الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذي بالصحراء عند الجاروديّ، ثم جدّده الحاكم وزاد فيه وجعل له قبة، وذلك في سنة ثلاث وأربعمائة، وكان أمراء مصر إذا خرجوا إلى صلاة العيد بالمصلّى أوقفوا جيشا في سفح الجبل مما يلي بركة الحبش، ليراعي الناس حتى ينصرفوا من الصلاة، خوفا من البجة. فإنهم قدموا غير مرّة ركبانا على النجب حتى كبسوا الناس في مصلاهم وقتلوا ونهبوا ثم رجعوا من حيث أتوا، فخرج عبد الحميد بن عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب غضبا لله وللمسلمين مما أصابهم من البجة، فكمن لهم بالصعيد في طريقهم حتى أقبلوا كعادتهم في أخذ الناس في مصلّى العيد، فكبسهم وقتل الأعور رئيسهم بعد ما أقبلوا إلى المصلّى في العيد، في سنة ست وخمسين ومائتين، وأميره مصر أحمد بن طولون على النجب، وكبسوا الناس في مصلّاهم وقتلوا ونهبوا منهم وعادوا سالمين، ثم دخل العمريّ إلى بلاد البجة غازيا، فقتل منهم مقتلة عظيمة وضايقهم في بلادهم إلى أن أعطوه الجزية، ولم يكونوا أعطوا أحدا قبله الجزية، وسار في المسلمين وأهل الذمّة سيرة حسنة، وسالم النوبة إلى أن بدأ النوبة بالغدر في الموضع المعروف بالمريس، فمال عليهم وحاربهم وخرّب ديارهم وسبى منهم عالما كثيرا، حتى كان الرجل من أصحابه يبتاع الحاجة من الزيات والبقال بنوبيّ أو نوبية لكثرتهم معهم، فجاؤا إلى أحمد بن طولون وشكوا له من العمريّ، فبعث إليه جيشا ليحاربه، فأوقع بالجيش وهزمهم، وكانت لهم أنباء وقصص إلى أن قتله غلامان من أصحابه وأحضرا رأسه إلى أحمد بن طولون، فأنكر فعلهما وضرب أعناقهما وغسل الرأس ودفنه.
ذكر المساجد والمعابد التي بالجبل والصحراء
وكان بجبل المقطم وبالصحراء التي تعرف اليوم بالقرافة الصغرى عدّة مساجد وعدّة مغاير، ينقطع العباد بها، ومنها ما قد دثر ومنه شيء قد بقي أثره.
مسجد التنور: هذا المسجد في أعلى جبل المقطم من وراء قلعة الجبل في شرقيها، أدركته عامرا وفيه من يقيم به. قال القضاعيّ: المسجد المعروف بالتنور بالجبل، هو موضع تنور فرعون، كان يوقد له عليه، فإذا رأوا النار عملوا بركوبه فاتخذوا له ما يريد، وكذلك إذا ركب منصرفا من عين شمس. ثم بناه أحمد بن طولون مسجدا في صفر سنة تسع وخمسين ومائتين، ووجدت في كتاب قديم أنّ يهودا بن يعقوب أخا يوسف عليه السلام، لما دخل مع إخوته على يوسف وجرى من أمر الصواع ما جرى، تأخر عن إخوته وأقام في ذروة الجبل المقطم في هذا المكان، وكان مقابلا لتنور فرعون الذي كان يوقد له فيه النار. ثم خلا ذلك الموضع إلى زمن أحمد بن طولون، فأخبر بفضل الموضع وبمقام يهودا فيه، فابتنى فيه هذا المسجد والمنارة التي فيه، وجعل فيه صهريجا فيه الماء، وجعل الإنفاق عليه مما وقفه على البيمارستان بمصر والعين التي بالمغافر وغير ذلك. ويقال أنّ تنور فرعون لم يزل في هذا
الموضع بحاله إلى أن خرج إليه قائد من قوّاد أحمد بن طولون يقال له وصيف قاطرميز، فهدمه وحفر تحته، وقدّر أن تحته مالا فلم يجد فيه شيئا، وزال رسم التنور وذهب، وأنشد أبو عمرو الكنديّ في كتاب أمراء مصر من أبيات لسعيد القاضي:
وتنور فرعون الذي فوق قلة
…
على جبل عال على شاهق وعر
بنى مسجدا فيه يروق بناءه
…
ويهدى به في الليل إن ضلّ من يسري
تخال سنا قنديله وضياءه
…
سهيلا إذا ما لاح في الليل للسفر
القرقوبيّ: قال القضاعيّ المسجد المعروف بالقرقوبيّ، هو على قرنة الجبل المطل على كهف السودان، بناه أبو الحسن القرقوبيّ الشاهد، وكيل التجار بمصر، في سنة خمس عشرة وأربعمائة، وكان في موضعه محراب حجارة يعرف بمحراب ابن الفقاعيّ الرجل الصالح، وهو على يسار المحراب.
مسجد أمير الأمراء: رفق المستنصريّ على قرنة الجبل البحرية المطلة على وادي مسجد موسى عليه السلام.
كهف السودان: مغار في الجبل لا يعلم من أحدثه، ويقال أن قوما من السودان نقروه فنسب إليهم، وكان صغيرا مظلما، فبناه الأحدب الأندلسيّ القزاز، وزاد في سفله مواضع نقرها، وبنى علوه. ويقال أنه أنفق فيه أكثر من ألف دينار، ووسع المجاز الذي يسلك منه إليه، وعمل الدرج النقر التي يصعد عليها إليه، وبدأ في بنيانه مستهل سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، وفرغ منه في شعبان من هذه السنة.
العارض: هذا المكان مغارة في الجبل، عرفت بأبي بكر محمد جدّ مسلم القاري، لأنه نقرها، ثم عمرت بأمر الحاكم بأمر الله، وأنشئت فيها منارة هي باقية إلى اليوم، وتحت العارض قبر الشيخ العارف عمر بن الفارض رحمه الله، ولله در القائل:
جزبا لقرافة تحت ذيل العارض
…
وقل السلام عليك يا ابن الفارض
وقد ذكر القضاعيّ أربع عشرة مغارة في الجبل، منها. ما هو باق، وليس في ذكرها فائدة.
اللؤلؤة: هذا المكان مسجد في سفح الجبل منها. باق إلى يومنا هذا، كان مسجدا خرابا، فبناه الحاكم بأمر الله وسماه اللؤلؤة، قيل كان بناؤه في سنة ست وأربعمائة، وهو بناء حسن.
مسجد الهرعاء: فيما بين اللؤلؤة ومسجد محمود، وهو مسجد قديم يتبرّك بالصلاة فيه، وقد ذكر مسجد محمود عند ذكر الجوامع من هذا الكتاب، لأنه تقام فيه الجمعة.
دكة القضاة: قال القضاعيّ: هي دكة مرتفعة عن المساجد في الجبل، كان القضاة بمصر يخرجون إليها لنظر الأهلّة كل سنة، ثم بني عليها مسجد.
مسجد فائق: مولى خمارويه بن أحمد بن طولون، كان في سفح الجبل مما يلي طريق مسجد موسى عليه السلام.
مسجد موسى: بناه الوزير أبو الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات.
مسجد زهرون بالصحراء: هو مسجد أبي محمد الحسن بن عمر الخولانيّ، ثم عرف بابن المبيض، وكان زهرون قيمه فنسب إليه.
مسجد الفقاعيّ: هو أبو الحسن عليّ بن الحسن بن عبد الله، كان أبوه فقاعيا «1» بمصر، وهو مسجد كبير بناه كافور الإخشيديّ، ثم جدّده وزاد فيه مسعود بن محمد صاحب الوزير أبي القاسم عليّ بن أحمد الجرجرايّ، وكان في وسط هذا المسجد محراب مبنيّ بطوب يقال أنه من بناء حاطب بن أبي بلتعة رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس، ويقال أنه أوّل محراب اختط في مصر، وكان أبو الحسن التميميّ قد زاد فيه ببناء قبل ذلك.
مسجد الكنز: هذا المسجد كان شرقيّ الخندق وبحريّ قبر ذي النون المصريّ، وكان مسجدا صغيرا يعرف بالزمام، ومات قبل تمامه، فهدمه أبو طاهر محمد بن عليّ القرشيّ القرقوبيّ ووسعه وبناه، وحكي أنه لما هدمه رأى قائلا يقول في المنام: على أذرع من هذا المسجد كنز، فاستيقظ وقال: هذا من الشيطان، فرأى هذا القائل ثلاث مرّات، فلما أصبح أمر بحفر الموضع فإذا فيه قبر، وظهر له لوح كبير تحته ميت في لحد كأعظم ما يكون من الناس جثة ورأسا، وأكفانه طرية لم يبل منها إلا ما يلي جمجمة الرأس، فإنه رأى شعر رأسه قد خرج من الكفن، وإذا له جمة، فراعه ما رأى وقال: هذا هو الكنز بلا شك، وأمر بإعادة اللوح والتراب كما كان، وأخرج القبر عن سائر الحيطان، وأبرزه للناس فصار يزار ويتبرّك به.
مسجد في غربيّ الخندق: أنشأه أبو الحسن بن النجار الزيات في سنة إحدى وأربعين وأربعمائة.
مسجد لؤلؤ الحاجب: بالقرافة الصغرى، بنى بجانبه مقبرة، وحفر عندها بئرا حتى انتهى الحفار إلى قرب الماء، فقال الحفار: إني أجد في البئر شيئا كأنه حجر. فقال له لؤلؤ تسبب في قلعه، فلما قلعه فار الماء وأخرجه، وإذا هو اسطام مركب، وهو الخشبة التي تبنى عليها السفينة، وهذا يصدّق ما قاله أرسطاطاليس في كتاب الآثار العلوية، قال: إن أهل مصر يسكنون فيما انحسر عنه البحر الأحمر، يعني بحر الشام، وقد ذكر خبر لؤلؤ هذا عند ذكر حمام لؤلؤ.
مقام المؤمن: قيل أنه مؤمن آل فرعون، لأنه أقام فيه، وهذا بعيد من الصحة.
قناطر ابن طولون وبئره: هذه القناطر قائمة إلى اليوم من بئر أحمد بن طولون التي عند بركة الحبش، وتعرف هذه البئر عندنا ببئر عفصة، ولا تزال هذه القناطر إلى أثناء القرافة الكبرى، ومن هناك خفيت لتهدّمها، وهي من أعظم المباني.
قال القضاعيّ: قناطر أحمد بن طولون وبئره بظاهر المغافر، كان السبب في بنائها هذه القناطر أن أحمد بن طولون ركب فمرّ بمسجد الأقدام وحده، وتقدّم عسكره وقد كدّه العطش، وكان في المسجد خياط فقال: يا خياط أعندك ماء؟ فقال: نعم. فأخرج له كوزا فيه ماء وقال: اشرب ولا تمدّ، يعني لا تشرب كثيرا، فتبسم أحمد بن طولون وشرب فمدّ فيه حتى شرب أكثره، ثم ناوله إياه وقال: يا فتى سقيتنا وقلت لا تمدّ. فقال: نعم، أعزك الله، موضعنا ههنا منقطع، وإنما أخيط جمعتي حتى أجمع ثمن راوية. فقال هل:
والماء عندكم ههنا معوز؟ فقال: نعم. فمضى أحمد بن طولون، فلما حصل في داره قال:
جيؤني بخياط في مسجد الأقدام. فما كان بأسرع من أن جاؤوا به، فلما رأه قال: سر مع المهندسين حتى يخطّوا عندك موضع سقاية ويجروا الماء، وهذه ألف دينار خذها، وابتدأ في الأنفاق وأجرى على الخياط في كلّ شهر عشرة دنانير وقال له: بشرني ساعة يجري الماء فيها، فجدّوا في العمل، فلمّا جرى الماء أتاه مبشرا، فخلع عليه وحمله واشترى له دارا يسكنها، وأجرى عليه الرزق السنيّ الدارّ، وكان قد أشير عليه بأن يجري الماء من عين أبي خليد المعروفة بالنعش. فقال: هذه العين لا تعرف أبدا إلّا بأبي خليد، وإني أريد أن أستنبط بئرا، فعدل عن العين إلى الشرق فاستنبط بئره هذه وبنى عليها القناطر، وأجرى الماء إلى الفسقية التي بقرب درب سالم.
وقال جامع السيرة الطولونية: وأما رغبته في أبواب الخير فكانت ظاهرة بينة واضحة، فمن ذلك بناء الجامع والبيمارستان، ثم العين التي بناها بالمغافر، وبناها بنية صحيحة ورغبة قوية حتى أنها ليس لها نظير، ولهذا اجتهد المادرانيون وأنفقوا الأموال الخطيرة ليحكوها، فأعجزهم ذلك لأنها وقعت في موضع جيرانه كلهم محتاجون إليها، وهي مفتوحة طول النهار لمن كشف وجهه للأخذ منها، ولمن كان له غلام أو جارية، والليل للفقراء والمساكين، فهي حياة ومعونة. واتخذ لها مستغلا فيه فضل وكفاية لمصالحها، والذي تولى لأحمد بن طولون بناء هذه العين رجل نصرانيّ حسن الهندسة حاذق بها، وإنه دخل إلى أحمد بن طولون في عشية من العشايا فقال له: إذا فرغت مما تحتاج إليه فأعلمني لنركب إليها فنراها، فقال: يركب الأمير إليها في غد، فقد فرغت، وتقدّم النصرانيّ فرأى موضعا بها يحتاج إلى قصرية جير وأربع طوبات، فبادر إلى عمل ذلك، وأقبل أحمد بن طولون يتأمّل العين فاستحسن جميع ما شاهده فيها، ثم أقبل إلى الموضع الذي فيه قصرية الجير
فوقف بالاتفاق عليها، فلرطوبة الجير غاصت يد الفرس فيه فكبا بأحمد، ولسوء ظنه قدّر أنّ ذلك لمكروه أراده به النصرانيّ، فأمر به فشق عنه ما عليه من الثياب وضربه خمسمائة سوط، وأمر به إلى المطبق، وكان المسكين يتوقع من الجائزة مثل ذلك دنانير، فاتفق له اتفاق سوء. وانصرف أحمد بن طولون وأقام النصرانيّ إلى أن أراد أحمد بن طولون بناء الجامع، فقدّر له ثلاثمائة عمود فقيل له ما تجدها، أو تنفذ إلى الكنائس في الأرياف والضياع الخراب، فتحمل ذلك. فأنكره ولم يختره، وتعذب قلبه بالفكر في أمره، وبلغ النصرانيّ وهو في المطبق الخبر، فكتب إليه: أنا أبنيه لك كما تحب وتختار بلا عمد إلّا عمودي القبلة، فأحضره وقد طال شعره حتى تدلى على وجهه، فبناه.
قال: ولما بنى أحمد بن طولون هذه السقاية بلغه أن قوما لا يستحلون شرب مائها، قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم الفقيه: كنت ليلة في داري إذ طرقت بخادم من خدّام أحمد بن طولون فقال لي: الأمير يدعوك، فركبت مذعورا مرعوبا، فعدل بي عن الطريق فقلت: أين تذهب بي، فقال: إلى الصحراء والأمير فيها. فأيقنت بالهلاك وقلت للخادم:
الله الله فيّ، فإني شيخ كبير ضعيف مسنّ، فتدري ما يراد مني فارحمني. فقال لي: احذر أن يكون لك في السقاية قول. وسرت معه وإذا بالمشاعل في الصحراء وأحمد بن طولون راكب على باب السقاية وبين يديه الشمع، فنزلت وسلمت عليه فلم يردّ عليّ، فقلت: أيّها الأمير إنّ الرسول أعنتني وكدّني وقد عطشت فيأذن لي الأمير في الشرب، فأراد الغلمان أن يسقوني فقلت: أنا آخذ لنفسي، فاستقيت وهو يراني، وشربت وازددت في الشرب حتى كدت أنشق ثم قلت: أيها الأمير سقاك الله من أنهار الجنة، فلقد أرويت وأغنيت، ولا أدري ما أصف أطيب الماء، في حلاوته وبرده أم صفاءه أم طيب ريح السقاية، قال: فنظر إليّ وقال:
أريدك لأمر وليس هذا وقته، فاصرفوه. فصرفت. فقال لي الخادم: أصبت. فقلت:
أحسن الله جزاءك، فلو لاك لهلكت. وكان مبلغ النفقة على هذه العين في بنائها ومستغلها أربعين ألف دينار، وأنشد أبو عمرو الكنديّ في كتاب الأمراء لسعيد القاص أبياتا في رثاء دولة بني طولون، منها في العين والسقاية:
وعين معين الشرب عين زكية
…
وعين أجاج للرّواة وللطهر
كأنّ وفود النيل في جنباتها
…
تروح وتغدو بين مدّ إلى جزر
فأرك بها مستنبطا لمعينها
…
من الأرض من بطن عميق إلى ظهر
بناء لو أنّ الجنّ جاءت بمثله
…
لقيل لقد جاءت بمستفظع نكر
يمرّ على أرض المغافر كلها
…
وشعبان والأحمور والحيّ من بشر
قبائل لا نوء السحاب يمدّها
…
ولا النيل يرويها ولا جدول يجري
وقال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ النسابة في كتاب الجوهر المكنون في ذكر
القبائل والبطون: سريع فخذ من الأشعريين، هم ولد سريع بن ماتع من بني الأشعر بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وهم رهط أبي قبيل التابعيّ، الذي خطته اليوم الكوم، شرقيّ قناطر سقاية أحمد بن طولون، المعروفة بعفصة الكبيرة بالقرافة.
الخندق: هذا الخندق كان بقرافة مصر، قد دثر، وعلى شفيره الغربيّ قبر الإمام الشافعيّ رضي الله عنه، وكان من النيل إلى الجبل، حفر مرّتين، مرّة في زمن مروان بن الحكم، ومرّة في خلافة الأمين محمد بن هارون الرشيد. ثم حفره أيضا القائد جوهر. قال القضاعيّ: الخندق هو الخندق الذي في شرقيّ الفسطاط في المقابر، كان الذي أثار حفره مسير مروان بن الحكم إلى مصر، وذلك في سنة خمس وستين، وعلى مصر يومئذ عبد الرحمن بن عقبة بن جحدم الفهريّ، من قبل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه. فلما بلغه مسير مروان إلى مصر أعدّ واستعدّ وشاور الجند في أمره، فأشاروا عليه بحفر الخندق، والذي أشار به عليه ربيعة بن حبيش الصدفيّ، فأمر ابن جحدم بإحضار المحاريث من الكور لحفر الخندق على الفسطاط، فلم تبق قرية من قرى مصر إلا حضر من أهلها النفر، وكان ابتداء حفره غرّة المحرّم سنة خمس وستين، فما كان شيء أسرع من فراغهم منه، حفروه في شهر واحد. وكانت الحرب من ورائه يغدون إليها ويروحون، فسميت تلك الأيام أيام الخندق والتراويح، لرواحهم إلى القتال، وكانت المغافر أكثر قبائل أهل مصر عددا، كانوا عشرين ألفا، ونزل مروان عين شمس لعشر خلون من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين، في اثني عشر ألفا، وقيل في عشرين ألفا، فخرج أهل مصر إلى مروان فحاربوه يوما واحدا بعين شمس، ثم تحاجزوا ورجع أهل مصر إلى خندقهم فتحصنوا به، وصحبتهم جيوش مروان على باب الخندق، فاصطف أهل مصر على الخندق، فكانوا يخرجون إلى أصحاب مروان فيقاتلونهم نوبا نوبا، وأقاموا على ذلك عشرة أيام ومروان مقيم بعين شمس، وكتب مروان إلى شيعته من أهل مصر، كريب بن أبرهة بن الصباح الحميريّ، وزياد بن حناطة التجيبيّ، وعابس بن سعيد المراديّ يقول: إنكم ضمنتم لي ضمانا لم تقوموا به، وقد طالت الأيام والممانعة، فقام كريب وزياد وعابس إلى ابن جحدم فقالوا له: أيّها الأمير إنه لا قوام لنا بما ترى، وقد رأينا أن نسعى في الصلح بينك وبين مروان وقد مل الناس الحرب وكرهوها، وقد خفنا أن يسلمك الناس إلى مروان فيكون محكما فيك، فقال: ومن لي بذلك؟ فقال كريب:
أنا لك به، فسعى كريب وصاحبناه في الصلح على أمان كتبه مروان لأهل مصر وغيرهم ممن شرب ماء النيل، وعلى أن يسلم لابن جحدم من بيت المال عشرة آلاف دينار، وثلاثمائة ثوب بقطرية، ومائة ريطة، وعشرة أفراس، وعشرين بغلا، وخمسين بعيرا. فتم الصلح على ذلك، ودخل مروان الفسطاط مستهل جمادى الأولى سنة خمس وستين، فنزل دار الفلفل ودفع إلى ابن جحدم جميع ما صالحه عليه، وسار ابن جحدم إلى الحجاز ولم يلق كلّ واحد
منهما الآخر، وتفرّق المصريون وأخذوا في دفن قتلاهم والبكاء عليهم، فسمع مروان البكاء فقال: ما هذه النوادب؟ فقيل: على القتلى. قال: لا أسمع نائحة تنوح إلّا أحللت بمن هي في داره العقوبة. فسكتن عند ذلك ودفن أهل مصر قتلاهم فيما بين الخندق والمقطم، وهي المقابر التي يسميها المصريون مقابر الشهداء، ودفن أهل الشام قتلاهم فيما بين الخندق ومنية الأصبغ، وكان قتلى أهل مصر ما بين الستمائة إلى السبعمائة، وقتلى أهل الشام نحو الثلاثمائة، ولما برز مروان من الفسطاط سائرا إلى الشام، سمع وجبة النساء يندبن قتلاهنّ، قال: ويحهن ما هذا؟ قالوا: النساء على مقابرهنّ يندبن قتلاهنّ، فعرّج عليهنّ، فأمر بالانصراف. قالوا: كذا هنّ كلّ يوم. قال: فامنعوهنّ إلّا من سبب، وخرج مروان من مصر إلى الشام لهلال رجب سنة خمس وستين، وكان مقامه بالفسطاط شهرين، واستخلف ابنه عبد العزيز على مصر، وضم إليه بشر بن مروان، وكان حدثا، ثم ولي عبد الملك بشرا بعد ذلك البصرة، قال: ثم دثر هذا الخندق إلى أيام خلع الأمين بمصر وبيعة المأمون، وولى البلد عباد بن محمد بن حبان مولى كندة من قبل المأمون، فكتب الأمين بمصر إلى أهل الحوفين في القيام ببيعته وقتال: عباد وأهل مصر. فتجمع أهل الحوف لذلك واستعدّوا، وبلغ أهل مصر فأشاروا على عباد بحفر الخندق، فحفروا خندقا من النيل إلى الجبل واحتفروا هذا الخندق العتيق، فكان القتال عليه أياما متفرّقة إلى أن قتل الأمين وتمت بيعة المأمون، ثم لم يحفر بعد ذلك إلى يومنا هذا.
وذكر ابن زولاق أن القائد جوهرا لما اختط القاهرة وكثر الإرجاف بمسير القرامطة إلى مصر، حفر خندق السريّ بن الحكم بباب مدينة مصر، وعمل عليه بابا في ذي القعدة سنة ستين وثلاثمائة، وحفر خندقا في وسط مقبرة مصر، وهو الخندق الذي حفره ابن جحدم، ابتدأ حفره من بركة الحبش حتى وصله بخندق عبد الرحمن بن جحدم، حتى بلغ به قبر محمد بن إدريس الشافعيّ، ثم حفر من الجبل إلى أن وصل الخندق ابن جحدم وسط المقابر، وبدأ به يوم السبت التاسع من شوّال سنة إحدى وستين وثلاثمائة، وفرغ منه في مدّة يسيرة.
القباب السبع: هذه القباب بآخر القرافة الكبرى مما يلي مدينة مصر. قال ابن سعيد في كتاب المغرب: والقباب السبع المشهورة بظاهر الفسطاط، هي مشاهد على سبعة من بني المغربيّ قتلهم الخليفة الحاكم بعد فرار الوزير أبي القاسم الحسين بن عليّ بن المغربيّ إلى أبي الفتوح حسن بن جعفر بمكة، وفي ذلك يقول أبو القاسم بن المغربيّ:
إذا شئت أن ترنو إلى الطّف باكيا
…
فدونك فانظر، نحو أرض المقطّم
تجد من رجال المغربيّ عصابة
…
مضمّخة الأجسام من حلل الدّم
فكم تركوا محراب آي معطّل
…
وكم تركوا من سورة لم تختم