الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خانقاه ركن الدين بيبرس
هذه الخانقاه من جملة دار الوزارة الكبرى التي تقدّم ذكرها عند ذكر القصر من هذا الكتاب، وهي أجلّ خانقاه بالقاهرة بنيانا، وأوسعها مقدارا وأتقنها صنعة، بناها الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير المنصوريّ قبل أن يلي السلطنة، وهو أمير. فبدأ في بنائها في سنة ست وسبعمائة، وبنى بجانبها رباطا كبيرا يتوصل إليه من داخلها، وجعل بجانب الخانقاه قبة بها قبره، ولهذه القبة شبابيك تشرف على الشارع المسلوك فيه من رحبة باب العيد إلى باب النصر، من جملتها الشباك الكبير الذي حمله الأمير أبو الحارث البساسيريّ من بغداد، لما غلب الخليفة القائم العباسيّ وأرسل بعمامته وشباكه الذي كان بدار الخلافة في بغداد، وتجلس الخلفاء فيه، وهو هذا الشباك كما ذكر في أخبار دار الوزارة من هذا الكتاب. فلما ورد هذا الشباك من بغداد عمل بدار الوزارة واستمر فيها إلى أن عمر الأمير بيبرس الخانقاه المذكورة فجعل هذا الشباك بقبة الخانقاه، وهو بها إلى يومنا هذا، وإنه لشباك جليل القدر. حشم يكاد يتبين عليه أبهة الخلافة. ولما شرع في بنائها رفق بالناس ولا طفهم ولم يعسف فيها أحدا في بنائها ولا أكره صانعا ولا غصب من آلاتها شيئا، وإنما اشترى دار الأمير عز الدين الأفرم التي كانت بمدينة مصر، واشترى دار الوزير هبة الله بن صاعد الفائزيّ، وأخذ ما كان فيهما من الأنقاض، واشترى أيضا دار الأنماط التي كانت برأس حارة الجودرية من القاهرة ونقضها وما حولها، واشترى أملاكا كانت قد بنيت في أرض دار الوزارة من ملاكها بغير إكراه وهدمها، فكان قياس أرض الخانقاه والرباط والقبة نحو فدّان وثلث.
وعندما شرع في بنائها حضر إليه الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير بكتاش الفخريّ أمير سلاح، وأراد التقرّب لخاطره، وعرّفه أن بالقصر الذي فيه سكن أبيه مغارة تحت الأرض كبيرة يذكر أنّ فيها ذخيرة من ذخائر الخلفاء الفاطميين، وأنهم لما فتحوها لم يجدوا بها سوى رخام كثير فسدّوها ولم يتعرّضوا لشيء مما فيها، فسرّ بذلك وبعث عدّة من الأمراء فتحوا المكان فإذا فيه رخام جليل القدر عظيم الهيئة، فيه ما لا يوجد مثله لعظمه، فنقله من المغارة ورخم منه الخانقاه والقبة وداره التي بالقرب من البندقانيين وحارة زويلة، وفضل منه شيء كثير عهدي أنه مختزن بالخانقاه، وأظنه أنه باق هناك. ولما كملت في سنة تسع وسبعمائة، قرّر بالخانقاه أربعمائة صوفيّ، وبالرباط مائة من الجند وأبناء الناس الذين قعد بهم الوقت، وجعل بها مطبخا يفرّق على كلّ منهم في كلّ يوم اللحم والطعام وثلاثة أرغفة من خبز البرّ، وجعل لهم الحلوى، ورتب بالقبة درسا للحديث النبويّ له مدرّس، وعنده عدّة من المحدّثين، ورتب القرّاء بالشباك الكبير يتناوبون القراءة فيه ليلا ونهارا، ووقف عليها عدّة ضياع بدمشق وحماه ومنية المخلص
بالجيزة من أرض مصر وبالصعيد والوجه البحريّ والربع والقيسارية بالقاهرة.
فلما خلع من السلطنة وقبض عليه الملك الناصر محمد بن قلاون وقتله، أمر بغلقها فغلقت، وأخذ سائر ما كان موقوفا عليها ومحا اسمه من الطراز الذي بظاهرها فوق الشبابيك، وأقامت نحو عشرين سنة معطلة، ثم إنه أمر بفتحها في أوّل سنة ست وعشرين وسبعمائة، ففتحت، وأعاد إليها ما كان موقوفا عليها، واستمرّت إلى أن شرقت أراضي مصر لقصور مدّ النيل أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين في سنة ست وسبعين وسبعمائة، فبطل طعامها وتعطل مطبخها، واستمرّ الخبز ومبلغ سبعة دراهم لكلّ واحد في الشهر بدل الطعام، ثم صار لكلّ واحد منهم في الشهر عشرة دراهم، فلما قصر مدّ النيل في سنة ست وتسعين وسبعمائة، بطل الخبز أيضا وغلق المخبز من الخانقاه، وصار الصوفية يأخذون في كلّ شهر مبلغا من الفلوس معاملة القاهرة، وهم على ذلك إلى اليوم. وقد أدركتها ولا يمكّن بوّابها غير أهلها من العبور إليها والصلاة فيها لما لها في النفوس من المهابة، ويمنع الناس من دخولها حتى الفقهاء والأجناد، وكان لا ينزل بها أمرد، وفيها جماعة من أهل العلم والخير، وقد ذهب ما هنالك فنزل بها اليوم عدّة من الصغار ومن الأساكفة وغيرهم من العامّة، إلّا أن أوقافها عامرة وأرزاقها دارّة بحسب نقود مصر، ومن حسن بناء هذه الخانقاه أنه لم يحتج فيها إلى مرمّة منذ بنيت إلى وقتنا هذا، وهي مبنية بالحجر وكلها عقود محكمة بدل السقوف الخشب، وقد سمعت غير واحد يقول إنه لم تبن خانقاه أحسن من بنائها.
الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير المنصوريّ: اشتراه الملك المنصور قلاون صغيرا ورقاه في الخدم السلطانية إلى أن جعله أحد الأمراء، وأقامه جاشنكير وعرف بالشجاعة. فلما مات الملك المنصور خدم ابنه الملك الأشرف خليلا إلى أن قتله الأمير بيدرا بناحية تروجة، فكان أوّل من ركب على بيدرا في طلب ثار الملك الأشرف، وكان مهابا بين خشداشيته فركبوا معه، وكان من نصرتهم على بيدرا وقتله ما قد ذكر في موضعه، فاشتهر ذكره وصار أستادار السلطان في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون في سلطنته الثانية، رفيقا للأمير سلار نائب السلطنة، وبه قويت الطائفة البرجية من المماليك واشتدّ بأسهم، وصار الملك الناصر تحت حجر بيبرس وسلار إلى أن أنف من ذلك وسار إلى الكرك، فأقيم بيبرس في السلطنة يوم السبت ثالث عشري شوّال سنة ثمان وسبعمائة، فاستضعف جانبه وانحط قدره ونقصت مهابته، وتغلب عليه الأمراء والمماليك، واضطربت أمور المملكة لمكان الأمير سلار وكثرة حاشيته وميل القلوب إلى الملك الناصر، وفي أيامه عمل الجسر من قليوب إلى مدينة دمياط وهو مسيرة يومين طولا في عرض أربع قصبات من أعلاه، وست قصبات من أسفله، حتى أنه كان يسير عليه ستة من الفرسان معا بحذاء بعضهم، وأبطل سائر الخمارات من السواحل وغيرها من بلاد الشام، وسامح بما كان من المقرّر عليها للسلطان، وعوّض الأجناد بدله، وكبست أماكن الريب والفواحش بالقاهرة
ومصر، وأريقت الخمور وضرب أناس كثير في ذلك بالمقارع، وتتبع أماكن الفساد وبالغ في إزالته، ولم يراع في ذلك أحدا من الكتاب ولا من الأمراء، فخف المنكر وخفي الفساد، إلا أن الله أراد زوال دولته، فسوّلت له نفسه أن بعث إلى الملك الناصر بالكرك يطلب منه ما خرج به معه من الخيل والمماليك، وحمل الرسول إليه بذلك مشافهة أغلظ عليه فيها، فحنق من ذلك وكاتب نوّاب الشام وأمراء مصر في السرّ يشكو ما حلّ به، وترفق بهم وتلطف بهم فرقوا له وامتعضوا لما به، ونزل الناصر من الكرك وبرز عنها، فاضطرب الأمر بمصر واختلّ الحال من بيبرس وأخذ العسكر يسير من مصر إلى الناصر شيئا بعد شيء، وسار الناصر من ظاهر الكرك يريد دمشق في غرّة شعبان سنة تسع وسبعمائة، فعندما نزل الكسوة «1» خرج الأمراء وعامّة أهل دمشق إلى لقائه، ومعهم شعار السلطنة، ودخلوا به إلى المدينة وقد فرحوا به فرحا كثيرا، في ثاني عشر شعبان، ونزل بالقلعة وكاتب النوّاب فقدموا عليه وصارت ممالك الشام كلها تحت طاعته يخطب له بها ويجبى إليه مالها، ثم خرج من دمشق بالعساكر يريد مصر، وأمر بيبرس كلّ يوم في نقص إلى أن كان يوم الثلاثاء سادس عشر رمضان، فترك بيبرس المملكة ونزل من قلعة الجبل ومعه خواصه إلى جهة باب الفراقة، والعامّة تصيح عليه وتسبه وترجمه بالحجارة، عصبية للملك الناصر وحبا له، حتّى سار عن القرافة، ودعا الحرس بالقلعة في يوم الأربعاء للملك الناصر، فكانت مدّة سلطنة بيبرس عشرة أشهر وأربعة وعشرين يوما، وقدم الملك الناصر إلى قلعة الجبل أوّل يوم من شوّال، وجلس على تخت المملكة واستولى على السلطنة مرّة ثالثة، ونزل بيبرس بأطفيح ثم سار منها إلى أخميم، فلما صار بها تفرّق عنه من كان معه من الأمراء والمماليك فصاروا إلى الملك الناصر، فتوجه في نفر يسير على طريق السويس يريد بلاد الشام فقبض عليه شرقيّ غزة وحمل مقيدا إلى الملك الناصر، فوصل قلعة الجبل يوم الأربعاء ثالث عشر ذي القعدة، وأوقف بين يدي السلطان وقبّل الأرض، فعنفه وعدّد عليه ذنوبا ووبخه، ثم أمر به فسجن في موضع إلى ليلة الجمعة خامس عشرة، وفيها لحق بربه تعالى، فحمل إلى القرافة ودفن في تربة الفارس أقطاي، ثم نقل منها بعد مدّة إلى تربته بسفح المقطم فقبر بها زمانا طويلا، ثم نقل منها ثالث مرّة إلى خانقاهه ودفن بقبتها، وقبره هناك إلى يومنا هذا.، وأدركت بالخانقاه المذكورة شيخا من صوفيتها أخبرني أنه حضر نقله من ترتبه بالقرافة إلى قبة الخانقاه، وأنه تولى وضعه في مدفنه بنفسه، وكان رحمه الله خيّرا عفيفا كثير الحياء وافر الحرمة جليل القدر عظيما في النفوس مهاب السطوة في أيام أمرته، فلما تلقب بالسلطنة ووسم باسم الملك، اتضع قدره واستضعف جانبه، وطمع فيه، وتغلب عليه الأمراء والمماليك، ولم تنجح مقاصده ولا سعد في شيء من تدبيره إلى أن انقضت أيامه وأناخ به حمامه. رحمه الله.