الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والخوارج يقال لهم الشراة، وأحدهم شاري، مشتق من شرى الرجل إذا ألح، أو معناه يستشري بالشرّ، أو من قول الخوارج شرينا أنفسنا لدين الله فنحن لذلك شراة، وقيل أنه من قولهم شاريته أي لاححته وماريته، وقيل شرى الرجل غضبا إذا استطار غضبا، وقيل لهم هذا لشدّة غضبهم على المسلمين.
ذكر الحال في عقائد أهل الإسلام، منذ ابتداء الملة الإسلامية إلى أن انتشر مذهب الأشعرية
اعلم أن الله تعالى لما بعث من العرب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا إلى الناس جميعا، وصف لهم ربهم سبحانه وتعالى، بما وصف به نفسه الكريمة في كتابه العزيز الذي نزل به على قلبه صلى الله عليه وسلم الروح الأمين وبما أوحى إليه ربه تعالى، فلم يسأله صلى الله عليه وسلم أحد من العرب بأسرهم، قرويهم وبدويهم عن معنى شيء من ذلك، كما كانوا يسألونه صلى الله عليه وسلم عن أمر الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك مما لله فيه سبحانه أمر ونهي، وكما سألوه صلى الله عليه وسلم عن أحوال القيامة والجنة والنار، إذ لو سأله إنسان منهم عن شيء من الصفات الإلهية لنقل كما نقلت الأحاديث الواردة عنه صلى الله عليه وسلم في أحكام الحلال والحرام، وفي الترغيب والترهيب، وأحوال القيامة والملاحم والفتن، ونحو ذلك مما تضمنته كتب الحديث، معاجمها ومسانيدها وجوامعها، ومن أمعن النظر في دواوين الحديث النبويّ، ووقف على الآثار السلفية، علم أنه لم يرد قط من طريق صحيح ولا سقيم عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، وعلى اختلاف طبقاتهم وكثرة عددهم، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى شيء مما وصف الربّ، سبحانه به نفسه الكريمة في القرآن الكريم، وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، بل كلهم فهموا معنى ذلك وسكتوا عن الكلام في الصفات، نعم ولا فرّق أحد منهم بين كونها صفة ذات أو صفة فعل، وإنما أثبتوا له تعالى صفات أزلية من العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام والجلال والإكرام والجود والإنعام والعز والعظمة، وساقوا الكلام سوقا واحدا. وهكذا أثبتوا رضي الله عنهم ما أطلقه الله سبحانه على نفسه الكريمة من الوجه واليد ونحو ذلك، مع نفي مماثلة المخلوقين، فأثبتوا رضي الله عنهم بلا تشبيه، ونزهوا من غير تعطيل، ولم يتعرّض مع ذلك أحد منهم إلى تأويل شيء من هذا، ورأوا بأجمعهم إجراء الصفات كما وردت، ولم يكن عند أحد منهم ما يستدل به على وحدانية الله تعالى، وعلى إثبات نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، سوى كتاب الله، ولا عرف أحد منهم شيئا من الطرق الكلامية ولا مسائل الفلسفة، فمضى عصر الصحابة رضي الله عنهم على هذا إلى أن حدث في زمنهم القول بالقدر، وأنّ الأمر أنفة، أي أنّ الله تعالى لم يقدّر على خلقه شيئا مما هم عليه.
وكان أوّل من قال بالقدر في الإسلام، معبد بن خالد الجهنيّ، وكان يجالس الحسن بن الحسين البصريّ، فتكلم في القدر بالبصرة، وهلك أهل البصرة مسلكه لما رأوا
عمرو بن عبيد ينتحله، وأخذ معبد هذا الرأي عن رجل من الأساورة يقال له أبو يونس سنسويه، ويعرف بالإسواريّ، فلما عظمت الفتنة به عذبه الحجاج وصلبه بأمر عبد الملك بن مروان سنة ثمانين، ولما بلغ عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما مقالة معبد في القدر تبرّأ من القدرية، واقتدى بمعبد في بدعته هذه جماعة، وأخذ السلف رحمهم الله في ذمّ القدرية، وحذروا منهم كما هو معروف في كتب الحديث، وكان عطاء بن يسار قاضيا يرى القدر، وكان يأتي هو ومعبد الجهنيّ إلى الحسن البصريّ فيقولان له: إنّ هؤلاء يسفكون الدماء ويقولون: إنما تجري أعمالنا على قدر الله، فقال: كذب أعداء الله، فطعن عليه بهذا، ومثله. وحدث أيضا في زمن الصحابة رضي الله عنهم مذهب الخوارج، وصرّحوا بالتكفير بالذنب والخروج على الإمام وقتاله، فناظرهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فلم يرجعوا إلى الحق، وقاتلهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وقتل منهم جماعة كما هو معروف في كتب الأخبار، ودخل في دعوة الخوارج خلق كثير، ورمى جماعة من أئمة الإسلام بأنهم يذهبون إلى مذهبهم، وعدّ منهم غير واحد من رواة الحديث كما هو معروف عند أهله، وحدث أيضا في زمن الصحابة رضي الله عنهم مذهب التشيع لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، والغلوّ فيه، فلما بلغه ذلك أنكره وحرّق بالنار جماعة ممن غلا فيه وأنشد:
لمّا رأيت الأمر أمرا منكرا
…
اجّجت ناري ودعوت قنبرا
وقام في زمنه رضي الله عنه عبد الله بن وهب بن سبأ، المعروف بابن السوداء السبأي، وأحدث القول بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ بالإمامة من بعده، فهو وصيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته على أمّته من بعده بالنص، وأحدث القول برجعة عليّ بعد موته إلى الدنيا، وبرجعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا، وزعم أنّ عليا لم يقتل، وأنه حيّ وأن فيه الجزء الإلهيّ، وأنه هو الذي يجيء في السحاب، وأن الرعد صوته والبرق سوطه، وأنه لا بدّ أن ينزل إلى الأرض فيملأها عدلا كما ملئت جورا. ومن ابن سبأ هذا تشعبت أصناف الغلاة من الرافضة، وصاروا يقولون بالوقف، يعنون أن الإمامة موقوفة على أناس معينين، كقول الإمامية بأنها في الأئمة الاثني عشر، وقول الإسماعيلية بأنها في ولد إسماعيل بن جعفر الصادق، وعنه أيضا أخذوا القول بفيئة الإمام، والقول برجعته بعد الموت إلى الدنيا، كما تعتقده الإمامية إلى اليوم في صاحب السرداب، وهو القول بتناسخ الأرواح، وعنه أخذوا أيضا القول بأن الجزء الإلهيّ يحلّ في الأئمة بعد عليّ بن أبي طالب، وأنهم بذلك استحقوا الإمامة بطريق الوجوب، كما استحق آدم عليه السلام سجود الملائكة، وعلى هذا الرأي كان اعتقاد دعاة الخلفاء الفاطميين ببلاد مصر، وابن سبأ هذا هو الذي أثار فتنة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه حتى قتل: كما ذكر في ترجمة ابن سبأ من كتاب التاريخ الكبير المقفى؛ وكان له عدّة أتباع في عامّة الأمصار، وأصحاب كثيرون في معظم الأقطار، فكثرت لذلك الشيعة
وصاروا ضدّا للخوارج، وما زال أمرهم يقوى وعددهم يكثر.
ثم حدث بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم، مذهب جهم بن صفوان ببلاد المشرق، فعظمت الفتنة به. فإنه نفى أن يكون لله تعالى صفة، وأورد على أهل الإسلام شكوكا أثر في الملة الإسلامية آثارا قبيحة، تولد عنها بلاء كبير. وكان قبيل المائة من سني الهجرة، فكثر أتباعه على أقواله التي تؤول إلى التعطيل، فأكبر أهل الإسلام بدعته وتمالؤا على إنكارها وتضليل أهلها. وحذروا من الجهمية وعادوهم في الله وذمّوا من جلس إليهم، وكتبوا في الردّ عليهم ما هو معروف عند أهله، وفي أثناء ذلك حدث مذهب الاعتزال، منذ زمن الحسن بن الحسين البصريّ رحمه الله، بعد المائتين من سني الهجرة، وصنفوا فيه مسائل في العدل والتوحيد وإثبات أفعال العباد، وأن الله تعالى لا يخلق الشرّ وجهلوا بأن الله لا يرى في الآخرة، وأنكروا عذاب القبر على البدن، وأعلنوا بأن القرآن مخلوق محدث، إلى غير ذلك من مسائلهم، فتبعهم خلائق في بدعهم، وأكثروا من التصنيف في نصرة مذهبهم بالطرق الجدلية، فنهى أئمة الإسلام عن مذهبهم، وذمّوا علم الكلام، وهجروا من ينتحله، ولم يزل أمر المعتزلة يقوى وأتباعهم تكثر ومذهبهم ينتشر في الأرض.
ثم حدث مذهب التجسيم المضادّ لمذهب الاعتزال، فظهر محمد بن كرّام بن عراق بن حزابة، أبو عبد الله السجستانيّ، زعيم الطائفة الكرّامية بعد المائتين من سني الهجرة، وأثبت الصفات حتى انتهى فيها إلى التجسيم والتشبيه، وحج وقدم الشام ومات بزغرة، في صفر سنة ست وخمسين ومائتين، فدفن بالمقدس، وكان هناك من أصحابه زيادة على عشرين ألفا على التعبد والتقشف، سوى من كان منهم ببلاد المشرق، وهم لا يحصون لكثرتهم، وكان إماما لطائفتي الشافعية والحنفية، وكانت بين الكرّامية بالمشرق وبين المعتزلة مناظرات ومناكرات وفتن كثيرة متعدّدة أزماتها. هذا وأمر الشيعة يفشو في الناس حتى حدث مذهب القرامطة، المنسوبين إلى حمدان الأشعث المعروف بقرمط، من أجل قصر قامته وقصر رجليه وتقارب خطوه، وكان ابتداء أمر قرمط هذا في سنة أربع وستين ومائتين، وكان ظهوره بسواد الكوفة فاشتهر مذهبه بالعراق، وقام من القرامطة ببلاد الشام صاحب الحال والمدّثر والمطوّق، وقام بالبحرين منهم أبو سعيد الجنابيّ من أهل جنابة، وعظمت دولته ودولة بنيه من بعده، حتى أوقعوا بعساكر بغداد وأخافوا خلفاء بني العباس، وفرضوا الأموال التي تحمل إليهم في كل سنة على أهل بغداد وخراسان والشام ومصر واليمن، وغزوا بغداد والشام ومصر والحجاز، وانتشرت دعاتهم بأقطار الأرض، فدخل جماعات من الناس في دعوتهم ومالوا إلى قولهم الذي سموه علم الباطن، وهو تأويل شرائع الإسلام وصرفها عن ظواهرها إلى أمور زعموها من عند أنفسهم، وتأويل آيات القرآن ودعوا هم فيها تأويلا بعيدا انتحلوا القول به بدعا ابتدعوها بأهوائهم، فضلوا وأضلوا عالما كثيرا.
هذا وقد كان المأمون عبد الله بن هارون الرشيد سابع خلفاء بني العباس ببغداد، لما شغف بالعلوم القديمة. بعث إلى بلاد الروم من عرّب له كتب الفلاسفة وأتاه بها في أعوام بضع عشرة سنة ومائتين من سني الهجرة، فانتشرت مذاهب الفلاسفة في الناس، واشتهرت كتبهم بعامّة الأمصار، وأقبلت المعتزلة والقرامطة والجهمية وغيرهم عليها، وأكثروا من النظر فيها والتصفح لها، فانجرّ على الإسلام وأهله من علوم الفلاسفة ما لا يوصف من البلاء والمحنة في الدين، وعظم بالفلسفة ضلال أهل البدع وزادتهم كفرا إلى كفرهم. فلما قامت دولة بني بويه ببغداد في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة واستمرّوا إلى سنة سبع وثلاثين وأربعمائة، وأظهروا مذهب التشيع، قويت بهم الشيعة وكتبوا على أبواب المساجد في سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة لعن الله معاوية بن أبي سفيان، ولعن من أغضب فاطمة، ومن منع الحسن أن يدفن عند جدّه، ومن نفى أبا ذر الغفاريّ، ومن أخرج العباس من الشورى.
فلما كان الليل حكه بعض الناس، فأشار الوزير المهلبيّ أن يكتب بإذن معز الدولة، لعن الله الظالمين لأهل البيت، ولا يذكر أحد في اللعن غير معاوية. ففعل ذلك وكثرت ببغداد الفتن بين الشيعة والسنية، وجهر الشيعة في الأذان بحيّ على خير العمل في الكرخ، وفشا مذهب الاعتزال بالعراق وخراسان وما وراء النهر، وذهب إليه جماعة من مشاهير الفقهاء، وقوى مع ذلك أمر الخلفاء الفاطميين بأفريقية وبلاد المغرب، وجهروا بمذهب الإسماعيلية وبثوا دعاتهم بأرض مصر، فاستجاب لهم خلق كثير من أهلها، ثم ملكوها سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وبعثوا بعساكرهم إلى الشام فانتشرت مذاهب الرافضة في عامّة بلاد المغرب ومصر والشام وديار بكر والكوفة والبصرة وبغداد، وجميع العراق، وبلاد خراسان، وما وراء النهر مع بلاد الحجاز واليمن والبحرين، وكانت بينهم وبين أهل السنة من الفتن والحروب والمقاتل ما لا يمكن حصره لكثرته، واشتهرت مذاهب الفرق من القدرية والجهمية والمعتزلة والكرّامية والخوارج والروافض والقرامطة والباطنية، حتى ملأت الأرض، وما منهم إلّا من نظر في الفلسفة وسلك من طرقها ما وقع عليه اختياره، فلم تبق مصر من الأمصار ولا قطر من الأقطار، إلا وفيه طوائف كثيرة ممن ذكرنا.
وكان أبو الحسن عليّ بن إسماعيل الأشعريّ قد أخذ عن أبي عليّ محمد بن عبد الوهاب الجبائيّ، ولازمه عدّة أعوام، ثم بدا له فترك مذهب الاعتزال وسلك طريق أبي محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن كلاب، ونسج على قوانينه في الصفات والقدر، وقال بالفاعل المختار، وترك القول بالتحسين والتقبيح العقليين، وما قيل في مسائل الصلاح والأصلح، وأثبت أن العقل لا يوجب المعارف قبل الشرع، وأن العلوم وإن حصلت بالعقل فلا تجب به، ولا يجب البحث عنها إلّا بالسمع، وأن الله تعالى لا يجب عليه شيء، وأن النبوّات من الجائزات العقلية والواجبات السمعية إلى غير ذلك من مسائله التي هي موضوع أصول الدين.
وحقيقة مذهب الأشعريّ: رحمه الله، أنه سلك طريقا بين النفي الذي هو مذهب الاعتزال، وبين الإثبات الذي هو مذهب أهل التجسيم، وناظر على قوله هذا واحتج لمذهبه، فمال إليه جماعة وعوّلوا على رأيه، منهم القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلانيّ المالكيّ، وأبو بكر محمد بن الحسن بن فورك، والشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن مهران الأسفراينيّ، والشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن عليّ بن يوسف الشيرازيّ، والشيخ أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزاليّ، وأبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستانيّ، والإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازيّ، وغيرهم ممن يطول ذكره، ونصروا مذهبه وناظروا عليه وجادلوا فيه واستدلوا له في مصنفات لا تكاد تحصر، فانتشر مذهب أبي الحسن الأشعريّ في العراق من نحو سنة ثمانين وثلاثمائة وانتقل منه إلى الشام، فلما ملك السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ديار مصر، كان هو وقاضيه صدر الدين عبد الملك بن عيسى بن درباس المارانيّ على هذا المذهب، قد نشآ عليه منذ كانا في خدمة السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بدمشق، وحفظ صلاح الدين في صباه عقيدة ألفها له قطب الدين أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوريّ، وصار يحفظها صغار أولاده، فلذلك عقدوا الخناصر وشدّوا البنان على مذهب الأشعريّ، وحملوا في أيام دولتهم كافة الناس على التزامه، فتمادى الحال على ذلك جميع أيام الملوك من بني أيوب، ثم في أيام مواليهم الملوك من الأتراك، واتفق مع ذلك توجه أبي عبد الله محمد بن تومرت أحد رجالات المغرب إلى العراق، وأخذ عن أبي حامد الغزاليّ مذهب الأشعريّ، فلما عاد إلى بلاد المغرب وقام في المصامدة يفقههم ويعلمهم، وضع لهم عقيدة لقفها عنه عامّتهم، ثم مات فخلفه بعد موته عبد المؤمن بن عليّ القيسيّ، وتلقب بأمير المؤمنين، وغلب على ممالك المغرب هو وأولاده من بعد مدّة سنين، وتسموا بالموحدين، فلذلك صارت دولة الموحدين ببلاد المغرب تستبيح دماء من خالف عقيدة ابن تومرت، إذ هو عندهم الإمام المعلوم، المهديّ المعصوم، فكم أراقوا بسبب ذلك من دماء خلائق لا يحصيها إلّا الله خالقها سبحانه وتعالى، كما هو معروف في كتب التاريخ، فكان هذا هو السبب في اشتهار مذهب الأشعريّ وانتشاره في أمصار الإسلام، بحيث نسي غيره من المذاهب، وجهل حتى لم يبق اليوم مذهب يخالفه، إلّا أن يكون مذهب الحنابلة أتباع الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه، فإنهم كانوا على ما كان عليه السلف، لا يرون تأويل ما ورد من الصفات، إلى أن كان بعد السبعمائة من سني الهجرة، اشتهر بدمشق وأعمالها تقيّ الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحكم بن عبد السلام بن تيمية الحرّانيّ، فتصدّى للانتصار لمذهب السلف وبالغ في الردّ على مذهب الأشاعرة، وصدع بالنكير عليهم وعلى الرافضة، وعلى الصوفية، فافترق الناس فيه فريقان، فريق يقتدي به ويعوّل على أقواله ويعمل برأيه، ويرى أنه شيخ
الإسلام وأجلّ حفاظ أهل الملّة الإسلامية. وفريق يبدّعه ويضلله ويزري عليه بإثباته الصفات، وينتقد عليه مسائل منها ما له فيه سلف، ومنها ما زعموا أنه خرق فيه الإجماع، ولم يكن له فيه سلف، وكانت له ولهم خطوب كثيرة، وحسابه وحسابهم على الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وله إلى وقتنا هذا عدّة أتباع بالشام وقليل بمصر.
هذا وبين الأشاعرة والماتريدية أتباع أبي منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريديّ، وهم طائفة الفقهاء الحنفية مقلد والإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت، وصاحبيه أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الحضرميّ، ومحمد بن الحسن الشيبانيّ رضي الله عنهم، من الخلاف في العقائد ما هو مشهور في موضعه، وهو إذ تتبع يبلغ بضع عشرة مسألة، كان بسببها في أوّل الأمر تباين وتنافر، وقدح كل منهم في عقيدة الآخر، إلّا أن الأمر آل آخرا إلى الإغضاء، ولله الحمد.
فهذا أعز الله بيان ما كانت عليه عقائد الأمّة من ابتداء الأمر إلى وقتنا هذا، قد فصّلت فيه ما أجمله أهل الأخبار، وأجملت ما فصلوا، فدونك طالب العلم تناول ما قد بذلت فيه جهدي وأطلت بسببه سهري وكدّي في تصفح دواوين الإسلام وكتب الأخبار، فقد وصل إليك صفوا ونلته عفوا بلا تكلف مشقة ولا بذل مجهول، ولكن الله يمنّ على من يشاء من عباده.
أبو الحسن عليّ بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة عامر بن أبي موسى، واسمه عبد الله بن قيس «الأشعريّ» البصريّ، ولد سنة ست وستين ومائتين، وقيل سنة سبعين، وتوفي ببغداد سنة بضع وثلاثين وثلاثمائة وقيل سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، سمع زكريا الساجي، وأبا خليفة الجمحيّ، وسهل بن نوح، ومحمد بن يعقوب القمريّ، وعبد الرحمن بن خلف الضبيّ المصريّ، وروى عنهم في تفسيره كثيرا، وتلمذ لزوج أمّه أبي عليّ محمد بن عبد الوهاب الجبائيّ، واقتدى برأيه في الاعتزال عدّة سنين حتى صار من أئمة المعتزلة، ثم رجع عن القول بخلق القرآن وغيره من آراء المعتزلة، وصعد يوم الجمعة بجامع البصرة كرسيا ونادى بأعلى صوته، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه بنفسي، أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن وأن الله لا يرى بالإبصار، وأن أفعال الشرّ أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع معتقد الردّ على المعتزلة، مبين لفضائحهم ومعايبهم، وأخذ من حينئذ في الردّ عليهم، وسلك بعض طريق أبي محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن كلاب القاطن، وبنى على قواعده. وصنف خمسة وخمسين تصنيفا منها. كتاب اللمع، وكتاب الموجز، وكتاب إيضاح البرهان، وكتاب التبيين على أصول الدين، وكتاب الشرح والتفصيل في الردّ على
أهل الإفك والتضليل، وكتاب الإبانة، وكتاب تفسير القرآن، يقال أنه في سبعين مجلدا.
وكانت غلته من ضيعة وقفها بلال بن أبي بردة على عقبه، وكانت نفقته في السنة سبعة عشر درهما، وكانت فيه دعابة ومزح كثير. وقال مسعود بن شيبة في كتاب التعليم: كان حنفيّ المذهب، معتزليّ الكلام، لأنه كان ربيب أبي عليّ الجبائيّ، وهو الذي رباه وعلمه الكلام، وذكر الخطيب أنه كان يجلس أيام الجمعات في حلقة أبي إسحاق المروزيّ الفقيه في جامع المنصور. وعن أبي بكر بن الصيرفيّ: كان المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى أظهر الله تعالى الأشعريّ فحجزهم في أقماع السماسم.
وجملة عقيدته أنّ الله تعالى عالم بعلم، قادر بقدرة، حيّ بحياة، مريد بإرادة، متكلم بكلام، سميع يسمع، بصير يبصر، وأن صفاته أزلية قائمة بذاته تعالى، لا يقال هي هو، ولا هي غيره، ولا هي هو، ولا غيره. وعلمه واحد يتعلق بجميع المعلومات، وقدرته واحدة تتعلق بجميع ما يصح وجوده، وإرادته واحدة تتعلق بجميع ما يقبل الاختصاص، وكلامه واحد هو أمر ونهي وخبر واستخبار ووعد ووعيد، وهذه الوجوه راجعة إلى اعتبارات في كلامه، لا إلى نفس الكلام والألفاظ المنزلة على لسان الملائكة إلى الأنبياء، دلالات على الكلام الأزليّ، فالمدلول وهو القرآن المقروء، قديم أزليّ، والدلالة وهي العبارات، وهي القراءة، مخلوقة محدثة. قال: وفرق بين القراء والمقروء، والتلاوة والمتلوّ، كما فرق بين الذكر والمذكور. قال: والكلام معنى قائم بالنفس، والعبارة دالة على ما في النفس، وإنما تسمى العبارة كلاما مجازا. قال وأراد الله تعالى جميع الكائنات خيرها وشرّها، ونفعها وضرّها، ومال في كلامه إلى جواز تكليف ما لا يطاق، لقوله أنّ الاستطاعة مع الفعل، وهو مكلف بالفعل قبله، وهو غير مستطيع قبله على مذهبه. قال وجميع أفعال العباد مخلوقة مبدعة من الله تعالى، مكتسبة للعبد، والكسب عبارة عن الفعل القائم بمحل قدرة العبد. قال: والخالق هو الله تعالى، حقيقة لا يشاركه في الخلق غيره، فأخص وصفه هو القدرة والاختراع، وهذا تفسير اسمه البارئ.
قال وكلّ موجود يصح أن يرى، والله تعالى موجود، فيصح أن يرى، وقد صح السمع بأن المؤمنين يرونه في الدار الأخرى في الكتاب والسنة، ولا يجوز أن يرى في مكان، ولا صورة مقابلة، واتصال شعاع، فإن ذلك كله محال، وماهية الرؤية له فيها رأيان، أحدهما: أنه علم مخصوص يتعلق بالوجود دون العدم، والثاني أنه إدراك وراء العلم، وأثبت السمع والبصر صفتين أزليتين هما إدراكان وراء العلم، وأثبت اليدين والوجه صفات خبرية، ورد السمع بها، فيجب الاعتراف به، وخالف المعتزلة في الوعد والوعيد والسمع والعقل من كل وجه. وقال: الإيمان هو التصديق بالقلب والقول باللسان والعمل بالأركان فروع الإيمان، فمن صدّق بالقلب أي أقرّ بوحدانية الله تعالى واعترف بالرسل تصديقا لهم فيما جاؤا به فهو مؤمن، وصاحب الكبيرة إذا خرج من الدنيا من غير توبة
حكمه إلى الله، أما أن يغفر له برحمته أو يشفع له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإمّا أن يعذبه بعدله ثم يدخله الجنة برحمته ولا يخلد في النار مؤمن. قال ولا أقول أنه يجب على الله سبحانه قبول توبته بحكم العقل، لأنه هو الموجب، لا يجب عليه شيء أصلا، بل قد ورد السمع بقبول توبة التائبين، وإجابة دعوة المضطرّين، وهو المالك لخلقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فلو أدخل الخلائق بأجمعهم النار لم يكن جورا، ولو أدخلهم الجنة لم يكن حيفا، ولا يتصوّر منه ظلم، ولا ينسب إليه جور، لأنه المالك المطلق، والواجبات كلها سمعية فلا يوجب العقل شيئا البتة، ولا يقتضي تحسينا ولا تقبيحا، فمعرفة الله تعالى وشكر المنعم، وإثابة الطائع، وعقاب العاصي، كلّ ذلك بحسب السمع دون العقل، ولا يجب على الله شيء لا صلاح ولا أصلح ولا لطف بل الثواب والصلاح واللطف والنعم كلها تفضل من الله تعالى، ولا يرجع إليه تعالى نفع ولا ضرّ، فلا ينتفع بشكر شاكر، ولا يتضرّر بكفر كافر، بل يتعالى ويتقدّس عن ذلك، وبعث الرسل جائز لا واجب ولا مستحيل، فإذا بعث الله تعالى الرسول وأيده بالمعجزة الخارقة للعادة وتحدّى ودعا الناس، وجب الإصغاء إليه والاستماع منه والامتثال لأوامره والانتهاء عن نواهيه، وكرامات الأولياء حق، والإيمان بما جاء في القرآن والسنة من الأخبار عن الأمور الغائبة عنا مثل اللوح والقلم والعرش والكرسيّ والجنة والنار حق وصدق، وكذلك الأخبار عن الأمور التي ستقع في الآخرة، مثل سؤال القبر والثواب والعقاب فيه والحشر والمعاد والميزان والصراط وانقسام فريق في الجنة وفريق في السعير، كلّ ذلك حق وصدق يجب الإيمان والاعتراف به. والإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار دون النص والتعيين على واحد معين، والأئمة مترتبون في الفضل ترتبهم في الإمامة. قال ولا أقول في عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم إلّا أنّهم رجعوا عن الخطأ، وأقول أن طلحة والزبير من العشرة المبشرين بالجنة، وأقول في معاوية وعمرو بن العاص أنهما بغيا على الإمام الحق عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم، فقاتلهم مقاتلة أهل البغي، وأقول أن أهل النهروان الشراة هم المارقون عن الدين، وأن عليا رضي الله عنه كان على الحق في جميع أحواله، والحق معه حيث دار.
فهذه جملة من أصول عقيدته التي عليها الآن جماهير أهل الأمصار الإسلامية، والتي من جهر بخلافها أريق دمه، والأشاعرة يسمون الصفاتية لإثباتهم صفات الله تعالى القديمة، ثم افترقوا في الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة، كالاستواء والنزول والإصبع واليد والقدم والصورة والجنب، والمجيء على فرقتين، فرقة تؤول جميع ذلك على وجوه محتملة اللفظ، وفرقة لم يتعرّضوا للتأويل ولا صاروا إلى التشبيه، ويقال لهؤلاء الأشعرية الأسرية، فصار للمسلمين في ذلك خمسة أقوال: أحدها اعتقاد ما يفهم مثله من اللغة، وثانيها السكوت عنها مطلقا، وثالثها السكوت عنها بعد نفي إرادة الظاهر، ورابعها حملها على المجاز، وخامسها حملها على الاشتراك، ولكلّ فريق أدلة وحجاج تضمنتهما كتب أصول
الدين، ولا يزالون مختلفين إلّا من رحم ربك، ولذلك خلقهم والله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون.
فصل: اعلم أن الله سبحانه طلب من الخلق معرفته بقوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ
[الذاريات/ 56] قال ابن عباس وغيره يعرفون، فخلق تعالى الخلق وتعرّف إليهم بألسنة الشرائع المنزلة، فعرفه من عرفه، سبحانه، منهم على ما عرّفهم فيما تعرّف به إليهم، وقد كان الناس قبل إنزال الشرائع الرسل عليهم السلام، علمهم بالله تعالى إنما هو بطريق التنزيه له عن سمات الحدوث، وعن التركيب، وعن الافتقار. ويصفونه سبحانه بالاقتدار المطلق، وهذا التنزيه هو المشهور عقلا، ولا يتعدّاه عقل أصلا، فلما أنزل الله شريعته على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأكمل دينه، كان سبيل العارف بالله أن يجمع في معرفته بالله بين معرفتين، إحداهما المعرفة التي تقتضيها الأدلة العقلية، والأخرى المعرفة التي جاءت بها الاخبارات الإلهية، وأن يردّ علم ذلك إلى الله تعالى، ويؤمن به وبكل ما جاءت به الشريعة على الوجه الذي أراده الله تعالى، من غير تأويل بفكره ولا تحكم فيه برأيه، وذلك أن الشرائع إنما أنزلها الله تعالى لعدم استقلال العقول البشرية بإدراك حقائق الأشياء على ما هي عليه في علم الله، وأنّي لها ذلك وقد تقيدت بما عندها من إطلاق ما هنالك، فإن وهبها علما بمراده من الأوضاع الشرعية، ومنحها الاطلاع على حكمه في ذلك، كان من فضله تعالى، فلا يضيف العارف هذه المنة إلى فكره، فإن تنزيهه لربه تعالى بفكره ويجب أن يكون مطابقا لما أنزله سبحانه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة، وإلّا فهو تعالى منزه عن تنزيه عقول البشر بأفكارها، فإنها مقيدة بأوطارها، فتنزيهها كذلك مقيد بحسبها وبموجب أحكامها وآثارها، إلّا إذا خلت عن الهوى فإنها حينئذ يكشف الله لها الغطاء عن بصائرها، ويهديها إلى الحق، فتنزه الله تعالى عن التنزيهات العرفية بالأفكار العادية، وقد أجمع المسلمون قاطبة على جواز رواية الأحاديث الواردة في الصفات ونقلها وتبليغها من غير خلاف بينهم في ذلك، ثم أجمع أهل الحق منهم على أن هذه الأحاديث مصروفة عن احتمال مشابهة الخلق، لقول الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ
[الشورى/ 11] ولقول الله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ
[الاخلاص/ 2] وهذه السورة يقال لها سورة الاخلاص، وقد عظم رسول الله صلى الله عليه وسلم شأنها، ورغّب أمته في تلاوتها، حتى جعلها تعدل ثلث القرآن من أجل أنها شاهدة بتنزيه الله تعالى، وعدم الشبه والمثل له سبحانه، وسميت سورة الإخلاص لاشتمالها على إخلاص التوحيد لله عن أن يشوبه ميل إلى تشبيهه بالخلق، وأمّا الكاف التي في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
[الشورى/ 11] فإنها زائدة، وقد تقرّر أن الكاف والمثل في كلام العرب اتيا للتشبيه، فجمعهما الله تعالى ثم نفى بهما عنه ذلك، فإذا ثبت إجماع المسلمين على جواز رواية هذه الأحاديث ونقلها، مع إجماعهم على أنها مصروفة عن
التشبيه، لم يبق في تعظيم الله تعالى بذكرها إلّا نفي التعطيل، لكون أعداء المرسلين سموا ربهم سبحانه أسماء نفوا فيها صفاته العلا، فقال قوم من الكفار هو طبيعة، وقال آخرون منهم هو علة، إلى غير ذلك من إلحادهم في أسمائه سبحانه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأحاديث المشتملة على ذكر صفات الله العلا، ونقلها عنه أصحابه البررة، ثم نقلها عنهم أئمة المسلمين حتى انتهت إلينا، وكلّ منهم يرويها بصفتها من غير تأويل لشيء منها، مع علمنا أنهم كانوا يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ففهمنا من ذلك أن الله تعالى أراد بما نطق به رسوله صلى الله عليه وسلم من هذه الأحاديث، وتناولها عنه الصحابة رضي الله عنهم وبلغوها لأمّته، أن يغص بها في حلوق الكافرين، وأن يكون ذكرها نكتا في قلب كلّ ضال معطل مبتدع يقفو أثر المبتدعة من أهل الطبائع وعباد العلل، فلذلك وصف الله تعالى نفسه الكريمة بها في كتابه، ووصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا بما صح عنه وثبت، فدل على أن المؤمن إذا اعتقد أن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأنه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، كان ذكره لهذه الأحاديث تمكين الإثبات، وشجا في حلوق المعطلة، وقد قال الشافعيّ: رحمه الله «الإثبات أمكن» نقله الخطابيّ ولم يبلغنا عن أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم أنهم أوّلوا هذه الأحاديث، والذي يمنع من تأويلها إجلال الله تعالى عن أن تضرب له الأمثال، وأنه إذا نزل القرآن بصفة من صفات الله تعالى، كقوله سبحانه: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ
[الفتح/ 10] فإن نفس تلاوة هذا يفهم منها السامع المعنى المراد به، وكذا قوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ
[المائدة/ 64] عند حكايته تعالى عن اليهود نسبتهم إياه إلى البخل فقال تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ
[المائدة/ 64] فإن نفس تلاوة هذا مبينة للمعنى المقصود، وأيضا فإن تأويل هذه الأحاديث يحتاج أن يضرب لله تعالى فيها المثل نحو قولهم في قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى
[طه/ 5] الاستواء الاستيلاء، كقولك استوى الأمير على البلد، وأنشدوا:
قد استوى بشر على العراق
فلزمهم تشبيه الباري تعالى ببشر، وأهل الإثبات نزهو إجلال الله عن أن يشبهوه بالأجسام حقيقة ولا مجازا، وعلموا مع ذلك أن هذا النطق يشتمل على كلمات متداولة بين الخالق وخلقه، وتحرّجوا أن يقولوا مشتركة، لأن الله تعالى لا شريك له، ولذلك: لم يتأول السلف شيئا من أحاديث الصفات، مع علمنا قطعا أنها عندهم مصروفة عما يسبق إليه ظنون الجهال من مشابهتها الصفات المخلوقين، وتأمّل تجد الله تعالى لمّا ذكر المخلوقات المتولدة من الذكر والأنثى في قوله سبحانه: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً
[الشورى/ 11] يذرؤكم فيه علم سبحانه ما يخطر بقلوب الخلق، فقال عز من قائل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ
[الشورى: 11] .
واعلم أن السبب في خروج أكثر الطوائف عن ديانة الإسلام، أن الفرس كانت من سعة الملك وعلوّ اليد على جميع الأمم، وجلالة الخطر في أنفسها، بحيث أنهم كانوا يسمون أنفسهم الأحرار والأسياد، وكانوا يعدّون سائر الناس عبيدا لهم، فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب، وكانت العرب عند الفرس أقل الأمم خطرا، تعاظمهم الأمر وتضاعفت لديهم المصيبة، وراموا كيد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى، وفي كل ذلك يظهر الله تعالى الحق، وكان من قائميهم سنفاد واشنيس والمقفع وبابك وغيرهم، وقبل هؤلاء رام ذلك عمار الملقب خداشا، وأبو مسلم السروح، فرأوا أن كيده على الحيلة أنجع، فأظهر قوم منهم الإسلام واستمالوا أهل التشيع بإظهار محبة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستبشاع ظلم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم سلكوا بهم مسالك شتى حتى أخرجوهم عن طريق الهدى، فقوم أدخلوهم إلى القول بأن رجلا ينتظر يدعى المهديّ، عنده حقيقة الدين إذ لا يجوز أن يؤخذ الدين عن كفار، إذ نسبوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكفر، وقوم خرجوا إلى القول بادعاء النبوّة لقوم سموهم به، وقوم سلكوا بهم إلى القول بالحلول وسقوط الشرائع، وآخرون تلاعبوا بهم فأوجبوا عليهم خمسين صلاة في كل يوم وليلة، وآخرون قالوا بل هي سبع عشرة صلاة في كل صلاة خمس عشرة ركعة، وهو قول عبد الله بن عمرو بن الحارث الكنديّ، قبل أن يصير خارجيا صفريا، وقد أظهر عبد الله بن سبأ الحميريّ اليهوديّ الإسلام ليكيد أهله، فكان هو أصل إثارة الناس على عثمان بن عفان رضي الله عنه، واحرق عليّ رضي الله عنه منهم طوائف أعلنوا بإلهيته، ومن هذه الأصول حدثت الإسماعيلية والقرامطة.
والحق الذي لا ريب فيه أن دين الله تعالى ظاهر لا باطن فيه، وجوهر لا سرّ تحته، وهو كله لازم كل أحد لا مسامحة فيه، ولم يكتم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشريعة ولا كلمة، ولا أطلع أخص الناس به من زوجة أو ولد عمّ على شيء من الشريعة، كتمه عن الأحمر والأسود ورعاة الغنم، ولا كان عنده صلى الله عليه وسلم سرّ ولا رمز ولا باطن غير ما دعا الناس كلها إليه، ولو كتم شيئا لما بلغ كما أمر، ومن قال هذا فهو كافر بإجماع الأمّة، وأصل كلّ بدعة في الدين البعد عن كلام السلف والانحراف عن اعتقاد الصدر الأوّل، حتى بالغ القدريّ في القدر فجعل العبد خالقا لأفعاله، وبالغ الجبريّ في مقابلته فسلب عنه الفعل والاختيار، وبالغ المعطل في التنزيه فسلب عن الله تعالى صفات الجلال ونعوت الكمال، وبالغ المشبه في مقابلته فجعله كواحد من البشر، وبالغ المرجئ في سلب العقاب، وبالغ المعتزليّ في التخليد في العذاب، وبالغ الناصبيّ في دفع عليّ رضي الله عنه عن الإمامة، وبالغت الغلاة حتى جعلوه إلها، وبالغ السنيّ في تقديم أبي بكر رضي الله عنه، وبالغ الرافضيّ في تأخيره حتى كفره، وميدان الظنّ واسع وحكم الوهم غالب، فتعارضت الظنون وكثرت الأوهام وبلغ كل فريق في الشرّ والعناد والبغي والفساد إلى أقصى غاية، وأبعد نهاية، وتباغضوا وتلاعنوا