الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الخامس: في الشهادة على الشهادة
قوله: وإنما يجوز التحمل إذا علم أن عند الأصل شهادة جازمة بحق ثابت ولمعرفته أسباب ثلاثة. . . . إلى آخره.
اعلم أن الأصل إذا استدعى شاهدًا جاز لمن سمعه أن يشهد على شهادته، كذا قال ابن القاص، وصححه في "الشامل"، فهو إذن سبب رابع لم يذكره الرافعي ولا النووي.
قوله: وإن عرض بالأصل فسق أو عداوة أو ردة ثم زالت فهل للفرع أن يشهد بالتحمل الأول أم يحتاج إلى تحمل جديد؟ عن ابن سريج أنه يحتاج وصححه الإمام، وروى وجهًا آخر: أنه لا حاجة إليه، وهذا قضية إيراد "التهذيب" انتهى.
والصحيح: هو الأول، كذا صححه النووي في "الروضة" ولم ينبه على أنه من "زوائده"، بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له، ولم يصرح بالمسألة في "الشرح الصغير" ولا في "المحرر".
قوله: ولو طرأ على الأصل جنون فقيل تبطل شهادة الفروع كالفسق، والجمهور على أنه لا أثر له كالموت، لأنه لا يوقع دينه في ما مضى، ويجري الوجهان فيما لو عمي وأولى بأن لا يؤثر فيه، لأنه لا يبطل أهلية الشهادة بالكلية، ولو أغمى عليه قال الإمام: إن كان غائبًا: لم يؤثر، وإن كان حاضرًا: لم يشهد الفرع بل ينتظروا لزواله؛ لأنه قريب الزوال ومقتضى هذا أن يكون الجواب كذلك في كل مرض يتوقع زواله لتوقع زوال الإغماء انتهى كلامه.
اعترض النووي رحمه الله على هذا البحث الذي ذكره الرافعي، فقال: قلت: ليس كما قال الرافعي رحمه الله بل الصواب: أن المرض لا يلحق بالإغماء وإن توقع زواله قريبًا، لأن المريض أهل للشهادة بخلاف المغمى عليه والله أعلم.
وهذا الاعتراض الذي ذكره رحمه الله غلط ظاهر ليس فيه ملائمة لبطلان ما يقوله الرافعي، بل يعضد ما يقوله ويقويه، لأن وجود الأصل وهو بصفة الشهادة لا شك أنه أقرب إلى عدم قبول الفرع من الحالة التي يخرج فيها الأصل عن الأهلية بسبب لا تقصير فيه، والمجنون الحاضر تقبل شهادة فرعه ولا شك أن إلحاق الإغماء [بالجنون أقرب من إلحاق المرض الذي لا يزيل العقل، فإذا كنا ننتظر زوال الإغماء](1) لقربه فانتظار المريض القريب أولى ولا شك أنه يوهم أن مراد الرافعي بإلحاق المرض بالإغماء إنما هو في بطلان شهادة فرعهما لتقدم الكلام فيه.
قوله: فإن شهد اثنان على شهادة أصل وآخران على شهادة الثاني: جاز، ولو شهد فرع على أصل وفرع آخر على شهادة الأصل الثاني: لم يصح، ولم يذكروا فيه خلافًا، ولو شهد فرعان على شهادة الأصلين معًا ففي قبوله وجهان: أصحهما: الجواز. انتهى كلامه.
وما ادعاه من عدم الخلاف قد تبعه عليه في "الروضة" وعبر بقوله لم يصح قطعًا وليس الأمر كذلك، فقد رأيت في "السلسلة" للشيخ أبي محمد الجويني في هذه المسألة قولين، ونقلهما ابن أبي الدم في "أدب القضاء" عن الكتاب المذكور، ونقلهما أيضًا ابن الرفعة عن ابن أبي الدم.
قوله: وإذا قلنا بأنه لا تجوز شهادة الفرعين على شهادة [الأصلين معًا فشهد أربعة على شهادة](2) الأصلين، فوجهان: أحدهما: المنع أيضًا لأنهم
(1) سقط من أ.
(2)
سقط من ب.
جميعًا إذا قاموا مقام شاهد واحد لا يقومون مقام الثاني.
والثاني: يجوز، لأنه قد شهد اثنان منهم على شهادة زيد واثنان على شهادة عمرو، فلا يضر تعرض شهادة زيد لشهادة عمرو، وبالعكس قال الإمام: وهذا هو الذي لا يجوز غيره. انتهى.
والصحيح: هو الجواز، كذا صححه الرافعي في "الشرح الصغير": وعبر بالأصح، والنووي في أصل "الروضة": وعبر بالصحيح.
قوله: ومنها -أي ومن الأعذار المقتضية لسماع الفرع- الغيبة إلى مسافة القصر، فإن كانت دون مسافة القصر فمنهم من أطلق وجهين منهم ابن القطان، والأشبه: أنه إن كانت المسافة بحيث لو خرج الأصل بكرة لأداء الشهادة أمكنه الرجوع إلى أهله ليلًا لم تسمع شهادة الفرع، وتسمى هذه مسافة العدوى، وإن كانت بحيث لا يمكنه الرجوع فهو موضع الوجهين. انتهى.
فيه أمران:
أحدهما: أن ما ذكره هاهنا من كون مسافة العدوى هي التي يرجع فيها المبكر إلى أهله بالليل سواء كان في أوله أو وسطه أو آخره، قد تابعه عليه في "الروضة" أيضًا وليس كذلك، بل الضابط أن يرجع قبل الليل، كذا ذكره الأصحاب، وذكره هو أيضًا في كتاب النكاح في الكلام على سوالب الولاية، ولم يحك فيه خلافًا وتبعه عليه في "الروضة".
الأمر الثاني: أن ما ذكره النووي هنا تبعًا للرافعي من تصحيح القبول في ما فوق مسافة العدوى مسلم، وأما المنع في مسافة العدوى فقد خالفه في "المنهاج": فقال: وشرط قبولها تعذر أو تعسر الأصل بموت أو إغماء يسبق حضوره أو غيبة لمسافة عدوى، وقيل: قصر. هذا لفظه، وهو اختلاف عجيب.
وكلام الرافعي سالم منه، فإنه صحح في "المحرر" أيضًا: أنها لا تسمع كما صحح في الشرحين فقال: والأظهر أن الغيبة إلى ما فوق مسافة العدوى كالغيبة إلى مسافة القصر، هذه عبارة "المحرر"، فسها رحمه الله في "اختصاره".
وما ذكره النووي في "المنهاج" مشكل على مسائل:
منها: إذا دعي لأداء الشهادة في بلد أخرى ففي "الروضة" و"المنهاج" وأصلهما: أنه إن دعي إلى مسافة العدوى فهي قريبة يجب عليه الأداء، وإن دعي إلى مسافة القصر فلا، وكذا إن كان بين المسافتين على الأصح.
ومنها: أن الغائب إذا قلنا تسمع الدعوى عليه فشرطه أن يكون في مسافة بعيدة، وضابط البعد على ما ذكره في الذهاب لأداء الشهادة قاله في "المنهاج" وغيره.
ومنها: إذا طلب من الحاكم إحضار غائب، ففي "المنهاج": أنه على هذا التفصيل، فيقال للشيخ محيي الدين لم جعلت مسافة العدوى بعيدة في المسألة الأولى فقط وهي قبول شهادة الفرع وجعلتها قريبة في باقي المسائل؟
ولو غاب الولي فوق مسافة العدوى ودون مسافة القصر، فالأصح: أنها كمسافة العدوى حتى لا يجوز للحاكم التزويج إلا بإذن، وفرق "الرافعي" بوجهين:
أحدهما: أن الولي إذا زوج لم يحتج إلى الحضور بل يوكل بخلاف الشاهد.
الثاني: أن الخصم قد يهرب فيفوت الحق، والنكاح لا يفوت غالبًا بهذا القدر من التأخير.
قوله في المسألة: وعبارة جماعة من الأصحاب: إن كان يلحقه مشقة
غليظة في المجيء إلى مجلس الحكم لم يكلف وسمعت شهادة الفرع، وهذا يجوز أن يحمل على المشقة اللاحقة بالمجيء فيما فوق مسافة العدوى، ويجوز أن يجعل أعم من ذلك، وإلى الحمل الأول ميل ابن الصباغ. انتهى كلامه.
اعترض في "الكفاية" فقال: لم يمل ابن الصباغ إلى الأول، بل نقل عن الشيخ أبي حامد كلامًا يقتضي أنه -أي أبا حامد- يميل إليه، ثم إن الأول قد صرح به البندنيجي والشيخ في "المهذب" وغيرهما، وكلام الماوردي يميل للمحمل الثاني.
قوله: ويلحق خوف الغريم وسائر ما تترك به الجمعة بالمرض، هكذا أطلق الإمام الغزالي وليكن ذلك في الأعذار الخاصة دون ما يعم الأصل والفرع كالمطر والوحل الشديد. انتهى كلامه.
وما استدركه من إخراج العذر العام للأصل والفرع من تجويز سماع شهادة الفرع بسببه، قد تابعه عليه في "الروضة"، ونقله أيضًا ابن الرفعة عنه خاصة وسكت عليه، وهو تقييد باطل ووهم عجيب، فإن مشاركة غيره له لا تخرجه عن كونه عذرًا في حق الفرع إلا إذا اشتركا في سبب يستحيل الحضور معه لا في ما يمكن مع المشقة، فإن وجد المدعي من يتكلف ويؤدي الشهادة على الأصل في تلك الحالة سمعت، ووجوده كبير خصوصًا عند إعطاء ما يرضى الشخص به، وإن لم يجد ذلك كان المانع عدم وجود الفرع.