المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر مذاهب أهل مصر ونحلهم منذ افتتح عمرو بن العاص رضي الله عنه أرض مصر إلى أن صاروا إلى اعتقاد مذاهب الأئمة رحمهم الله تعالى، وما كان من الأحداث في ذلك - المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار - جـ ٤

[المقريزي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الرابع

- ‌ذكر المساجد الجامعة

- ‌ذكر الجوامع

- ‌الجامع العتيق

- ‌ذكر المحاريب التي بديار مصر وسبب اختلافها وتعيين الصواب فيها وتبيين الخطأ منها

- ‌جامع العسكر

- ‌ذكر العسكر

- ‌ جامع ابن طولون

- ‌ذكر دار الإمارة

- ‌ذكر الأذان بمصر وما كان فيه من الاختلاف

- ‌الجامع الأزهر

- ‌جامع الحاكم

- ‌جامع راشدة

- ‌جامع المقس

- ‌جامع الفيلة

- ‌جامع المقياس

- ‌الجامع الأقمر

- ‌جامع الظافر

- ‌جامع الصالح

- ‌ذكر الأحباس وما كان يعمل فيها

- ‌الجامع بجوار تربة الشافعيّ بالقرافة

- ‌جامع محمود بالقرافة

- ‌جامع الروضة بقلعة جزيرة الفسطاط

- ‌جامع غين بالروضة

- ‌جامع الأفرم

- ‌الجامع بمنشأة المهرانيّ

- ‌جامع دير الطين

- ‌جامع الظاهر

- ‌جامع ابن اللبان

- ‌الجامع الطيبرسيّ

- ‌الجامع الجديد الناصريّ

- ‌الجامع بالمشهد النفيسيّ

- ‌جامع الأمير حسين

- ‌جامع الماس

- ‌جامع قوصون

- ‌جامع الماردانيّ

- ‌جامع أصلم

- ‌جامع بشتاك

- ‌‌‌جامع آق سنقر

- ‌جامع آق سنقر

- ‌جامع آل ملك

- ‌جامع الفخر

- ‌جامع نائب الكرك

- ‌جامع الخطيريّ ببولاق

- ‌جامع قيدان

- ‌جامع الست حدق

- ‌جامع ابن غازي

- ‌جامع التركمانيّ

- ‌جامع شيخو

- ‌جامع الجاكيّ

- ‌جامع التوبة

- ‌جامع صاروجا

- ‌جامع الطباخ

- ‌جامع الأسيوطيّ

- ‌جامع الملك الناصر حسن

- ‌جامع القرافة

- ‌جامع الجيزة

- ‌جامع منجك

- ‌الجامع الأخضر

- ‌جامع البكجريّ

- ‌جامع السروجيّ

- ‌جامع كرجي

- ‌جامع الفاخريّ

- ‌جامع ابن عبد الظاهر

- ‌جامع كراي

- ‌جامع القلعة

- ‌جامع قوصون

- ‌جامع كوم الريش

- ‌جامع الجزيرة الوسطى

- ‌جامع ابن صارم

- ‌جامع الكيمختي

- ‌جامع الست مسكة

- ‌جامع ابن الفلك

- ‌جامع التكروريّ

- ‌جامع البرقية

- ‌جامع الحرّانيّ

- ‌جامع بركة

- ‌جامع بركة الرطليّ

- ‌جامع الضوة

- ‌ جامع

- ‌جامع الحوش

- ‌جامع الاصطبل

- ‌جامع ابن التركمانيّ»

- ‌جامع الباسطيّ

- ‌جامع الحنفيّ

- ‌جامع ابن الرفعة

- ‌جامع الإسماعيليّ

- ‌جامع الزاهد

- ‌جامع ابن المغربيّ

- ‌جامع الفخريّ

- ‌الجامع المؤيدي

- ‌الجامع الأشرفيّ

- ‌الجامع الباسطيّ

- ‌ذكر مذاهب أهل مصر ونحلهم منذ افتتح عمرو بن العاص رضي الله عنه أرض مصر إلى أن صاروا إلى اعتقاد مذاهب الأئمة رحمهم الله تعالى، وما كان من الأحداث في ذلك

- ‌ذكر فرق الخليقة واختلاف عقائدها وتباينها

- ‌ذكر الحال في عقائد أهل الإسلام، منذ ابتداء الملة الإسلامية إلى أن انتشر مذهب الأشعرية

- ‌ذكر المدارس

- ‌ المدرسة الناصرية

- ‌المدرسة القمحية

- ‌مدرسة يازكوج

- ‌مدرسة ابن الأرسوفيّ

- ‌مدرسة منازل العز

- ‌مدرسة العادل

- ‌مدرسة ابن رشيق

- ‌المدرسة الفائزية

- ‌المدرسة القطبية

- ‌المدرسة السيوفية

- ‌المدرسة الفاضلية

- ‌المدرسة الأزكشية

- ‌المدرسة الفخرية

- ‌المدرسة السيفية

- ‌المدرسة العاشورية

- ‌ المدرسة القطبية

- ‌المدرسة الخرّوبية

- ‌مدرسة المحليّ

- ‌المدرسة الفارقانية

- ‌المدرسة المهذبية

- ‌‌‌المدرسة الخرّوبية

- ‌المدرسة الخرّوبية

- ‌المدرسة الصاحبية البهائية

- ‌المدرسة الصاحبية

- ‌المدرسة الشريفية

- ‌المدرسة الصالحية

- ‌المدرسة الكاملية

- ‌المدرسة الصيرمية

- ‌المدرسة المسرورية

- ‌المدرسة القوصية

- ‌المدرسة المنصورية

- ‌المدرسة الحجازية

- ‌المدرسة الطيبرسية

- ‌المدرسة الأقبغاوية

- ‌المدرسة الحسامية

- ‌المدرسة المنكوتمرية

- ‌المدرسة القراسنقرية

- ‌المدرسة الغزنوية

- ‌المدرسة البوبكرية

- ‌المدرسة البقرية

- ‌المدرسة القطبية

- ‌مدرسة ابن المغربيّ

- ‌المدرسة البيدرية

- ‌المدرسة البديرية

- ‌المدرسة الملكية

- ‌المدرسة الجمالية

- ‌المدرسة الفارسية

- ‌المدرسة السابقية

- ‌المدرسة القيسرانية

- ‌المدرسة الزمامية

- ‌المدرسة الصغيرة

- ‌مدرسة تربة أمّ الصالح

- ‌مدرسة ابن عرّام

- ‌المدرسة المحمودية

- ‌المدرسة المهذبية

- ‌المدرسة السعدية

- ‌المدرسة الطفجية

- ‌المدرسة الجاولية

- ‌المدرسة الفارقانية

- ‌المدرسة البشيرية

- ‌المدرسة المهمندارية

- ‌مدرسة ألجاي

- ‌مدرسة أمّ السلطان

- ‌المدرسة الأيتمشية

- ‌المدرسة المجدية الخليلية

- ‌المدرسة الناصرية بالقرافة

- ‌المدرسة المسلمية

- ‌مدرسة اينال

- ‌مدرسة الأمير جمال الدين الأستادار

- ‌المدرسة الصرغتمشية

- ‌ذكر المارستانات

- ‌مارستان ابن طولون

- ‌مارستان كافور

- ‌مارستان المغافر

- ‌المارستان الكبير المنصوريّ

- ‌المارستان المؤيدي

- ‌ذكر المساجد

- ‌المسجد بجوار دير البعل

- ‌مسجد ابن الجباس

- ‌مسجد ابن البناء

- ‌مسجد الحلبيين

- ‌مسجد الكافوريّ

- ‌مسجد رشيد

- ‌المسجد المعروف بزرع النوى

- ‌مسجد الذخيرة

- ‌مسجد رسلان

- ‌مسجد ابن الشيخيّ

- ‌مسجد يانس

- ‌مسجد باب الخوخة

- ‌المسجد المعروف بمعبد موسى

- ‌مسجد نجم الدين

- ‌مسجد صواب

- ‌المسجد بجوار المشهد الحسينيّ

- ‌مسجد الفجل

- ‌مسجد تبر

- ‌مسجد القطبية

- ‌ذكر الخوانك

- ‌الخانكاه الصلاحية، دار سعيد السعداء، دويرة الصوفية

- ‌خانقاه ركن الدين بيبرس

- ‌الخانقاه الجمالية

- ‌الخانقاه الظاهرية

- ‌الخانقاه الشرابيشية

- ‌الخانقاه المهمندارية

- ‌خانقاه بشتاك

- ‌خانقاه ابن غراب

- ‌الخانقاه البندقدارية

- ‌خانقاه شيخو

- ‌الخانقاه الجاولية

- ‌خانقاه الجيبغا المظفري

- ‌خانقاه سرياقوس

- ‌خانقاه أرسلان

- ‌خانقاه بكتمر

- ‌خانقاه قوصون

- ‌خانقاه طغاي النجميّ

- ‌خانقاه أمّ أنوك

- ‌خانقاه يونس

- ‌خانقاه طيبرس

- ‌خانقاه أقبغا

- ‌الخانقاه الخروبية

- ‌ذكر الربط

- ‌رباط الصاحب

- ‌رباط الفخري

- ‌رباط البغدادية

- ‌رباط الست كليلة

- ‌رباط الخازن

- ‌الرباط المعروف برواق ابن سليمان

- ‌رباط داود بن إبراهيم

- ‌رباط ابن أبي المنصور

- ‌رباط المشتهى

- ‌رباط الآثار

- ‌رباط الأفرم

- ‌الرباط العلائي

- ‌ذكر الزوايا

- ‌زاوية الدمياطيّ

- ‌زاوية الشيخ خضر

- ‌زاوية ابن منظور

- ‌زاوية الظاهري

- ‌زاوية الجميزة

- ‌زاوية الحلاوي

- ‌زاوية نصر

- ‌زاوية الخدّام

- ‌زاوية تقي الدين

- ‌زاوية الشريف مهدي

- ‌زاوية الطراطرية

- ‌زاوية القلندرية

- ‌قبة النصر

- ‌زاوية الركراكي

- ‌زاوية إبراهيم الصائغ

- ‌زاوية الجعبري

- ‌زاوية أبي السعود

- ‌زاوية الحمصي

- ‌زاوية المغربل

- ‌زاوية القصري

- ‌زاوية الجاكي

- ‌زاوية الأبناسيّ

- ‌زاوية اليونسية

- ‌زاوية الخلاطي

- ‌الزاوية العدوية

- ‌زاوية السدّار

- ‌ذكر المشاهد التي يتبرّك الناس بزيارتها مشهد زين العابدين

- ‌مشهد السيدة نفيسة

- ‌مشهد السيدة كلثوم

- ‌سنا وثنا

- ‌ذكر مقابر مصر والقاهرة المشهورة

- ‌ذكر القرافة

- ‌ذكر المساجد الشهيرة بالقرافة الكبيرة

- ‌مسجد الأقدام

- ‌مسجد الرصد

- ‌مسجد شقيق الملك

- ‌مسجد الانطاكيّ

- ‌مسجد النارنج

- ‌مسجد الأندلس

- ‌مسجد البقعة

- ‌مسجد الفتح

- ‌مسجد أمّ عباس جهة العادل بن السلار

- ‌مسجد الصالح

- ‌مسجد وليّ عهد أمير المؤمنين

- ‌مسجد الرحمة

- ‌مسجد مكنون

- ‌مسجد جهة ريحان

- ‌مسجد جهة بيان

- ‌مسجد توبة

- ‌مسجد دري

- ‌مسجد ست غزال

- ‌مسجد رياض

- ‌مسجد عظيم الدولة

- ‌مسجد أبي صادق

- ‌مسجد الفرّاش

- ‌مسجد تاج الملوك

- ‌مسجد الثمار

- ‌مسجد الحجر

- ‌مسجد القاضي يونس

- ‌مسجد الوزيرية

- ‌مسجد ابن العكر

- ‌مسجد ابن كباس

- ‌مسجد الشهمية

- ‌مسجد زنكادة

- ‌جامع القرافة

- ‌مسجد الأطفيحيّ

- ‌مسجد الزيات

- ‌ذكر الجواسيق التي بالقرافة

- ‌ذكر الرباطات التي كانت بالقرافة

- ‌ذكر المصلّيات والمحاريب التي بالقرافة

- ‌ذكر المساجد والمعابد التي بالجبل والصحراء

- ‌ذكر الأحواض والآبار التي بالقرافة

- ‌ذكر الآبار التي ببركة الحبش والقرافة

- ‌ذكر السبعة التي تزار بالقرافة

- ‌ذكر المقابر خارج باب النصر

- ‌ذكر كنائس اليهود

- ‌ذكر تاريخ اليهود وأعيادهم

- ‌ذكر معنى قولهم يهودي

- ‌ذكر معتقد اليهود وكيف وقع عندهم التبديل

- ‌ذكر فرق اليهود الآن

- ‌ذكر قبط مصر ودياناتهم القديمة، وكيف تنصروا ثم صاروا ذمّة للمسلمين، وما كان لهم في ذلك من القصص والأنباء، وذكر الخبر عن كنائسهم ودياراتهم، وكيف كان ابتداؤها ومصير أمرها

- ‌ذكر ديانة القبط قبل تنصرهم

- ‌ذكر دخول قبط مصر في دين النصرانية

- ‌ذكر دخول النصارى من قبط مصر في طاعة المسلمين وأدائهم الجزية، واتخاذهم ذمّة لهم، وما كان في ذلك من الحوادث والأنباء

- ‌ذكر ديارات النصارى

- ‌أديرة أدرنكة

- ‌ذكر كنائس النصارى

- ‌وأما الوجه البحريّ:

الفصل: ‌ذكر مذاهب أهل مصر ونحلهم منذ افتتح عمرو بن العاص رضي الله عنه أرض مصر إلى أن صاروا إلى اعتقاد مذاهب الأئمة رحمهم الله تعالى، وما كان من الأحداث في ذلك

وثمانمائة قبل أن يكمل. وتجدّد في زاوية الشيخ أبي العباس البصير التي عند قنطرة الخرق خطبة. وتجدّد في حدرة الكماجيين من أراضي اللوق خطبة بزاوية مطلة على غيط العدّة، وتجدّد بالصحراء خطبة في تربة الأمير مشير الدولة كافور الزمام، وتوفي في خامس عشر ربيع الآخر سنة ثلاثين وثمانمائة. وتجدّد بخط الكافوريّ خطبة أحدثها بنو وفاء في جامع لطيف جدّا. وتجدّد بمدرسة ابن البقريّ من القاهرة أيضا خطبة في أيام المؤيد شيخ. وتجدّد بحارة الديلم خطبة في مدرسة أنشأها الطواشي مشير الدولة المذكور. وتجدّد عند قنطرة قدادار خطبة أنشأها شاكر البناء، وخطبة بالقرب منها في جامع أنشأه الحاج إبراهيم البرددار الشهير بالحمصانيّ، أحد الفقراء الأحمدية السطوحية في حدود الثلاثين والثمانمائة.

‌ذكر مذاهب أهل مصر ونحلهم منذ افتتح عمرو بن العاص رضي الله عنه أرض مصر إلى أن صاروا إلى اعتقاد مذاهب الأئمة رحمهم الله تعالى، وما كان من الأحداث في ذلك

اعلم أن الله عز وجل لما بعث نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا إلى كافة الناس جميعا عربهم وعجمهم، وهم كلهم أهل شرك وعبادة لغير الله تعالى إلا بقايا من أهل الكتاب، كان من أمره صلى الله عليه وسلم مع قريش ما كان حتى هاجر من مكة إلى المدينة، فكانت الصحابة رضوان الله عليهم حوله صلى الله عليه وسلم يجتمون إليه في كلّ وقت مع ما كانوا فيه من ضنك المعيشة وقلة القوت، فمنهم من كان يحترف في الأسواق، ومنهم من كان يقوم على نخله، ويحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل وقت، ومنهم طائفة عند ما تجد أدنى فراغ مما هم بسبيله من طلب القوت، فإذا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسألة، أو حكم بحكم، أو أمر بشيء، أو فعل شيأ وعاه من حضر عنده من الصحابة، وفات من غاب عنه علم ذلك، ألا ترى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد خفي عليه ما علمه حمل بن مالك بن النابغة، من الأعراب من هذيل، في دية الجنين وخفي عليه. وكان يفتي في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم من الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت وأبو الدرداء وأبو موسى الأشعريّ وسلمان الفارسيّ رضي الله عنهم.

فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، تفرّقت الصحابة رضي الله عنهم، فمنهم من خرج لقتال مسيلمة وأهل الردّة، ومنهم من خرج لقتال أهل الشام، ومنهم من خرج لقتال أهل العراق، وبقي من الصحابة بالمدينة مع أبي بكر رضي الله عنه عدّة، فكانت القضية إذا نزلت بأبي بكر رضي الله عنه قضى فيها بما عنده من العلم بكتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن عنده فيها علم من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، سأل من بحضرته من الصحابة رضي الله عنهم عن ذلك، فإن وجد عندهم

ص: 147

علما من ذلك رجع إليه وإلّا اجتهد في الحكم.

ولما مات أبو بكر وولي أمر الأمّة من بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فتحت الأمصار وزاد تفرّق الصحابة رضي الله عنهم فيما افتتحوه من الأقطار، فكانت الحكومة تنزل بالمدينة أو غيرها من البلاد، فإن كان عند الصحابة الحاضرين لها في ذلك أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حكم به، وإلّا اجتهد أمير تلك البلدة في ذلك، وقد يكون في تلك القضية حكم عن النبي صلى الله عليه وسلم موجود عند صاحب آخر، وقد حضر المدنيّ ما لم يحضر المصريّ، وحضر المصريّ ما لم يحضر الشامي، وحضر الشاميّ ما لم يحضر البصريّ، وحضر البصريّ ما لم يحضر الكوفيّ، وحضر الكوفيّ ما لم يحضر المدنيّ. كلّ هذا موجود في الآثار، وفيما علم من مغيب بعض الصحابة عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأوقات، وحضور غيره. ثم مغيب الذي حضر أمس وحضور الذي غاب، فيدري كلّ واحد منهم ما حضر، ويفوته ما غاب عنه، فمضى الصحابة رضي الله عنهم على ما ذكرنا، ثم خلف بعدهم التابعون الآخرون عنهم وكل طبقة من التابعين في البلاد التي تقدّم ذكرها، فإنما تفقهوا مع من كان عندهم من الصحابة، فكانوا لا يتعدّون فتاويهم إلّا اليسير مما بلغهم عن غير من كان في بلادهم من الصحابة، رضي الله عنهم، كاتباع أهل المدينة في الأكثر فتاوي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، واتباع أهل الكوفة في الأكثر فتاوي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، واتباع أهل مكة في الأكثر فتاوي عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، واتباع أهل مصر في الأكثر فتاوي عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، ثم أتى من بعد التابعين رضي الله عنهم فقهاء الأمصار، كأبي حنيفة وسفيان وابن أبي ليلى بالكوفة، وابن جريج بمكة، ومالك وابن الماجشون بالمدينة، وعثمان البتيّ وسوار بالبصرة، والأوزاعيّ بالشام، والليث بن سعد بمصر. فجروا على تلك الطريق من أخذ كل واحد منهم عن التابعين من أهل بلده، فيما كان عندهم واجتهادهم فيما لم يجدوا عندهم، وهو موجود عند غيرهم.

وأما مذاهب أهل مصر: فقال أبو سعيد بن يونس: إن عبيد بن مخمر المغافريّ يكنى أبا أمية، رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، شهد فتح مصر، روى عنه أبو قبيل. يقال أنه كان أوّل من أقرأ القرآن بمصر. وذكر أبو عمرو الكنديّ أن أبا ميسرة عبد الرحمن بن ميسرة مولى الملامس الحضرميّ كان فقيها عفيفا شريفا، ولد سنة عشر ومائة، وكان أوّل الناس إقراء بمصر بحرف نافع قبل الخمسين ومائة، وتوفي سنة ثمان وثمانين ومائة، وذكر عن أبي قبيل وغيره أن يزيد بن أبي حبيب أوّل من نشر العلم بمصر في الحلال والحرام، وفي رواية ابن يونس ومسائل الفقه، وكانوا قبل ذلك إنما يتحدّثون في الفتن والترغيب. وعن عون بن سليمان الحضرميّ قال: كان عمر بن عبد العزيز قد جعل الفتيا بمصر إلى ثلاثة رجال، رجلان من الموالي ورجل من العرب، فأما العربيّ فجعفر بن ربيعة، وأما الموليان فيزيد بن

ص: 148

أبي حبيب، وعبد الله بن أبي جعفر. فكان العرب انكروا ذلك، فقال عمر بن عبد العزيز:

ما ذنبي إن كانت الموالي تسمو بأنفسها صعدا وأنتم لا تسمون. وعن ابن أبي قديد كانت البيعة إذا جاءت للخليفة أوّل من يبايع عبد الله بن أبي جعفر ويزيد بن أبي حبيب ثم الناس بعد. وقال أبو سعيد بن يونس في تاريخ مصر عن حيوة بن شريح قال: دخلت على حسين بن شفي بن مانع الأصبحيّ وهو يقول: فعل الله بفلان. فقلت: ما له؟ فقال: عمد إلى كتابين كان شفي سمعهما من عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أحدهما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كذا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، والآخر ما يكون من الأحداث إلى يوم القيامة، فأخذهما فرمى بهما بين الخولة والرباب. قال أبو سعيد بن يونس: يعني بقوله الخولة والرباب مركبين كبيرين من سفن الجسر كانا يكونان عند رأس الجسر مما يلي الفسطاط يجوز من تحتهما لكبرهما المراكب. وذكر أبو عمرو الكنديّ أن أبا سعيد عثمان بن عتيق مولى غافق، أوّل من رحل من أهل مصر إلى العراق في طلب الحديث، توفي سنة أربع وثمانين ومائة انتهى. وكان حال أهل الإسلام من أهل مصر وغيرها من الأمصار في أحكام الشريعة على ما تقدّم ذكره، ثم كثر الترحل إلى الآفاق وتداخل الناس والتقوا وانتدب أقوام لجمع الحديث النبويّ وتقييده، فكان أوّل من دوّن العلم محمد بن شهاب الزهريّ، وكان أوّل من صنف وبوّب سعيد بن عروبة والربيع بن صبيح بالبصرة، ومعمر بن راشد باليمن، وابن جريج بمكة، ثم سفيات الثوريّ بالكوفة، وحماد بن سلمة بالبصرة، والوليد بن مسلم بالشام، وجرير بن عبد الحميد بالريّ، وعبد الله بن المبارك بمرو وخراسان، وهشيم بن بشير بواسط، وتفرّد بالكوفة أبو بكر بن أبي شيبة بتكثير الأبواب وجودة التصنيف وحسن التأليف، فوصلت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاد البعيدة إلى من لم تكن عنده، وقامت الحجة على من بلغه شيء منها، وجمعت الأحاديث المبينة لصحة أحد التأويلات المتأوّلة من الأحاديث، وعرف الصحيح من السقيم، وزيف الاجتهاد المؤدّي إلى خلاف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى ترك عمله، وسقط العذر عمن خالف ما بلغه من السنن ببلوغه إليه، وقيام الحجة عليه، وعلى هذا الطريق كان الصحابة رضي الله عنهم وكثير من التابعين يرحلون في طلب الحديث الواحدة الأيام الكثيرة، يعرف ذلك من نظر في كتب الحديث، وعرف سير الصحابة والتابعين. فلما قام هارون الرشيد في الخلافة، وولى القضاء أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم أحد أصحاب أبي حنيفة رحمه الله تعالى بعد سنة سبعين ومائة، فلم يقلد ببلاد العراق وخراسان والشام ومصر إلّا من أشار به القاضي أبو يوسف رحمه الله، واعتنى به، وكذلك لما قام بالأندلس الحكم المرتضى بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بعد أبيه، وتلقب بالمنتصر في سنة ثمانين ومائة، اختص بيحيى بن يحيى بن كثير الأندلسيّ، وكان قد حج وسمع الموطأ من مالك إلّا أبوابا، وحمل عن ابن وهب وعن ابن القاسم وغيره علما كثيرا

ص: 149

وعاد إلى الأندلس، فنال من الرياسة والحرمة ما لم ينله غيره، وعادت الفتيا إليه وانتهى السلطان والعامّة إلى بابه، فلم يقلد في سائر أعمال الأندلس قاض إلّا بإشارته واعتنائه، فصاروا على رأي مالك بعد ما كانوا على رأي الأوزاعيّ، وقد كان مذهب الإمام مالك أدخله إلى الأندلس زياد بن عبد الرحمن الذي يقال له بسطور، قبل يحيى بن يحيى، وهو أوّل من أدخل مذهب مالك الأندلس، وكانت إفريقية الغالب عليها السنن والآثار إلى أن قدم عبد الله بن فروج أبو محمد الفارسيّ بمذهب أبي حنيفة، ثم غلب أسد بن الفرات بن سنان قاضي افريقية بمذهب أبي حنيفة، ثم لما ولي سحنون بن سعيد التنوخيّ قضاء افريقية، بعد ذلك نشر فيهم مذهب مالك وصار القضاء في أصحاب سحنون دولا يتصاولون على الدنيا تصاول الفحول على الشول إلى أن تولى القضاء بها بنو هاشم، وكانوا مالكية، فتوارثوا القضاء كما تتوارث الضياع.

ثم إن المعز بن باديس حمل جميع أهل إفريقية على التمسك بمذهب مالك وترك ما عداه من المذاهب، فرجع أهل إفريقية وأهل الأندلس كلهم إلى مذهب مالك إلى اليوم، رغبة فيما عند السلطان، وحرصا على طلب الدنيا، إذ كان القضاء والافتاء جميع تلك المدن وسائر القرى لا يكون إلّا لمن تسمى بالفقه على مذهب مالك، فاضطرّت العامّة إلى أحكامهم وفتاواهم، ففشا هذا المذهب هناك فشوّا طبق تلك الأقطار، كما فشا مذهب أبي حنيفة ببلاد المشرق، حيث أن أبا حامد الاسفراينيّ لما تمكن من الدولة في أيام الخليفة القادر بالله أبي العباس أحمد، قرّر معه استخلاف أبي العباس أحمد بن محمد البارزيّ الشافعيّ عن أبي محمد بن الأكفانيّ الحنفيّ قاضي بغداد، فأجيب إليه بغير رضى الأكفانيّ وكتب أبو حامد إلى السلطان محمود بن سبكتكين وأهل خراسان أن الخليفة نقل القضاء عن الحنفية إلى الشافعية، فاشتهر ذلك بخراسان وصار أهل بغداد حزبين، وقدم بعد ذلك أبو العلاء صاعد بن محمد قاضي نيسابور ورئيس الحنفية بخراسان، فأتاه الحنفية فثارت بينهم وبين أصحاب أبي حامد فتنة ارتفع أمرها إلى السلطان، فجمع الخليفة القادر الأشراف والقضاة وأخرج إليهم رسالة تتضمن: أن الاسفراينيّ أدخل على أمير المؤمنين مداخل أوهمه فيها النصح والشفقة والأمانة، وكانت على أصول الدخل والخيانة، فلما تبين له أمره ووضح عنده خبث اعتقاده فيما سأل فيه من تقليد البارزيّ الحكم بالحضرة من الفساد والفتنة والعدول بأمير المؤمنين عما كان عليه أسلافه من إيثار الحنفية وتقليدهم واستعمالهم، صرف البارزيّ وأعاد الأمر إلى حقه وأجراه على قديم رسمه، وحمل الحنفيين على ما كانوا عليه من العناية والكرامة والحرمة والإعزاز، وتقدّم إليهم بأن لا يلقوا أبا حامد ولا يقضوا له حقا ولا يردّوا عليه سلاما، وحلع على أبي محمد الأكفانيّ، وانقطع أبو حامد عن دار الخلافة، وظهر التسخط عليه والانحراف عنه وذلك في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة واتصل ببلاد الشام ومصر.

ص: 150

أوّل من قدم بعلم مالك: إلى مصر عبد الرحيم بن خالد بن يزيد بن يحيى مولى جمح، وكان فقيها روى عنه الليث وابن وهب ورشيد بن سعد، وتوفي بالإسكندرية سنة ثلاث وستين ومائة، ثم نشره بمصر عبد الرحمن بن القاسم، فاشتهر مذهب مالك بمصر أكثر من مذهب أبي حنيفة لتوفر اصحاب مالك بمصر، ولم يكن مذهب أبي حنيفة رحمه الله يعرف بمصر. قال ابن يونس: وقدم إسماعيل بن اليسع الكوفيّ قاضيا بعد ابن لهيعة، وكان من خير قضاتنا، غير أنه كان يذهب إلى قول أبي حنيفة، ولم يكن أهل مصر يعرفون مذهب أبي حنيفة، وكان مذهبه إبطال الأحباس، فثقل أمره على أهل مصر وسئموه، ولم يزل مذهب مالك مشتهرا بمصر حتى قدم الشافعيّ محمد بن ادريس إلى مصر مع عبد الله بن العباس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس في سنة ثمان وتسعين ومائة، فصحبه من أهل مصر جماعة من أعيانها كبني عبد الحكم والربيع بن سليمان وأبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، وأبي يعقوب يوسف بن يحيى البويطيّ، وكتبوا عن الشافعيّ ما ألفه، وعملوا بما ذهب إليه، ولم يزل أمر مذهبه يقوى بمصر وذكره ينتشر.

قال أبو عمرو الكنديّ في كتاب أمراء مصر: ولم يزل أهل مصر على الجهر بالبسملة في الجامع العتيق إلى سنة ثلاث وخمسين ومائتين. قال: ومنع أرجون صاحب شرطة مزاحم بن خاقان أمير مصر من الجهر بالبسملة في الصلوات بالمسجد الجامع، وأمر الحسين بن الربيع إمام المسجد الجامع بتركها، وذلك في رجب سنة ثلاث وستين ومائتين، ولم يزل أهل مصر على الجهر بها في المسجد الجامع منذ الإسلام إلى أن منع منها أرجون.

قال: وأمر أن تصلّى التراويح في شهر رمضان خمس تراويح، ولم يزل أهل مصر يصلون ست تراويح حتى جعلها أرجون خمسا في شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين ومائتين، ومنع من التثويب، وأمر بالأذان يوم الجمعة في مؤخر المسجد، وأمر بالتغليس بصلاة الصبح، وذلك أنهم أسفروا بها، وما زال مذهب مالك ومذهب الشافعيّ رحمهما الله تعالى يعمل بهما أهل مصر، ويولى القضاء من كان يذهب إليهما أو إلى مذهب أبي حنيفة رحمه الله، إلى أن القائد جوهر من بلاد إفريقية في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة بجيوش مولاه المعز لدين الله أبي تميم معدّ وبنى مدينة القاهرة.

فمن حينئذ فشا بديار مصر مذهب الشيعة وعمل به في القضاء والفتيا وأنكر ما خالفه، ولم يبق مذهب سواه، وقد كان التشيع بأرض مصر معروفا قبل ذلك. قال أبو عمرو الكنديّ في كتاب الموالي عن عبد الله بن لهيعة أنه قال: قال يزيد بن أبي حبيب: نشأت بمصر وهي علوية، فقلبتها عثمانية. وكان ابتداء التشيع في الإسلام أن رجلا من اليهود في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أسلم، فقيل له عبد الله بن سبأ، وعرف بابن

ص: 151

السوداء، وصار ينتقل من الحجاز إلى أمصار المسلمين يريد إضلالهم، فلم يطق ذلك فرجع إلى كيد الإسلام وأهله، ونزل البصرة في سنة ثلاث وثلاثين فجعل يطرح على أهلها مسائل ولا يصرّح، فأقبل عليه جماعة ومالوا إليه وأعجبوا بقوله، فبلغ ذلك عبد الله بن عامر وهو يومئذ على البصرة، فأرسل إليه فلما حضر عنده سأله ما أنت فقال رجل من أهل الكتاب رغبت في الإسلام وفي جوارك. فقال ما شيء بلغني عنك، أخرج عني. فخرج حتى نزل الكوفة، فأخرج منها فسار إلى مصر واستقرّ بها وقال في الناس العجب ممن يصدّق أن عيسى يرجع ويكذب أن محمدا يرجع، وتحدّث في الرجعة حتى قبلت منه، فقال بعد ذلك:

أنه كان لكل نبيّ وصيّ، وعليّ بن أبي طالب وصيّ محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن علي بن أبي طالب وصيه في الخلافة على أمّته، واعلموا أن عثمان أخذ الخلافة بغير حق، فانهضوا في هذا الأمر وابدؤوا بالطعن على أمرائكم، فأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا به الناس، وبث دعاته وكاتب من مال إليه من أهل الأمصار وكاتبوه ودعوا في السرّ إلى ما عليه رأيهم، وصاروا يكتبون إلى الأمصار كتبا يضعونها في عيب ولاتهم، فيكتب أهل كل مصر منهم إلى أهل المصر الآخر بما يضعون حتى ملوا بذلك الأرض إذاعة، وجاء إلى أهل المدينة من جميع الأمصار، فأتوا عثمان رضي الله عنه في سنة خمسة وثلاثين وأعلموه ما أرسل به أهل الأمصار من شكوى عمالهم، فبعث محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأسامة بن زيد إلى البصرة، وعمار بن ياسر إلى مصر، وعبد الله بن عمر إلى الشام، لكشف سير العمال. فرجعوا إلى عثمان إلّا عمارا وقالوا: ما أنكرنا شيئا. وتأخر عمار فورد الخبر إلى المدينة بأنه قد استماله عبد الله ابن السوداء في جماعة، فأمر عثمان عماله أن يوافوه بالموسم، فقدموا عليه واستشاروه، فكلّ أشار برأي، ثم قدم المدينة بعد الموسم فكان بينه وبين عليّ بن أبي طالب كلام فيه بعض الجفاء بسبب إعطائه أقاربه ورفعه لهم على من سواهم، وكان المنحرفون عن عثمان قد تواعدوا يوما يخرجون فيه بأمصارهم إذ سار عنها الأمراء، فلم يتهيأ لهم الوثوب، وعند ما رجع الأمراء من الموسم تكاتب المخالفون في القدوم إلى المدينة لينظروا فيما يريدون، وكان أمير مصر من قبل عثمان رضي الله عنه، عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامريّ، فلما خرج في شهر رجب من مصر في سنة خمس وثلاثين استخلف بعده عقبة بن عامر الجهنيّ في قول الليث بن سعد. وقال يزيد بن أبي حبيب: بل استخلف على مصر السائب بن هشام العامريّ وجعل على الخراج سليم بن عنز التجيبيّ، فانتزى محمد بن أبي حذيفة بن عتية بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف في شوّال من السنة المذكورة، وأخرج عقبة بن عامر من الفسطاط، ودعا إلى خلع عثمان رضي الله عنه، واسعر البلاد وحرّض على عثمان بكلّ شيء يقدر عليه، فكان يكتب الكتب على لسان أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأخذ الرواحل فيضمرها ويجعل رجالا على ظهور البيوت ووجوههم إلى وجه الشمس لتلوح وجوههم

ص: 152

تلويح المسافر، ثم يأمرهم أن يخرجوا إلى طريق المدينة بمصر، ثم يرسلون رسلا يخبرون بهم الناس ليلقوهم، وقد أمرهم إذا لقيهم الناس أن يقولوا ليس عندنا خبر الخبر في الكتب، فيجيء رسول أولئك الذين دس فيذكر مكانهم فيتلقاهم ابن أبي حذيفة والناس يقولون:

نتلقى رسل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لقوهم قالوا لهم ما الخبر؟ قالوا: لا خبر عندنا، عليكم بالمسجد ليقرأ عليكم كتاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فيجتمع الناس في المسجد اجتماعا ليس فيه تقصير، ثم يقوم القارئ بالكتاب فيقول: إنا نشكو إلى الله وإليكم ما عمل في الإسلام وما صنع في الإسلام، فيقوم أولئك الشيوخ من نواحي المسجد بالبكاء فيبكون، ثم ينزل عن المنبر ويتفرّق الناس بما قريء عليهم.

فلما رأت ذلك شيعة عثمان رضي الله عنه اعتزلوا محمد بن أبي حذيقة ونابذوه، وهم معاوية بن خديج، وخارجة بن حذاقة، وبسر بن أرطاة، ومسلمة بن مخلد، وعمرو بن قحزم الخولانيّ، ومقسم بن بجرة، وحمزة بن سرح بن كلال، وأبو الكنود سعد بن مالك الأزديّ، وخالد بن ثابت الفهميّ، في جمع كثير وبعثوا سلمة بن مخزمة التجيبيّ إلى عثمان ليخبره بأمرهم وبصنيع ابن أبي حذيفة، فبعث عثمان رضي الله عنه سعد بن أبي وقاص ليصلح أمرهم، فبلغ ذلك ابن أبي حذيفة فخطب الناس وقال: ألا إن الكذا والكذا قد بعث إليكم سعد بن مالك ليقلّ جماعتكم ويشتت كلمتكم ويوقع التجادل بينكم، فانفروا إليه، فخرج منهم مائة أو نحوها، وقد ضرب فسطاطه وهو قائل:

فقلبوا عليه فسطاطه وشجوه وسبوه، فركب راحلته وعاد راجعا من حيث جاء. وقال:

ضربكم الله بالذلّ والفرقة، وشتت أمركم، وجعل بأسكم بينكم، ولا أرضاكم بأمير، ولا أرضاه عنكم. وأقبل عبد الله بن سعد حتى بلغ جسر القلزم، فإذا بخيل لابن أبي حذيفة، فمنعوه أن يدخل فقال: ويلكم دعوني أدخل على جندي فأعلمهم بما جئت به، فإني قد جئتهم بخير. فأبوا أن يدعوه فقال: والله لوددت أني دخلت عليهم وأعلمتهم بما جئت به ثم مت، فانصرف إلى عسقلان. وأجمع محمد بن أبي حذيفة على بعث جيش إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: من يتشرّط في هذا البعث؟ فكثر عليه من يشترط. فقال: إنما يكفينا منكم ستمائة رجل، فشرّط من أهل مصر ستمائة رجل على كل مائة منهم رئيس وعلى جماعتهم عبد الرحمن بن عديس البلويّ، وهم كنانة بن بشر بن سليمان التجيبيّ، وعروة بن سليم الليثيّ، وأبو عمرو بن بديل بن ورقاء الخزاعيّ، وسودان بن ريان الأصبحيّ، وذرع بن يشكر النافعيّ، وسجن رجال من أهل مصر في دورهم منهم: فلما بلغ ذلك كنانة بن بشر وكان رأس الشيعة الأولى، دفع عن معاوية ما كره، ثم قتل عثمان رضي الله عنه في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، فدخل الركب إلى مصر وهم يرتجزون:

ص: 153

خذها إليك وأحذرنّ أبا الحسن

إنا نمرّ الحرب إمرار الوسن

بالسيف كي تخمد نيران الفتن

فلما دخلوا المسجد صاحوا إنا لسنا قتلة عثمان ولكن الله قتله. فلما رأى ذلك شيعة عثمان قاموا وعقدوا لمعاوية بن خديج عليهم وبايعوه على الطلب بدم عثمان، فسار بهم معاوية إلى الصعيد، فبعث إليهم ابن أبي حذيفة فالتقوا بدقناس من كورة البهنسا فهزم أصحاب ابن أبي حذيفة، ومضى معاوية حتى بلغ برقة، ثم رجع إلى الاسكندرية فبعث ابن أبي حذيفة بحيش آخر عليهم قيس بن حرمل فاقتتلوا بخربتا أوّل شهر رمضان سنة ست وثلاثين، فقتل قيس وسار معاوية بن أبي سفيان إلى مصر، فنزل سلمنت من كورة عين شمس في شوّال، فخرج إليه ابن أبي حذيفة في أهل مصر، فمنعوه أن يدخلها، فبعث إليه معاوية إنّا لا نريد قتال أحد إنما جئنا نسأل القود لعثمان، ادفعوا إلينا قاتليه عبد الرحمن بن عديس وكنانة بن بشر، وهما رأس القوم، فامتنع ابن أبي حذيفة وقال لو طلبت منا جديا أرطب السرة بعثمان ما دفعناه إليك. فقال معاوية بن أبي سفيان لابن أبي حذيفة: اجعل بيننا وبينكم رهنا، فلا يكون بيننا وبينكم حرب. فقال ابن أبي حذيفة: فإني أرضى بذلك، فاستخلف ابن أبي حذيفة على مصر الحكم بن الصلت بن مخرمة وخرج في الرهن، هو وابن عيسى. وكنانة بن بشر وأبو شمر بن أبرهة وغيرهم من قتلة عثمان، فلما بلغوا لدّ سجنهم بها معاوية وسار إلى دمشق، فهربوا من السجن، غير أبي شمر بن أبرهة فإنه قال:

لا أدخله أسيرا وأخرج منه آبقا، وتبعهم صاحب فلسطين فقتلهم، واتبع عبد الرحمن بن عديس رجل من الفرس فقال له عبد الرحمن بن عديس: اتق الله في دمي فإني بايعت النبيّ صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، فقال له: الشجر في الصحراء كثير فقتله.

وقال محمد بن أبي حذيفة في الليلة التي قتل في صباحها عثمان: فإن يكن القصاص لعثمان فسنقتل من الغد، فقتل من الغد، وكان قتل ابن أبي حذيفة وعبد الرحمن بن عديس وكنانة بن بشر ومن كان معهم من الرهن في ذي الحجة سنة ست وثلاثين. فلما بلغ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه مصاب بن أبي حذيفة، بعث قيس بن سعد بن عبادة الأنصاريّ على مصر وجمع له الخراج والصلاة، فدخلها مستهلّ شهر ربيع الأوّل سنة سبع وثلاثين، واستمال الخارجية بخربتا ودفع إليهم أعطياتهم، ووفد عليه وفدهم فأكرمهم وأحسن إليهم، ومصر يومئذ من جيش عليّ رضي الله عنه إلّا أهل خربتا الخارجين بها. فلما ولي علي رضي الله عنه قيس بن سعد، وكان من ذوي الرأي، جهد معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص على أن يخرجاه من مصر ليغلبا على أمرها، فامتنع عليهما بالدهاء والمكايدة، فلم يقدرا على أن يلجأ مصر حتى كان معاوية قيسا من قبل عليّ رضي الله عنه، فكان معاوية يحدّث رجالا من ذوي رأي قريش فيقول: ما ابتدعت من مكايدة قط أعجب إليّ من مكايدة كدت بها قيس بن سعد حين امتنع مني، قلت لأهل الشام لا تسبوا قيسا ولا

ص: 154

تدعوا إلى غزوة، فإن قيسا لنا شيعة تأتينا كتبه ونصيحته سرّا، ألا ترون ماذا يفعل بإخوانكم النازلين عنده بخربتا يجري عليهم أعطياتهم وأرزاقهم ويؤمّن سربهم ويحسن إلى كل راكب يأتيه منهم. قال معاوية: وطفقت أكتب بذلك إلى شيعتي من أهل العراق، فسمع بذلك جواسيس عليّ بالعراق فأنهاه إليه محمد بن أبي بكر، وعبد الله بن جعفر، فاتّهم قيسا فكتب إليه يأمره بقتال أهل خربتا، وبخربتا يومئذ عشرة آلاف، فأبى قيس أن يقاتلهم وكتب إلى عليّ رضي الله عنه أنهم وجوه أهل مصر وأشرافهم، وأهل الحفاظ منهم، وقد رضوا مني بأن أو من سربهم واجري عليهم أعطياتهم وأرزاقهم، وقد علمت أن هواهم مع معاوية، فلست بكائدهم بأمر أهون عليّ وعليك من الذي أفعل بهم، وهم أسود العرب، منهم بسر بن أرطاة، وسلمة بن مخلد، ومعاوية بن خديج. فأبى عليه إلّا قتالهم، فأبى قيس أن يقاتلهم. وكتب إلى عليّ رضي الله عنه، إن كنت تهتمني فاعزلني وابعث غيري. وكتب معاوية رضي الله عنه إلى بعض بني أمية بالمدينة: أن جرى الله قيس بن سعد خيرا فإنه قد كف عن إخواننا من أهل مصر الذين قاتلوا في دم عثمان، واكتموا ذلك فإنني أخاف أن يعزله علي إن بلغه ما بينه وبين شيعتنا، حتى بلغ عليا رضي الله عنه ذلك فقال: من معه من رؤساء أهل العراق وأهل المدينة بدّل قيس وتحوّل. فقال عليّ ويحكم إنه لم يفعل فدعوني. قالوا:

لتعزلنه، فإنه قد بدّل. فلم يزالوا به حتى كتب إليه إني قد احتجت إلى قربك، فاستخلف على عملك واقدم. فلما قرأ الكتاب قال: هذا من مكر معاوية، ولولا الكذب لمكرت به مكرا يدخل عليه بيته، فوليها قيس بن سعد إلى أن عزل عنها أربعة أشهر وخمسة أيام، وصرف لخمس خلون من رجب سنة سبع وثلاثين، ثم وليها الاشتر مالك بن الحارث بن عبد يغوث النخعيّ من قبل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وذلك أن عبد الله بن جعفر كان إذا أراد أن لا يمنعه عليّ شيئا قال له بحق جعفر. فقال له أسألك بحق جعفر الا بعثت الاشتر إلى مصر، فإن ظهرت فهو الذي تحب وإلّا استرحت منه. ويقال:

كان الأشتر قد ثقل على عليّ رضي الله عنه وأبغضه وقلاه فولاه وبعثه، فلما قدم مصر لقي بما يلقي العمال به هناك، فشرب شربة عسل فمات. فلما أخبر عليّ بذلك قال لليدين وللفم، وسمع عمرو بن العاص بموت الأشتر فقال: إن لله جنودا من عسل. أو قال إنّ لله جنودا من العسل.

ثم وليها محمد بن أبي بكر الصدّيق من قبل عليّ رضي الله عنهم، وجمع له صلاتها وخراجها، فدخلها للنصف من شهر رمضان سنة سبع وثلاثين، فلقيه قيس بن سعد فقال له:

إنه لا يمنعني نصحي لك عزله إيايّ، ولقد عزلني عن غير وهن ولا عجز، فاحفظ ما أوصيك به. يدم صلاح حالك: دع معاوية بن خديج ومسلمة بن مخلد وبسر بن أرطاة ومن ضوى إليهم على ما هم عليه، لا تكفهم عن رأيهم، فإن أتوك ولم يفعلوا فاقبلهم، وإن تخلفوا عنك فلا تطلبهم، وانظر هذا الحيّ من مضر، فأنت أولى بهم مني، فألن لهم

ص: 155

جناحك وقرّب عليهم مكانك وارفع عنهم حجابك، وانظر هذا الحيّ من مدلج، فدعهم وما غلبوا عليه يكفوا عنك شأنهم، وأنزل الناس من بعد على قدر منازلهم، فإن استطعت أن تعود المرضى وتشهد الجنائز فافعل، فإنّ هذا لا ينقصك ولن تفعل، إنك والله ما علمت لتظهر الخيلاء وتحب الرياسة وتسارع إلى ما هو ساقط عنك، والله موفقك. فعمل محمد بخلاف ما أوصاه به قيس، فبعث إلى ابن خديج والخارجة معه يدعوهم إلى بيعته، فلم يجيبوه. فبعث إلى دور الخارجة فهدمها ونهب أموالهم وسجن ذراريهم فنصبوا له الحرب وهموا بالنهوض إليه. فلما علم أنه لا قوّة له بهم أمسك عنهم ثم صالحهم على أن يسيرهم إلى معاوية، وأن ينصب لهم جسر انتقيوس يجوزون عليه ولا يدخلون الفسطاط، ففعلوا ولحقوا بمعاوية.

فلما أجمع عليّ رضي الله عنه ومعاوية على الحكمين أغفل عليّ أن يشترط على معاوية أن لا يقاتل أهل مصر. فلما انصرف عليّ إلى العراق بعث معاوية رضي الله عنه عمرو بن العاص رضي الله عنه في جيوش أهل الشام إلى مصر، فاقتتلوا قتالا شديدا انهزم فيه أهل مصر، ودخل عمرو بأهل الشام الفسطاط، وتغيب محمد بن أبي بكر، فأقبل معاوية بن خديج في رهط ممن يعينه على من كان يمشي في قتل عثمان، وطلب ابن أبي بكر فدلتهم عليه امرأة. فقال: احفظوني في أبي بكر، فقال معاوية بن خديج: قتلت ثمانين رجلا من قومي في عثمان، وأتركك وأنت صاحبه؟ فقتله ثم جعله في جيفة حمار ميت، فأحرقه بالنار، فكانت ولاية محمد بن أبي بكر خمسة أشهر، ومقتله لأربع عشرة خلت من صفر سنة ثمان وثلاثين. ثم ولي عمرو بن العاص مصر من بعده، فاستقبل بولايته هذه الثانية شهر ربيع الأوّل، وجعل إليه الصلاة والخراج، وكانت مصر قد جعلها معاوية له طعمة بعد عطاء جندها والنفقة على مصلحتها، ثم خرج إلى الحكومة واستخلف على مصر ابنه عبد الله بن عمرو، وقتل خارجة بن حذافة ورجع عمرو إلى مصر فأقام بها، وتعاقد بنو ملجم عبد الرحمن وقيس ويزيد على قتل عليّ رضي الله عنه وعمرو ومعاوية رضي الله عنهما، وتواعدوا على ليلة من رمضان سنة أربعين، فمضى كل منهم إلى صاحبه، فلما قتل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه واستقرّ الأمر لمعاوية كانت مصر جندها وأهل شوكتها عثمانية، وكثير من أهلها علوية. فلما مات معاوية ومات ابنه يزيد بن معاوية كان على مصر سعيد بن يزيد الأزديّ على صلاتها، فلم يزل أهل مصر على الشنان له، والإعراض عنه، والتكبر عليه، منذ ولاه يزيد بن معاوية حتى مات يزيد في سنة أربع وستين. ودعا عبد الله بن الزبير إلى نفسه، فقامت الخوارج بمصر في أمره، وأظهروا دعوته كانوا يحسبونه على مذهبهم، وأوفدوا منهم وفدا إليه، فسار منهم نحو الألفين من مصر وسألوه أن يبعث إليهم بأمير يقومون معه ويوازرونه، وكان كريب بن أبرهة الصباح وغيره من أشراف مصر يقولون: ماذا نرى من العجب أن هذه الطائفة المكتتمة تأمر فينا وتنهي ونحن لا نستطيع أن

ص: 156

نردّ أمرهم، ولحق بابن الزبير ناس كثير من أهل مصر، وكان أوّل من قدم مصر برأي الخوارج حجر بن الحارث بن قيس المذحجيّ، وقيل حجر بن عمرو، ويكنى بأبي الورد، وشهد مع عليّ صفين، ثم صار من الخوارج وحضر مع الحرورية النهروان، فخرج وصار إلى مصر برأي الخوارج وأقام بها حتى خرج منها إلى ابن الزبير في إمارة مسلمة بن مخلد الأنصاريّ على مصر. فلما مات يزيد بن معاوية وبويع ابن الزبير بعده بالخلافة، بعث إلى مصر بعبد الرحمن بن جحدم الفهريّ، فقدمها في طائفة من الخوارج فوثبوا على سعيد بن يزيد فاعتزلهم، واستمرّ ابن جحدم، وكثرت الخوارج بمصر منها وممن قدم من مكة، فأظهروا في مصر التحكيم ودعوا إليه، فاستعظم الجند ذلك وبايعه الناس على غلّ في قلوب ناس من شيعة بني أمية، منهم كريب بن أبرهة، ومقسم بن بجرة، وزياد بن حناطة التجيبيّ، وعابس بن سعيد وغيرهم، فصار أهل مصر حينئذ ثلاث طوائف، علوية وعثمانية وخوارج. فلما بويع مروان بن الحكم بالشام في ذي القعدة سنة أربع وستين كانت شيعته من أهل مصر مع ابن جحدم، فكاتبوه سرّا حتى أتى مصر في أشراف كثيرة، وبعث ابنه عبد العزيز بن مروان في جيش إلى إيلة ليدخل من هناك مصر، وأجمع ابن جحدم على حربه ومنعه، فحفر الخندق في شهر، وهو الخندق الذي بالقرافة، وبعث بمراكب في البحر ليخالف إلى عيالات أهل الشام، وقطع بعثا في البرّ وجهز جيشا آخر إلى إيلة لمنع عبد العزيز من المسير منها، فغرقت المراكب ونجا بعضها وانهزمت الجيوش ونزل مروان عين شمس، فخرج إليه ابن جحدم في أهل مصر، فتحاربوا واستجرّ القتل فقتل من الفريقين خلق كثير، ثم إن كريب بن أبرهة وعابس بن سعيد وزياد بن حناطة وعبد الرحمن بن موهب المغافريّ دخلوا في الصلح بين أهل مصر وبين مروان، فتم ودخل مروان إلى الفسطاط لغرّة جمادى الأولى سنة خمس وستين، فكانت ولاية ابن جحدم تسعة أشهر، ووضع العطاء فبايعه الناس إلّا نفرا من المغافر قالوا لا نخلع بيعة ابن الزبير، فقتل منهم ثمانين رجلا، قدّمهم رجلا رجلا فضرب أعناقهم وهم يقولون إنا قد بايعنا ابن الزبير طائعين، فلم نكن لننكث بيعته، وضرب عنق الأكدر بن حمام بن عامر سيد لخم وشيخها، وحضر هو وأبوه فتح مصر، وكانا ممن ثار إلى عثمان رضي الله عنه، فتنادى الجند قتل الأكدر، فلم يبق أحد حتى لبس سلاحه، فحضر باب مروان منهم زيادة على ثلاثين ألفا، وخشي مروان وأغلق بابه حتى أتاه كريب بن أبرهة وألقى عليه رداءه وقال للجند: انصرفوا أنا له جار، فما عطف أحد منهم وانصرفوا إلى منازلهم، وكان للنصف من جمادى الآخرة، ويومئذ مات عبد الله بن عمرو بن العاص، فلم يستطع أحد أن يخرج بجنازته إلى المقبرة لشغب الجند على مروان، ومن حينئذ غلبت العثمانية على مصر فتظاهروا فيها بسب عليّ رضي الله عنه، وانكفت السنة العلوية والخوارج.

فلما كانت ولاية قرّة بن شريك العبسيّ على مصر من قبل الوليد بن عبد الملك في

ص: 157

سنة تسعين، خرج إلى الإسكندرية في سنة إحدى وتسعين، فتعاقدت السراة من الخوارج بالإسكندرية على الفتك به، وكانت عدّتهم نحوا من مائة، فعقدوا لرئيسهم المهاجر بن أبي المثنى التجيبيّ، أحد بني «1» فهم عليهم عند منارة الإسكندرية وبالقرب منهم رجل يكنى أبا سليمان، فبلغ قرّة ما عزموا عليه، فأتى لهم قبل أن يتفرّقوا فأمر بحبسهم في أصل منارة الإسكندرية، وأحضر قرّة وجوه الجند فسألهم فأقرّوا فقتلهم، ومضى رجل ممن كان يرى رأيهم إلى أبي سليمان فقتله، فكان يزيد بن أبي حبيب إذا أراد أن يتكلم بشيء فيه تقية من السلطان تلفت وقال: احذروا أبا سليمان، ثم قال الناس كلهم من ذلك اليوم أبو سليمان. فلما قام عبد الله بن يحيى الملقب بطالب الحق في الحجاز على مروان بن محمد الجعديّ، قدم إلى مصر داعيته ودعا الناس فبايع له ناس من تجيب وغيرهم، فبلغ ذلك حسان بن عتاهية صاحب الشرطة فاستخرجهم، فقتلهم حوثرة بن سهيل الباهليّ أمير مصر من قبل مروان بن محمد، فلما قتل مروان وانقضت أيام بني أمية ببني العباس في سنة ثلاث وثلاثين ومائة، خمدت جمرة أصحاب المذهب المروانيّ وهم الذين كانوا يسبون عليّ بن أبي طالب ويتبرّؤون منه، وصاروا منذ ظهر بنو العباس يخافون القتل ويخشون أن يطلع عليهم أحد إلّا طائفة كانت بناحية الواحات وغيرها، فإنهم أقاموا على مذهب المروانية دهرا حتى فنوا، ولم يبق لهم الآن بديار مصر وجود البتة.

فلما كان في إمارة حميد بن قحطبة على مصر من قبل أبي جعفر المنصور، قدم إلى مصر عليّ بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب داعية لأبيه وعمه، فذكر ذلك لحميد فقال: هذا كذب، ودسّ إليه أن تغيّب، ثم بعث إليه من الغد فلم يجده، فكتب بذلك إلى أبي جعفر المنصور فعزل حميدا وسخط عليه في ذي القعدة سنة أربع وأربعين ومائة، وولى يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة، فظهرت دعوة بني حسن بن عليّ بمصر، وتكلم الناس بها وبايع كثير منهم لعليّ بن محمد بن عبد الله، وهو أوّل علويّ قدم مصر، وقام بأمر دعوته خالد بن سعيد بن ربيعة بن حبيش الصدفيّ، وكان جدّه ربيعة بن حبيش من خاصة عليّ بن أبي طالب وشيعته، وحضر الدار في قتل عثمان رضي الله عنه، فاستشار خالد أصحابه الذين بايعوا له، فأشار عليهم بعضهم أن يبيت يزيد بن حاتم في العسكر، وكان الأمراء قد صاروا منذ قدمت عساكر بني العباس ينزلون في العسكر الذي بني خارج الفسطاط من شماليه، كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب، وأشار عليه آخرون أن لا يحوز بيت المال، وأن يكون خروجهم في الجامع، فكره خالد أن يبيت يزيد بن حاتم، وخشي على اليمانية، وخرج منهم رجل قد شهد أمرهم حتى أتى إلى عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن خديج وهو يومئذ على الفسطاط، فخبّره أنهم

ص: 158

الليلة يخرجون، فمضى عبد الله إلى يزيد بن حاتم وهو بالعسكر، فكان من أمرهم ما كان لعشر من شوّال سنة خمس وأربعين ومائة، فانهزموا. ثم قدمت الخطباء برأس إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسين في ذي الحجة من السنة المذكورة إلى مصر ونصبوه في المسجد الجامع، وقامت الخطباء فذكروا أمره، وحمل عليّ بن محمد إلى أبي جعفر المنصور وقيل إنه اختفى عند عسامة بن عمرو بقرية طره، فمرض بها ومات فقبر هناك، وحمل عسامة إلى العراق فحبس إلى أن ردّه المهديّ محمد بن أبي جعفر إلى مصر، وما زالت شيعة عليّ بمصر إلى أن ورد كتاب المتوكل على الله إلى مصر يأمر فيه بإخراج آل أبي طالب من مصر إلى العراق، فأخرجهم إسحاق بن يحيى الختليّ أمير مصر وفرّق فيهم الأموال ليتجملوا بها، وأعطى كل رجل ثلاثين دينارا، والمرأة خمسة عشر دينارا، فخرجوا لعشر خلون من رجب سنة ست وثلاثين ومائتين، وقدموا العراق فأخرجوا إلى المدينة في شوّال منها، واستتر من كان بمصر على رأي العلوية، حتى أن يزيد بن عبد الله أمير مصر ضرب رجلا من الجند في شيء وجب عليه فأقسم عليه بحق الحسن والحسين إلا عفا عنه، فزاده ثلاثين درة، ورفع ذلك صاحب البريد إلى المتوكل، فورد الكتاب على يزيد بضرب ذلك الجنديّ مائة سوط، فضربها وحمل بعد ذلك إلى العراق في شوّال سنة ثلاث وأربعين ومائتين، وتتبع يزيد الروافض فحملهم إلى العراق، ودل في شعبان على رجل يقال له محمد بن عليّ بن الحسن بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، أنه بويع له، فأحرق الموضع الذي كان به وأخذه فأقرّ على جمع من الناس بايعوه، فضرب بعضهم بالسياط، وأخرج العلوي هو وجمع من آل أبي طالب إلى العراق في شهر رمضان.

ومات المتوكل في شوّال، فقام من بعده ابنه محمد المستنصر، فورد كتابه إلى مصر بأن لا يقبل علويّ ضيعة، ولا يركب فرسا، ولا يسافر من الفسطاط إلى طرف من أطرافها، وأن يمنعوا من اتخاذ العبيد إلّا العبد الواحد، ومن كان بينه وبين أحد من الطالبيين خصومة من سائر الناس قبل قول خصمه فيه ولم يطالب ببينة، وكتب إلى العمال بذلك، ومات المستنصر في ربيع الآخر، وقام المستعين، فأخرج يزيد ستة رجال من الطالبيين إلى العراق في رمضان سنة خمسين ومائتين، ثم أخرج ثمانية منهم في رجب سنة إحدى وخمسين، وخرج جابر بن الوليد المدلجيّ بأرض الإسكندرية في ربيع الآخر سنة اثنتين وخمسين، واجتمع إليه كثير من بني مدلج فبعث إليه محمد بن عبيد الله بن يزيد بجيش من الإسكندرية فهزمهم وظفر بما معهم، وقوي أمره وأتاه الناس من كلّ ناحية، وضوى إليه كل من يومي إليه بشدّة ونجدة، فكان ممن أتاه عبد الله المريسيّ وكان لصا خبيثا، ولحق به جريج النصرانيّ وكان من شرار النصارى. وأولي بأسهم، ولحق به أبو حرملة فرج النوبيّ وكان فاتكا فعقد له جابر على سنهور وسخا وشرقيون وبنا، فمضى أبو حرملة في جيش عظيم، فأخرج العمال وجبى الخراج ولحق به عبد الله بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن

ص: 159

محمد بن عبد الله بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب الذي يقال له ابن الأرقط، فقوّده أبو حرملة وضم إليه الأعراب وولاه بنا وبوصير وسمنود، فبعث يزيد أمير مصر بجمع من الأتراك في جمادى الآخرة فقاتلهم ابن الأرقط وقتل منهم، ثم ثبتوا له فانهزم وقتل من أصحابه كثير وأسر منهم كثير، ولحق ابن الأرقط بأبي حرملة في شرقيون فصار إلى عسكر يزيد فانهزم أبو حرملة. وقدم مزاحم بن خاقان من العراق في جيش، فحارب أبا حرملة حتى أسر في رمضان، واستأمن ابن الأرقط، فأخذ وأخرج إلى العراق في ربيع الأوّل سنة ثلاث وخمسين ومائتين ففرّ منهم، ثم ظفر به وحبس، ثم حمل إلى العراق في صفر سنة خمس وخمسين ومائتين بكتاب ورد على أحمد بن طولون، ومات أبو حرملة في السجن لأربع بقين من ربيع الآخر سنة ثلاث وخمسين، وأخذ جابر بعد حروب وحمل إلى العراق في رجب سنة أربع وخمسين، وخرج في إمرة أرجون التركيّ رجل من العلويين يقال له بغا الأكبر، وهو أحمد بن إبراهيم بن عبد الله بن طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن حسن بن حسين بن عليّ بالصعيد، فحاربه أصحاب أرجون وفرّ منهم فمات، ثم خرج بغا الأصغر وهو أحمد بن محمد بن عبد الله بن طباطبا فيما بين الإسكندرية وبرقة في جمادى الأولى سنة خمس وخمسين ومائتين، والأمير يومئذ أحمد بن طولون، وسار في جمع إلى الصعيد فقتل في الحرب وأتي برأسه إلى الفسطاط في شعبان وخرج ابن الصوفيّ العلويّ بالصعيد وهو إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب، ودخل اسنا في ذي القعدة سنة خمس وخمسين، ونهبها وقتل أهلها، فبعث إليه ابن طولون بجيش فحاربوه فهزمهم في ربيع الأوّل سنة ست وخمسين بهو، فبعث ابن طولون إليه بجيش آخر فالتقيا بأخميم في ربيع الآخر فانهزم ابن الصوفيّ وترك جميع ما معه وقتلت رجالته، فأقام ابن الصوفيّ بالواح سنتين ثم خرج إلى الأشمونين في المحرّم سنة تسع وخمسين وسار إلى أسوان لمحاربة أبي عبد الرحمن العمريّ، فظفر به العمريّ وبجميع جيشه وقتل منهم مقتلة عظيمة، ولحق ابن الصوفيّ بأسوان فقطع لأهلها ثلاثمائة ألف نخلة، فبعث إليه ابن طولون بعثا فاضطرب أمره مع أصحابه فتركهم ومضى إلى عيذاب، فركب البحر إلى مكة فقبض عليه بها وحمل إلى ابن طولون فسجنه ثم أطلقه فصار إلى المدينة ومات بها.

وفي إمارة هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون أنكر رجل من أهل مصر أن يكون أحد خيّرا من أهل البيت، فوثبت إليه العامّة فضرب بالسياط يوم الجمعة في جمادى الأولى سنة خمس وثمانين ومائتين. وفي إمارة ذكا الأعور على مصر كتب على أبواب الجامع العتيق ذكر الصحابة والقرآن فرضيه جمع من الناس وكرهه آخرون، فاجتمع الناس في رمضان سنة خمس وثلاثمائة إلى دار ذكا يتشكرونه على ما أذن لهم فيه، فوثب الجند بالناس فنهب قوم وجرح آخرون ومحي ما كتب على أبواب الجامع، ونهب الناس في المسجد والأسواق، وأفطر الجند يومئذ وما زال أمر الشيعة يقوى بمصر إلى أن دخلت سنة خمسين

ص: 160

وثلاثمائة، ففي يوم عاشوراء كانت منازعة بين الجند وبين جماعة من الرعية عند قبر كلثوم العلوية بسبب ذكر السلف والنوح، قتل فيها جماعة من الفريقين، وتعصب السودان على الرعية، فكانوا إذا لقوا أحدا قالوا له: من خالك؟ فإن لم يقل معاوية وإلّا بطشوا به وشلحوه، ثم كثر القول معاوية خال عليّ، وكان على باب الجامع العتيق شيخان من العامّة يناديان في كل يوم جمعة في وجوه الناس من الخاص والعام، معاوية خالي وخال المؤمنين، وكاتب الوحي، ورديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا أحسن ما يقولونه، وإلّا فقد كانوا يقولون معاوية خال عليّ من هاهنا، ويشيرون إلى أن أصل الإذن، ويلقون أبا جعفر مسلما الحسينيّ فيقولون له ذلك في وجهه، وكان بمصر أسود يصيح دائما معاوية خال عليّ، فقتل بتنيس أيام القائد جوهر.

ولما ورد الخبر بقيام بني حسن بمكة ومحاربتهم الحاج ونهبهم، خرج خلق من المصريين في شوّال فلقوا كافور الإخشيديّ بالميدان ظاهر مدينة مصر وضجوا وصاحوا معاوية خال عليّ، وسألوه أن يبعث لنصرة الحاج على الطالبيين. وفي شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة أخذ رجل يعرف بابن أبي الليث الملطيّ ينسب إلى التشيع فضرب مائتي سوط ودرة، ثم ضرب في شوّال خمسمائة سوط ودرة، وجعل في عنقه غل وحبس وكان يتفقد في كلّ يوم لئلا يخفف عنه ويبصق في وجهه، فمات في محبسه فحمل ليلا ودفن، فمضت جماعة إلى قبره لينبشوه وبلغوا إلى القبر فمنعهم جماعة من الإخشيدية والكافورية، فأبوا وقالوا هذا قبر رافضيّ، فثارت فتنة وضرب جماعة ونهبوا كثيرا حتى تفرّق الناس.

وفي سنة ست وخمسين كتب في صفر على المساجد ذكر الصحابة والتفضيل، فأمر الأستاذ كافور الإخشيديّ بإزالته، فحدّثه جماعة في إعادة ذكر الصحابة على المساجد فقال:

ما أحدث في أيامي ما لم يكن وما كان في أيام غيري فلا أزيله، وما كتب في أيامي أزيله، ثم أمر من طاف وأزاله من المساجد كلها. ولما دخل جوهر القائد بعساكر المعز لدين الله إلى مصر وبنى القاهرة أظهر مذهب الشيعة وأذن في جميع المساجد الجامعة وغيرها حيّ على خير العمل، وأعلن بتفضيل عليّ بن أبي طالب على غيره، وجهر بالصلاة عليه وعلى الحسن والحسين وفاطمة الزهراء رضوان الله عليهم، فشكا إليه جماعة من أهل المسجد الجامع أمر عجوز عمياء تنشد في الطريق، فأمر بها فحبست فسرّ الرعية بذلك ونادوا بذكر الصحابة ونادوا معاوية خال عليّ وخال المؤمنين، فأرسل جوهر حين بلغه ذلك رجلا إلى الجامع فنادى: أيها الناس أقلوا القول ودعوا الفضول، فإنما حبسنا العجوز صيانة لها، فلا ينطقن أحد إلّا حلّت به العقوبة الموجعة، ثم أطلق العجوز.

وفي ربيع الأوّل سنة اثنتين وستين عزر سليمان بن عروة المحتسب جماعة من

ص: 161

الصيارفة فشغبوا وصاحوا معاوية خال عليّ بن أبي طالب، فهمّ جوهر أن يحرق رحبة الصيارفة، لكن خشي على الجامع، وأمر الإمام بجامع مصر أن يجهر بالبسملة في الصلاة وكانوا لا يفعلون ذلك، وزيد في صلاة الجمعة القنوت في الركعة الثانية، وأمر في المواريث بالردّ على ذوي الأرحام، وأن لا يرث مع البنت أخ ولا أخت ولا عم ولا جدّ ولا ابن أخ ولا ابن عم، ولا يرث مع الولد الذكر أو الأنثى إلّا الزوج أو الزوجة والأبوان والجدّة، ولا يرث مع الأمّ إلّا من يرث مع الولد، وخاطب أبو الطاهر محمد بن أحمد قاضي مصر القائد جوهرا في بنت وأخ، وأنه كان حكم قديما للبنت بالنصف وللأخ بالباقي، فقال لا أفعل فلما ألح عليه قال: يا قاضي هذا عداوة لفاطمة عليها السلام، فأمسك أبو الطاهر ولم يراجعه بعد في ذلك، وصار صوم شهر رمضان والفطر على حساب لهم، فأشار الشهود على القاضي أبي الطاهر أن لا يطلب الهلال، لأنّ الصوم والفطر على الرؤية قد زال، فانقطع طلب الهلال من مصر وصام القاضي وغيره مع القائد جوهر كما يصوم، وأفطروا كما يفطر. ولما دخل المعز لدين الله إلى مصر ونزل بقصره من القاهرة المعزية، أمر في رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة فكتب على سائر الأماكن بمدينة مصر خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام. وفي صفر سنة خمس وستين وثلاثمائة جلس عليّ بن النعمان القاضي بجامع القاهرة المعروف بالجامع الأزهر وأملى مختصر أبيه في الفقه عن أهل البيت، ويعرف هذا المختصر بالاقتصار، وكان جمعا عظيما وأثبت أسماء الحاضرين.

ولما تولى يعقوب بن كلس الوزارة للعزيز بالله نزار بن المعز رتب في داره العلماء من الأدباء والشعراء والفقهاء والمتكلمين، وأجرى لجميعهم الأرزاق، وألف كتابا في الفقه ونصب له مجلسا وهو يوم الثلاثاء يجتمع فيه الفقهاء وجماعة من المتكلمين وأهل الجدل، وتجري بينهم المناظرات، وكان يجلس أيضا في يوم الجمعة فيقرأ مصنفاته على الناس بنفسه، ويحضر عنده القضاة والفقهاء والقرّاء والنحاة وأصحاب الحديث ووجوه أهل العلم والشهود، فإذا انقضى المجلس من القراءة قام الشعراء لإنشاد مدائحهم فيه، وجعل للفقهاء في شهر رمضان الأطعمة، وألف كتابا في الفقه يتضمن ما سمعه من المعز لدين الله ومن ابنه العزيز بالله، وهو مبوّب على أبواب الفقه يكون قدره مثل نصف صحيح البخاريّ، ملكته ووقفت عليه، وهو يشتمل على فقه الطائفة الإسماعيلية، وكان يجلس لقراءة هذا الكتاب على الناس بنفسه وبين يديه خواص الناس وعوامّهم وسائر الفقهاء والقضاة والأدباء، وأفتى الناس به ودرّسوا فيه بالجامع العتيق، وأجرى العزيز بالله لجماعة من الفقهاء يحضرون مجلس الوزير ويلازمونه أرزاقا تكفيهم في كلّ شهر، وأمر لهم ببناء دار إلى جانب الجامع الأزهر، فإذا كان يوم الجمعة تحلقوا فيه بعد الصلاة إلى أن تصلّى صلاة العصر، وكان لهم من مال الوزير أيضا صلة في كلّ سنة، وعدّتهم خمسة وثلاثون رجلا، وخلع عليهم العزيز

ص: 162

بالله في يوم عيد الفطر وحملهم على بغال.

وفي سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة أمر العزيز بن المعز بقطع صلاة التروايح من جميع البلاد المصرية. وفي سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة ضرب رجل بمصر وطيف به المدينة من أجل أنه وجد عنده كتاب الموطأ لمالك بن أنس رحمه الله. وفي شهر ربيع الأوّل سنة خمس وثمانين وثلاثمائة جلس القاضي محمد بن النعمان على كرسيّ بالقصر في القاهرة لقراءة علوم أهل البيت على الرسم المتقدّم له ولأخيه بمصر، ولأبيه بالمغرب، فمات في الزحمة أحد عشر رجلا. وفي جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة قبض على رجل من أهل الشام سئل عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال لا أعرفه، فاعتقله قاضي القضاة الحسن بن النعمان قاضي أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله على القاهرة المعزية ومصر والشامات والحرمين والمغرب، وبعث إليه وهو في السجن أربعة من الشهود وسألوه، فأقرّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وأنه نبيّ مرسل، وسئل عن عليّ بن أبي طالب فقال لا أعرفه، فأمر قائد القوّاد الحسين بن جوهر بإحضاره، فخلا به ورفق في القول له فلم يرجع عن إنكاره معرفة عليّ بن أبي طالب، فطولع الحاكم بأمره فأمر بضرب عنقه فضرب عنقه وصلب. وفي سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة قبض على ثلاثة عشر رجلا وضربوا وشهروا على الجمال وحبسوا ثلاثة أيام من أجل أنهم صلوا صلاة الضحى.

وفي سنة خمس وتسعين وثلاثمائة قريء سجل في الجوامع بمصر والقاهرة والجزيرة بأن تلبس النصارى واليهود الغيار والزنار، وغيارهم السواد غيار العاصين العباسيين، وأن يشدّوا الزنار وفيه وقوع وفحش في حق أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقرىء سجل آخر فيه منع الناس من أكل الملوخيا المحببة كانت لمعاوية بن أبي سفيان، ومنعهم من أكل البقلة المسماة بالجرجير المنسوبة لعائشة رضي الله عنها، ومن المتوكلية المنسوبة إلى المتوكل، والمنع من عجين الخبز بالرجل، والمنع من أكل الدلينس ومن ذبح البقر إلّا ذا عاهة ما، عدا أيام النحر، فإنه يذبح فيها البقر فقط، والوعيد للنخاسين متى باعوا عبدا أو أمة لذميّ، وقريء سجل آخر بأن يؤذن لصلاة الظهر في أوّل الساعة السابعة، ويؤذن لصلاة العصر في أوّل الساعة التاسعة، وقريء أيضا سجل بالمنع من عمل الفقاع وبيعه في الأسواق لما يؤثر عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه من كراهية شرب الفقاع، وضرب في الطرقات والأسواق بالحرس، ونودي أن لا يدخل أحد الحمام إلّا بمئزر، ولا تكشف امرأة وجهها في طريق، ولا خلف جنازة، ولا تتبرّج، ولا يباع شيء من السمك بغير قشر، ولا يصطاده أحد من الصيادين، وقبض على جماعة وجدوا في الحمام بغير مئزر فضربوا وشهروا. وكتب في صفر من هذه السنة على سائر المساجد وعلى الجامع العتيق بمصر من ظاهره وباطنه من جميع جوانبه، وعلى أبواب الحوانيت والحجر وعلى المقابر والصحراء سبّ السلف ولعنهم، ونقش ذلك ولوّن بالأصباغ والذهب، وعمل ذلك على أبواب الدور

ص: 163

والقياسر، وأكره الناس على ذلك، وتسارع الناس إلى الدخول في الدعوة، فجلس لهم قاضي القضاة عبد العزيز بن محمد بن النعمان، فقدموا من سائر النواحي والضياع، فكان للرجال يوم الأحد، وللنساء يوم الأربعاء، وللأشراف وذوي الأقدار يوم الثلاثاء، وازدحم الناس على الدخول في الدعوة، فمات عدّة من الرجال والنساء. ولما وصلت قافلة الحاج مرّ بهم من سبّ العامّة وبطشهم ما لا يوصف، فإنهم أرادوا حمل الحاج على سبّ السلف فأبوا، فحلّ بهم مكروه شديد. وفي جمادى الآخرة من هذه السنة فتحت دار الحكمة بالقاهرة وجلس فيها القرّاء، وحملت الكتب إليها من خزائن القصور، ودخل الناس إليها وجلس فيها القرّاء والفقهاء والمنجمون والنحاة وأصحاب اللغة والأطباء، وحصل فيها من الكتب في سائر العلوم ما لم ير مثله مجتمعا، وأجرى على من فيها من الخدّام والفقهاء الأرزاق السنية، وجعل فيها ما يحتاج إليه من الحبر والأقلام والمحابر والورق. وفي يوم عاشوراء من سنة ست وتسعين وثلاثمائة كان من اجتماع الناس ما جرت به العادة، وأعلن بسبّ السلف فيه، فقبض على رجل نودي عليه هذا جزاء من سبّ عائشة وزوجها صلى الله عليه وسلم، ومعه من الرعاع ما لا يقع عليه حصروهم يسبون السلف، فلما تمّ النداء عليه ضرب عنقه، واستهل شهر رجب من هذه السنة بيوم الأربعاء، فخرج أمر الحاكم بأمر الله أن يؤرّخ بيوم الثلاثاء، وفي سنة سبع وتسعين وثلاثمائة قبض على جماعة ممن يعمل الفقاع ومن السماكين ومن الطباخين وكبست الحمامات فأخذ عدّة ممن وجد بغير مئزر، فضرب الجميع لمخالفتهم الأمر وشهروا. وفي تاسع ربيع الآخر أمر الحاكم بأمر الله بمحو ما كتب على المساجد وغيرها من سبّ السلف، وطاف متولي الشرطة وألزم كل أحد بمحو ما كتب على المساجد من ذلك، ثم قريء سجل في ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وثلاثمائة بأن لا يحمل شيء من النبيذ والمزر، ولا يتظاهر به ولا بشيء من الفقاع والدلينس والسمك الذي لا قشر له والترمس العفن، وقريء سجل في رمضان على سائر المنابر بأنه يصوم الصائمون على حسابهم ويفطرون، ولا يعارض أهل الرؤية فيما هم عليه صائمون ومفطرون، صلاة الخمس الدين، فبما جاءهم فيها يصلون، وصلاة الضحى وصلاة التراويح لا مانع لهم منها.

ولا هم عنها يدفعون، يخمّس في التكبير على الجنائز المخمسون، ولا يمنع من التربيع عليها المربّعون، يؤذن بحيّ على خير العمل المؤذنون، ولا يؤذى من بها لا يؤذنون، ولا يسب أحد من السلف، ولا يحتسب على الواصف فيهم بما وصف، والحالف منهم بما حلف، لكلّ مسلم مجتهد في دينه اجتهاده، وإلى الله ربه معاده عنده كتابه وعليه حسابه.

وفي صفر سنة أربعمائة شهر جماعة بعد ما ضربوا بسبب بيع الفقاع والملوخيا والدلينس والترمس.

وفي تاسع عشر شهر شوّال أمر الحاكم بأمر الله برفع ما كان يؤخذ من الخمس والزكاة والفطرة والنجوى، وأبطل قراءة مجالس الحكمة في القصر، وأمر بردّ التثويب في الأذان،

ص: 164

وأذّن للناس في صلاة الضحى وصلاة التراويح، وأمر المؤذنين بأسرهم في الأذان بأن لا يقولوا حيّ على خير العمل، وأن يقولوا في الأذان للفجر الصلاة خير من النوم، ثم أمر في ثاني عشري ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعمائة بإعادة قول حيّ على خير العمل في الأذان، وقطع التثويب وترك قولهم الصلاة خير من النوم، ثم أمر في ثاني عشري ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعمائة بإعادة قول حيّ على خير العمل في الأذان، وقطع التثويب وترك قولهم الصلاة خير من النوم، ومنع من صلاة الضحى، وصلاة التراويح، وفتح باب الدعوة، وأعيدت قراءة المجالس بالقصر على ما كانت، وكان بين المنع من ذلك والأذن فيه خمسة أشهر، وضرب في جمادى من هذه السنة جماعة وشهروا بسبب بيع الملوخيا والسمك الذي لا قشر له وشرب المسكرات، وتتبع السكارى فضيق عليهم.

وفي يوم الثلاثاء سابع عشري شعبان سنة إحدى وأربعمائة وقع قاضي القضاة مالك بن سعيد الفارقيّ إلى سائر الشهود والأمناء بخروج الأمر المعظم، بأن يكون الصوم يوم الجمعة والعيد يوم الأحد. وفي شعبان سنة اثنتين وأربعمائة قريء سجل يشدّد فيه النكير على بيع الملوخيا والفقاع والسمك الذي لا قشر له، ومنع النساء من الاجتماع في المآتم ومن اتباع الجنائز، وأحرق الحاكم بأمر الله في هذا الشهر الزبيب الذي وجد في مخازن التجار، وأحرق ما وجد من الشطرنج، وجمع صيادي السمك وحلّفهم بالأيمان المؤكدة أن لا يصطادوا سمكا بغير قشر، ومن فعل ذلك ضربت عنقه، وأحرق في خمسة عشر يوما ألفين وثمانمائة وأربعين قطعة زبيب بلغ ثمن النفقة عليها خمسمائة دينار، ومنع من بيع العنب إلّا أربعة أرطال فما دونها، ومنع من اعتصاره، وطرح عنبا كثيرا في الطرقات وأمر بدوسه، فامتنع الناس من التظاهر بشيء من العنب في الأسواق، واشتدّ الأمر فيه، وغرق منه ما حمل في النيل، وأحصي ما بالجيزة من الكروم، فقطف ما عليها من العنب وطرح ما جمعه من ذلك تحت أرجل البقر لتدوسه، وفعل مثل ذلك في جهات كثيرة، وختم على مخازن العسل، وغرّق منه في أربعة أيام خمسة آلاف جرّة وإحدى وخمسين جرّة فيها العسل، وغرق من عسل النحل قدر إحدى وخمسين زيرا. وفي جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعمائة، اشتدّ الإنكار على الناس بسبب بيع الفقاع والزبيب والسمك الذي لا قشر له، وقبض على جماعة وجد عندهم زبيب فضربت أعناقهم وسجنت عدّة منهم وأطلقوا. وفي شوّال اعتقل رجل ثم شهر ونودي عليه هذا جزاء من سبّ أبا بكر وعمر ويثير الفتن، فاجتمع خلق كثير بباب القصر فاستغاثوا، لا طاقة لنا بمخالفة المصريين ولا بمخالفة الحشوية من العوام، ولا صبر لنا على ما جرى، وكتبوا قصصا فصرفوا ووعدوا بالمجيء في غد، فبات كثير منهم بباب القصر، واجتمعوا من الغد فصاحوا وضجوا فخرج إليهم قائد القوّاد غين، فنهاهم وأمرهم عن أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أن يمضوا إلى معايشهم، فانصرفوا إلى قاضي القضاة مالك بن سعيد الفارقيّ وشكوا إليه، فتبرّم من ذلك فمضوا وفيهم من يسب

ص: 165

السلف ويعرّض بالناس، فقريء سجل في القصر بالترحم على السلف من الصحابة، والنهي عن الخوض في ذلك، وركب مرّة فرأى لوحا على قيسارية فيه سب السلف فأنكره، وما زال واقفا حتى قلع وضرب بالحرس في سائر طرقات مصر والقاهرة، وقريء سجل بتتبع الألواح المنصوبة على سائر أبواب القياسر والحوانيت والدور والخانات والأرباع المشتملة على ذكر الصحابة والسلف الصالح، رحمهم الله، بالسب واللعن، وقلع ذلك وكسره وتعفية أثره، ومحو ما على الحيطان من هذه الكتابة، وإزالة جميعها من سائر الجهات حتى لا يرى لها أثر في جدار ولا نقش في لوح، وحذّر فيه من المخالفة، وهدّد بالعقوبة، ثم انتقض ذلك كله وعاد الأمر إلى ما كان عليه إلى أن قتل الخليفة الآمر بأحكام الله أبو عليّ منصور بن المستعلي بالله أبي القاسم أحمد بن المستنصر بالله أبي تميم معدّ.

وثار أبو عليّ أحمد الملقب كتيفات ابن الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش، واستولى على الوزارة في شنة أربع وعشرين وخمسمائة، وسجن الحافظ لدين الله أبا الميمون عبد المجيد بن الأمير أبي القاسم محمد بن الخليفة المستنصر بالله، وأعلن بمذهب الإمامية والدعوة للإمام المنتظر، وضرب دراهم نقشها: الله الصمد الإمام محمد. ورتب في سنة خمس وعشرين أربعة قضاة، اثنان أحدهما إماميّ والآخر إسماعيليّ، واثنان أحدهما مالكيّ والآخر شافعيّ، فحكم كل منهما بمذهبه وورّث على مقتضاه، وأسقط ذكر إسماعيل بن جعفر الصادق وأبطل من الأذان حيّ على خير العمل، وقولهم محمد وعليّ خير البشر، فلما قتل في المحرّم سنة ست وعشرين عاد الأمر إلى ما كان عليه من مذهب الإسماعيلية.

وما برح حتى قدمت عساكر الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي من دمشق، عليها أسد الدين شيركوه، وولى وزارة مصر للخليفة العاضد لدين الله أبي محمد عبد الله بن الأمير يوسف بن الحافظ لدين الله، ومات، فقام في الوزارة بعده ابن أخيه السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب في جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمسمائة، وشرع في تغيير الدولة وإزالتها، وحجر على العاضد وأوقع بأمراء الدولة وعساكرها، وأنشأ بمدينة مصر مدرسة للفقهاء الشافعية، ومدرسة للفقهاء المالكية، وصرف قضاة مصر الشيعة كلهم، وفوّض القضاء لصدر الدين عبد الملك بن درباس المارانيّ الشافعيّ، فلم يستنب عنه في إقليم مصر إلّا من كان شافعيّ المذهب، فتظاهر الناس من حينئذ بمذهب مالك والشافعيّ، واختفى مذهب الشيعة والإسماعيلية والإمامية حتى فقد من أرض مصر كلها، وكذلك كان السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي بن آق سنقر حنيفا فيه تعصب، فنشر مذهب أبي حنيفة رحمه الله ببلاد الشام، ومنه كثرت الحنفية بمصر، وقدم إليها أيضا عدّة من بلاد الشرق، وبنى لهم السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب المدرسة السيوفية بالقاهرة، وما زال مذهبهم ينتشر ويقوى وفقهاؤهم تكثر بمصر والشام من حينئذ.

وأما العقائد فإن السلطان صلاح الدين حمل الكافة على عقيدة الشيخ أبي الحسن عليّ بن

ص: 166