الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثانية، أقاموا شرائعهم وعاد قيام بني لاوي بالبيت في الليل، وقيام أهل محال القدس وأهل القرى والمدن على ما كان العمل عليه أيام عمارة البيت الأولى، واستمرّ ذلك إلى أن خرب القدس بعد قتل نبيّ الله يحيى بن زكريا، وقيام اليهود على روح الله ورسوله عيسى ابن مريم صلوات الله عليهم على يد طيطش، فبطلت شرائع بني إسرائيل من حينئذ وبطل هذا القيام فيما بطل من بلاد بني إسرائيل.
وأما في الملة الإسلامية فكان ابتداء هذا العمل بمصر، وسببه أن مسلمة بن مخلد أمير مصر بنى منارا لجامع عمرو بن العاص، واعتكف فيه فسمع أصوات النواقيس عالية، فشكا ذلك إلى شرحبيل بن عامر عريف المؤذنين فقال: إني أمدّد الأذان من نصف الليل إلى قرب الفجر، فإنههم أيها الأمير أن ينقسوا إذا أذنت. فنهاهم مسلمة عن ضرب النواقيس وقت الأذان، ومدّد شرحبيل ومطط أكثر الليل، ثم إن الأمير أبا العباس أحمد بن طولون كان قد جعل في حجرة تقرب منه رجالا تعرف بالمكبرين، عدّتهم اثنا عشر رجلا، يبيت في هذه الحجرة كلّ ليلة أربعة يجعلون الليل بينهم عقبا، فكانوا يكبرون ويسبحون ويحمدون الله سبحانه في كلّ وقت ويقرءون القرآن بألحان، ويتوسلون ويقولون قصائد زهية، ويؤذنون في أوقات الأذان، وجعل لهم أرزاقا واسعة تجري عليهم. فلما مات أحمد بن طولون وقام من بعده ابنه أبو الجيش خمارويه، أقرّهم بحالهم وأجراهم على رسمهم مع أبيه، ومن حينئذ اتخذ الناس قيام المؤذنين في الليل على المآذن، وصار يعرف ذلك بالتسبيح. فلما ولي السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب سلطنة مصر وولى القضاء صدر الدين عبد الملك بن درباس الهدبانيّ المارانيّ الشافعيّ، كان من رأيه ورأي السلطان اعتقاد مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعريّ في الأصول، فحمل الناس إلى اليوم على اعتقاده، حتى يكفّر من خالفه، وتقدّم الأمر إلى المؤذنين أن يعلنوا في وقت التسبيح على المآذن بالليل بذكر العقيدة التي تعرف بالمرشدة، فواظب المؤذنون على ذكرها في كلّ ليلة بسائر جوامع مصر والقاهرة إلى وقتنا هذا. ومما أحدث أيضا، التذكير في يوم الجمعة من أثناء النهار بأنواع من الذكر على المآذن، ليتهيأ الناس لصلاة الجمعة، وكان ذلك بعد السبعمائة من سني الهجرة. قال ابن كثير رحمه الله في يوم الجمعة سادس ربيع الآخر سنة أربع وأربعين وسبعمائة، رسم بأن يذكر بالصلاة يوم الجمعة في سائر مآذن دمشق كما يذكر في مآذن الجامع الأمويّ، ففعل ذلك.
الجامع الأزهر
هذا الجامع أوّل مسجد أسس بالقاهرة، والذي أنشأه القائد جوهر الكاتب الصقليّ، مولى الإمام أبي تميم معدّ الخليفة أمير المؤمنين المعز لدين الله لما اختط القاهرة، وشرع في بناء هذا الجامع في يوم السبت لست بقين من جمادى الأولى سنة تسع وخمسين
وثلاثمائة، وكمل بناؤه لتسع خلون من شهر رمضان سنة إحدى وستين وثلاثمائة وجمع فيه، وكتب بدائر القبة التي في الرواق الأوّل، وهي على يمنة المحراب والمنبر، ما نصه بعد البسملة: مما أمر ببنائه عبد الله ووليه أبو تميم معدّ الإمام المعز لدين الله أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه وأبنائه الأكرمين، على يد عبده جوهر الكاتب الصقليّ، وذلك في سنة ستين وثلاثمائة. وأوّل جمعة جمعت فيه في شهر رمضان لسبع خلون منه سنة إحدى وستين وثلاثمائة. ثم إن العزيز بالله أبا منصور نزار بن المعز لدين الله جدّد فيه أشياء، وفي سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة سأل الوزير أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن كلس الخليفة العزيز بالله في صلة رزق جماعة من الفقهاء، فأطلق لهم ما يكفي كلّ واحد منهم من الرزق الناض، وأمر لهم بشراء دار وبنائها، فبنيت بجانب الجامع الأزهر، فإذا كان يوم الجمعة حضروا إلى الجامع وتحلقوا فيه بعد الصلاة إلى أن تصلّى العصر، وكان لهم أيضا من مال الوزير صلة في كلّ سنة، وكانت عدتهم خمسة وثلاثين رجلا، وخلع عليهم العزيز يوم عيد الفطر، وحملهم على بغلات. ويقال أنّ بهذا الجامع طلسما، فلا يسكنه عصفور، ولا يفرّخ به، وكذا سائر الطيور من الحمام واليمام وغيره، وهو صورة ثلاثة طيور منقوشة، كلّ صورة على رأس عمود، فمنها صورتان في مقدّم الجامع بالرواق الخامس، منهما صورة في الجهة الغربية في العمود، وصورة في أحد العمودين اللذين على يسار من استقبل سدّة المؤذنين، والصورة الأخرى في الصحن في الأعمدة القبلية مما يلي الشرقية، ثم إن الحاكم بأمر الله جدّده ووقف على الجامع الأزهر وجامع المقس والجامع الحاكميّ ودار العلم بالقاهرة رباعا بمصر، وضمّن ذلك كتابا نسخته: هذا كتاب، أشهد قاضي القضاة مالك بن سعيد بن مالك الفارقيّ، على جميع ما نسب إليه مما ذكر ووصف فيه، من حضر من الشهود في مجلس حكمه وقضائه بفسطاط مصر، في شهر رمضان سنة أربعمائة، أشهدهم وهو يومئذ قاضي، عبد الله ووليه المنصور أبي عليّ الإمام الحاكم بأمر الله المؤمنين بن الإمام العزيز بالله صلوات الله عليهما على القاهرة المعزية ومصر والإسكندرية والحرمين حرسهما الله، وأجناد الشام والرقة والرحبة ونواحي المغرب، وسائر أعمالهنّ وما فتحه الله ويفتحه لأمير المؤمنين من بلاد الشرق والغرب، بمحضر رجل متكلم أنّه صحت عنده معرفة المواضع الكاملة، والحصص الشائعة، التي يذكر جميع ذلك، ويحدد في هذا الكتاب، وأنها كانت من أملاك الحاكم إلى أن حبسها على الجامع الأزهر بالقاهرة المحروسة، والجامع براشدة، والجامع بالمقس، اللذين أمر بإنشائهما وتأسيس بنائهما، وعلى دار الحكمة بالقاهرة المحروسة التي وقفها، والكتب التي فيها قبل تاريخ هذا الكتاب، ومنها ما يخص الجامع الأزهر والجامع براشدة ودار الحكمة بالقاهرة المحروسة. مشاعا، جميع ذلك غير مقسوم، ومنها ما يخص الجامع بالمقس، على شرائط يجري ذكرها، فمن ذلك ما تصدّق به على الجامع الأزهر بالقاهرة المحروسة، والجامع براشدة، ودار الحكمة بالقاهرة المحروسة،
جميع الدار المعروفة بدار الضرب، وجميع القيسارية المعروفة بقيسارية الصوف، وجميع الدار المعروفة بدار الخرق الجديدة، الذي كله بفسطاط مصر، ومن ذلك ما تصدّق به على جامع المقس، جميع أربعة الحوانيت والمنازل التي علوها والمخزنين الذي ذلك كله بفسطاط مصر بالراية في جانب المغرب من الدار المعروفة كانت بدار الخرق، وهاتان الداران المعروفتان بدار الخرق في الموضع المعروف بحمام الفار، ومن ذلك جميع الحصص الشائعة من أربعة الحوانيت المتلاصقة التي بفسطاط مصر بالراية، أيضا بالموضع المعروف بحمام الفار، وتعرف هذه الحوانيت بحصص القيسيّ، بحدود ذلك كله، وأرضه وبنائه وسفله وعلوه وغرفه ومرتفقاته وحوانيته وساحاته وطرقه وممرّاته ومجاري مياهه، وكل حق هو له داخل فيه وخارج عنه، وجعل ذلك كله صدقة موقوفة محرّمة محبسة بتة بتلة، لا يجوز بيعها ولا هبتها ولا تمليكها، باقية على شروطها جارية على سبلها المعروفة في هذا الكتاب، لا يوهنها تقادم السنين، ولا تغير بحدوث حدث، ولا يستثنى فيها ولا يتأوّل، ولا يستفتي بتجدّد تحبيسها مدى الأوقات، وتستمرّ شروطها على اختلاف الحالات حتى يرث الله الأرض والسماوات، على أن يؤجر ذلك في كلّ عصر من ينتهي إليه ولايتها ويرجع إليه أمرها، بعد مراقبة الله واجتلاب ما يوفر منفعتها من إشهارها عند ذوي الرغبة في إجارة أمثالها، فيبتدأ من ذلك بعمارة ذلك على حسب المصلحة وبقاء العين ومرمّته من غير إجحاف بما حبس ذلك عليه.
وما فضل كان مقصوما على ستين سهما فمن ذلك للجامع الأزهر بالقاهرة المحروسة المذكور في هذا الإشهاد، الخمس، والثمن، ونصف السدس، ونصف التسع، يصرف ذلك فيما فيه عمارة له ومصلحة، وهو من العين المعزيّ الوازن ألف دينار واحدة وسبعة وستون دينارا ونصف دينار وثمن دينار، من ذلك للخطيب بهذا الجامع أربعة وثمانون دينارا، ومن ذلك لثمن ألف ذراع حصر عبدانيّة تكون عدّة له بحيث لا ينقطع من حصره عند الحاجة إلى ذلك، ومن ذلك لثمن ثلاثة عشر ألف ذراع حصر مظفورة لكسوة هذا الجامع في كلّ سنة عند الحاجة إليها مائة دينار واحدة وثمانية دنانير، ومن ذلك لثمن ثلاثة قناطير زجاج وفراخها اثنا عشر دينارا ونصف وربع دينار، ومن ذلك لثمن عود هنديّ للبخور في شهر رمضان وأيام الجمع مع ثمن الكافور والمسك، وأجرة الصانع خمسة عشر دينارا، ومن ذلك لنصف قنطار شمع بالفلفليّ سبعة دنانير، ومن ذلك لكنس هذا الجامع ونقل التراب وخياطة الحصر وثمن الخيط وأجرة الخياطة خمسة دنانير، ومن ذلك لثمن مشاقة لسرج القناديل عن خمسة وعشرين رطلا بالرطل الفلفليّ دينار واحد، ومن ذلك لثمن فحم للبخور عن قنطار واحد بالفلفليّ نصف دينار، ومن ذلك لثمن أردبين ملحقا للقناديل ربع دينار، ومن ذلك ما قدّر لمؤنة النحاس والسلاسل والتنانير والقباب التي فوق سطح الجامع أربعة وعشرون دينارا، ومن ذلك لثمن سلب ليف وأربعة أحبل وست دلاء أدم نصف دينار، ومن ذلك لثمن
قنطارين خرقا لمسح القناديل نصف دينار، ومن ذلك لثمن عشر قفاف للخدمة وعشرة أرطال قنب لتعليق القناديل ولثمن مائتين مكنسة لكنس هذا الجامع دينار واحد وربع دينار، ومن ذلك لثمن أزيار فخار تنصب على المصنع ويصبّ فيها الماء مع الجرة حملها ثلاثة دنانير، ومن ذلك لثمن زيت وقود هذا الجامع راتب السنة ألف رطل ومائتا رطل مع أجرة الحمل سبعة وثلاثون دينارا ونصف، ومن ذلك لأرزاق المصلين يعني الأئمة وهم ثلاثة وأربعة قومة ومسة عشر مؤذنا خمسمائة دينار وستة وخمسون دينارا ونصف، منها للمصلين لكلّ رجل منهم ديناران وثلثا دينار وثمن دينار في كلّ شهر من شهور السنة، والمؤذنون والقومة لكلّ رجل منهم ديناران في كلّ شهر، ومن ذلك للمشرف على هذا الجامع في كلّ سنة أربعة وعشرون دينارا، ومن ذلك لكنس المصنع بهذا الجامع ونقل ما يخرج منه من الطين والوسخ دينار واحد، ومن ذلك لمرمّة ما يحتاج إليه في هذا الجامع في سطحه وأترابه وحياطته وغير ذلك مما قدّر لكلّ سنة ستون دينارا، ومن ذلك لثمن مائة وثمانين حمل تبن ونصف حمل جارية لعلف رأسي بقر للمصنع الذي لهذا الجامع ثمانية دنانير ونصف وثلث دينار، ومن ذلك للتبن لمخزن يوضع فيه بالقاهرة أربعة دنانير، ومن ذلك لثمن فدّانين قرط لتربيع رأسي البقر المذكورين في النة سبعة دنانير، ومن ذلك لأجرة متولي العلف وأجرة السقاء والحبال والقواديس وما يجري مجرى ذلك خمسة عشر دينارا ونصف، ومن ذلك لأجرة قيم الميضأة إن عملت بهذا الجامع اننا عشر دينارا. وإلى هنا انقضى حديث الجامع الأزهر، وأخذ في ذكر جامع راشدة ودار العلم وجامع المقس، ثم ذكر أن تنانير الفضة ثلاثة تنانير، وتسعة وثلاثون قنديلا فضة، فللجامع الأزهر تنوران وسبعة وعشرون قنديلا، ومنها لجامع راشدة تنور واثنا عشر قنديلا، وشرط أن تعلق في شهر رمضان وتعاد إلى مكان جرت عادتها أن تحفظ به، وشرط شروطا كثيرة في الأوقاف منها: أنه إذا فضل شيء واجتمع يشترى به ملك، فإن عاز شيئا واستهدم ولم يف الريع بعمارته بيع وعمر به، وأشياء كثيرة، وحبس فيه أيضا عدّة آدر وقياسر لا فائدة في ذكرها، فإنها مما خربت بمصر.
قال ابن عبد الظاهر عن هذا الكتاب: ورأيت منه نسخة، وانتقلت إلى قاضي القضاة تقيّ الدين بن رزين، وكان بصدر هذا الجامع في محرابه منطقة فضة، كما كان في محراب جامع عمرو بن العاص بمصر، قلع ذلك صلاح الدين يوسف بن أيوب في حادي عشر ربيع الأوّل سنة تسع وستين وخمسمائة، لأنه كان فيها انتهاء خلفاء الفاطميين، فجاء وزنها خمسة آلاف درهم نقرة، وقلع أيضا المناطق من بقية الجوامع. ثم أن المستنصر جدّد هذا الجامع أيضا، وجدّده الحافظ لدين الله، وأنشأ فيه مقصورة لطيفة تجاور الباب الغربيّ الذي في مقدّم الجامع بداخل الرواقات، عرفت بمقصورة فاطمة، من أجل أن فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها رؤيت بها في المنام، ثم أنه جدّد في أيام الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ.
قال القاضي محي الدين بن عبد الظاهر في كتاب سيرة الملك الظاهر: لما كان يوم الجمعة الثامن عشر من ربيع الأوّل سنة خمس وستين وستمائة، أقيمت الجمعة بالجامع الأزهر بالقاهرة، وسبب ذلك أن الأمير عز الدين أيدمر الحليّ كان جار هذا الجامع من مدّة سنين، فرعى وفقه الله حرمة الجار، ورأى أن يكون كما هو جاره في دار الدنيا، أنه غدا يكون ثوابه جاره في تلك الدار، ورسم بالنظر في أمره وانتزع له أشياء مغصوبة كان شيء منها في أيدي جماعة، وحاط أموره حتى جمع له شيئا صالحا، وجرى الحديث في ذلك، فتبرّع الأمير عز الدين له بجملة مستكثرة من المال الجزيل، وأطلق له من السلطان جملة من المال، وشرع في عمارته فعمّر الواهي من أركانه وجدارنه وبيّضه وأصلح سقوفه وبلطه وفرشه وكساه، حتى عاد حرما في وسط المدينة، واستجدّ به مقصورة حسنة، وآثر فيه آثارا صالحة يثيبه الله عليها، وعمل الأمير بيلبك الخازندار فيه مقصورة كبيرة رتب فيها جماعة من الفقهاء لقراءة الفقه على مذهب الإمام الشافعيّ رحمه الله، ورتب في هذه المقصورة محدّثا يسمع الحديث النبويّ والرقائق، ووقف على ذلك الأوقاف الدارّ، ورتب به سبعة لقراءة القرآن، ورتب به مدرّسا أثابه الله على ذلك. ولما تكمّل تجديده تحدّث في إقامة جمعة فيه، فنودي في المدينة بذلك، واستخدم له الفقيه زين الدين خطيبا، وأقيمت الجمعة فيه في اليوم المذكور، وحضر الأتابك فارس الدين، والصاحب بها الدين عليّ بن حنا، وولده الصاحب فخر الدين محمد، وجماعة من الأمراء والكبراء، وأصناف العالم على اختلافهم، وكان يوم جمعة مشهودا، ولما فرغ من الجمعة جلس الأمير عز الدين الحليّ والأتابك والصاحب وقرىء القرآن ودعى للسلطان، وقام الأمير عز الدين ودخل إلى داره ودخل معه الأمراء، فقدّم لهم كلّ ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وانفصلوا، وكان قد جرى الحديث في أمر جواز الجمعة في الجامع وما ورد فيه. من أقاويل العلماء، وكتب فيها فتيا أخذ فيها خطوط العلماء بجواز الجمعة في هذا الجامع وإقامتها، فكتب جماعة خطوطهم فيها، وأقيمت صلاة الجمعة به واستمرّت، ووجد الناس به رفقا وراحة لقربه من الحارات البعيدة من الجامع الحاكميّ.
قال وكان سقف هذا الجامع قد بني قصيرا فزيد فيه بعد ذلك وعلى ذراعا، واستمرّت الخطبة فيه حتى بني الجامع الحاكميّ، فانتقلت الخطبة إليه، فإن الخليفة كان يخطب فيه خطبة وفي الجامع الأزهر خطبة، وفي جامع ابن طولون خطبة، وفي جامع مصر خطبة، وانقطعت الخطبة من الجامع الأزهر لما استبدّ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بالسلطنة، فإنه قلد وظيفة القضاء لقاضي القضاة صدر الدين عبد الملك بن درباس، فعمل بمقتضى مذهبه، وهو امتناع إقامة الخطبتين للجمعة في بلد واحد كما هو مذهب الإمام الشافعيّ، فأبطل الخطبة من الجامع الأزهر وأقرّ الخطبة بالجامع الحاكميّ من أجل أنه أوسع. فلم يزل الجامع الأزهر معطلا من إقامة الجمعة فيه مائة عام، من حين استولى
السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، إلى أن أعيدت الخطبة في أيام الملك الظاهر بيبرس كما تقدّم ذكره. ثم لما كانت الزلزلة بديار مصر في ذي الحجة سنة اثنتين وسبعمائة، سقط الجامع الأزهر والجامع الحاكميّ وجامع مصر وغيره، فتقاسم أمراء الدولة عمارة الجوامع، فتولى الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير عمارة الجامع الحاكميّ، وتولى الأمير سلار عمارة الجامع الأزهر، وتولى الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار عمارة جامع الصالح، فجدّدوا مبانيها وأعادوا ما تهدّم منها. ثم جدّدت عمارة الجامع الأزهر على يد القاضي نجم الدين محمد بن حسين بن عليّ الأسعرديّ، محتسب القاهرة، في سنة خمس وعشرين وسبعمائة. ثم جدّدت عمارته في سنة إحدى وستين وسبعمائة، عند ما سكن الأمير الطواشي سعد الدين بشير الجامدار الناصريّ، في دار الأمير فخر الدين أبان الزاهديّ الصالحيّ النجميّ بخط الأبارين بجوار الجامع الأزهر، بعد ما هدمها وعمرها داره التي تعرف هناك إلى اليوم بدار بشير الجامدار، فأحب لقربه من الجامع أن يؤثر فيه أثرا صالحا، فاستأذن السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون في عمارة الجامع، وكان أثيرا عنده خصيصا به، فأذن له في ذلك.
وكان قد استجدّ بالجامع عدّة مقاصير ووضعت فيه صناديق وخزائن حتى ضيقته، فأخرج الخزائن والصناديق ونزع تلك المقاصير، وتتبع جدرانه وسقوفه بالإصلاح حتى عادت كأنها جديدة، وبيّض الجامع كله وبلطه، ومنع الناس من المرور فيه، ورتب فيه مصحفا وجعل له قارئا، وأنشأ على باب الجامع القبليّ حانوتا لتسبيل الماء العذب في كلّ يوم، وعمل فوقه مكتب سبيل لإقراء أيتام المسلمين كتاب الله العزيز، ورتب للفقراء المجاورين طعاما يطبخ كلّ يوم، وأنزل إليه قدورا من نحاس جعلها فيه، ورتب فيه درسا للفقهاء من الحنفية يجلس مدرّسهم لإلقاء الفقه في المحراب الكبير، ووقف على ذلك أوقافا جليلة باقية إلى يومنا هذا، ومؤذنو الجامع يدعون في كلّ جمعة وبعد كلّ صلاة للسلطان حسن إلى هذا الوقت الذي نحن فيه.
وفي سنة أربع وثمانين وسبعمائة ولي الأمير الطواشي بهادر المقدّم على المماليك السلطانية نظر الجامع الأزهر، فتنجز مرسوم السلطان الملك الظاهر برقوق بأنّ من مات من مجاوري الجامع الأزهر عن غير وارث شرعيّ وترك موجودا فإنه يأخذه المجاورون بالجامع، ونقش ذلك على حجر عند الباب الكبير البحريّ. وفي سنة ثمانمائة هدمت منارة الجامع، وكانت قصيرة، وعمّرت أطول منها، فبلغت النفقة عليها من مال السلطان خمسة عشر ألف درهم نقرة، وكملت في ربيع الآخر من السنة المذكورة، فعلّقت القناديل فيها ليلة الجمعة من هذا الشهر، وأوقدت حتى اشتعل الضوء من أعلاها إلى أسفلها، واجتمع القرّاء والوعاظ بالجامع وتلوا ختمة شريفة، ودعوا للسلطان فلم تزل هذه المئذنة إلى شوّال سنة سبع عشرة وثمانمائة، فهدمت لميل ظهر فيها، وعمل بدلها منارة من حجر على باب الجامع
البحريّ، بعد ما هدم الباب وأعيد بناؤه بالحجر، وركبت المنارة فوق عقده، وأخذ الحجر لها من مدرسة الملك الأشرف خليل التي كانت تجاه قلعة الجبل، وهدمها الملك الناصر فرج بن برقوق، وقام بعمارة ذلك الأمير تاج الدين التاج الشوبكيّ والي القاهرة ومحتسبها، إلى أن تمت في جمادى الآخرة سنة ثمان عشرة وثمانمائة، فلم تقم غير قليل ومالت حتى كادت تسقط، فهدمت في صفر سنة سبع وعشرين، وأعيدت. وفي شوّال منها ابتدئ بعمل الصهريج الذي بوسط الجامع، فوجد هناك آثار فسقية ماء، ووجد أيضا رمم أموات، وتمّ بناؤه في ربيع الأوّل، وعمل بأعلاه مكان مرتفع له قبة يسبل فيه الماء، وغرس بصحن الجامع أربع شجرات، فلم تفلح وماتت، ولم يكن لهذا الجامع ميضأة عندما بني، ثم عملت ميضأته حيث المدرسة الأقبغاوية إلى أن بنى الأمير أقبغا عبد الواحد مدرسته المعروفة بالمدرسة الأقبغاوية هناك، وأما هذه الميضأة التي بالجامع الآن فإن الأمير بدر الدين جنكل بن البابا بناها، ثم زيد فيها بعد سنة عشر وثمانمائة ميضأة المدرسة الأقبغاوية.
وفي سنة ثمان عشرة وثمانمائة ولي نظر هذا الجامع الأمير سودوب القاضي حاجب الحجاب، فجرت في أيام نظره حوادث لم يتفق مثلها، وذلك أنه لم يزل في هذا الجامع منذ بني عدّة من الفقراء يلازمون الإقامة فيه، وبلغت عدّتهم في هذه الأيام سبعمائة وخمسين رجلا ما بين عجم وزيالعة، ومن أهل ريف مصر ومغاربة، ولكلّ طائفة رواق يعرف بهم، فلا يزال الجامع عامرا بتلاوة القرآن ودراسته وتلقينه والاشتغال بأنواع العلوم الفقه والحديث والتفسير والنحو، ومجالس الوعظ وحلق الذكر، فيجد الإنسان إذا دخل هذا الجامع من الإنس بالله والارتياح وترويح النفس ما لا يجده في غيره، وصار أرباب الأموال يقصدون هذا الجامع بأنواع البرّ من الذهب والفضة والفلوس إعانة للمجاورين فيه على عبادة الله تعالى، وكلّ قليل تحمل إليهم أنواع الأطعمة والخبز والحلاوات، لا سيما في المواسم. فأمر في جمادى الأولى من هذه السنة بإخراج المجاورين من الجامع ومنعهم من الإقامة فيه، وإخراج ما كان لهم فيه من صناديق وخزائن وكراسي المصاحف، زعما منه أن هذا العمل مما يثاب عليه، وما كان إلّا من أعظم الذنوب وأكثرها ضررا، فإنه حلّ بالفقراء بلاء كبير من تشتت شملهم وتعذر الأماكن عليهم، فساروا في القرى وتبذلوا بعد الصيانة، وفقد من الجامع أكثر ما كان فيه من تلاوة القرآن ودراسة العلم وذكر الله، ثم لم يرضه ذلك حتى زاد في التعدّي، وأشاع أن أناسا يبيتون بالجامع ويفعلون فيه منكرات، وكانت العادة قد جرت بمبيت كثير من الناس في الجامع ما بين تاجر وفقيه وجنديّ وغيرهم، منهم من يقصد بمبيته البركة، ومنهم من لا يجد مكانا يأويه، ومنهم من يستروح بمبيته هناك خصوصا في ليالي الصيف وليالي شهر رمضان، فإنه يمتلئ صحنه وأكثر رواقاته. فلما كانت ليلة الأحد الحادي عشر من جمادى الآخرة، طرق الأمير سودوب الجامع بعد العشاء الآخرة والوقت صيف، وقبض على جماعة وضربهم في الجامع، وكان قد جاء معه من الأعوان والغلمان