الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وغوغاء العامّة ومن يريد النهب جماعة، فحلّ بمن كان في الجامع أنواع البلاء، ووقع فيهم النهب، فأخذت فرشهم وعمائمهم، وفتشت أوساطهم وسلبوا ما كان مربوطا عليها من ذهب وفضة، وعمل ثوبا أسود للمنبر وعلمين مزوّقين، بلغت النفقة على ذلك خمسة عشر ألف درهم، على ما بلغني، فعاجل الله الأمير سودوب وقبض عليه السلطان في شهر رمضان وسجنه بدمشق.
جامع الحاكم
هذا الجامع بني خارج باب الفتوح، أحد أبواب القاهرة، وأوّل من أسسه أمير المؤمنين العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله معدّ، وخطب فيه وصلّي بالناس الجمعة، ثم أكمله ابنه الحاكم بأمر الله. فما وسّع أمير الجيوش بدر الجماليّ القاهرة وجعل أبوابها حيث هي اليوم، صار جامع الحاكم داخل القاهرة، وكان يعرف أوّلا بجامع الخطبة، ويعرف اليوم بجامع الحاكم، ويقال له الجامع الأنور.
قال الأمير مختار عز الملك محمد بن عبيد الله بن أحمد المسبحيّ في تاريخ مصر:
وفيه يعني شهر رمضان، سنة ثمانين وثلاثمائة خط أساس الجامع الجديد بالقاهرة مما يلي باب الفتوح من خارجه، وبديء بالبناء فيه، وتحلق فيه الفقهاء الذين يتحلقون في جامع القاهرة، يعني الجامع الأزهر، وخطب فيه العزيز بالله. وقال في حوادث سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة لأربع خلون من شهر رمضان، صلّى العزيز بالله في جامعه صلاة الجمعة، وخطب، وكان في مسيره بين يديه أكثر من ثلاثة آلاف، وعليه طيلسان وبيده القضيب، وفي رجله الحذاء. وركب لصلاة الجمعة في رمضان سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة إلى جامعه ومعه ابنه منصور، فجعلت المظلة على منصور وسار العزيز بغير مظلة.
وقال في حوادث سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة: وأمر الحاكم بأمر الله أن يتم بناء الجامع الذي كان الوزير يعقوب بن كلس بدأ في بنيانه عند باب الفتوح، فقدّر للنفقة عليه أربعون ألف دينار، فابتدىء في العمل فيه. وفي صفر سنة إحدى وأربعمائة زيد في منارة جامع باب الفتوح، وعمل لها أركان طول كلّ ركن مائة ذراع، وفي سنة ثلاث وأربعمائة أمر الحاكم بأمر الله بعمل تقدير ما يحتاج إليه جامع باب الفتوح من الحصر والقناديل والسلاسل، فكان تكسير ما ذرع للحصر ستة وثلاثين ألف ذراع، فبلغت النفقة على ذلك خمسة آلاف دينار.
قال: وتمّ بناء الجامع الجديد بباب الفتوح، وعلّق على سائر أبوابه ستور ديبقية عملت له، وعلّق فيه تنانير فضة عدّتها أربع، وكثير من قناديل فضة، وفرش جميعه بالحصر التي عملت له، ونصب فيه المنبر وتكامل فرشه وتعليقه، وأذن في ليلة الجمعة سادس شهر رمضان سنة ثلاث وأربعمائة لمن بات في الجامع الأزهر أن يمضوا إليه، فمضوا. وصار
الناس طول ليلتهم يمشون من كلّ واحد من الجامعين إلى الآخر بغير مانع لهم، ولا اعتراض من أحد من عسس القصر، ولا أصحاب الطوف إلى الصبح. وصلّى فيه الحاكم بأمر الله بالناس صلاة الجمعة، وهي أوّل صلاة أقيمت فيه بعد فراغه. وفي ذي القعدة سنة أربع وأربعمائة حبس الحاكم عدّة قياسر وأملاك على الجامع الحاكميّ بباب الفتوح. قال ابن عبد الظاهر: وعلى باب الجامع الحاكميّ مكتوب أنّه أمر بعمله الحاكم أبو عليّ المنصور في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، وعلى منبره مكتوب أنه أمر بعمل هذا المنبر للجامع الحاكميّ المنشأ بظاهر باب الفتوح في سنة ثلاث وأربعمائة، ورأيت في سيرة الحاكم، وفي يوم الجمعة أقيمت الجمعة في الجامع الذي كان الوزير أنشأه بباب الفتوح. ورأيت في سيرة الوزير المذكور، في يوم الأحد عاشر رمضان سنة تسع وسبعين وثلاثمائة خط أساس الجامع الجديد بالقاهرة خارج الطابية مما يلي باب الفتوح. قال: وكان هذا الجامع خارج القاهرة، فجدّد بعد ذلك باب الفتوح، وعلى البدنة التي تجاور باب الفتوح وبعض البرج مكتوب: إنّ ذلك بني سنة ثلاثين وأربعمائة في زمن المستنصر بالله، ووزارة أمير الجيوش، فيكون بينهما سبع وثمانون سنة. قال: والفسقية وسط الجامع بناها الصاحب عبد الله بن عليّ بن شكر وأجرى الماء إليها، وأزالها القاضي تاج الدين بن شكر، وهو قاضي القضاة في سنة ستين وستمائة، والزيادة التي إلى جانبه قيل إنها بناء ولده الظاهر عليّ ولم يكملها، وكان قد حبس فيها الفرنج فعملوا فيها كنائس، هدمها الملك الناصر صلاح الدين، وكان قد تغلب عليها وبنيت إصطبلات. وبلغني أنها كانت في الأيام المتقدّمة قد جعلت أهراء للغلال.
فلما كان في الأيام الصالحية ووزارة معين الدين حسن بن شيخ الشيوخ للملك الصالح أيوب ولد الكامل، ثبت عند الحاكم أنها من الجامع، وأن بها محرابا، فانتزعت وأخرج الخيل منها وبني فيها ما هو الآن في الأيام المعزية على يد الركن الصيرفيّ، ولم يسقف. ثم جدّد هذا الجامع في سنة ثلاث وسبعمائة. وذلك أنه لما كان يوم الخميس ثالث عشري ذي الحجة سنة اثنتين وسبعمائة، تزلزلت أرض مصر والقاهرة وأعمالهما ورجل كلّ ما عليهما واهتز، وسمع للحيطان قعقعة، وللسقوف قرقعة، ومارت الأرض بما عليها وخرجت عن مكانها، وتخيل الناس أن السماء قد انطبقت على الأرض، فهربوا من أماكنهم وخرجوا عن مساكنهم، وبرزت النساء حاسرات، وكثر الصراخ والعويل، وانتشرت الخلائق فلم يقدر أحد على السكون والقرار لكثرة ما سقط من الحيطان، وخرّ من السقوف والمآذن وغير ذلك من الأبنية، وفاض ماء النيل فيضا غير المعتاد، وألقى ما كان عليه من المراكب التي بالساحل قدر رمية سهم، وانحسر عنها فصارت على الأرض بغير ماء، واجتمع العالم في الصحراء خارج القاهرة وباتوا ظاهر باب البحر بحرمهم وأولادهم في الخيم، وخلت المدينة وتشعثت جميع البيوت حتى لم يسلم ولا بيت من سقوط أو تسقط أو ميل، وقام الناس في الجوامع يبتهلون ويسألون الله سبحانه طول يوم الخميس وليلة الجمعة ويوم الجمعة.
فكان مما تهدّم في هذه الزلزلة: الجامع الحاكميّ، فإنه سقط كثير من البدنات التي فيه، وخرب أعالي المئذنتين، وتشعثت سقوفه وجدرانه، فانتدب لذلك الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير ونزل إليه ومعه القضاة والأمراء، فكشفه بنفسه وأمر برمّ ما تهدّم منه، وإعادة ما سقط من البدنات. فأعيدت وفي كلّ بدنة منها طاق، وأقام سقوف الجامع وبيّضه حتى عاد جديدا، وجعل له عدّة أوقاف بناحية الجيزة وفي الصعيد وفي الإسكندرية، تغلّ كلّ سنة شيئا كثيرا، ورتب فيه دروسا أربعة لإقراء الفقه على مذاهب الأئمة الأربعة، ودرسا لإقراء الحديث النبويّ، وجعل لكل درس مدرّسا وعدة كثيرة من الطلبة، فرتّب في تدريس الشافعية قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعيّ، وفي تدريس الحنفية قاضي القضاة شمس الدين أحمد السروجيّ الحنفيّ، وفي تدريس المالكية قاضي القضاة زين الدين عليّ بن مخلوف المالكيّ، وفي تدريس الحنابلة قاضي القضاة شرف الدين الجوّانيّ، وفي درس الحديث الشيخ سعد الدين مسعودا الحارثيّ، وفي درس النحو الشيخ أثير الدين أبا حيان، وفي درس القراءات السبع الشيخ نور الدين الشطنوفيّ، وفي التصدير لإفادة العلوم علاء الدين عليّ بن إسماعيل القونويّ، وفي مشيخة الميعاد المجد عيسى بن الخشاب، وعمل فيه خزانة كتب جليلة، وجعل فيه عدّة متصدّرين لتلقين القرآن الكريم، وعدّة قرّاء يتناوبون قراءة القرآن، ومعلما يقرئ أيتام المسلمين كتاب الله عز وجل، وحفر فيه صهريجا بصحن الجامع ليملأ في كل سنة من ماء النيل، ويسبل منه الماء في كلّ يوم ويستقي منه الناس يوم الجمعة، وأجرى على جميع من قرّره فيه معاليم داره، وهذه الأوقاف باقية إلى اليوم، إلّا أن أحوالها اختلت كما اختلّ غيرها، فكان ما أنفق عليه زيادة على أربعين ألف دينار.
وجرى في بنائه لهذا الجامع أمر يتعجب منه، وهو ما حدّثني به شيخنا الشيخ المعروف المسند المعمر أبو عبد الله محمد بن ضرغام بن شكر المقري بمكة، في سنة سبع وثمانين وسبعمائة قال: أخبرني من حضر عمارة الأمير بيبرس للجامع الحاكميّ عند سقوطه في سنة الزلزلة، أنّه لما شرع البناة في ترميم ما وهي من المئذنة التي هي من جهة باب الفتوح، ظهر لهم صندوق في تضاعيف البنيان، فأخرجه الموكل بالعمارة وفتحه، فإذا فيه قطن ملفوف على كف إنسان بزنده وعليه أسطر مكتوبة لم يدر ما هي، والكف طرية كأنها قريبة عهد بالقطع، ثم رأيت هذه الحكاية بخط مؤلف السيرة الناصرية موسى بن محمد بن يحيى، أحد مقدّمي الحلقة. ثم جدّد هذا الجامع وبلط جميعه في أيام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون في ولايته الثانية، على يد الشيخ قطب الدين محمد الهرماس في سنة ستين وسبعمائة، ووقف قطعة أرض على الهرماس وأولاده، وعلى زيادة في معلوم الإمام بالجامع، وعلى ما يحتاج إليه في زيت الوقود ومرمّة في سقفه وجدرانه، وجرى في عمارة الجامع على يد الهرماس ما حدّثني به الشيخ المعمر شمس الدين محمد بن عليّ إمام
الجامع الطيبرسيّ بشاطئ النيل، قال: أخبرني محمد بن عمر البوصيريّ قال: حدّثنا قطب الدين محمد الهرماس، أنه رأى بالجامع الحاكميّ حجرا ظهر من مكان قد سقط منقوش عليه هذه الأبيات الخمسة:
إنّ الذي أسررت مكنون اسمه
…
وكتمته كيما أفوز بوصله
مال له جذر تساوى في الهجا
…
طرفاه يضرب بعضه في مثله
فيصير ذاك المال إلّا أنّه
…
في النصف منه تصاب أحرف كله
وإذا نطقت بربعه متكلما
…
من بعد أوّله نطقت بكله
لا نقط فيه إذا تكامل عدّه
…
فيصير منقوطا بجملة شكله
قال وهذه الأبيات لغز في الحجر المكرّم.
وقال العلامة شمس الدين محمد بن النقاش في كتاب العبر في أخبار من مضى وغبر:
وفي هذه السنة، يعني سنة إحدى وستين وسبعمائة، صودر الهرماس وهدمت داره التي بناها أمام الجامع الحاكميّ، وضرب ونفي هو وولده. فلما كان يوم الثلاثاء التاسع والعشرون من ذي القعدة استفتى السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون في وقف حصة طندتا، وهي الأرض التي كان قد سأله الهرماس أن يقفها على مصالح الجامع الحاكميّ فعين له خمسمائة وستين فدّانا من طين طندتا، وطلب الموقعين وأمرهم أن يكتبوا صورة وقفها ويحضروه ليشهدوا عليه به، وكان قد تقرّر من شروطه في أوقافه ما قيل أنه رواية عن أبي حنيفة رحمة الله تعالى عليه، من أنّ للواقف أن يشترط في وقفه التغيير والزيادة والنقص وغير ذلك، فأحضر الكركيّ الموقع إليه الكتاب مطويا، فقرأ منه طرّته وخطبته وأوّله، ثم طواه وأعاده إليه مطويا وقال: اشهدوا بما فيه دون قراءة وتأمل، فشهدوا هم بالتفصيل الذي كتبوه وقرّروه مع الهرماس، ولما اطلع السلطان على ذلك بعد نفي الهرماس طلب الكركيّ وسأله عن هذه الواقعة فأجاب بما قد ذكرنا والله أعلم بصحة ذلك. غير أن المعلوم المقرّر أن السلطان ما قصد إلّا مصالح الجامع، نعم سأله أزدمر الخازندار، هل وقفت حصة لطيفة على أولاد الهرماس فإنه قد ذكر ذلك؟ فقال: نعم أنا وقفت عليهم جزأ يسيرا لم أعلم مقداره، وأما التفصيل المذكور في كتاب الوقف فلم أتحققه ولم أطلع عليه، فاستفتى المفتين في هذه الواقعة، فأمّا المفتون كابن عقيل وابن السبكيّ والبلقينيّ والبسطاميّ والهنديّ وابن شيخ الجبل والبغداديّ ونحوهم، فأجابوا ببطلان الحكم المترتب على هذه الشهادة الباطلة، وبطلان التنفيذ، وكان الحنفيّ حكم والبقية نفذوا، وأما الحنفيّ فقال: إنّ الوقف إذا صدر صحيحا على الأوضاع الشرعية فإنه لا يبطل بما قاله الشاهد، وهو جواب عن نفس الواقعة، وأما الشافعيّ فكتب ما مضمونه: إنّ الحنفيّ إن اقتضى مذهبه بطلان ما صححه أوّلا نفذ بطلانه، وحاصل ذلك أن القضاة أجابوا بالصحة، والمفتين أجابوا بالبطلان. فطلب
السلطان المفتين والقضاة، فلم يحضر من الحكام غير نائب الشافعيّ، وهو تاج الدين محمد بن إسحاق بن المناويّ، والقضاة الثلاثة الشافعيّ والحنفيّ والحنبليّ وجدوا مرضى لم يمكنهم الحضور إلى سرياقوس، فإن السلطان كان قد سرح إليها على العادة في كلّ سنة، فجمعهم السلطان في برج من القصر الذي بميدان سرياقوس عشاء الآخرة، وذكر لهم القضية وسألهم عن حكم الله تعالى في الواقعة. فأجاب الجميع بالبطلان، غير المناوي فإنه قال:
مذهب أبي حنيفة أن الشهادة الباطلة إذا اتصل بها الحكم صح ولزم. فصرخت عليه المفتون شافعيهم وحنفيهم. أمّا شافعيهم فإنه قال: ليس هذا مذهبك ولا مذهب الجمهور، ولا هو الراجح في الدليل والنظر. وقال له ابن عقيل: هذا مما ينقض به الحكم لو حكم به حاكم وادّعى قيام الإجماع على ذلك. وقال له سراج الدين البلقينيّ: ليس هذا مذهب أبي حنيفة، ومذهبه في العقود والفسوخ ما ذكرت من أن حكم الحاكم يكون هو المعتمد في التحليل والتحريم، وأمّا الأوقاف ونحوها فحكم الحاكم فيها لا أثر له كمذهب الشافعيّ، وادّعوا أن الإجماع قائم على ذلك، وقاموا على المناويّ في ذلك قومة عظيمة فقال: نحن نحكم بالظاهر. فقالوا له: ما لم يظهر الباطن بخلافه. فقال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: نحن نحكم بالظاهر. قالوا هذا الحديث كذب على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما الحديث الصحيح حديث:«إنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض الحديث» قال المناويّ: الأحكام ما هي بالفتاوى. قالوا له: فبماذا تكون؟ أفي الوجود حكم شرعيّ بغير فتوى من الله ورسوله؟ وكان قد قال في مجلس ابن الدريهم: القائم على نفيس اليهوديّ المدعوّ برأس الجالوت بين اليهود لا يلتفت لقول المفتي. فقيل له: في هذا المجلس ها أنت قد قلت مرّتين أنّ المفتين لا يعتبر قولهم، وأنّ الفتاوى لا يعتدّ بها، وقد أخطأت في ذلك أشدّ الخطأ، وأنبأت عن غاية الجهل، فإن منصب الفتوى أوّل من قام به ربّ العالمين إذ قال في كتابه المبين:
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ
[النساء/ 176] وقال يوسف عليه السلام:
قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ
[يوسف/ 41] وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «قد أفتاني الله ربي فيما استفتيته» وكلّ حكم جاء على سؤال سائل تكفل ببيانه قرآن أو سنة فهو فتوى، والقائم به مفت، فكيف تقول لا يلتفت إلى الفتوى أو إلى المفتين؟ فقال سراج الدين الهنديّ وغيره: هذا كفر، ومذهب أبي حنيفة أن من استخف بالفتوى أو المفتين فهو كافر، فاستدرك نفسه بعد ذلك وقال: لم أرد إلّا أنّ الفتوى إذا خالف المذهب فهي باطلة. قالوا له: وأخطأت في ذلك أيضا، لأنّ الفتوى قد تخالف المذهب المعين ولا تخالف الحق في نفس الأمر. قال: فأردت بالفتوى التي تخالف الحقّ. قالوا: فأطلقت في موضع التقييد وذلك خطأ. فقال السلطان حينئذ: فإذا قدّر هذا وادّعيت أن الفتوى لا أثر لها، فنبطل
المفتين والفتوى من الوجود. فتلكأ وحار وقال: كيف أعمل في هذا؟ فتبين لبعض الحاضرين أنه استشكل المسألة، ولم يتبين له وجهها. فقال: لا شك أنّ مولانا السلطان لم ينكر صدور الوقف، وإنما أنكر المصارف، وأن تكون الجهة التي عينها هي هرماس وشهوده وقضاته، وللسلطان أن يحكم فيها بعلمه، ويبطل ما قرّروه من عند أنفسهم. قال: كيف يحكم لنفسه؟ قيل له: ليس هذا حكما لنفسه، لأنه مقرّ بأصل الوقف، وهو للمستحقين ليس له فيه شيء، وإنما بطل وصف الوقف، وهو المصرف الذي قرّر على غير جهة الوقف، وله أن يوقع الشهادة على نفسه بحكم أن مصرّف هذا الوقف الجهة الفلانية دون الفلانية.
ولم يزالوا يذكرون له أوجها تبين بطلان الوقف إمّا بأصله أو بوصفه إلى أن قال: يبطل بوصفه دون أصله، وأذعن لذلك بعد إتعاب من العلماء. وإزعاج شديد من السلطان في بيان وجوه ذكروها تبين وجه الحق، وأنه إنما وقفه على مصالح الجامع المذكور. وهذا مما لا يشك فيه عاقل ولا يرتاب. فالتفت بعد ذلك وقال للحاضرين: كيف نعمل في إبطاله؟
فقالوا: بما قرّرناه من إشهاد السلطان على نفسه بتفصيل صحيح، وأنه لم يزل كذلك منذ صدر منه الوقف إلى هذا الحدّ، وغير ذلك من الوجوه. فجعل يوهم السلطان أن الشهود الذين شهدوا في هذا الوقف متى بطل هذا الوقف ثبت عليهم التساهل وجرحوا بذلك، وقدح ذلك في عدالتهم، ومتى جرحوا الآن لزم بطلان شهادتهم في الأوقاف المتقدّمة على هذا التاريخ، وخيل بذلك للسلطان حتى ذكر له إجماع المسلمين على أن جرح الشاهد لا ينعطف على ما مضى من شهاداته السالفة ولو كفر، والعياذ بالله، وهذا مما لا خلاف فيه.
ثم استقرّ رأيه على أن يبطله بشاهدين يشهدان أن السلطان لمّا صدر منه هذا الوقف كان قد اشترط لنفسه التغيير والتبديل والزيادة والنقص وقام على ذلك.
قال مؤلفه رحمه الله: انظر تثبت القضاة، وقايس بين هذه الواقعة وما كان من تثبت القاضي تاج الدين المناوي، وهو يومئذ خليفة الحكم ومصادمته الجبال، وبين ما ستقف عليه من التساهل والتناقض في خبر أوقاف مدرسة جمال الدين يوسف الأستادار، وميّز بعقلك فرق ما بين القضيتين. وهذه الأرض التي ذكرت هي الآن بيد أولاد الهرماس بحكم الكتاب الذي حاول السلطان نقضه، فلم يوافق المناويّ. والجامع الآن متهدّم وسقوفه كلها ما من زمن إلّا ويسقط منها الشيء بعد الشيء فلا يعاد، وكانت ميضأة هذا الجامع صغيرة بجوار ميضأته الآن، فيما بينها وبين باب الجامع، وموضعها الآن مخزن تعلوه طبقة عمرها شخص من الباعة يعرف بابن كرسون المراحليّ، وهذه الميضأة الموجودة الآن أحدثت وأنشأ الفسقية التي فيها ابن كرسون في أعوام بضع وثمانين وسبعمائة، وبيّض مئذنتي الجامع، واستجدّ المئذنة التي بأعلى الباب المجاور للمنبر رجل من الباعة، وكملت في جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وثمانمائة، وخرق سقف الجامع حتى صار المؤذنون ينزلون من السطح إلى الدكة التي يكبرون فوقها وراء الإمام.
«هيئة صلاة الجمعة في أيام الخلفاء الفاطميين» قال المسبحيّ: وفي يوم الجمعة غرّة رمضان سنة ثمانين وثلاثمائة ركب العزيز بالله إلى جامع القاهرة بالمظلة المذهبة وبين يديه نحو خمسة آلاف ماش، وبيده القضيب، وعليه الطيلسان والسيف. فخطب وصلّى صلاة الجمعة وانصرف، فأخذ رقاع المتظلمين بيده وقرأ منها عدّة في الطريق، وكان يوما عظيما ذكرته الشعراء. قال ابن الطوير: إذا انقضى ركوب أوّل شهر رمضان استراح في أوّل جمعة، فإذا كانت الثانية ركب الخليفة إلى الجامع الأنور الكبير في هيئة المواسم بالمظلة وما تقدّم ذكره من الآلات، ولباسه فيه ثياب الحرير البيض توقيرا للصلاة من الذهب، والمنديل والطيلسان المقوّر الشعريّ، فيدخل من باب الخطابة والوزير معه بعد أن يتقدّمه في أوائل النهار صاحب بيت المال، وهو المقدّم ذكره في الأستاذين، وبين يديه الفرش المختصة بالخليفة إذا صار إليه في هذا اليوم، وهو محمول بأيدي الفرّاشين المميزين، وهو ملفوف في العراضي الديبقية، فيفرش في المحراب ثلاث طرّاحات أماسامان، أو ديبقيّ أبيض، أحسن ما يكون من صنفهما، كلّ منهما منقوش بالحمرة. فتجعل الطرّاحات متطابقات، ويعلّق ستران يمنة ويسرة، وفي الستر الأيمن كتابة مرقومة بالحرير الأحمر واضحة، منقوطة أوّلها البسملة والفاتحة وسورة الجمعة، وفي الستر الأيسر مثل ذلك، وسورة إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ
قد أسبلا وفرشا في التعليق بجانبي المحراب لاصقين بجسمه، ثم يصعد قاضي القضاة المنبر وفي يده مدخنة لطيفة خيزران يحضرها إليه صاحب بيت المال فيها جمرات، ويجعل فيها ندّ مثلث لا يشمّ مثله إلّا هناك، فيجز الذروة التي عليها الغشاء كالقبة لجلوس الخليفة للخطابة، ويكرّر ذلك ثلاث دفعات، فيأتي الخليفة في هيئة موقرة من الطبل والبوق، وحوالي ركابه خارج أصحاب الركاب القرّاء، وهم قرّاء الحضرة من الجانبين يطرّبون بالقراءة نوبة بعد نوبة، يستفتحون بذلك من ركوبه من الكرسيّ على ما تقدّم طول طريقه إلى قاعة الخطابة من الجامع، ثم تحفظ المقصورة من خارجها بترتيب أصحاب الباب واسفهسلار العساكر، ومن داخلها إلى آخرها صبيان الخاص وغيرهم ممن يجري مجراهم، ومن داخلها من باب خروجه إلى المنبر واحد فواحد، فيجلس في القاعة، وإن احتاج إلى تجديد وضوء فعل، والوزير في مكان آخر، فإذا أذّن بالجمعة دخل إليه قاضي القضاة فقال له: السلام على أمير المؤمنين الشريف القاضي ورحمة الله وبركاته، الصلاة يرحمك الله. فيخرج ماشيا وحواليه الأستاذون المحنكون، والوزير وراءه، ومن يليهم من الخواص وبأيديهم الأسلحة من صبيان الخاص، وهم أمراء وعليهم هذا الاسم، فيصعد المنبر إلى أن يصل إلى الذروة تحت تلك القبة المبخرة، فإذا استوى جالسا والوزير على باب المنبر ووجهه إليه، فيشير إليه بالصعود فيصعد إلى أن يصل إليه، فيقبل يديه ورجليه بحيث يراه الناس، ثم يزرر عليه تلك القبة لأنها كالهودج، ثم ينزل مستقبلا، فيقف ضابطا لباب المنبر، فإن لم يكن ثمّ وزير صاحب سيف، زرّر عليه قاضي القضاة كذلك،
ووقف صاحب الباب ضابطا للمنبر.
فيخطب خطبة قصيرة من مسطور يحضر إليه من ديوان الإنشاء، يقرأ فيها آية من القرآن الكريم، ولقد سمعته مرّة في خطابته بالجامع الأزهر وقد قرأ في خطبته رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ
الآية، ثم يصلي على أبيه وجدّه، يعني بهما محمدا صلى الله عليه وسلم وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ويعظ الناس وعظا بليغا قليل اللفظ، وتشتمل الخطبة على ألفاظ جزلة، ويذكر من سلف من آبائه حتى يصل إلى نفسه فقال: وأنا أسمعه، اللهمّ وأنا عبدك وابن عبدك لا أملك لنفسي ضرّا ولا نفعا، ويتوسل بدعوات فخمة تليق بمثله، ويدعو للوزير إن كان، وللجيوش بالنصر والتأليف، وللعساكر بالظفر وعلى الكافرين، والمخالفين بالهلاك والقهر، ثم يختم بقوله اذكروا الله يذكركم. فيطلع إليه من زرّر عليه ويفك ذلك التزرير وينزل القهقرى، وسبب التزرير عليهم قراءتهم من مسطور لا كعادة الخطباء، فينزل الخليفة ويصير على تلك الطرّاحات الثلاث في المحراب وحده إماما، ويقف الوزير وقاضي القضاة صفا، ومن ورائهما الأستاذون المحنكون والأمراء المطوّقون وأرباب الرتب من أصحاب السيوف والأقلام والمؤذنون وقوف، وظهورهم إلى المقصورة لحفظه، فإذا سمع الوزير الخليفة أسمع القاضي فأسمع القاضي المؤذنين وأسمع المؤذنون الناس، هذا والجامع مشحون بالعالم للصلاة وراءه، فيقرأ ما هو مكتوب في الستر الأيمن في الركعة الأولى، وفي الركعة الثانية ما هو مكتوب في الستر الأيسر، وذلك على طريق التذكار خيفة الارتجاج، فإذا فرغ خرج الناس وركبوا أوّلا فأوّلا وعاد طالبا القصر والوزير وراءه، وضربت البوقات والطبول في العود، فإذا أتت الجمعة الثانية ركب إلى الجامع الأزهر من القشاشين على المنوال الذي ذكرناه والقالب الذي وصفناه، فإذا كانت الجمعة الثالثة أعلم بركوبه إلى مصر للخطابة في جامعها، فيزين له من باب القصر أهل القاهرة إلى جامع ابن طولون، ويزين له أهل مصر من جامع ابن طولون إلى الجامع بمصر، يرتب ذلك والي مصر، كلّ أهل معيشة في مكان، فيظهر المختار من الآلات والستور المثمنات ويهتمون بذلك ثلاثة أيام بلياليهنّ والوالي مارّ وعائد بينهم، وقد ندب من يحفظ الناس ومتاعهم، فيركب يوم الجمعة المذكور شاقا لذلك كله على الشارع الأعظم إلى مسجد عبد الله الخراب اليوم، إلى دار الأنماط إلى الجامع بمصر، فيدخل إليه من المعونة، ومنها باب متصل بقاعة الخطيب بالزيّ الذي تقدّم ذكره في خطبة الجامعين بالقاهرة، وعلى ترتيبهما. فإذا قضى الصلاة عاد إلى القاهرة من طريقه بعينها شاقا بالزينة إلى أن يصل إلى القصر، ويعطى أرباب المساجد التي يمرّ عليها كلّ واحد دينارا.
وقال ابن المأمون: ووصل من الطراز الكسوة المختصة بغرّة شهر رمضان وجمعتيه برسم الخليفة للغرّة بدلة كبيرة موكبية مكملة مذهبة، وبرسم الجامع الأزهر للجمعة الأولى من الشهر بدلة موكبية حرير مكملة منديلها وطيلسانها بياض، وبرسم الجامع الأنور للجمعة