم يتعلق بحقه، فعلى هذا يجب على كل واحد مقدار أجرة المثل في ما يتعلق بحقه وخصومته، هذا كلامه.
وذكر الغزالي في "البسيط" مثله أيضًا [وكذا في "الوسيط"](1)، إلا أنه مَثّل بالمسمع خاصة فقال: إذا طلب المسمع أجرة هل هي على صاحب الحق أو بيت المال؟ على وجهين. انتهى.
قال الإمام: ويجب اعتقاد التسوية بين المترجم والمسمع، فإن المسمع ينقل اللفظ، والمترجم ينقل معناه، وقال في "الوجيز": فإن طلب المسمع أجرة فهل تجب في مال صاحب الحق؟ فيه وجهان.
إذا علمت ذلك ففي كلام الرافعي أمور:
أحدها: أن هذا التعبير الذي نقلناه عنه في من تجب عليه الأجرة إذا لم نوجبها في بيت المال، وفي معناه إذا تعذر الأخذ منه -أعني بزيادة الجار والمجرور مع لفظ المدعي المذكور أولًا- هو الموجود في الأصول المعتمدة من
(1) سقط من أ.
نسخ الرافعي، وتبعه عليه في "الروضة" أيضًا فاعلمه فإنه كثيرًا ما يتحرف، ومدلوله أن الذي يشرح كلام المدعي للمدعى عليه تكون مؤنته على المدعى عليه، وقد تقرر مما قدمناه من النقول أن الحكم في المسألة ليس كذلك.
الأمر الثاني: أن هذا الذي يحاوله مع كونه مخالفًا للمنقول ناقص، فإنه ليس فيه استيفاء للمسألة، فإنه لم يتعرض للعكس وهو الذي يشرح كلام المدعي عليه للمدعي، وبسبب ذلك حصل في نسخ الرافعي اضطراب وقد اتضح الحال [وظهر أنه حصل فيها سقط علم من "الشرح الصغير" فإنه عبر بقوله: ] (1) وعلى هذا الرأي -أي عدم الوجوب على بيت المال- فمؤنة ما يترجم للمدعي على المدعى ومؤنة ما يترجم للمدعى عليه على المدعى عليه. هذه عبارته.
والحاصل منها إيجابها على المنقول له الكلام لا على المنقول عنه، ولهذا عبر بعلى ولم يعبر بعن.
الأمر الثالث: أنه قد ظهر لك بما قلناه عن كتب الغزالي أن المسمع والمترجم [ونحوهما](2) تجب أجرتهم على طالب الحق في وجه، وفي بيت المال على وجه آخر، والوجه الأول لم يذكره الرافعي بل ذكر عوضه ما وقع فيه التحريف والتصحيف كما سبق إيضاحه.
وحينئذ فيكون هذا الوجه قد أسقطه الرافعي مع كونه هو الصحيح في الحقيقة ومع ثبوته أيضًا في الكتاب الذي هو يشرح فيه وهو "الوجيز"، فلله الحمد على تيسير أمثال هذه الأمور وإلهام الصواب إليها.
وقد وقع [أيضًا هنا](3) في "كفاية" ابن الرفعة، من الغلط ما وقع
(1) سقط من أ.
(2)
سقط من أ.
(3)
زيادة من ب.
في "الرافعي" و"الروضة"، بل هو أشد مما وقع فيهما وقد أوضحته في "الهداية" والله هو الهادي والمعين.
قوله: فرع: قال القاضي ابن كج: ذكر جماعة من فقهاء أصحاب الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما أنه إذا لم يكن للقاضي شيء من بيت المال فله أن يأخذ عشر ما يتولاه من أموال [اليتامى](1) والوقوف للضرورة، ثم بالغ في الإنكار عليه، وقال: إنه لا ضرورة في هذا إن لم يتبرع بالقضاء من غير رزق فليمتنع منه، ومن ذهب إليه فكأنه ذكر العشر تمثيلًا وتقريبًا ولابد من النظر إلى كفايته وإلى قدر المال والعمل. انتهى كلامه.
وهذا الفرع أسقطه من "الروضة".
قوله: وعن الصيدلاني حكاية وجهين في كراهة اتخاذ الحاجب والبواب، والمفهوم من كلام أكثرهم أنه إن جلس للقضاء ولا زحمة فيكره اتخاذ الحاجب في أظهر الوجهين، ولا كراهة فيه في أوقات خلوته في أظهرهما. انتهى.
أهمل هو والنووي الجواب عن حكم داخل في التقسيم وهو إذا ما جلس للقضاء وكانت هناك زحمة وقد ذكره الإمام فقال: إن رأى المصلحة في اتخاذه [اتخذه](2)، وإن رآها في الترك ترك.
واعلم أن الإمام نقل عن الصيدلاني وعن غيره في أول المسألة خلافًا [ثم اختار](3) شيئًا، ويتلخص من مجموع ما حكاه وما اختاره أربعة أوجه:
أحدها: أنه لا يتخذ الحاجب مطلقًا.
والثاني: يتخذه مطلقًا.
(1) سقط من أ.
(2)
سقط من أ.
(3)
سقط من أ.
والثالث: إن جلس للقضاء لم يتخذه، وإن لم يجلس له فله أن يتخذه.
والرابع: اختاره الإمام فقال: إن جلس للقضاء وكثرت الزحمة اتبع المصلحة، وإن خلا بنفسه فلا بأس باتخاذه [وذكر في الحاوي وجهًا خامسًا: وهو أنه يكره اتخاذه] (1) في زمن استقامة الخلق، فأما زمن الهرج واستطالة السفهاء فيستحب اتخاذه، وذكر -أعني: الماوردي- أيضًا أنه إنما يكره الحاجب إذا كان وصول الخصم إليه موقوفًا على إذنه، فأما من وظيفته ترتيب الخصوم والأعلم بمنازل الناس فلا بأس باتخاذه.
ولم يتكلم الرافعي رحمه الله لأوصاف الحاجب، وقد ذكره الشيخ في "التنبيه" فقال: فإن احتاج اتخذ حاجبًا عاقلًا أمينًا بعيدًا من الطمع، ويأمره أن لا يقدم خصمًا [على خصم](2) ولا يخص في الإذن قومًا دون قوم، ولا يقدم أخيرًا على أول.
وذكر ابن خيران في "اللطيف": أنه يستحب أن يكون كهلًا ستيرًا -أي كثير الستر-[على الناس](3)، وقال الماوردي: يشترط فيه العدالة والفقه والأمانة، ويستحب أن يكون حسن المنظر جميل المخبر عارفًا بمقادير الناس بعيدًا عن الهوى والعصبية معتدل الأخلاق.
قوله: المسألة الثانية: إذا ادعى حقًا على إنسان عند القاضي فأقر به المدعى عليه أو نكل وحلف المدعي اليمين المردودة، ثم سأل المدعي، القاضي أن يشهد على أنه أقر عنده أو على أنه نكل وحلف المدعي فعلى القاضي إجابته، لأنه قد ينكر من بعد فلا يتمكن القاضي من الحكم عليه إن قلنا: لا يقضي بعلمه، وإن قلنا: يقضي بعلمه، فربما ينسى أو يعزل فلا يقبل ما يقوله. انتهى كلامه.
(1) سقط من أ.
(2)
سقط من أ.
(3)
سقط من أ.
وما ذكره من حكاية القولين [في القضاء](1) بالعلم على من أقر في مجلس القاضي قد ناقضه بعد هذا في الكلام على القضاء بالعلم فجزم بأنهما لا يجريان، وأن محل جريانهما في الإقرار أن يكون وقع عند القاضي سرًا، والمذكور هنا هو الصواب لما ستعرفه في موضعه إن شاء الله تعالى، وذكر في "الشرح الصغير" و"الروضة" كما ذكره هاهنا.
قوله: وإن طلب صاحب الحق أن يحكم له بما ثبت لزمه أن يحكم فيقول: حكمت له به، أو أنفذت الحكم به، أو ألزمت صاحبه الحق. انتهى.
وهذا الكلام يوهم أن الحكم عبارة عن هذا القول، والذي ذكره الشيخ عز الدين ابن عبد السلام أنه عبارة عن الإلزام النفساني، وهذا دليل عليه حتى إذا حكم في نفسه في واقعة مختلف فيها فنقضها حاكم آخر قبل إخبار الأول لم يتأثر بالنقض.
قوله: فإن كثرت المحاضر والسجلات جعلها في إضبارة. انتهى.
الإضبارة: بهمزة مكسورة وضاد معجمة ساكنة بعدها باء موحدة وبالراء المهملة هي: الربطة من الورق ويعبر عنها بالرزمة وبالحزمة أيضًا. تقول: ضبرت الكتب أضبرها -بالكسر- ضبرًا -بالسكون- إذا ضممت بعضها إلى بعض، وجعلتها ربطة واحدة.
ويسمى أيضًا كل شيء مجتمع ضِبارة بكسر الضاد، وجمعه: ضبائر ومنه حديث "مسلم": "فيخرجون من النار ضبائر، ضبائر"(2). أي: جماعة جماعة.
قوله في "الروضة": نقل الهروي أن القاضي إذا لم يكن له رزق من
(1) سقط من أ.
(2)
أخرجه مسلم (185) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
بيت المال وهو محتاج ولم يتعين عليه القضاء فله أن يأخذ من الخصم أجرة مثل عمله، وإن تعين قال أصحابنا: لا يجوز الأخذ، وجوزه صاحب "التقريب". انتهى كلامه.
وما نقله هنا عن الأصحاب من أنه يمتنع على المحتاج الذي لا رزق له أن يأخذ من الخصم، نقله الرافعي قبل هذا بنحو ورقتين ولم يصرح به هاهنا، فنقله النووي إلى هذا الموضع وامتناعه مشكل لجواز أخذه من بيت المال، والحالة هذه فإنه يجوز كما ذكره الرافعي قبل ذلك، فأي فرق بينهما مع اشتراكهما في الحاجة والتعيين؟ ولما ذكره الرافعي قبل هذا قال: إنه فرع غريب ومشكل. فنقله إلى هنا بدون هذا الكلام، وما أشرنا إليه هو وجه إشكاله.
قوله في "الروضة": وأما الهدية فالأولى أن يسد بابها ثم إن كان للمهدي خصومة في الحال حرم قبول هديته في محل ولايته وهديته في غير ولايته كهدية من عادته أن يهدي له قبل الولاية لقرابة أو صداقة ولا يحرم قبولها على الصحيح، فإن زاد المهدي على القدر المعهود صارت هديته كهدية من لم يعهد منه الهدية. انتهى كلامه.
وما ذكره رحمه الله في هذا الفصل غلط مخالف لكلام الرافعي من وجوه، فإن الرافعي قد قال: ثم ينظر، فإن كان للمهدي خصومة في الحال حرم قبول هديته، وإن لم يكن له خصومة فإن لم تعهد منه الهدية قبل تولي القضاء حرم قبول هديته في محل ولايته على المشهور خلافًا للغزالي وهديته في غير محل ولايته كهدية من عهد منه الهدية قبل تولي القضاء لقرابة أو صداقة ولا يحرم قبولها؛ وقيل يحرم فإن زاد المهدي على القدر المعهود صارت هديته كهدية من لم تعهد منه الهدية. انتهى موضع الحاجة من كلامه.
ولنعد إلى بيان المخالفات فنقول:
أحدها: أن كلامه قد اشتمل على تصحيح جواز القبول ممن له خصومة إذا حصل الإهداء في غير محل الولاية، وكلام الرافعي يقتضي الجزم بالتحريم، والوجهان المذكوران إنما حكاهما في من لا مخاصمة له.
ثانيها: أن كلامه ساكت عن من لا مخاصمة له إذا أهدي في غير محل ولايته، فلا يعلم منه هل يجوز جزمًا أم يتخرج على الوجهين اللذين ذكرهما في من له مخاصمة؟ والرافعي قد ذكر المسألة وحكي فيها وجهين كما سبق ذكره.
ثالثها: أن تصحيح الجواز لمن عهد منه الهدية، قد فرضه في من لم تكن له خصومة فإن كانت فيحرم القبول جزمًا، وانعكس عليه في "الروضة" فجعله في من له خصومة.
رابعها: أنه أسقط من كلام الرافعي التفريع على من ليست له عادة بالهدية، وقد علم حكمه مما نقلناه عنه -أي: عن الرافعي- وخاصة المنع في محل ولايته دون غيرها.
قوله أيضًا في "الروضة": وحيث قلنا بتحريم قبول الهدية فَقَبِلَهَا لم يملكها على الأصح، فعلى هذا لو أخذها قيل: يضعها في بيت المال، والصحيح: أنه يردها على مالكها، وإن لم يعرفه جعلها في بيت المال. انتهى كلامه.
فيه أمور:
أحدها: أن الخلاف المذكور في أنه هل يضعها في بيت المال أو يردها على المالك؟ لم يجزم الرافعي بأنه وجهان كما جزم به المصنف، بل قال: وذكر العراقيون تفريعًا على أنه لا يجوز القبول وجهين أو قولين في ما يصنع بها لو قَبِل.
أحدهما: أنه يضعها في بيت المال.
والثاني: يردها على مالكها، وهذا فيه اضطراب.
والقياس ما حكاه أبو الفرج الزاز وهو أنه إذا لم يملك فيردها على مالكها، فإن لم يعرفه فيضعها في بيت المال. هذا لفظه.
الأمر الثاني: أن النووي قد فرع هذا الخلاف على عدم الملك، والرافعي لم يخصه بذلك بل فرعه على عدم جواز القبول فيدخل فيه القائل بالملك وبعدمه وقد أوقفتك على عبارته.
الأمر الثالث: أن من جملة الصور التي تذكر الرافعي فيها أنه لا يملك وأنه يردها على مالكها ما إذا كانت له عادة فزاد في مقدارها، والقياس اختصاص ذلك بما زاد، وتخريج الباقي على تفريق الصفقة، وحينئذ فتصير الهدية مشتركة على الصحيح، فإن زاد في المعنى كما إذا كانت عادته إهداء ثياب القطن أو الكتان فأهدي ثياب الحرير ونحو ذلك، فقد قالوا يمتنع أيضًا.
لكن هل تبطل في الجميع أم تصح منها بمقدار قيمة العادة؟ فيه نظر والأَوْجَه الأول.
قوله: ومن يثبت أنه شهد بالزور عزره القاضي بما يراه.
ثم قال: وإنما تثبت شهادة الزور بإقرار الشاهد أو بيقين القاضي بأن شهد أن فلانًا زنى يوم كذا بالكوفة والقاضي قد رآه في ذلك اليوم ببغداد، هكذا أطلقه الشافعي رضي الله عنه والأصحاب ولم يخرجوه على أن القاضي هل يحكم بعلمه؟ انتهى كلامه.
ولنقدم على المقصود أمرين:
أحدهما: أن القاضي قد ذكر بعد هذا أن القاضي لا يقضي بخلاف علمه بالإجماع، وأنه لا يقضي بعلمه في حدود الله تعالى على الصحيح.
الثاني: أن الشاهد بالزنا يُحَد إذا اعترف بالتعمد، وكذا إن قال: أخطأت، على الأصح كما هو مقرر في باب الرجوع عن الشهادة.
إذا علمت ذلك فهذا الذي اتفق عليه الشافعي والأصحاب في مسألة الشاهد بالزنا من اعتماد القاضي على ما يراه لا جائز أن يريدوا به أن القاضي يقيم الحد على الشاهد، فإن القاضي لا يحكم بعلمه في حدود الله تعالى على الصحيح فضلًا عن الاتفاق عليه، فتعين أنهم أرادوا بذلك أن القاضي لا يقيم الحد على المشهود عليه، وحينئذ فلا يصح البحث الذي حاوله الرافعي، وهو يخرجه على القضاء بالعلم لما سبق عن الرافعي من أن القاضي لا يقضي بخلاف علمه بالإجماع، وسنوضحه أيضًا فصح ما قاله الشافعي والأصحاب وبطل البحث المذكور.
قوله: وإذا وقعت له خصومة أو لأصله أو فرعه جاز لنائبه أن يحكم فيها في أظهر الوجهين.
ثم قال: وبنوا هذا على أن نائب الحاكم هل ينعزل بموته وانعزاله؟ إن قلنا: لا، فقد ألحقناه بالحكام المستقلين. انتهى كلامه.
والصحيح انعزال نائبه بموته كما تقدم، فلو صح البناء لكان الصحيح أنه لا يحكم كما ينعزل، أو أنه لا ينعزل كما يحكم.
قوله في الأدب العاشر: إحداهما: قول الصحابي إذا لم ينتشر، فالقديم: أنه حجة لقوله عليه الصلاة والسلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي"(1).
والجديد: أنه ليس بحجة.
(1) أخرجه أبو داود (4607) والترمذي (2676) وابن ماجه (42) وأحمد (17184) والدارمي (95) وابن حبان (5) والحاكم (329) والطبراني في "الكبير"(18/ 245) حديث (617) والبيهقي في "الشعب"(7516) و"الكبرى"(20125) =
ثم قال: وعلى الجديد لا فرق بين أن يخالف القياس أم لا، وحكمه حكم سائر المجتهدين. انتهى ملخصًا.
فيه أمران:
أحدهما: أن ما قاله الشافعي في الجديد من كونه ليس بحجة محله إذا كان للقياس فيه مدخل سواء خالف كلامه القياس أم لا كما تقدم.
فأما إذا لم يكن للقياس فيه مجال بالكلية، فإنه يكون قوله فيه حجة، كذا نص عليه الشافعي في "اختلاف الحديث" فقال: روي عن عليّ رضي الله عنه: أنه صلى في ليلة ست ركعات في كل ركعة ست سجدات.
وقال: لو ثبت ذلك عن عليّ لقلت به، فإنه لا مجال للقياس فيه فالظاهر أنه فعله توقيفًا. هذا كلامه.
وذكر في "المحصول" أيضًا: أنه حجة، قاله في الكلام على كيفية ألفاظ الصحابي.
الأمر الثاني: أن ما ذكره في التفريع على كونه ليس بحجة أن حكمه حكم سائر المجتهدين مردود فإن الكلام في أمرين.
أحدهما: في أنه هل هو حجة أم لا؟ وقد مضى الكلام فيه.
والثاني: أَنّا إذا قلنا بالجديد وهو أنه ليس بحجة، فهل يجوز
= والطحاوي في "شرح المعاني"(468) وأبو نعيم في "الحلية"(5/ 220) وتمام في "الفوائد"(225) من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه.
قال الترمذي: هذا حديث صحيح.
وقال الحاكم: صحيح ليس له علة، ووافقه الذهبي.
وقال البزار: هو أصح سندًا من حديث حذيفة.
قال ابن عبد البر: هو كما قال.
وقال الألباني: صحيح.
للمجتهدين تقليده، وترك الاجتهاد لأنهم أطلعوا من أحوال الرسول وأسباب نزول الوحي على ما لم يطلع عليه غيرهم؟ فيه ثلاثة أقوال للشافعي أيضًا، ثالثها: إن انتشر جاز، وإلا فلا.
كذا ذكره جماعة منهم الغزالي في "المستصفى" والآمدي في "الأحكام"، وأفردوا كل حكم بمسألة، وذكر في "المحصول" نحوه أيضًا إلا أن هؤلاء المذكورين جعلوا عدم جواز التقليد هو القول الجديد، وليس كذلك فقد نص "الشافعي" في مواضع من "الأم" على الجواز، ولولا خشية الإطالة لذكرت تلك المواضع، وقد أوضحت المسألة في "شرح المنهاج" الأصولي أحسن إيضاح فراجعه.
قوله: نعم لو تعارض [قياسان](1) أحدهما يوافق قول الصحابي، قال صاحب "الكتاب" في "الأصول": قد تميل نفس المجتهد إلى الموافق ويرجح عنده. انتهى.
وهذا الذي نقله عن الغزالي احتمالًا فقط، قد جزم به جماعة منهم الشيخ أبو إسحاق في "اللمع".
قوله: وإن قال البعض وسكت الباقون، فاختيار صاحب "الكتاب" في "الأصول": أنه ليس بحجة، والمشهور عند الأصحاب: خلافه، ولكن هل يكون إجماعًا؟ فيه وجهان:
قال الروياني: فإن ظهرت أمارات الرضى ثم سكت فإجماع بلا خلاف، قالوا: والأصح هنا اشتراط انقراض العصر في كونه حجة أو إجماعًا. انتهى.
واقتصاره في عدم الحجة على نسبته إلى الغزالي في الأصول فقط غريب
(1) سقط من ب.
فإن هذا الذي ذهب إليه الشافعي، فقد قال الإمام فخر الدين والسيف الآمدي في "المحصول" و"الإحكام" وغيرهما من كتبهما: إنه مذهب الشافعي.
وقال الغزالي في "المنخول": نص عليه الشافعي في الجديد.
نعم استدل الشافعي على إثبات القياس وخبر الواحد بأن بعض الصحابة عمل به ولم يظهر من الباقيين إنكار فكان ذلك إجماعًا، وظاهره المعارضة للنقل السابق وأجاب ابن التلمساني، في "شرح المعالم" بأن السكوت الذي تمسك به الشافعي في القياس وخبر الواحد هو السكوت المتكرر في وقائع كثيرة وهي تبقي جميع الاحتمالات.
قوله: فإن وجد ذلك -أي القول المنتشر- ولم ينقل عن الباقيين موافقة ولا سكوت، فيجوز أن يستدل به على السكوت ويجوز خلافه. انتهى.
واعلم أن الرافعي قد ذكر هذه الصورة في أوائل الفرائض وقال: إنه يترك للقول المنتشر، والحالة هذه القياس الجلي ويعتضد به الخفي.
فهذا الذي ذكره إنما يستقيم على تقدير الاحتجاج به إلحاقًا له بما إذا اطلعوا عليه وسكتوا، وقد رجحه أيضًا في "الروضة" من "زوائده" فقال: المختار أن عدم النقل كنقل السكوت لأنه الأحمل والظاهر.
قوله: ومن الجلي ما ورد النص فيه على العلة كحديث "إنما نهيتكم من أجل الدافة"(1). انتهى.
الدافة: بالدال المهملة والفاء وهي: الطائفة القادمة، وقد تقدم إيضاحه في الأضحية.
قوله: ومنه قياس الشبه، وهو أن تشبه الحادثة أصلين، إما في الأوصاف بأن تشارك كل واحد من الأصلين في بعض المعاني والأوصاف
(1) أخرجه مسلم (1971) من حديث عائشة رضي الله عنها.
الموجودة، وإما في الأحكام كالعبد يشارك الحر في بعض الأحكام والمال في بعضها فيلحق بما المشاركة فيه أكثر، وربما يسمى قياس الشبه خفيًا، والذي قبله غير الجلي واضحًا، وربما خص الجلي ببعض الأول، وهو ما إذا كان الفرع فيه أولى بحكم الأصل. انتهى.
زاد في "الروضة" على هذا فقال: واختلف أصحابنا في صحة قياس الشبه وأنه هل هو حجة؟ هذا لفظه.
وما ذكره في "الروضة" من الخلاف في القياس المذكور لا يتصور القول به عند أحد فضلاء أصحابنا، بل يجزم بالاحتجاج به كما ذكره الرافعي والمأخوذ به هو الأقوى والأقرب من الوصفين عند اجتماع الشروط فيهما لأنه لو انفرد أحدهما لكان يعمل به بلا خلاف، فإذا اجتمعا قدمنا الراجح منها كسائر الأدلة، فإن أشبه أحد الأصلين في الوصف والآخر في الحكم، ففي المقدم منهما ثلاثة مذاهب للأصوليين:
أحدها: يقدم المشابه في الحكم على المشابهة في الصورة، وهو مذهب الشافعي.
والثاني: عكسه. قاله ابن عُلية.
والثالث: لا يلتزم تقديم واحد منهما بعينه، بل ما يغلب على الظن أنه العلة، ويختلف ذلك باختلاف المسائل فقد تقوى المشابهة الصورية على الحكمية في صورة وفي أخرى بالعكس، هذا هو اختيار الإمام فخر الدين، ومثله بالعبد فإنه يشبه الحر في الصورة والبهيمة في الحكم من حيث أنه مملوك، فإذا قتله قاتل هل تجب قيمته بالغة ما [بلغت] وإن زادت على الدية أو لا يزداد على الدية لمشابهة الحر في الصورة؟
والحاصل أن ما ذكره الرافعى لا خلاف فيه ولا يتأتى فيه الخلاف إلا ممن أنكر القياس.
وقد صرح به مع وضوحه من أصحابنا جماعات كثيرة منهم القاضي الحسين والبندنيجي والماوردي وابن الصباغ والروياني حتى اختلفوا هل ينقض قضاء من خالفه أم لا؟ فقال الجمهور: لا ينقض.
وقال الماوردي وغيره: ينقض في المتردد بين الحكمين دون الموضعين.
نعم للأصوليين نوع آخر يسمى "قياس الشَّبه" اختلفوا في [الاحتجاج] به واختلفوا في تفسيره أيضًا، فقال القاضي أبو بكر: هو الوصف المناسب بطريق التتبع لا بداية كالطهارة فإنها مناسبة لاشتراط النية لا لكونها طهارة، فإن التنظيف يحصل بدون النية بل لكونها شرعت عبادة، والعبادة مناسبة للنية.
وقال غيره: هو الوصف الذي ليس بمناسب ولكن اعتبر الشرع جنسه القريب.
وهذا النوع الذي ذكرناه هو أشهر بإطلاق اسم الشبه من المذكور في الرافعي، فإن المشهور تسمية ذلك بقياس علية الأشباه، فلما وقف النووي على خلاف في قياس الشبه ظن رحمه الله أن المختلف فيه هو الأول لاشتراكهما في الاسم، وقد بسطت المسألة في "شرح منهاج الأصول" وحققتها فلتراجع منها.
قوله: ومتى حكم القاضي بالاجتهاد، ثم بان له أنه خالف كتابًا أو سنة أو قياسًا جليًا فيلزمه نقض حكمه، وهل يلزمه تعريف الخصمين صورة الحال ليترافعا إليه لينقض الحكم؟ فيه وجهان: قال ابن سريج: لا يلزمه إن علم أنه بَانَ له الخطأ، فإن ترافعا إليه نقض.
وقال سائر أصحابنا: يلزمه وإن علما، لأنهما قد يتوهمان أنه لا ينقض، هذا في حق الآدميين، أما حقوق الله تعالى فيلزمه البدَار إلى تداركه.
واعلم أن الغزالي قد ذكر في "الوسيط" ما حاصله أنه ينقضه، وإن لم يرفع إليه، فإنه قال: فرع: لو ظهر له الخطأ في واقعة فليتبع وإن لم ترفع إليه هذه عبارته.
وذكر أيضًا الماوردي وغيره نحوه والذي ذكروه أوجه مما تُوهمه عبارة الرافعي وتأويلها به متعين.
قوله: ومنها قضاء الحنفي ببطلان خيار المجلس والعرايا بالتقييد الذي يجوزه في ذلك الجنس، قيل: إنه منقوض لظهور الأخبار وبعدها عن التأويلات التي يدعونها، وكذلك في القتل بالمنقل لأنها على خلاف القياس الجلي في عصمة النفوس، وهذا ما أورده الإمام وصاحب الكتاب وبمثله أجاب محققون في الحكم بصحة النكاح بلا ولي، وفي بيع أم الولد، وثبوت حرمة الرضاع بعد الحولين، وصحة النكاح بشهادة الفاسقين من غير إعلان، ونكاح الشغار، ونكاح المتعة، وفي الحكم بقتل المسلم بالذِّمي، وبأنه لا قصاص بين الرجل والمرأة في الأطراف، وبجريان التوارث بين المسلم والكافر، ورد الزوائد مع الأصل في الرد بالعيب على ما ذهب إليه ابن أبي ليلى، ومن الأصحاب من منع النقض، وقال: هي مسائل اجتهادية، والأولوية فيها متقاربة، قال القاضي الروياني: وهو الصحيح، وكذلك ذكره القاضي ابن كج في الحكم ببطلان خيار المجلس. انتهى كلامه.
ومقتضاه رجحان النقض في المسائل كلها.
أما الثلاث المذكورة أولًا وهي خيار المجلس والعرايا والقتل بالمنقل فلأنه نقل من الإمام الغزالي موافقتهما للقائل به، ولم تنقل الموافقة للقائل بعدم النقض إلا عن تصحيح الروياني فقط، وأما بقية المسائل فلأنه نقل النقض فيها عن محققين ولم ينقل مقابله إلا عن الروياني أيضًا، إذا علمت ذلك ففيه أمران:
أحدهما: أن الرافعي قد صحح في كتاب النكاح أنه لا ينقض حكمه في النكاح بلا ولي على عكس ما يقتضيه كلامه هنا، ذكر ذلك في الكلام على الركن الرابع، وقد تقدم هناك ذكر عبارته.
الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" قد اختصر هنا كلام الرافعي بعبارة مخالفة لما ذكره هنا وموافقة للمذكور هناك، فإنه جمع هذه المسائل كلها من أولها إلى آخرها وحكى فيها وجهين، ثم قال بعد حكاية الوجهين:
قال الروياني: الأصح: لا ينقض لأنها اجتهادية والأدلة فيها متقاربة، هذا لفظه من غير زيادة عليه.
والعجب في اقتصاره على ما قال مع حذفه للقائل بالعكس، وهم الإمام والغزالي والمحققون، وهو اختصار عجيب حصل بسببه الإخلال في مسائل فتفطن لها واضبط جميعها.
قوله: وإذا كان المحكوم به حكمًا باطلًا نكاحًا، لم يحل للمحكوم له الوطيء، وعليها الامتناع والهرب ما أمكنها، فإن أكرهت فلا إثم عليها. انتهى كلامه.
وما ذكره من عدم الإثم عند الإكراه تابعه عليه في "الروضة"، وهو مخالف لما ذكره في أوائل الجنايات من أن الزنا لا يباح بالإكراه، فإن المرأة إذا علمت كذب الذي يدعي نكاحها يكون تمكينها منه زنا قطعًا، ومقتضى كلامه في الجنايات: أنه لا فرق بين الرجل والمرأة، وقد نص هو على المرأة بخصوصها في كتاب الجهاد، وصرح بأنه لا يباح لها ذلك، والذي ينبغي حمل كلامه هنا عليه ما إذا ربطت ووطئت.
قوله: وما كان مختلفًا فيه كحكم الحنفي بشفعة الجوار وبالتوريث بالرحم فينفذ ظاهرًا، وهل ينفذ في الباطن حتى يحل ذلك للشافعى؟ فيه وجهان:
أحدهما: المنع، وبه قال الأستاذ أبو إسحاق وأورده الغزالي لتعارض الأدلة.
والأصح عند جماعة منهم صاحب "التهذيب" والعبادي: أنه ينفذ باطنًا في حق من يعتقد ومن لا يعتقد. انتهى ملخصًا.
ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، وهذا الثاني هو الصحيح، كذا صححه الرافعي في موضعين من هذا الكتاب ومن "الشرح الصغير"، أحدهما: في كتاب الدعاوي في الكلام على اليمين قُبَيْل قوله: قال: وأما الحالف، فقال: وميل الأكثرين إلى الحِلّ. هذا لفظه.
وذكر عقبه أنهم اتفقوا على أنه ليس للشافعي أن يحلف على عدم استحقاقها إذا حَلّفه الحنفي.
ثم قال: وهذا هو ذاك أو مثله.
والموضع الثاني: في كتاب دعوى الدم، قبيل الكلام في القسامة بأسطر فقال: فأما الحل الباطن إذا حكم الحاكم في موضع الخلاف لشخص على خلاف ما يعتقده كحكم الحنفي للشافعي بشفعة الجوار، ففي ثبوته خلاف وكلام الأئمة هاهنا يميل إلى ثبوته. هذه عبارته.
وإطلاقهم يقتضي أنه لا فرق في النفوذ باطنًا بين ما ينقض وما لا ينقض وفيه، نظر لكنه مستقيم فإنه لا منافاة.
قوله: فرع: قال في "التهذيب": هل تقبل شهادة الشاهد على ما لا يعتقده كالشافعي يشهد بشفعة الجوار؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا، كما لا يقضي القاضي بخلاف ما لا يعتقده.
والثاني: نعم، لأنه مجتهد فيه والاجتهاد إلى الشاهد. انتهى.
فيه أمران:
أحدهما: أن تعليله للوجه الثاني غلط، لأن الاجتهاد يشترط في القاضي لا في الشاهد، وقد ذكره البغوي على الصواب فقال: لأنه مجتهد فيه والاجتهاد إلى القاضي لا إلى الشاهد، ذكر ذلك قُبَيْل باب التحفظ في الشهادة، فسقط من (إلى) إلى (إلى)، وحذف النووي هذا التعليل من "الروضة" فَسَلِمَ.
الأمر الثاني: أن الرافعي لم يبين صورة المسألة وتابعه النووي على ذلك وزاد فصحح القبول، فلنوضح ذلك فنقول: لا شك أن الشاهد والحالة هذه له ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يشهد بنفس الجوار وما في معناه كالبيع عند إنكاره.
والثاني: باستحقاق الأخذ بالشفعة.
والثالث: بشفعة الجوار.
فأما الأول: فكلام الرافعي بعيد منه، وفي جواز الشهادة به وبكل ما يترتب عليه خلاف ما يعتقده الشاهد وجهان حكاهما الرافعي من غير ترجيح في الباب الثالث من أبواب الشهادات قُبيل القيد الخامس من القيود المعتبرة في وجوب الأداء، وذكر بعده بنحو ورقة ما يشعر بالجواز.
وأما الثاني والثالث: فكلام الرافعي محتمل لكل منهما ولم يتكلم فيهما إلا على القبول، وأما الجواز للشاهد: فينبغي منعه لاعتقاده خلافه، وقد ذكر الرافعي في آخر الباب الأول من أبواب الرهن: أنه إذا [رهن] عينًا بعشرة ثم استعرض عشرة لتكون رهنًا بهما وأشهد شاهدين أنه مرهون بعشرين وعرف الشاهدان حقيقة الحال وهو رهن المرهون بدين آخر عند المرتهن، نظر إن شهدا على إقرار الراهن فالوجه تجويزه مطلقًا، وإن شهدا أنه مرهون فإن كانا لا يعتقدان جواز الإلحاق لم يجز بل عليهما بيان الحال، وفيه وجه بعيد.
وإن كانا يعتقدان جوازه ففيه وجهان، قال في الروضة: الأصح أنه لا يجوز لأن الاجتهاد إلى الحاكم لا إليهما. هذا كلامه، ولم يصور الرافعي المسألة بما إذا كان القاضي حنفيًا وهو كذلك بلا شك.
قوله: ولو دعي المحبوس زوجته أو أمته لم يمنع إن كان في الحبس موضع خال، فإن امتنعت أجبرت الأمة ولم تُجبر الزوجة الحرة، لأنه لا يصلح للسكنى، والزوجة الأمة تُجبر إن رضى سيدها، فكان يجوز أن يقال: الحبس زجر وتأديب، فإن اقتضى الحال أن تمنع منه زوجته أو أمته فعل. انتهى كلامه.
وما ذكره بحثًا واقتضى كلامه عدم الوقوف عليه، قد جزم به الغزالي في "فتاويه" فقال: إن الأمر فيه إلى رأي القاضي.
وجزم صاحب "الشامل" في "فتاويه" أيضًا بأنه يمنع من ذلك، ولم يكله إلى نظر القاضي.
وقد ذكر النووي في أوائل التفليس من "زوائده" ما قاله، الغزالي وابن الصباغ ولم يرجح منها شيئًا.
ثم إنه هاهنا حذف الاحتمال الذي ذكره الرافعي وجزم بأنه لا يمنع، فصار مخالفًا لكل من النقلين المذكورين هناك، وقد ظهر من هذه النقول رجحان تفويضه إلى رأي القاضي، لرجحان الرافعى له من غير اطلاعه على نقل يساعده فمع النقل أولى.