الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المدرسة الصاحبية البهائية
هذه المدرسة كانت بزقاق القناديل من مدينة مصر، قرب الجامع العتيق، أنشأها الوزير الصاحب بهاء الدين عليّ بن محمد بن سليم بن حنا في سنة أربع وخمسين وستمائة، وكان إذ ذاك زقاق القناديل أعمر أخطاط مصر، وإنما قيل له زقاق القناديل من أجل أنه كان سكن الأشراف، وكانت أبواب الدور يعلق على كلّ باب منها قنديل. قال القضاعيّ: ويقال أنه كان به مائة قنديل توقد كلّ ليلة على أبواب الأكابر.
وابن حنا هذا هو عليّ بن محمد بن سليم- بفتح السين المهملة وكسر اللام ثم ياء آخر الحروف بعدها ميم- ابن حنا- بحاء مهملة مكسورة ثم نون مشدّدة مفتوحة بعدها ألف- الوزير الصاحب بهاء الدين، ولد بمصر في سنة ثلاث وستمائة، وتنقلت به الأحوال في كتابة الدواوين إلى أن ولي المناصب الجليلة، واشتهرت كفايته وعرفت في الدولة نهضته ودرايته، فاستوزره السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ في ثامن شهر ربيع الأوّل سنة تسع وخمسين وستمائة، بعد القبض على الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير، وفوّض إليه تدبير المملكة وأمور الدولة كلها، فنزل من قلعة الجبل بخلع الوزارة ومعه الأمير سيف الدين بلبان الروميّ الدوادار، وجميع الأعيان والأكابر، إلى داره، واستبدّ بجميع التصرّفات، وأظهر عن حزم وعزم وجودة رأي، وقام بأعباء الدولة من ولايات العمال وعزلهم من غير مشاورة السلطان ولا اعتراض أحد عليه، فصار مرجع جميع الأمور إليه ومصدرها عنه، ومنشأ ولايات الخطط والأعمال من قلمه، وزوالها عن أربابها لا يصدر إلا من قبله، وما زال على ذلك طول الأيام الظاهرية، فلما قام الملك السعيد بركة قان بأمر المملكة بعد موت أبيه الملك الظاهر، أقرّه على ما كان عليه في حياة والده، فدبر الأمور وساس الأحوال، وما تعرّض له أحد بعداوة ولا سوء، مع كثرة من كان يناويه من الأمراء وغيرهم إلّا وصدّه الله عنه، ولم يجد ما يتعلق به عليه، ولا ما يبلغ به مقصوده منه، وكان عطاؤه واسعا وصلاته وكلفه للأمراء والأعيان ومن يلوذ به، ويتعلق بخدمته تخرج عن الحدّ في الكثرة، وتتجاوز القدر في السعة مع حسن ظنّ بالفقراء وصدق العقيدة في أهل الخير والصلاح، والقيام بمعونتهم وتفقد أحوالهم وقضاء أشغالهم، والمبادرة إلى امتثال أوامرهم، والعفة عن الأموال، حتى أنه لم يقبل من أحد في وزارته هدية إلّا أن تكون هدية فقير أو شيخ معتقد يتبرّك بما يصل من أثره، وكثرة الصدقات في السرّ والعلانية، وكان يستعين على ما التزمه من المبرّات ولزمه من الكلف بالمتاجر، وقد مدحه عدّة من الناس فقبل مديحهم وأجزل جوائزهم، وما أحسن قول الرشيد الفارقيّ فيه:
وقائل قال لي نبه لنا عمرا
…
فقلت إنّ عليا قد تنبه لي
مالي إذا كنت محتاجا إلى عمر
…
من حاجة فلينم حسبي انتباه علي
وقول سعد الدين بن مروان الفارقيّ في كتاب الدرج المختص به أيضا:
يمم عليا فهو بحر الندى
…
وناده في المضلع المعضل
فرفده بحر على مجدب
…
ووفده مفض إلى مفصل
يسرع إن سيل نداه وهل
…
أسرع من سيل أتى من علي
إلّا أنه أحدث في وزارته حوادث عظيمة، وقاس أراضي الأملاك بمصر والقاهرة وأخذ عليها مالا، وصادر أرباب الأموال وعاقبهم حتى مات كثير منهم تحت العقوبة، واستخرج حوالي الذمّة مضاعفة، ورزىء بفقد ولديه الصاحب فخر الدين محمد، والصاحب زين الدين، فعوّضه الله عنهما بأولادهما، فما منهم إلا نجيب صدر رئيس فاضل مذكور، وما مات حتى صار جدّ جدّ، وهو على المكانة وافر الحرمة، في ليلة الجمعة مستهلّ ذي الحجة سنة سبع وسبعين وستمائة، ودفن بتربته من قرافة مصر، ووزر من بعده الصاحب برهان الدين الخضر بن حسن بن عليّ السنجاريّ، وكان بينه وبين ابن حنا عداوة ظاهرة وباطنة، وحقود بارزة وكامنة، فأوقع الحوطة على الصاحب تاج الدين محمد بن حنا بدمشق، وكان مع الملك السعيد بها، وأخذ خطه بمائة ألف دينار، وجهزه على البريد إلى مصر، ليستخرج منه ومن أخيه زين الدين أحمد، وابن عمه عز الدين تكملة ثلثمائة ألف دينار، وأحيط بأسبابه ومن يلوذ به من أصحابه ومعارفه وغلمانه، وطولبوا بالمال.
وأوّل من درّس بهذه المدرسة الصاحب فخر الدين محمد، ابن بانيها الوزير الصاحب بهاء الدين إلى أن مات يوم الاثنين حادي عشري شعبان سنة ثمان وستين وستمائة، فوليها من بعده ابنه محيي الدين أحمد بن محمد إلى أن توفي يوم الأحد ثامن شعبان سنة اثنتين وسبعين وستمائة، فدرّس فيها بعده الصاحب زين الدين أحمد بن الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين إلى أن مات في يوم الأربعاء سابع صفر سنة أربع وسبعمائة، فدرّس بها ولده الصاحب شرف الدين وتوارثها أبناء الصاحب يلون نظرها وتدريسها إلى أن كان آخرهم صاحبنا الرئيس شمس الدين محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن الصاحب بهاء الدين، وليها بعد أبيه عز الدين، ووليها عز الدين بعد بدر الدين أحمد بن محمد بن محمد بن الصاحب بهاء الدين، فلما مات صاحبنا شمس الدين محمد بن الصاحب لليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وثمانمائة، وضع بعض نوّاب القضاة يده على ما بقي لها من وقف، وأقامت هذه المدرسة مدّة أعوام معطلة من ذكر الله وإقام الصلاة، لا يأويها أحد لخراب ما حولها، وبها شخص يبيت بها كي لا يسرق ما بها من أبواب ورخام، وكان لها خزانة كتب جليلة فنقلها شمس الدين محمد بن الصاحب وصارت تحت يده إلى أن مات، فتفرّقت في أيدي الناس، وكان قد عزم على نقلها إلى شاطيء النيل بمصر، فمات قبل ذلك.