الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلما حضرا ألزمهما بطلب أرباب الزفر إلى القلعة وتفرقة ما ناب الطباخ من المهمّ عليهم، واستخراج ثمنه، فللحال حضر المذكورون وبيع عليهم ذلك فبلغ ثمنه ثلاثة وعشرين ألف درهم نقرة، وهذا مهمّ واحد من ألوف مع الذي كان له من المعاليم والجرايات ومنافع المطبخ. ويقال أنه كان يتحصل له من المطبخ السلطاني في كل يوم على الدوام والاستمرار مبلغ خمسمائة درهم نقرة، ولولده أحمد مبلغ ثلاثمائة درهم نقرة، فلما تحدّث النشو في الدولة خرّج عليه تخاريج وأغرى به السلطان، فلم يسمع فيه كلاما، وما زال على حاله إلى أن مات الملك الناصر وقام من بعده أولاده الملك المنصور أبو بكر، والملك الأشرف كجك، والملك الناصر أحمد، والملك الصالح إسماعيل، والملك الكامل شعبان، فصادره في سنة ست وأربعين وسبعمائة، وأخذ منه مالا كثيرا، ومما وجد له خمس وعشرون دارا مشرفة على النيل وغيره، فتفرقت حواشي الملك الكامل أملامه، فأخذت أم السلطان ملكه الذي كان على البحر، وكانت دارا عظيمة جدّا، وأخذت أنقاض داره التي بالمحمودية من القاهرة وأقيم عوضه بالمطبخ السلطانيّ وضرب ابنه أحمد.
جامع الأسيوطيّ
هذا الجامع بطرف جزيرة الفيل مما يلي ناحية بولاق، كان موضعه في القديم غامرا بماء النيل، فلما انحسر عن جزيرة الفيل وعمرت ناحية بولاق، أنشأ هذا الجامع القاضي شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عمر السيوطيّ ناظر بيت المال، ومات في سنة تسع وأربعين وسبعمائة، ثم جدّد عمارته بعد ما تهدّم وزاد فيه ناصر الدين محمد بن محمد بن عثمان بن محمد المعروف بابن البارزيّ الحمويّ كاتب السرّ، وأجرى فيه الماء وأقام فيه الخطبة يوم الجمعة سادس عشري جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة، فجاء في أحسن هندام وأبدع زيّ، وصلّى فيه السلطان الملك المؤيد شيخ الجمعة في أول جمادى الآخرة سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة.
جامع الملك الناصر حسن
هذا الجامع يعرف بمدرسة السلطان حسن، وهو تجاه قلعة الجبل فيما بين القلعة وبركة الفيل، وكان موضعه بيت الأمير يلبغا اليحياوي الذي تقدّم ذكره عند ذكر الدور، وابتدأ السلطان عمارته في سنة سبع وخمسين وسبعمائة، وأوسع دوره وعمله في أكبر قالب وأحسن هندام وأضخم شكل، فلا يعرف في بلاد الإسلام معبد من معابد المسلمين يحكي هذا الجامع، أقامت العمارة فيه مدّة ثلاث سنين لا تبطل يوما واحدا، وأرصد لمصروفها في كل يوم عشرون ألف درهم، عنها نحو ألف مثقال ذهبا. ولقد أخبرني الطواشي مقبل الشاميّ: أنه سمع السلطان حسنا يقول: انصرف على القالب الذي بني عليه عقد الإيوان الكبير مائة ألف درهم نقرة، وهذا القالب مما رمي على الكيمان بعد فراغ العقد المذكور.
قال: وسمعت السلطان يقول لولا أن يقال ملك مصر عجز عن إتمام بناء بناه لتركت بناء هذا الجامع من كثرة ما صرف عليه، وفي هذا الجامع عجائب من البنيان منها: أن ذراع إيوانه الكبير خمسة وستون ذراعا في مثلها، ويقال أنه أكبر من إيوان كسرى الذي بالمدائن من العراق بخمسة أذرع، ومنه القبلة العظيمة التي لم يبن بديار مصر والشام والعراق والمغرب واليمن مثلها، ومنها المنبر الرخام الذي لا نظير له، ومنها البوّابة العظيمة، ومنها المدارس الأربع التي بدور قاعة الجامع إلى غير ذلك. وكان السلطان قد عزم على أن يبني أربع مناير يؤذن عليها، فتمت ثلاث مناير إلى أن كان يوم السبت سادس شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وستين وسبعمائة، فسقطت المنارة التي على الباب، فهلك تحتها نحو ثلاثمائة نفس من الأيتام الذين كانوا قد رتبوا بمكتب السبيل الذي هناك ومن غير الأيتام، وسلّم من الأيتام ستة أطفال، فأبطل السلطان بناء هذه المنارة وبناء نظيرتها، وتأخر هناك منارتان هما قائمتان إلى اليوم، ولما سقطت المنارة المذكورة لهجت عامّة مصر والقاهرة بأن ذلك منذر بزوال الدولة، فقال الشيخ بهاء الدين أبو حامد أحمد بن عليّ بن محمد السبكيّ في سقوطها:
أبشر فسعدك يا سلطان مصر أتى
…
بشيره بمقال سار كالمثل
إنّ المنارة لم تسقط لمنقصة
…
لكن لسرّ خفيّ قد تبيّن لي
من تحتها قرىء القرآن فاستمعت
…
فالوجد في الحال أدّها إلى الميل
لو أنزل الله قرآنا على جبل
…
تصدّعت رأسه من شدّة الوجل
تلك الحجارة لم تنقضّ بل هبطت
…
من خشية الله لا للضعف والخلل
وغاب سلطانها فاستوحشت ورمت
…
بنفسها لجوى في القلب مشتعل
فالحمد لله حظّ العين زال بما
…
قد كان قدّره الرحمن في الأزل
لا يعتري البؤس بعد اليوم مدرسة
…
شيدت بنيانها بالعلم والعمل
ودمت حتى ترى الدنيا بها امتلأت
…
علما فليس بمصر غير مشتغل
فاتفق قتل السلطان بعد سقوط المنارة بثلاثة وثلاثين يوما، ومات السلطان قبل أن يتم رخام هذا الجامع، فأتمه من بعده الطواشي بشير الجمدار، وكان قد جعل السلطان على هذا الجامع أوقافا عظيمة جدّا، فلم يترك منها إلّا شيء يسير وأقطع أكثر البلاد التي وقفت عليه بديار مصر والشام لجماعة من الأمراء وغيرهم، وصار هذا الجامع ضدّا لقلعة الجبل، قلما تكون فتنة بين أهل الدولة إلّا ويصعد عدّة من الأمراء وغيرهم إلى أعلاه ويصير الرمي منه على القلعة، فلم يحتمل ذلك الملك الظاهر برقوق وأمر فهدمت الدرج التي كان يصعد منها إلى المنارتين والبيوت التي كان يسكنها الفقهاء، ويتوصل من هذه الدرج إلى السطح الذي كان يرمى منه على القلعة، وهدمت البسطة العظيمة والدرج التي كانت بجانبي هذه البسطة التي كانت قدّام باب الجامع، حتى لا يمكن الصعود إلى الجامع، وسدّ من وراء الباب النحاس الذي لم يعمل فيما عهد باب مثله، وفتح شباك من شبابيك أحد مدارس هذا الجامع
ليتوصل منه إلى داخل الجامع عوضا عن الباب المسدود، فصار هذا الجامع تجاه باب القلعة المعروف بباب السلسلة، وامتنع صعود المؤذنين إلى المنارتين، وبقي الأذان على درج هذا الباب، وكان ابتداء هدم ما ذكر في يوم الأحد ثامن صفر سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة، ثم لما شرع السلطان الملك المؤيد شيخ في عمارة الجامع بجوار باب زويلة اشترى هذا الباب النحاس والتنور النحاس الذي كان معلقا هناك بخمسمائة دينار، ونقلا في يوم الخميس سابع عشري شوّال سنة تسع عشرة وثمانمائة، فركب الباب على البوّابة وعلق التنور تجاه المحراب، فلما كان في يوم الخميس تاسع شهر رمضان سنة خمس وعشرين وثمانمائة، أعيد الأذان في المئذنتين كما كان، وأعيد بناء الدرج والبسطة، وركب باب بدل الباب الذي أخذه المؤيد، واستمرّ الأمر على ذلك.
الملك الناصر أبو المعالي الحسن بن محمد بن قلاون: جلس على تخت الملك وعمره ثلاث عشرة سنة في يوم الثلاثاء رابع عشر شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبعمائة بعد أخيه الملك المظفر حاجي، وأركب من باب الستارة بقلعة الجبل وعليه شعار السلطنة وفي ركابه الأمراء إلى أن نزل بالإيوان السلطانيّ، ومدبر والدولة يومئذ الأمير يلبغاروس، والأمير ألجيبغا المظفريّ، والأمير شيخو، والأمير طاز، وأحمد شادّ الشرابخاناه، وأرغون الإسماعيليّ فخلع على يلبغاروس واستقرّ في نيابة السلطنة بديار مصر، عوضا عن الحاج أرقطاي، وقرّر أرقطاي في نيابة السلطنة بحلب، وخلع على الأمير سيف الدين منجك اليوسفيّ واستقرّ في الوزارة والاستادارية، وقرر الأمير أرغون شاه في نيابة السلطنة بدمشق.
فلما دخلت سنة تسع وأربعين، كثر انكشاف الأراضي من ماء النيل بالبرّ الشرقيّ فيما يلي بولاق إلى مصر، فاهتم الأمراء بسدّ البحر مما يلي الجيزة، وفوّض ذلك للأمير منجك، فجمع مالا كثيرا وأنفقه على ذلك، فلم يفد، فقبض على منجك في ربيع الأوّل، وحدث الوباء العظيم في هذه السنة، وأخرج أحمد شادّ الشرابخاناه لنيابة صفد، وألجيبغا لنيابة طرابلس، فاستمرّ أجليبغا بها إلى شهر ربيع الأوّل سنة خمسين، فركب إلى دمشق وقتل أرغون شاه بغير مرسوم، فأنكر عليه وأمسك وقتل بدمشق. وفي سنة إحدى وخمسين سار من دمشق عسكر عدّته أربعة آلاف فارس، ومن حلب ألفا فارس إلى مدينة سنجار، ومعهم عدّة كثيرة من التركمان، فحصروها مدّة حتى طلب أهلها الأمان، ثم عادوا. وترشد السلطان واستبدّ بأمره وقبض على منحك ويلبغاروس، وقبض بمكة على الملك المجاهد صاحب اليمن، وقيد وحمل إلى القاهرة، فأطلق ثم سجن بقلعة الكرك.
فلما كان يوم الأحد سابع عشر جمادى الآخرة ركب الأمراء على السلطان وهم: طاز وإخوته ويبلغا الشمسيّ، ويبغوا، ووقفوا تحت القلعة وصعد الأمير طاز وهو لابس إلى القلعة في عدّة وافرة، وقبض على السلطان وسجنه بالدور، فكانت مدّة ولايته ثلاث سنين وتسعة أشهر، وأقيم بدله أخوه الملك الصالح صالح فأقام السلطان حسن مجمعا على الاشتغال
بالعلم، وكتب بخطه نسخة من كتاب دلائل النبوّة للبيهقيّ إلى يوم الاثنين ثاني شوّال سنة خمس وخمسين وسبعمائة، فأقامه الأمير شيخو العمريّ في السلطنة، وقبض على الصالح، وكانت مدّة سجنه ثلاث سنين وثلاثة أشهر وأربعة عشر يوما، فرسم بإمساك الأمير طاز وإخراجه لنيابة حلب. وفي ربيع الأول سنة سبع وخمين هبت ريح عاصفة من ناحية الغرب من أوّل النهار إلى آخر الليل، اصفرّ منها الجوّ، ثم احمرّ، ثم اسودّ فتلف منها شيء كثير.
وفي شعبان سنة تسع وخمسين ضرب الأمير شيخو بعض المماليك بسيف فلم يزل عليلا حتى مات. وفي سنة تسع وخمسين كان ضرب الفلوس الجدد، فعمل كلّ فلس زنة مثقال، وقبض على الأمير طاز نائب حلب وسجن بالإسكندرية، وقرّر مكانه في نيابة حلب الأمير منجك اليوسفيّ، وأمسك الأمير صرغتمش في شهر رمضان منها، وكانت حرب بين مماليكه ومماليك السلطان، انتصر فيها المماليك السلطانية، وقبض على عدّة أمراء، فأنعم السلطان على مملوكه يلبغا العمريّ الخاصكيّ بتقدمة ألف عوضا عن تنكر بغا الماردانيّ أمير مجلس بحكم وفاته. وفي سنة ستين فرّ منجك من حلب، فلم يوقف له على خبر، فأقرّ على نيابة حلب الأمير بيدمر الخوارزميّ، وسار لغزو سيس فأخذ أدنه بأمان وأخذ طرسوس والمصيصة وعدّة بلاد وأقام بها نوّابا وعاد، فلما كانت سنة اثنتين وستين عدّى السلطان إلى برّ الجيزة وأقام بناحية كوم برا مدّة طويلة لوباء كان بالقاهرة، فتنكر الحال بينه وبني الأمير يلبغا إلى ليلة الأربعاء تاسع جمادى الأولى، فركب السلطان في جماعة ليكبس على الأمير يلبغا، وكان قد أحسن بذلك وخرج عن الخيام وكمن بمكان وهو لابس في جماعته، فلم يظفر السلطان به، ورجع فثار به يلبغا فانكسر بمن معه وفرّ يريد قلعة الجبل، فتبعه يلبغا وقد انضم إليه جمع كثير، ودخل السلطان إلى القلعة فلم يثبت، وركب معه أيدمر الدوادار ليتوجه إلى بلاد الشام، ونزل إلى بيت الأمير شرف الدين موسى بن الأزكشيّ أمير حاجب، فبعث في الحال إلى الأمير يبلغا يعلمه بمجيء السلطان إليه، فبعث من قبضه هو والأمير أيدمر، ومن حينئذ لم يوقف له على خبر البتة مع كثرة فحص أتباعه وحواشيه عن قبره وما آل إليه أمره، فكانت مدّة ولايته هذه الثانية ست سنين وسبعة أشهر وأياما، وكان ملكا حازما مهابا شجاعا صاحب حرمة وافرة وكلمة نافذة ودين متين، حلف غير مرّة أنه ما لاط ولا شرب خمرا ولا زنى، إلّا أنه كان يبخل ويعجب بالنساء، ولا يكاد يصبر عنهنّ، ويبالغ في إعطائهنّ المال، وعادى في دولته أقباط مصر، وقصد اجتثات أصلهم، وكره المماليك، وشرع في إقامة أولاد الناس أمراء، وترك عشرة بنين وست بنات، وكان أشقر أنمش، وقتل وله من العمر بضع وعشرون سنة، ولم يكن قبله ولا بعده في الدولة التركية مثله.