الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجامع المؤيدي
هذا الجامع بجوار باب زويلة من داخله، كان موضعه خزانة شمائل حيث يسجن أرباب الجرائم، وقيسارية سنقر الأشقر، ودرب الصفيرة، وقيسارية بهاء الدين أرسلان.
أنشأه السلطان الملك المؤيد أبو النصر شيخ المحموديّ الظاهري، فهو الجامع لمحاسن البنيان، الشاهد بفخامة أركانه وضخامة بنيانه، أن منشئه سيد ملوك الزمان، يحتقر الناظر له عند مشاهدته عرش بلقيس وإيوان كسرى أنو شروان، ويستصغر من تأمل بديع أسطوانه الخورنق وقصر غمدان، ويعجب من عرف أوّليته من تبديل الأبدال، وتنقل الأمور من حال إلى حال بينا هو سجن تزهق فيه النفوس ويضام المجهود، إذ صار مدارس آيات وموضع عبادات ومحل سجود، فالله يعمره ببقاء منشئه ويعلي كلمة الأيمان بدوام ملك بانيه.
همم الملوك إذا أراد واذكرها
…
من بعدهم فبألسن البنيان
أو ما ترى الهرمين قد بقيا وكم
…
ملك محاه حوادث الأزمان
إنّ البناء إذا تعاظم قدره
…
أضحى يدل على عظيم الشان
وأوّل ما ابتدئ به في أمر هذا الجامع، أن رسم في رابع شهر ربيع الأوّل سنة ثمان عشرة وثمانمائة، بانتقال سكان قيسارية سنقر الأشقر التي كانت تجاه قيسارية الفاضل، ثم نزل جماعة من أرباب الدولة في خامسه من قلعة الجبل، وابتدئ في الهدم في القيسارية المذكورة، وما يجاورها، فهدمت الدور التي كانت هناك في درب الصفيرة، وهدمت خزانة شمائل فوجد بها من رمم القتلى ورؤوسهم شيء كثير، وأفرد لنقل ما خرج من التراب عدّة من الجمال والحمير بلغت علائقهم في كل يوم خمسمائة عليقة. وكان السبب في اختيار هذا المكان دون غيره أن السلطان حبس في خزانة شمائل هذه أيام تغلّب الأمير منطاش وقبضه على المماليك الظاهرية، فقاسى في ليلة من البق والبراغيث شدائد، فنذر لله تعالى إن تيسر له ملك مصر أن يجعل هذه البقعة مسجدا لله عز وجل، ومدرسة لأهل العلم، فاختار لذلك هذه البقعة وفاء لنذره.
وفي رابع جمادى الآخرة كان ابتداء حفر الأساس، وفي خامس صفر سنة تسع عشرة وثمانمائة. وقع الشروع في البناء، واستقرّ فيه بضع وثلاثون بنّاء، ومائة فاعل، ووفيت لهم ولمباشريهم أجورهم من غير أن يكلف أحد في العمل فوق طاقته، ولا سخّر فيه أحد بالقهر، فاستمرّ العمل إلى يوم الخميس سابع عشر ربيع الأوّل، فأشهد عليه السلطان أنه وقف هذا مسجدا لله تعالى، ووقف عليه عدّة مواضع بديار مصر وبلاد الشام، وتردّد ركوب السلطان إلى هذه العمارة عدّة مرار. وفي شعبان طلبت عمد الرخام وألواح الرخام لهذا الجامع، فأخذت من الدور والمساجد وغيرها، وفي يوم الخميس سابع عشري شوّال نقل
باب مدرسة السلطان حسن بن محمد بن قلاون والتنور النحاس المكفت إلى هذه العمارة، وقد اشتراهما السلطان بخمسمائة دينار، وهذا الباب هو الذي عمل لهذا الجامع، وهذا التنور هو التنور المعلق تجاه المحراب، وكان الملك الظاهر برقوق قد سدّ باب مدرسة السلطان حسن وقطع البسطة التي كانت قدّامه كما تقدّم، فبقي مصراعا الباب والسدّ من ورائهما حتى نقلا مع التنور الذي كان معلقا هناك. وفي ثامن عشرية دفنت ابنة صغيرة للسلطان في موضع القبة الغربية من هذا الجامع، وهي ثاني ميت دفن بها، وانعقدت جملة ما صرف في هذه العمارة إلى سلخ ذي الحجة سنة تسع عشرة على أربعين ألف دينار، ثم نزل السلطان في عشري المحرّم إلى هذه العمارة ودخل خزانة الكتب التي عملت هناك، قد حمل إليها كتبا كثيرة في أنواع العلوم، كانت بقلعة الجبل، وقدّم له ناصر الدين محمد البارزيّ كاتب السرّ خمسمائة مجلد، قيمتها ألف دينار، فأقرّ ذلك بالخزانة وأنعم على ابن البارزيّ بأن يكون خطيبا وخازن المكتب هو ومن بعده من ذرّيته.
وفي سابع عشر شهر ربيع الآخر منها سقط عشرة من الفعلة، مات منهم أربعة وحمل ستة بأسوإ حال. وفي يوم الجمعة ثاني جمادى الأولى أقيمت الجمعة به، ولم يكمل منه سوى الإيوان القبليّ، وخطب وصلّى بالناس عز الدين عبد السلام المقدسيّ أحد نوّاب القضاة الشافعية نيابة عن ابن البارزيّ كاتب السرّ. وفي يوم السبت خامس شهر رمضان منها ابتدئ بهدم ملك بجوار ربع الملك الظاهر بيبرس، مما اشتراه الأمير فخر الدين عبد الغنيّ بن أبي الفرج الاستادار ليعمل ميضأة، واستمرّ العمل هناك ولازم الأمير فخر الدين الإقامة بنفسه، واستعمل مماليكه والزامه فيه وجدّ في العمل كلّ يوم، فكملت في سلخه بعد خمسة وعشرين يوما، ووقع الشروع في بناء حوانيت على بابها من جهة تحت الربع، ويعلوها طباق، وبلغت النفقة على الجامع إلى أخريات شهر رمضان هذا، سوى عمارة الأمير فخر الدين المذكور، زيادة على سبعين ألف دينار، وتردّد السلطان إلى النظر في هذا الجامع غير مرّة. فلما كان في أثناء شهر ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين ظهر بالمئذنة التي أنشئت على بدنة باب زويلة التي تلي الجامع إعوجاج إلى جهة دار التفاح، فكتب محضر بجماعة المهندسين أنها مستحقة الهدم، وعرض على السلطان فرسم بهدمها، فوقع الشروع في الهدم يوم الثلاثاء رابع عشرية، واستمرّ في كل يوم، فسقط يوم الخميس سادس عشرية منها حجر هدم ملكا تجاه باب زويلة، هلك تحته رجل، فغلق باب زويلة خوفا على المارّة من يوم السبت إلى آخر يوم الجمعة سادس عشري جمادى الأولى، مدّة ثلاثين يوما، ولم يعهد وقوع مثل هذا قط منذ بنيت القاهرة. وقال أدباء العصر في سقوط المنارة المذكورة شعرا كثيرا، منه ما قاله حافظ الوقت شهاب الدين أحمد بن عليّ بن حجر الشافعيّ رحمه الله:
لجامع مولانا المؤيد رونق
…
منارته تزهو من الحسن والزين
تقول وقد مالت عليهم تمهّلوا
…
فليس على جسمي أضرّ من العين
فتحدّث الناس أنه في قوله بالعين قصد التورية لتخدم في العين التي تصيب الأشياء فتتلفها، وفي الشيخ بدر الدين محمود العينتابيّ فإنه يقال له العينيّ أيضا.
فقال المذكور يعارضه:
منارة كعروس الحسن إذ جليت
…
وهدمها بقضاء الله والقدر
قالوا أصيبت بعين قلت ذا غلط
…
ما أوجب الهدم إلّا خشية الحجر
يعرّض بالشهاب ابن حجر وكل منهما لم يصب الغرض، فإن العينيّ بدر الدين محمودا ناظر الأحباس، والشيخ شهاب الدين أحمد بن حجر، كل منهما ليس له في المئذنة تعلق حتى تخدم التورية، وأقعد منهما بالتورية من قال:
على البرج من بابي زويلة أسّست
…
منارة بيت الله والمعهد المنجي
فأخلى بها البرج اللعين أمالها
…
ألا فاصرخوا يا قوم باللّعن للبرج
وذلك أن الذي ولى تدبير أمر الجامع المؤيديّ هذا، وولى نظر عمارته بهاء الدين محمد بن البرجيّ، فخدمت التورية في البرجي كما ترى، وتداول هذا الناس فقال آخر:
عتبنا على ميل المنار زويلة
…
وقلنا تركت الناس بالميل في هرج
فقال قريني برج نحس أمالني
…
فلا بارك الرحمن في ذلك البرج
وقال الأديب شمس الدين محمد بن أحمد بن كمال الجوجريّ أحد الشهود:
منارة لثواب الله قد بنيت
…
فكيف هدّت فقالوا نوضح الخبرا
أصابت العين أحجارا بها انفلقت
…
ونظرة العين قالوا تفلق الحجرا
وقال آخر:
منارة قد هدمت بالقضا
…
والناس في هرج وفي رهج
أمالها البرج فمالت به
…
فلعنة الله على البرج
وفي ثالث جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين استقرّ الشيخ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن عليّ بن حجر في تدريس الشافعية، والشيخ يحيى بن محمد بن أحمد العجيسيّ البجائيّ المغربيّ في تدريس المالكية، وعز الدين عبد العزيز بن عليّ بن الفخر البغداديّ في تدريس الحنابلة، وخلع عليهم بحضرة السلطان، فدرس ابن حجر بالمحراب في يوم الخميس ثالث عشرة، ونزل السلطان وأقبل ليحضر عنده، وهو في إلقاء الدرس ومنعه من القيام له، فلم يقم واستمرّ فيما هو بصدده، وجلس السلطان عنده مليا، ثم درّس يحيى