الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاهرة وسكنها الخلفاء، اتخذوا بها تربة عرفت بتربة الزعفران، قبروا فيها أمواتهم، ودفن رعيتهم من مات منهم في القرافة إلى أن اختطت الحارات خارج باب زويلة، فقبر سكانها موتاهم خارج باب زويلة مما يلي الجامع، فيما بين جامع الصالح وقلعة الجبل، وكثرت المقابر بها عند حدوث الشدّة العظمى أيام الخليفة المستنصر، ثم لما مات أمير الجيوش بدر الجماليّ دفن خارج باب النصر، فاتخذ الناس هنالك مقابر موتاهم، وكثرت مقابر أهل الحسينية في هذه الجهة، ثم دفن الناس الأموات خارج القاهرة في الموضع الذي عرف بميدان القبق، فيما بين قلعة الجبل وقبة النصر، وبنوا هناك الترب الجليلة، ودفن الناس أيضا خارج القاهرة فيما بين باب الفتوح والخندق، ولكل مقبرة من هذه المقابر أخبار سوف أقص عليك من أنبائها ما انتهت إلى معرفته قدرتي إن شاء الله تعالى. ويذكر أهل العناية بالأمور المتقادمة أن الناس في الدهر الأوّل لم يكونوا يدفنون موتاهم إلى أن كان زمن دوناي الذي يدعى سيد البشر لكثرة ما علّم الناس من المنافع، فشكا إليه أهل زمانه ما يأتذون به من خبث موتاهم، فأمرهم أن يدفنوهم في خوابي ويسدّوا رؤسها، ففعلوا ذلك، فكان دوناي أوّل من دفن الموتى، وذكر أن دوناي هذا كان قبل آدم بدهر طويل مبلغه عشرون ألف سنة، وهي دعوى لا تصح، وفي القرآن الكريم ما يقتضي أن قابيل ابن آدم أوّل من دفن الموتى، والله أصدق القائلين. وقد قال الشافعيّ رحمه الله: وأكره أن يعظّم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده.
ذكر القرافة
روى الترمذيّ من حديث أبي طيبة عبد الله بن مسلم، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه رفعه: من مات من أصحابي بأرض بعث قائدا ونورا لهم يوم القيامة. قال: وهذا حديث غريب. وقد روي عن أبي طيبة، عن ابن بريدة مرسلا، وهذا أصح، قال أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم في كتاب فتوح مصر: حدّثنا عبد الله بن صالح، حدّثنا الليث ابن سعد قال: سأل المقوقس عمرو بن العاص أن يبيعه سفح المقطم بسبعين ألف دينار، فعجب عمرو من ذلك وقال: أكتب في ذلك إلى أمير المؤمنين، فكتب بذلك إلى عمر رضي الله عنه، فكتب إليه عمر سله لم أعطاك به ما أعطاك وهي لا تزدرع ولا يستنبط بها ماء. ولا ينتفع بها. فسأله فقال: إنا لنجد صفتها في الكتب أنّ فيها غراس الجنة، فكتب بذلك إلى عمر رضي الله عنه، فكتب إليه عمر إنّا لا نعلم غراس الجنة إلّا المؤمنين، فأقبر فيها من مات قبلك من المسلمين ولا تبعه بشيء. فكان أوّل من دفن فيها رجل من المغافر يقال له عامر، فقيل عمرت. فقال المقوقس لعمرو: وما ذلك، ولا على هذا عاهدتنا، فقطع لهم الحدّ الذي بين المقبرة وبينهم.
وعن ابن لهيعة أن المقوقس قال لعمرو: إنا لنجد في كتابنا أن ما بين هذا الجبل
وحيث نزلتم ينبت فيه شجر الجنة. فكتب بقوله إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال:
صدق، فاجعلها مقبرة للمسلمين، فقبر فيها ممن عرف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة نفر، عمرو بن العاص السهميّ، وعبد الله بن حذافة السهميّ، وعبد الله بن جزء الزبيديّ، وأبو بصيرة الغفاريّ، وعقبة بن عامر الجهنيّ. ويقال ومسلمة بن مخلد الأنصاريّ انتهى.
ويقال أن عامرا هو الذي كان أوّل من دفن بالقرافة، قبره الآن تحت حائط مسجد الفتح الشرقيّ. وقالت فيه امرأة من العرب:
قامت بواكيه على قبره
…
من لي من بعدك يا عامر
تركتني في الدار ذا غربة
…
قد ذلّ من ليس له ناصر
وروى أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس في تاريخ مصر من حديث حرملة بن عمران قال: حدّثني عمير بن أبي مدرك الخولانيّ عن سفيان بن وهب الخولانيّ قال: بينما نحن نسير مع عمرو بن العاص في سفح هذا الجبل ومعنا المقوقس، فقال له عمرو: يا مقوقس ما بال جبلكم هذا أقرع ليس عليه نبات ولا شجر على نحو بلاد الشام؟ فقال: لا أدري، ولكنّ الله أغنى أهله بهذا النيل عن ذلك، ولكنه نجد تحته ما هو خير من ذلك.
قال: وما هو؟ قال ليدفنن تحته أو ليقبرنّ تحته قوم يبعثهم الله يوم القيامة لا حساب عليهم، قال عمرو: اللهمّ اجعلني منهم. قال حرملة بن عمران: فرأيت قبر عمرو بن العاص، وقبر أبي بصيرة، وقبر عقبة بن عامر فيه. وخرّج أبو عيسى الترمذيّ من حديث أبي طيبة عبد الله بن مسلم، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه رفعه:«من مات من أصحابي بأرض بعث قائدا لهم ونورا يوم القيامة» ، وقال القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعيّ: القرافة هم بنو غض بن سيف بن وائل بن المغافر، وفي نسخة بنو غصن. وقال أبو عمرو الكنديّ:
بنو جحض بن سيف بن وائل بن الجيزيّ بن شراحيل بن المغافر بن يغفر. وقيل أن قرافة اسم أمّ عزافر، وجحض ابني سيف بن وائل بن الجيزيّ. قد صحف القضاعيّ في قوله غصن بالغين المعجمة، والأقرب ما قاله الكنديّ، لأنه أقعد بذلك. وقال ياقوت والقرافة- بفتح القاف وراء مخففة وألف خفيفة وفاء- الأوّل مقبرة بمصر مشهورة مسماة بقبيلة من المغافر يقال لهم بنو قرافة، الثاني القرافة محلة بالإسكندرية منسوبة إلى القبيلة أيضا. وقال الشريف محمد بن أسعد الجوانيّ في كتاب النقط: وقد ذكر جامع القرافة الذي يقال له اليوم جامع الأولياء، وكان جماعة من الرؤساء يلزمون النوم بهذا الجامع ويجلسون في ليالي الصيف يتحدّثون في القمر، في صحنه، وفي الشتاء ينامون عند المنبر، وكان يحصل لقيمه الأشربة والحلوى والجرايات، وكان الناس يحبون هذا الموضع ويلزمونه لأجل من يحضر من الرؤساء، وكانت الطفيلية يلزمون المبيت فيه ليالي الجمع، وكذلك أكثر المساجد التي بالقرافة والجبل والمشاهد لأجل ما يحمل إليها ويعمل فيها من الحلاوات واللحومات والأطعمة، وقال موسى بن محمد بن سعيد في كتاب المعرب عن أخبار المغرب: وبت
ليالي كثيرة بقرافة الفسطاط، وهي في شرقيها بها منازل الأعيان بالفسطاط والقاهرة، وقبور عليها مبان معتنى بها، وفيها القبة العالية العظيمة المزخرفة التي فيها قبر الإمام الشافعيّ رضي الله عنه، وبها مسجد جامع وترب كثيرة عليها أوقاف للقرّاء، ومدرسة كبيرة للشافعية، ولا تكاد تخلو من طرب، ولا سيما في الليالي المقمرة، وهي معظم مجتمعات أهل مصر، وأشهر منتزهاتهم وفيها أقول:
إنّ القرافة قد حوت ضدّين من
…
دنيا وأخرى فهي نعم المنزل
يغشى الخليع بها السماع مواصلا
…
ويطوف حول قبورها المتبتل
كم ليلة بتنا بها ونديمنا
…
لحن يكاد يذوب منه الجندل
والبدر قد ملأ البسيطة نوره
…
فكأنما قد فاض منه جدول
وبدا يضاحك أوجها حاكينه
…
لما تكامل وجهه المتهلل
وفوق القرافة من شرقيها جبل المقطم، وليس له علوّ ولا عليه اخضرار، وإنما يقصد للبركة، وهو نبيه الذكر في الكتب، وفي سفحه مقابر أهل الفسطاط والقاهرة، والإجماع على أنه ليس في الدنيا مقبرة أعجب منها ولا أبهى ولا أعظم ولا أنظف من أبنيتها وقبابها وحجرها، ولا أعجب تربة منها، كأنها الكافور والزعفران مقدّسة في جميع الكتب، وحين تشرف عليها تراها كأنها مدينة بيضاء، والمقطم عال عليها كأنه حائط من ورائها، وقال شافع بن عليّ:
تعجبت من أمر القرافة إذ غدت
…
على وحشة الموتى لها قلبنا يصبو
فألفيتها مأوى الأحبة كلهم
…
ومستوطن الأحباب يصبو له القلب
وقال الأديب أبو سعيد محمد بن أحمد العميديّ:
إذا ما ضاق صدري لم أجد لي
…
مقرّ عبادة إلّا القرافه
لئن لم يرحم المولى اجتهادي
…
وقلة ناصري لم ألف رأفه
واعلم أن الناس في القديم إنما كانوا يقبرون موتاهم فيما بين مسجد الفتح وسفح المقطم، واتخذوا الترب الجليلة أيضا فيما بين مصلّى خولان وخط المغافر التي موضعها الآن كيمان تراب، وتعرف الآن بالقرافة الكبرى. فلما دفن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب ابنه في سنة ثمان وستمائة بجوار قبر الإمام محمد بن إدريس الشافعيّ، وبنى القبة العظيمة على قبر الشافعيّ، وأجرى لها الماء من بركة الحبش بقناطر متصلة منها، نقل الناس الأبنية من القرافة الكبرى إلى ما حول الشافعيّ، وأنشأوا هناك الترب، فعرفت بالقرافة الصغرى، وأخذت عمائرها في الزيادة وتلاشى أمر تلك، وأما القطعة التي تلي قلعة الجبل فتجدّدت بعد السبعمائة من سني الهجرة، وكان ما بين قبة الإمام الشافعيّ، رحمة الله