الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مساحتها عشرة آلاف ذراع وجعلت خانقاه، وجعل فيها قبة على قبر السلطان وقبور الفقراء المذكورين، وتجدّد من حينئذ هناك عدّة ترب جليلة، حتى صار الميدان شوارع وأزقة، ونقل الملك الناصر فرج بن برقوق سوق الجمال وسوق الحمير من تحت القلعة إلى تجاه التربة التي عمرها على قبر أبيه، فاستمرّ ذلك أياما في سنة أربع عشرة وثمانمائة، ثم أعيدت الأسواق إلى مكانها، وكان قصده أن يبني هناك خانا كبيرا ينزل فيه المسافرون، ويجعل بجانبه سوقا، وبنى طاحونا وحمّاما وفرنا لتعمر تلك الجهة بالناس، فمات قبل بناء الخان، وخلت الحمّام والطاحون والفرن بعد قتله.
ذكر كنائس اليهود
قال الله عز وجل: لَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً
[الحج/ 40] قال المفسرون: الصوامع للصابئين، والبيع للنصارى، والصلوات كنائس اليهود، والمساجد للمسلمين. قاله ابن قتيبة: والكنيس كلمة عبرانية معناها بالعربية الموضع الذي يجتمع فيه للصلاة، ولهم بديار مصر عدة كنائس، منها كنيسة دموة بالجيزة، وكنيسة جوجر من القرى الغربية، وبمصر الفسطاط كنيسة بخط المصاصة في درب الكرمة، وكنيستان بخط قصر الشمع، وبالقاهرة كنيسة بالجودرية، وفي حارة زويلة خمس كنائس.
كنيسة دموه: هذه الكنيسة أعظم مبعد لليهود بأرض مصر، فإنهم لا يختلفون في أنها الموضع الذي كان يأوى إليه موسى بن عمران صلوات الله عليه، حين كان يبلغ رسالات الله عز وجل إلى فرعون مدّة مقامة بمصر، منذ قدم من مدين إلى أن خرج ببني إسرائيل من مصر. ويزعم يهود أنها بنيت هذا البناء الموجود بعد خراب بيت المقدس الخراب الثاني على يد طيطش ببعض وأربعين سنة، وذلك قبل ظهور الملة الإسلامية بما ينيف على خمسمائة سنة، وبهذه الكنيسة شجرة زيزلخت في غاية الكبر لا يشكون في أنها من زمن موسى عليه السلام، ويقولون أنّ موسى عليه السلام غرس عصاه في موضعها فأنبت الله هناك هذه الشجرة، وأنها لم تزل ذات أغصان نضرة، وساق صاعد في السماء، مع حسن استواء، وثخن في استقامة، إلى أن أنشأ الملك الأشرف شعبان بن حسين مدرسته تحت القلعة، فذكر له حسن هذه الشجرة، فتقدّم بقطعها لينتفع بها في العمارة، فمضوا إلى ما أمروا به من ذلك، فأصبحت وقد تكوّرت وتعقفت وصارت شنيعة المنظر فتركوها، واستمرّت كذلك مدّة، فاتفق أن زني يهودي بيهودية تحتها، فتهدّلت أغصانها وتحاتّ ورقها وجفت حتى لم يبق بها ورقة خضراء، وهي باقية كذلك إلى يومنا هذا ولهذه الكنيسة عيد يرحل اليهود
بأهاليهم إليها في عيد الخطاب، وهو في شهر سيوان، ويجعلون ذلك بدل حجهم إلى القدس، وقد كان لموسى عليه السلام أنباء قد قصها الله تعالى في القرآن الكريم وفي التوراة، وروى أهل الكتاب وعلماء الأخبار من المسلمين كثيرا منها، وسأقص عليك في هذا الموضع منها ما فيه كفاية، إذ كان ذلك من شرط هذا الكتاب.
موسى بن عمران: وفي التوراة عمرام بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله وسلامه عليهم، أمّه يوحانذ بنت لاوي، فهي عمة عمران والد موسى، ولد بمصر في اليوم السابع من شهر آذار سنة ثلاثين ومائة لدخول يعقوب على يوسف عليهما السلام بمصر، وكان بنو إسرائيل منذ مات لاوي بن يعقوب في سنة أربع وتسعين لدخول يعقوب مصر في البلاء مع القبط، وذلك أن يوسف عليه السلام لما مات في سنة ثمانين من قدوم يعقوب مصر، كان الملك إذ ذاك بمصر دارم بن الريان، وهو الفرعون الرابع عندهم، وتسميه القبط دريموس، فاستوزر بعده رجلا من الكهنة يقال له بلاطس، فحمله على أذى الناس وخالف ما كان عليه يوسف، وساءت سيرة الملك حتى اغتصب كلّ امرأة جميلة بمدينة منف وغيرها من النواحي، فشق ذلك من فعله على الناس وهمّوا بخلعه من الملك، فقام الوزير بلاطس في الوساطة بينه وبين الناس وأسقط عنهم الخراج لثلاث سنين، وفرّق فيهم مالا حتى سكنوا، واتفق أن رجلا من الإسرائيليين ضرب بعض سدنة الهياكل فأدماه، وعاب دين الكهنة، فغضب القبط وسألوا الوزير أن يخرج بني إسرائيل من مصر، فأبى. وكان دارم الملك قد خرج إلى الصعيد، فبعث إليه يخبره بأمر الإسرائيليّ وما كان من القبط في طلبهم إخراج بني إسرائيل من مصر، فأرسل إليه أن لا يحدث في القوم حدثا دون موافاته، فشغب القبط وأجمعوا على خلع الملك وإقامة غيره، فسار إليهم الملك وكانت بينه وبينهم حروب قتل فيها خلق كثير، ظفر فيها الملك وصلب ممن خالفه بحافتي النيل طوائف لا تحصى، وعاد إلى أكثر مما كان عليه من ابتزاز النساء وأخذ الأموال واستخدام الأشراف الوجوه من القبط ومن بني إسرائيل، فأجمع الكلّ على ذمّه.
واتفق أنه ركب في النيل فهاجت به الريح وأغرقه الله ومن معه، ولم توجد جثته إلّا عند شطنوف.
فأقام الوزير من بعده في الملك ابنه معاديوش، وكان صبيا، ويسميه بعضهم معدان، فاستقام الأمر له وردّ النساء اللاتي اغتصبهنّ أبوه، وهو خامس الفراعنة، فكثر بنو إسرائيل في زمنه ولهجوا بثلب الأصنام وذمّها، وهلك بلاطس الوزير وقام من بعده في الوزارة كاهن يقال له أملاده، فأمر بإفراد بني إسرائيل ناحية في البلد، بحيث لا يختلط بهم غيرهم، فأقطعوا موضعا في قلبيّ مدينة منف، صاروا إليه وبنوا فيه معبدا كانوا يتلون به صحف إبراهيم عليه السلام، فخطب رجل من القبط بعض نسائهم فأبوا أن ينكحوه، وقد كان هويها. فأكبر القبط فعلهم وصاروا إلى الوزير وشكوا من بني إسرائيل وقالوا: هؤلاء قوم
يعيبوننا ويرغبون عن مناكحتنا، ولا نحب أن يجاورونا ما لم يدينوا بديننا. فقال لهم الوزير: قد علمتم إكرام طوطيس الملك لجدّهم ونهر اوش من بعده، وقد علمتم بركة يوسف حتى جعلتم قبره وسط النيل فأخصب جانبا مصر بمكانه، وأمرهم بالكف عن بني إسرائيل، فأمسكوا إلى أن احتجب معدان وقام من بعده في الملك ابنه اكسامس الذي يسميه بعضهم كاسم ابن معدان بن الريان بن الوليد بن دومع العمليقيّ، وهو السادس من فراعنة مصر، وكان أوّلهم يقال له فرعان، فصار اسما لكلّ من تجبر وعلا أمره، وطالت أيام كاسم ومات وزير أبيه، فأقام من بعده رجلا من بيت المملكة يقال له ظلما بن قومس، وكان شجاعا ساحرا كاهنا كاتبا حكيما دهيا متصرّفا في كل فنّ، وكانت نفسه تنازعه الملك، ويقال أنه من ولد أشمون الملك، وقيل من ولد صا. فأحبه الناس، وعمر الخراب وبني مدنا من الجانبين، ورأى في نجومه أنّه سيكون حدث وشدّة، وسكا القبط إليه من الإسرائيليين فقال: هم عبيدكم. فكان القبطيّ إذا أراد حاجة سخّر الإسرائيليّ وضربه فلا يغير عليه أحد ولا ينكر عليه ذلك. فإن ضرب الإسرائيليّ أحدا من القبط قتل البتة، وكذلك كانت تفعل نساء القبط بالنساء الإسرائيليات، فكانت أوّل شدّة وذلّ أصاب بني إسرائيل وكثر ظلمهم وأذاهم من القبط، واستبدّ الوزير ظلما بأمر البلد كما كان العزيز مع نهراوش.
وتوفي اكسامس الملك، فأنّهم ظلمان بأنه سمّه، تركب في سلاحه وأقام لاطس الملك مكان أبيه، وكان ابنه جريئا معجبا، فصرف ظلما بن قومس عما كان عليه من خلافته، واستخلف رجلا يقال له لاهوق من ولد صا، وأنفذ ظلما عاملا على الصعيد وسير معه جماعة من الإسرائيليين، وزاد تجبره وعتوّه، وأمر الناس جميعا أن يقوموا على أرجلهم في مجلسه، ومدّ يده إلى الأموال ومنع الناس من فضول ما بأيديهم، وقصرهم على القوت، وابتز كثيرا من النساء وفعل أكثر مما فعله ملك تقدّمه، واستعبد بني إسرائيل فأبغضه الخاص والعام، وكان ظلما لما صرف عن الوزارة وخرج إلى الصعيد، أراد إزالة الملك والخروج عن طاعته، فجبى المال وامتنع من حمله، وأخذ المعادن لنفسه وهمّ أن يقيم ملكا من ولد قبطرين ويدعو الناس إلى طاعته، ثم انصرف عن ذلك ودعا لنفسه، وكاتب الوجوه والأعيان، فافترق الناس وتطاول كل واحد من أبناء الملوك إلى الملك وطمع فيه، ويقال أنّ روحانيا ظهر لظلما وقال له: إن أطعتني قلدتك مصر زمانا طويلا، فأجابه وقرّب إليه أشياء منها غلام من بني إسرائيل، فصار عونا له، وبلغ الملك خبر خروج ظلما عن طاعته، فوجّه إليه قائدا قلده مكانه وأمره أن يقبض على ظلما. ويبعث به إليه موثقا، فسار إليه وخرج ظلما للقائه وحاربه فظفر به واستولى على ما معه، فجهز إليه الملك قائدا آخر فهزمه وسار في إثره وقد كثف جمعه، فبرز إليه الملك واحتربا، فكانت لظلما على الملك، فقتله واستولى على مدينة منف ونزل قصر المملكة.
وهذا هو فرعون موسى عليه السلام، وبعضهم يسميه الوليد بن مصعب، وقيل هو من العمالقة وهو سابع الفراعنة. ويقال أنه كان قصيرا طويل اللحية أشهل العينين صغير العين اليسرى، في جبينه شامة، وكان أعرج، وقيل أنه كان يكنّى بأبي مرّة، وأن اسمه الوليد بن مصعب، وأنه أوّل من خضب بالسواد لما شاب، دله عليه إبليس. وقيل أنه كان من القبط، وقيل أنه دخل منف على أتان يحمل النطرون ليبيعه، وكان الناس قد اضطربوا في تولية الملك، فحكّموه ورضوا بتولية من يوليه عليهم، وذلك أنهم خرجوا إلى ظاهر مدينة منف ينتظرون أوّل من يظهر عليهم ليحكّموه، فكان هو أوّل من أقبل بحماره، فلما حكّموه ورضوا بحكمه أقام نفسه ملكا عليهم، وانكر قوم هذا وقالوا: كان القوم أدهى من أن يقلدوا ملكهم من هذه سبيله فلمّا جلس في الملك اختلف الناس عليه فبذل لهم الأموال، وقتل من خالفه بمن أطاعه حتى اعتدل أمره، ورتب المراتب وشيد الأعمال وبنى المدن وخندق الخنادق وبنى بناحية العريش حصنا، وكذلك على جميع حدود مصر، واستخلف هامان، وكان يقرب منه في نسبه، وأثار الكنوز وصرفها في بناء المدائن والعمارات، وحفر خليج سردوس وغيره، وبلغ الخراج بمصر في زمنه سبعة وتسعين ألف ألف دينار بالدينار الفرعونيّ، وهو ثلاثة مثاقيل.
وفرعون هو أوّل من عرّف العرفاء على الناس، وكان ممن صحبه من بني إسرائيل رجل يقال له أمري، وهو الذي يقال له بالعبرانية عمرام، وبالعربية عمران بن قاهث بن لاوي، وكان قدم مصر مع يعقوب عليه السلام فجعله حرسا لقصره يتولى حفظه، وعنده مفاتيحه وأغلاقه بالليل، وكان فرعون قد رأى في كهانته ونجومه أنه يجري هلاكه على يد مولود من الإسرائيليين، فمنعهم من المناكحة ثلاث سنين التي رأى أن ذلك المولود يولد فيها، فأتت امرأة أمري إليه في بعض الليالي بشيء قد أصلحته له فواقعها، فاشتملت منه على هارون، وولدته لثلاث وسبعين من عمره، في سنة سبع وعشرين ومائة لقدوم يعقوب إلى مصر، ثم أتته مرّة أخرى فحملت بموسى لثمانين سنة من عمره، ورأى فرعون في نجومه أنه قد حمل بذلك المولود، فأمر بذبح الذكران من بني إسرائيل، وتقدّم إلى القوابل بذلك، فولد موسى عليه السلام في سنة ثلاثين ومائة لقدوم يعقوب إلى مصر، وفي سنة أربع وعشرين وأربعمائة لولادة إبراهيم الخليل عليه السلام، ولمضيّ ألف وخمسمائة وست سنين من الطوفان، وكان من أمره ما قصه الله سبحانه من قذف أمّه له في التابوت، فألقاه النيل إلى تحت قصر الملك، وقد أرصدت أمّه أخته على بعد لتنظر من يلتقطه، فجاءت ابنة فرعون إلى البحر مع جواريها فرأته واستخرجته من التابوت فرحمته وقالت: هذا من العبرانيين من لنا بظئر ترضعه؟ فقالت لها أخته أنا آتيك بها، وجاءت بأمّه فاسترضعتها له ابنة فرعون إلى أن فصل، فأتت به إلى ابنة فرعون وسمته موسى وتبنته، ونشأ عندها، وقيل بل أخذته امرأة فرعون واسترضعت أمّه ومنعت فرعون من قتله إلى أن كبر وعظم شأنه فردّ إليه
فرعون كثيرا من أمره وجعله من قوّاده، وكانت له سطوة، ثم وجهه لغزو اليونانيين وقد عاثوا في أطراف مصر، فخرج في جيش كثيف وأوقع بهم فأظفره الله وقتل منهم كثيرا وأسر كثيرا وعاد غانما، فسرّ ذلك فرعون وأعجب به هو وامرأته، واستولى موسى وهو غلام على كثير من أمر فرعون، فأراد فرعون أن يستخلفه، حتى قتل رجلا من أشراف القبط له قرابة من فرعون فطلبه، وذلك أنه خرج يوما يمشي في الناس وله صولة بما كان له في بيت فرعون من المربى والرضاع، فرأى عبرانيا يضرب، فقتل المصريّ الذي ضربه ودفنه، وخرج يوما آخر فإذا برجلين من بني إسرائيل وقد سطا أحدهما على الآخر، فزجره. فقال له: ومن جعل لك هذا، أتريد أن تقتلني كما قتلت المصريّ بالأمس، ونما الخبر إلى فرعون فطلبه، وألقى الله في نفسه الخوف لما يريد من كرامته، فخرج من منف ولحق بمدين عند عقبة أيلة، وبنو مدين أمّة عظيمة من بني إبراهيم عليه السلام، كانوا ساكنين هناك، وكان فراره وله من العمر أربعون سنة، فنزل عند بيرون، وهو شعيب عليه السلام من ولد مدين بن إبراهيم، وكان من تزويجه ابنته ورعايته غنمه ما كان، فأقام هنالك تسعا وثلاثين سنة نكح فيها صفوراء ابنة شعيب، وبنوا إسرائيل مع فرعون وأهل مصر كما قال تعالى: «يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ
ويستعبدونهم» «1» .
فلما مضى من سنة الثمانين لموسى شهر وأسبوع، كلمه الله جلّ اسمه، وكان ذلك في اليوم الخامس عشر من شهر نيسان، وأمره أن يذهب إلى فرعون، وشدّ عضده بأخيه هارون وأيده بآيات منها قلب العصا حية وبياض يده من غير سوء وغير ذلك من الآيات العشر التي أحلها الله بفرعون وقومه، وكان مجيء الوحي من الله تعالى إليه وهو ابن ثمانين سنة، ثم قدم مصر في شهر أيار ولقي أخاه هارون، فسرّ به وأطعمه جلبانا فيه ثريد، وتنبأ هارون وهو ابن ثلاث وثمانين سنة، وغدا به إلى فرعون وقد أوحي إليهما أن يأتيا إلى فرعون ليبعث معهما بني إسرائيل فيستنقذ أنهم من هلكة القبط وجور الفراعنة، ويخرجون إلى الأرض المقدّسة التي وعدهم الله بملكها على لسان إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأبلغا ذلك بني إسرائيل عن الله، فأمنوا بموسى واتبعوه، ثح حضرا إلى فرعون فأقاما ببابه أياما وعلى كل منهما جبة صوف، ومع موسى عصاه، وهما لا يصلان إلى فرعون لشدّة حجابه، حتى دخل عليه مضحك كان يلهو به فعرّفه أن بالباب رجلين يطلبان الاذن عليك، بزعمان أن إلههما قد أرسلهما إليك، فأمر بإدخالهما. فلما دخلا عليه خاطبه موسى بما قصه الله في كتابه، وأراه آية العصا وآيته في بياض اليد، فغاظ فرعون ما قاله موسى وهمّ بقتله، فمنعه الله سبحانه بأن رأى صورة قد أقبلت ومسحت على أعينهم فعموا، ثم أنه لما فتح عن عينيه أمر قوما آخرين بقتل موسى فأتتهم نار أحرقتهم، فازداد غيظه وقال لموسى: من أين ذلك هذه النواميس
العظام؟ اسحرة بلدي علموك هذا أم تعلمته بعد خروجك من عندنا؟ فقال: هذا ناموس السماء وليس من نواميس الأرض. قال فرعون: ومن صاحبه؟ قال: صاحب البنية العليا.
قال: بل تعلمتها من بلدي، وأمر بجمع السحرة والكهنة وأصحاب النواميس وقال:
اعرضوا عليّ أرفع أعمالكم فإني أرى نواميس هذا الساحر رفيعة جدّا. فعرضوا عليه أعمالهم فسرّه ذلك، وأحضر موسى وقال له: لقد وقفت على سحرك وعندي من يفوق عليك.
فواعدهم يوم الزينة، وكان جماعة من البلد قد اتبعوا موسى فقتلهم فرعون، ثم إنه جمع بين موسى وبين سحرته، وكانوا مائتي ألف وأربعين ألفا يعملون من الأعمال ما يحير العقول ويأخذ القلوب، من دخن ملوّنات ترى الوجوه مقلوبة مشوّهة، منها الطويل والعريض والمقلوب جبهته إلى أسفل. ولحيته إلى فوق، ومنها ما له قرون ومنها ما له خرطوم وأنياب ظاهرة كأنياب الفيلة، ومنها ما هو عظيم في قدر الترس الكبير، ومنها ما له آذان عظام وشبه وجوه القرود بأجساد عظيمة تبلغ السحاب وأجنحة مركبة على حيات عظيمة تطير في الهواء، ويرجع بعضها على بعض فيبتلعه، وحيات يخرج من أفواهها نار تنتشر في الناس، وحيات تطير وترجع في الهواء وتنحدر على كلّ من حضر لتبتلعه. فيتهارب الناس منها، وعصى تحلق في الهواء فتصير حيات برؤس وشعور وأذناب تهمّ بالناس أن تنهشهم، ومنها ما له قوائم، ومنها تماثيل مهولة، وعملوا له دخنا تغشي أبصار الناس عن النظر فلا يرى بعضهم بعضا، ودخنا تطهر صورا كهيئة النيران في الجوّ على دواب يصدم بعضها بعضا ويسمع لها ضجيج، وصورا خضرا على دواب خضر، وصورا سودا على دواب سود هائلة.
فلما رأى فرعون ذلك سرّه ما رأى هو ومن حضره واغتم موسى ومن آمن به، حتى أوحى الله إليه لا تخف إنك أنت الأعلى، وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا. وكان للحسرة ثلاثة رؤساء، ويقال بل كانوا سبعين رئيسا، فأسرّ إليهم موسى: قد رأيت ما صنعتم، فإن قهرتكم أتؤمنون بالله؟ فقالوا نفعل. فغاظ فرعون مسارّة موسى لرؤساء السحرة، هذا والناس يسخرون من موسى وأخيه ويهزؤون بهما، وعليهما دراعتان من صوف وقد احتز ما بليف، فلوّح موسى بعصاه حتى غابت عن الأعين وأقبلت في هيئة تنين عظيم له عينان يتوقدان، والنار تخرج من فيه ومنخريه، فلا يقع على أحد إلّا برص، ووقع من ذلك على ابنة فرعون فبرصت، وصار التنين فاغرا فاه فالتقط جميع ما عملته السحرة، ومائتي مركب كانت مملوءة حبالا وعصيا وسائر من فيها من الملاحين، وكانت في النهر الذي يتصل بدار فرعون، وابتلع عمدا كثيرة وحجارة قد كانت حملت إلى هناك ليبنى بها، ومرّ التنين إلى قصر فرعون ليبتلعه، وكان فرعون جالسا في قبة على جانب القصر ليشرف على عمل السحرة، فوضع نابه تحت القصر ورفع نابه الآخر إلى أعلاه، ولهب النار يخرج من فيه حتى أحرق مواضع
من القصر، فصاح فرعون مستغيثا بموسى عليه السلام، فزجر موسى التنين فانعطف ليبتلع الناس، ففرّوا كلهم من بين يديه، وانساب يريدهم. فأمسكه موسى وعاد في يده عصا كما كان، ولم ير الناس من تلك المراكب وما كان فيها من الحبال والعصيّ والناس، ولا من العمد والحجارة وما شربه من ماء النهر حتى بانت أضه أثرا.
فعند ذلك قالت السحرة: ما هذه من عمل الآدميين، وإنّما هو من فعل جبار قدير على الأشياء. فقال لهم موسى: أوفوا بعهدكم وإلّا سلطته عليكم يبتلعكم كما ابتلع غيركم، فآمنوا بموسى وجاهروا فرعون وقالوا: هذا من فعل إله السماء وليس هذا من فعل أهل الأرض. فقال: قد عرفت أنكم قد واطأتموه عليّ وعلى ملكي حسدا منكم لي، وأمر فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وصلبوا، وجاهرته امرأته والمؤمن الذي كان يكتم إيمانه، وانصرف موسى فأقام بمصر يدعو فرعون أحد عشر شهرا، من شهر أيار إلى شهر نيسان المستقبل وفرعون لا يجيبه، بل اشتدّ جوره على بني إسرائيل واستعبادهم واتخاذهم سخريا في مهنة الأعمال، فأصابت فرعون وقومه الجوائح العشر، واحدة بعد أخرى، وهو يثبت لهم عند وقوعها ويفزع إلى موسى في الدعاء بانجلائها، ثم يلح عند انكشافها، فإنها كانت عذابا من الله عز وجل، عذّب الله بها فرعون وقومه.
فمنها أنّ ماء مصر صار دما حتى هلك أكثر أهل مصر عطشا، وكثرت عليهم الضفادع حتى وسخت جميع مواضعهم وقذرت عليهم عيشهم وجميع مآكلهم، وكثر البعوض حتى حبس الهواء ومنع النسيم، وكثر عليهم ذباب الكلاب حتى جرّح أبدانهم ونغص عليهم حياتهم، وماتت دوابهم وأغنامهم فجأة، وعمّ الناس الجرب والجدريّ حتى زاد منظرهم قبحا على مناظر الجذميّ، ونزل من السماء برد مخلوط بصواعق أهلك كل ما أدركه من الناس والحيوانات. وذهب بجميع الثمار، وكثر الجراد والجنادب التي أكلت الأشجار واستقصت أصول النبات، وأظلمت الدنيا ظلمة سوداء غليظة حتى كانت من غلظها تحسّ بالأجسام، وبعد ذلك كله نزل الموت فجأة على بكور أولادهم بحيث لم يبق لأحد منهم ولد بكر إلّا فجع به في تلك الليلة، ليكون لهم في ذلك شغل عن بني إسرائيل، وكانت الليلة الخامسة عشر من شهر نيسان سنة إحدى وثمانين لموسى، فعند ذلك سارع فرعون إلى ترك بني إسرائيل، فخرج موسى عليه السلام من ليلته هذه ومعه بنو إسرائيل من عين شمس، وفي التوراة أنهم أمروا عند خروجهم أن يذبح أهل كل بيت حملا من الغنم إن كان كفايتهم، أو يشتركون مع جيرانهم إن كان أكثر، وأن ينضحوا من دمه على أبوابهم ليكون علامة، وأن يأكلوا شواه رأسه وأطرافه ومعاه ولا يكسروا منه عظما، ولا يدعوا منه شيئا خارج البيوت، وليكن خبزهم فطيرا. وذلك في اليوم الرابع عشر من فصل الربيع، وليأكلوا بسرعة وأوساطهم مشدودة وخفافهم في أرجلهم وعصيهم في أيديهم، ويخرجوا ليلا. وما فضل من عشائهم ذلك أحرقوه بالنار، وشرّع هذا عيدا لهم ولأعقابهم، ويسمى هذا عيد الفصح،
وفيها أنهم أمروا أن يستعيروا منهم حليا كثيرا يخرجون به، فاستعاروه وخرجوا في تلك الليلة بما معهم من الدواب والأنعام، وأخرجوا معهم تابوت يوسف عليه السلام، استخرجه موسى من المدفن الذي كان فيه بإلهام من الله تعالى، وكانت عدّتهم ستمائة ألف رجل محارب سوى النساء والصبيان والغرباء، وشغل القبط عنهم بالمآتم التي كانوا فيها على موتاهم، فساروا ثلاث مراحل ليلا ونهارا حتى وافوا إلى فوهة الجبروت، وتسمى نار موسى، وهو ساحل البحر بجانب الطور، فانتهى خبرهم إلى فرعون في يومين وليلة، فندم بعد خروجهم وجمع قومه وخرج في كثرة كفاك عن مقدارها قول الله عز وجل أخبارا عن فرعون أنه قال عن بني إسرائيل وعدّتهم ما قد ذكر على ما جاء في التوراة، أن هؤلاء لشرذمة قليلون، وأنهم لنا لغائطون، ولحق بهم في اليوم الحادي والعشرين من نيسان، فأقام العسكران ليلة الواحد والعشرين على شاطىء البحر، وفي صبيحة ذلك اليوم أمر موسى أن يضرب البحر بعصاه ويقتحمه، ففلق الله لبني إسرائيل البحر اثني عشر طريقا، عبر كلّ سبط من طريق، وصارت المياه قائمة عن جانبهم كأمثال الجبال، وصيرقاع البحر طريقا مسلوكا لموسى ومن معه، وتبعهم فرعون وجنوده، فلما خاض بنو إسرائيل إلى عدوة الطور انطبق البحر على فرعون وقومه، فأغرقهم الله جميعا ونجا موسى وقومه، ونزل بنو إسرائيل جميعا في الطور وسجوا مع موسى بتسبيح طويل قد ذكر في التوراة، وكانت مريم أخت موسى وهارون تأخذ الدف بيديها، ونساء بني إسرائيل في أثرها بالدفوف والطبول، وهي ترتل التسبيح لهنّ.
ثم ساروا في البرّ ثلاثة أيام، وأقفرت مصر من أهلها، ومرّ موسى بقومه ففني زادهم في اليوم الخامس من أيار فضجوا إلى موسى، فدعا ربه فنزل لهم المنّ من السماء، فلما كان اليوم الثالث والعشرون من أيار عطشوا وضجوا إلى موسى، فدعا ربه ففجر له عينا من الصخرة، ولم يزل يسير بهم حتى وافوا طور سينين غرّة الشهر الثالث لخروجهم من مصر، فأمر الله موسى بتطهير قومه واستعدادهم لسماع كلام الله سبحانه، فطهرهم ثلاثة أيام، فلما كان في اليوم الثالث وهو السادس من الشهر، رفع الله الطور وأسكنه نوره وظلل حواليه بالغمام وأظهر في الآفاق الرعود والبروق والصواعق، وأسمع القوم من كلامه عشر كلمات وهي: أنا الله ربكم واحد لا يكم لكم معبود من دوني، لا تحلف باسم ربك كاذبا، اذكر يوم السبت واحفظه، برّ والديك وأكرمهما، لا تقتل النفس، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد بشهادة زور، لا تحسد أخاك فيما رزقه. فصاح القوم وارتعدوا وقالوا لموسى: لا طاقة لنا باستماع هذا الصوت العظيم، كن السفير بيننا وبين ربنا، وجميع ما يأمرنا به سمعنا وأطعنا، فأمرهم بالإنصراف وصعد موسى إلى الجبل في اليوم الثاني عشر، فأقام فيه أربعين يوما، ودفع الله إليه اللوحين الجوهر المكتوب عليهما العشر كلمات ونزل في اليوم الثاني والعشرين من شهر تموز، فرأى العجل، فارتفع الكتاب وثقلا على يديه فألقاهما وكسرهما، ثم برد العجل
وذرّاه على الماء وقتل من القوم من استحق القتل، وصعد إلى الجبل في اليوم الثالث والعشرين من تموز ليشفع في الباقين من القوم، ونزل في اليوم الثاني من أيلول بعد الوعد من الله له بتعويضه لوحين آخرين مكتوبا عليهما ما كان في اللوحين الأوّلين، فصعد إلى الجبل وأقام أربعين ليلة أخرى، وذلك من ثالث أيلول إلى اليوم الثاني عشر من تشرين، ثم أمره الله بإطلاح القبة وكان طولها ثلاثين ذراعا في عرض عشرة أذرع وارتفاع عشرة أذرع، ولها سرادق مضروب حواليها مائة ذراع في خمسين ذراعا وارتفاع خمسة أذرع. فأخذ القوم في إصلاحها وما تزين به من الستور من الذهب والفضة والجواهر ستة أشهر الشتاء كله، ولما فرغ منها نصبت في اليوم الأوّل من نيسان في أوّل السنة الثانية، ويقال أنّ موسى عليه السلام حارب هنالك العرب، مثل طسم وجديس والعماليق وجرهم وأهل مدين حتى أفناهم جميعا، وأنه وصل إلى جبل فاران، وهو مكة، فلم ينج منهم إلّا من اعتصم بملك اليمن أو انتمى إلى بنى إسماعيل عليه السلام، وفي ثلثي الشهر الباقي من هذه السنة ظعن القوم في برّية الطور بعد أن نزلت عليهم التوراة، وجملة شرائعها ستمائة وثلاث عشرة شريعة، وفي آخر الشهر الثالث حرّمت عليهم أرض الشام أن يدخلوها، وحكم الله تعالى عليهم أن يتيهوا في البرّية أربعين سنة، لقولهم نخاف أهلها لأنهم جبارون، فأقاموا تسع عشرة سنة في رقيم، وتسع عشرة سنة في أحد، وأربعين موضعا مشروحة في التوراة، وفي اليوم السابع من شهر أيلول من السنة الثانية خسف الله بقارون وبأوليائه بدعاء موسى عليه السلام عليهم لما كذبوا، وفي شهر نيسان من السنة الأربعين توفيت مريم ابنة عمران أخت موسى عليه السلام، ولها مائة وست وعشرون سنة.
وفي شهر آب منها مات هارون عليه السلام وله مائة وثلاث وعشرون سنة، ثم كان حرب الكنعانيين وسيحون والعوج صاحب البثنية من أرض حوران. في الشهور التي بعد ذلك إلى شهر شباط، فلما أهلّ شباط أخذ موسى في إعادة التوراة على القوم، وأمرهم بكتب نسختها وقراءتها وحفظ ما شاهدوه من آثاره وما أخذوه عنه من الفقه، وكان نهاية ذلك في اليوم السادس من آذار، وقال لهم في اليوم السابع منه: إني في يومي هذا استوفيت عشرين ومائة سنة، وإنّ الله قد عرّفني أنه يقبضني فيه، وقد أمرني أن أستخلف عليكم يوشع بن نون ومعه السبعون رجلا الذين اخترتهم قبل هذا الوقت، ومعهم العازر بن هارون أخي فاسمعوا له وأطيعوا، وأنا أشهد عليكم الله الذي لا إله إلّا هو، والأرض والسماوات، أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ولا تبدّلوا شرائع التوراة بغيرها، ثم فارقهم وصعد الجبل فقبضه الله تعالى هناك وأخفاه، ولم يعلم أحد منهم قبره ولا شاهده، وكان بين وفاة موسى وبين الطوفان ألف وستمائة وست وعشرون سنة، وذلك في أيام منوجهر ملك الفرس، وزعم قوم أن موسى كان ألثغ، فمنهم من جعل ذلك خلقة، ومنهم من زعم
أنه إنما اعتراه حين قالت امرأة فرعون لفرعون لا تقتل طفلا لا يعرف الجمر من التمر.
فلما دعا له فرعون بهما جميعا تناول جمرة فأهوى بها إلى فيه، فاعتراه من ذلك ما اعتراه، وذكر محمد بن عمر الواقديّ: أن لسان موسى كانت عليه شامة فيها شعرات، ولا يدل القرآن على شيء من ذلك، فليس في قوله تعالى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي
[طه/ 27] دليل على شيء من ذلك دون شيء، فأقاموا بعده ثلاثين يوما يبكون عليه إلى أن أوحى الله تعالى إلى يوشع بن نون بترحيلهم، فقادهم وعبر بهم الأردن في اليوم العاشر من نيسان، فوافوا أريحا، فكان منهم ما هو مذكور في مواضعه، فهذه جملة خبر موسى عليه السلام.
كنيسة جوجر: هذه الكنيسة من أجلّ كنائس اليهود، ويزعمون أنها تنسب لنبيّ الله إلياس عليه السلام، وأنه ولد بها وكان يتعاهدها في طول إقامته بالأرض إلى أن رفعه الله إليه الياس: هو فينحاس بن العازر بن هارون عليه السلام، ويقال الياسين بن ياسين عيزار بن هارون، ويقال هو إلياهو، وهي عبرانية معناها قادر أزليّ، وعرّب فقيل إلياس، ويذكر أهل العلم من بني إسرائيل أنه ولد بمصر، وخرج به أبوه العازر من مصر مع موسى عليه السلام وعمره نحو الثلاث سنين، وأنه هو الخضر الذي وعده الله بالحياة، وأنه لما خرج بلعام بن باعورا ليدعو على موسى، صرف الله لسانه حتى يدعو على نفسه وقومه، وكان من زنا بني إسرائيل بنساء الأمورانيين وأهل مواب ما كان، فغضب الله تعالى عليهم وأوقع فيهم الوباء، فمات منهم أربعة وعشرون ألفا إلى أن هجم فينحاس هذا على خباء فيه رجل على امرأة يزني بها، فنظمهما جميعا برمحه وخرج وهو رافعهما وشهرهما غضبا لله، فرحمهم الله سبحانه ورفع عنهم الوباء، وكانت له أيضا آثار مع نبي الله يوشع بن نون، ولما مات يوشع قام من بعده فينحاس هذا هو وكالأب بن يوفنا، فصار فينحاس إماما وكالأب يحكم بينهم، وكانت الأحداث في بني إسرائيل، فساح إلياس ولبس المسوح ولزم القفار، وقد وعده الله عز وجل في التوراة بدوام السلامة، فأوّل ذلك بعضهم بأنه لا يموت، فامتدّ عمره إلى أن ملك يهوشا فاط بن أسا بن افيا بن رحبم بن سليمان بن داود عليهما السلام على سبط يهودا في بيت المقدس، وملك أحؤب بن عمري على الأسباط من بني إسرائيل بمدينة شمرون، المعروفة اليوم بنابلس، وساءت سيرة أحؤب حتى زادت في القبح على جميع من مضى قبله من ملوك بني إسرائيل، وكان أشدّهم كفرا وأكثرهم ركونا للمنكر، بحيث أربى في الشرّ على أبيه وعلى سائر من تقدّمه، وكانت له امرأة يقال لها سيصيال ابنة أشاعل ملك صيدا، أكفر منه بالله، وأشدّ عتوّا واستكبارا، فعبدا وثن بعل الذي قال الله فيه
جلّ ذكره أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين الله ربكم وربّ آبائكم الأوّلين، وأقاما له مذبحا بمدينة شمرون، فأرسل الله عز وجل إلى أحؤب عبده إلياس رسولا لينهاه عن عبادة وثن بعل، ويأمره بعبادة الله تعالى وحده، وذلك قول الله عز وجل من قائل: وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ فَكَذَّبُوهُ
[الصافات/ 123- 126] ولما أيس من أيمانهم بالله وتركهم عبادة الوثن، أقسم في مخاطبته أحؤب أن لا يكون مطر ولا ندا، ثم تركه. فأمره الله سبحانه أن يذهب ناحية الأردن، فمكث هناك مختفيا، وقد منع الله قطر السماء حتى هلكت البهائم وغيرها، فلم يزل إلياس مقيما في استتاره إلى أن جف ما كان عنده من الماء، وفي طول إقامته كان الله جل جلاله يبعث إليه بغربان تحمل له الخبز واللحم.
فلما جف ماؤه الذي كان يشرب منه لامتناع المطر أمره الله أن يسير إلى بعض مدائن صيدا، فخرج حتى وافي باب المدينة، فإذا امرأة تحتطب، فسألها ماء يشربه وخبزا يأكله، فأقسمت له أن ما عندها إلّا مثل غرفة دقيق في إناء، وشيء من زيت في جرّة، وأنها تجمع الحطب لتقتات منه هي وابنها، فبشرها إلياس عليه السلام وقال لها لا تجزعي وافعلي ما قلت لك، واعملي لي خبزا قليلا قبل أن تعملي لنفسك ولولدك، فإن الدقيق لا يعجز من الإناء، ولا الزيت من الجرّة حتى ينزل المطر، ففعلت ما أمرها به وأقام عندها، فلم ينقص الدقيق ولا الزيت بعد ذلك إلى أن مات ولدها وجزعت عليه، فسأل إلياس ربه تعالى فأحيي الولد، وأمره الله أن يسير إلى أحؤب ملك بني إسرائيل لينزل المطر عند إخباره له بذلك، فسار إليه وقال له: أجمع بني إسرائيل وأبناء بعال. فلما اجتمعوا قال لهم إلياس: إلى متى هذا الضلال، إن كان الرب الله فاعبدوه، وإن كان بعال هو الله فارجعوا بنا إليه، وقال:
ليقرّب كلّ منا قربانا، فأقرّب أنا لله، وقرّبوا أنتم لبعال، فمن تقبل منه قربانه ونزلت نار من السماء فأكلته فإلهه الذي يعبد فلما رضوا بذلك أحضروا ثورين واختاروا أحدهما وذبحوه، وصاروا ينادون عليه يال بعال يال بعال، وإلياس يسخر بهم ويقول: لو رفعتم أصواتكم قليلا فلعلّ إلهكم نائم أو مشغول، وهم يصرخون ويجرحون أيديهم بالسكاكين، ودماءهم تسيل.
فلما أيسوا من أن تنزل النار وتأكل قربانهم، دعا إلياس القوم إلى نفسه، وأقام مذبحا وذبح ثوره وجعله على المذبح وصبّ الماء فوقه ثلاث مرّات، وجعل حول المذبح خندقا محفورا، فلم يزل يصب الماء فوق اللحم حتى امتلأ الخندق من الماء، وقام يدعو الله عزّ اسمه وقال في دعائه: اللهمّ أظهر لهذه الجماعة أنك الربّ، وأني عبدك عامل بأمرك. فأنزل الله سبحانه نارا من السماء أكلت القربان وحجارة المذبح التي كان فوقها اللحم وجميع الماء الذي صبّ حوله. فسجد القوم أجمعون وقالوا نشهد أن الربّ الله. فقال إلياس: خذوا أبناء
بعال، فأخذوا وجيء بهم فذبحهم كلهم ذبحا، وقال لأحؤب انزل وكل واشرب، فإن المطر نازل، فنزل المطر على ما قال، وكان الجهد قد اشتدّ لانقطاع المطر مدّة ثلاث سنين وأشهر، وغزر المطر حتى لم يستطع أحؤب أن ينصرف لكثرته.
فغضبت سيصيال امرأة احؤب لقتل أبناء بعال وحلفت بآلهتها لتجعلنّ روح إلياس عوضهم، ففزع إلياس وخرج إلى المفاوز وقد اغتم غما شديدا، فأرسل الله إليه ملكا معه خبز ولحم وماء، فأكل وشرب وقوّاه الله حتى مكث بعد هذه الأكلة أربعين يوما لا يأكل ولا يشرب، ثم جاءه الوحي بأن يمضي إلى دمشق، فسار إليها وصحب اليسع بن شابات، ويقال ابن حظور، فصار تلميذ، فخرج من أريحا ومعه اليسع حتى وقف على الأردن، فنزع رداءه ولفه وضرب به ماء الأردن فافترق الماء عن جانبيه، وصار طريقا. فقال إلياس حينئذ لليسع اسأل ما شئت قبل أن يحال بيني وبينك. فقال اليسع: أسأل أن يكون روحك فيّ مضاعفا.
فقال: لقد سألت جسيما، ولكن إن أبصرتني إذا رفعت عنك يكون ما سألت، وإن لم تبصرني لم يكن. وبينما هما يتحدّثان إذ ظهر لهما كالنار، فرّق بينهما ورفع إلياس إلى السماء، واليسع ينظره. فانصرف وقام في النبوّة مقام إلياس، وكان رفع إلياس في زمن يهورام بن يهوشافاط، وبين وفاة موسى عليه السلام وبين آخر أيام يهورام خمسمائة وسبعون سنة، ومدّة نبوّة موسى عليه السلام أربعون سنة، فعلى هذا يكون مدّة عمر إلياس من حين ولد بمصر إلى أن رفع بالأردن إلى السماء ستمائة سنة. وبضع سنين، والذي عليه علماء أهل الكتاب وجماعة من علماء المسلمين، أنّ إلياس حيّ لم يمت، إلّا أنهم اختلفوا فيه، فقال بعضهم أنه هو فينحاس كما تقدّم ذكره، ومنع هذا جماعة وقالوا هما اثنان، والله أعلم.
كنيسة المصاصة: هذه الكنيسة يجلّها اليهود، وهي بخط المصاصة من مدينة مصر، ويزعمون أنها رممت في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وموضعها يعرف بدرب الكرمة، وبنيت في سنة خمس عشرة وثلثمائة للإسكندر، وذلك قبل الملة الإسلامية بنحو ستمائة وإحدى وعشرين سنة، ويزعم اليهود أن هذه الكنيسة كانت مجلسا لنبيّ الله إلياس.
كنيسة الشاميين: هذه الكنيسة بخط قصر الشمع من مدينة مصر، وهي قديمة مكتوب على بابها بالخط العبرانيّ حفرا في الخشب، أنها بنيت في سنة ست وثلاثين وثلاثمائة للإسكندر، وذلك قبل خراب بيت المقدس الخراب الثاني الذي خرّبه طيطش بنحو خمس وأربعين سنة، وقبل الهجرة بنحو ستمائة سنة، وبهذه الكنيسة نسخة من التوراة لا يختلفون في أنها كلها بخط عزرا النبيّ الذي يقال له بالعربية العزيز.
كنيسة العراقيين: هذه الكنيسة أيضا بخط قصر الشمع.