الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخراب في المحنة زمن المستنصر، أمر الوزير الناصر للدين عبد الرحمن البازوريّ ببناء حائط يستر الخراب إذا توجه الخليفة إلى مصر، فيما بين العسكر والقطائع وبين الطريق، وأمر فبنى حائط آخر عند
جامع ابن طولون
. فلما كان في خلافة الآمر بأحكام الله أبي عليّ منصور بن المستعلي بالله، أمر وزيره أبو عبد الله محمد بن فاتك المنعوت بالمأمون البطائحيّ، فنودي مدّة ثلاثة أيام في القاهرة ومصر، بأن من كان له دار في الخراب أو مكان يعمره، ومن عجز عن عمارته يبيعه أو يؤجره، من غير نقل شيء من أنقاضه، ومن تأخر بعد ذلك فلا حق له ولا حكر يلزمه، وأباح تعمير جميع ذلك بغير طلب حق، فعمر الناس ما كان منه مما يلي القاهرة، من حيث مشهد السيدة نفيسة إلى ظاهر باب زويلة، ونقلت أنقاض العسكر، فصار الفضاء الذي يوصل إليه من مشهد السيدة نفيسة، ومن الجامع الطولونيّ، ومن قنطرة السدّ، ويسلك فيه إلى حيث كوم الجارح. والعامر الآن من العسكر جبل يشكر الذي فيه جامع ابن طولون وما حوله إلى قناطر السباع. كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.
جامع ابن طولون
هذا الجامع موضعه يعرف بجبل يشكر. قال ابن عبد الظاهر: وهو مكان مشهور بإجابة الدعاء، وقيل أنّ موسى عليه السلام ناجى ربه عليه بكلمات. وابتدأ في بناء هذا الجامع الأمير أبو العباس أحمد بن طولون بعد بناء القطائع، في سنة ثلاث وستين ومائتين.
قال جامع السيرة الطولونية: كان أحمد بن طولون يصلّى الجمعة في المسجد القديم الملاصق للشرطة، فلما ضاق عليه بنى الجامع الجديد، مما أفاء الله عليه من المال الذي وجده فوق الجبل في الموضع المعروف بتنور فرعون، ومنه بنى العين. فلما أراد بناء الجامع قدّر له ثلاثمائة عمود، فقيل له: ما تجدها، أو تنفذ إلى الكنائس في الأرياف والضياع الخراب، فتحمل ذلك، فأنكر ذلك ولم يختره، وتعذب قلبه بالفكر في أمره، وبلغ النصرانيّ الذي تولى له بناء العين، وكان قد غضب عليه وضربه ورماه في المطبق الخبر.
فكتب إليه يقول: أنا أبنيه لك كما تحب وتختار بلا عمد إلّا عمودي القبلة، فأحضره وقد طال شعره حتى نزل على وجهه، فقال له: ويحك ما تقول في بناء الجامع؟ فقال: أنا أصوّره للأمير حتى يراه عيانا بلا عمد إلّا عمودي القبلة. فأمر بأن تحضر له الجلود، فأحضرت، وصوّره له فأعجبه واستحسنه، وأطلقه وخلع عليه، وأطلق له للنفقة عليه مأئة ألف دينار. فقال له: أنفق، وما احتجت إليه بعد ذلك أطلقناه لك. فوضع النصرانيّ يده في البناء في الموضع الذي هو فيه، وهو جبل يشكر، فكان ينشر منه ويعمل الجيرو يبني إلى أن فرغ من جميعه، وبيّضه وخلّقه وعلّق فيه القناديل بالسلاسل الحسان الطوال، وفرش فيه الحصر، وحمل إليه صناديق المصاحف، ونقل إليه القرّاء والفقهاء، وصلّى فيه بكار بن قتيبة القاضي، وعمل الربيع بن سليمان بابا فيما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من بنى لله مسجدا
ولو كمفحص «1» قطاة، بنى الله له بيتا في الجنة» . فلما كان أوّل جمعة صلاها فيه أحمد بن طولون وفرغت الصلاة، جلس محمد بن الربيع خارج المقصورة، وقام المستملي وفتح باب المقصورة، وجلس أحمد بن طولون، ولم ينصرف والغلمان قيام وسائر الحجاب حتى فرغ المجلس، فلما فرغ المجلس خرج إليه غلام بكيس فيه ألف دينار وقال: يقول لك الأمير نفعك الله بما علّمك، وهذه لأبي طاهر، يعني ابنه، وتصدّق أحمد بن طولون بصدقات عظيمة فيه، وعمل طعاما عظيما للفقراء والمساكين، وكان يوما عظيما حسنا.
وراح أحمد بن طولون ونزل في الدار التي عملها فيه للإمارة، وقد فرشت وعلّقت وحملت إليها الآلات والأواني وصناديق الأشربة وما شاكلها، فنزل بها أحمد وجدّد طهره وغير ثيابه وخرج من بابها إلى المقصورة، فركع وسجد شكرا لله تعالى على ما أعانه عليه من ذلك ويسره له. فلما أراد الانصراف، خرج من المقصورة حتى أشرف على الفوّارة، وخرج إلى باب الريح. فصعد النصرانيّ الذي بنى الجامع ووقف إلى جانب المركب النحاس وصاح: يا أحمد بن طولون، يا أمير الأمان، عبدك يريد الجائزة ويسأل الأمان، أن لا يجري عليه مثل ما جرى في المرّة الأولى. فقال له أحمد بن طولون: انزل فقد أمّنك الله، ولك الجائزة. فنزل وخلع عليه وأمر له بعشرة آلاف دينار، وأجرى عليه الرزق الواسع إلى أن مات. وراح أحمد بن طولون في يوم الجمعة إلى الجامع، فلما رقى الخطيب المنبر وخطب، وهو أبو يعقوب البلخيّ، دعا للمعتمد ولولده، ونسي أن يدعو لأحمد بن طولون، ونزل عن المنبر، فأشار أحمد إلى نسيم الخادم أن أضربه خمسمائة سوط. فذكر الخطيب سهوه وهو على مراقي المنبر، فعاد وقال: الحمد لله، وصلّى الله على محمد وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً
[طه/ 115] اللهمّ وأصلح الأمير أبا العباس أحمد بن طولون مولى أمير المؤمنين. وزاد في الشكر والدعاء له بقدر الخطبة ثم نزل، فنظر أحمد إلى نسيم أن أجعلها دنانير، ووقف الخطيب على ما كان منه، فحمد الله تعالى على سلامته وهنأه الناس بالسلامة.
ورأى أحمد بن طولون الصنّاع يبنون في الجامع عند العشاء، وكان في شهر رمضان فقال: متى يشتري هؤلاء الضعفاء إفطارا لعيالهم وأولادهم، اصرفوهم العصر. فصارت سنّة إلى اليوم بمصر. فلما فرغ شهر رمضان، قيل له: قد انقضى شهر رمضان فيعودون إلى رسمهم. فقال: قد بلغني دعاؤهم، وقد تبرّكت به، وليس هذا مما يوفر العمل علينا. وفرغ منه في شهر رمضان سنة خمس وستين ومائتين، وتقرّب الناس إلى ابن طولون بالصلاة فيه، وألزم أولادهم كلهم صلاة الجمعة في فوّارة الجامع، ثم يخرجون بعد الصلاة إلى مجلس
الربيع بن سليمان ليكتبوا العلم، مع كلّ واحد منهم ورّاق وعدّة غلمان. وبلغت النفقة على هذا الجامع في بنائه مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار. ويقال أنّ أحمد بن طولون رأى في منامه كأنّ الله تعالى قد تجلّى ووقع نوره على المدينة التي حول الجامع، إلّا الجامع فإنه لم يقع عليه من النور شيء، فتألم وقال: والله ما بنيته إلّا لله خالصا، ومن المال الحلال الذي لا شبهة فيه. فقال له معبّر حاذق: هذا الجامع يبقى ويخرب كل ما حوله، لأنّ الله تعالى قال: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا
[الأعراف/ 143] فكل شيء يقع عليه جلال الله عز وجل لا يثبت. وقد صحّ تعبير هذه الرؤيا، فإن جميع ما حول الجامع خرب دهرا طويلا، كما تقدّم في موضعه من هذا الكتاب، وبقي الجامع عامرا، ثم عادت العمارة لما حوله كما هي الآن.
قال القضاعيّ رحمه الله، وذكر أن السبب في بنائه، أنّ أهل مصر شكوا إليه ضيق الجامع يوم الجمعة من جنده وسودانه، فأمر بإنشاء المسجد الجامع بجبل يشكر بن جديلة من لخم، فابتدأ بنيانه في سنة ثلاث وستين ومائتين، وفرغ منه سنة خمس وستين ومائتين، وقيل أنّ أحمد بن طولون قال: أريد أن أبنى بناء، إن احترقت مصر بقي، وإن غرقت بقي.
فقيل له: يبنى بالجير والرماد والآجر الأحمر القويّ النار إلى السقف، ولا يجعل فيه أساطين رخام، فإنه لا صبر لها على النار، فبناه هذا البناء وعمل في مؤخره ميضأة وخزانة شراب فيها جميع الشرابات والأدوية، وعليها خدم وفيها طبيب جالس يوم الجمعة لحادث يحدث للحاضرين للصلاة، وبناه على بناء جامع سامراء، وكذلك المنارة، وعلّق فيه سلاسل النحاس المفرغة، والقناديل المحكمة، وفرشه بالحصر العبدانية والسامانية.
حديث الكنز: قال جامع السيرة: لما ورد على أحمد بن طولون كتاب المعتمد بما استدعاه من ردّ الخراج بمصر إليه، وزاده المعتمد مع ما طلب الثغور الشامية، رغب بنفسه عن المعادن ومرافقها، فأمر بتركها، وكتب بإسقاطها في سائر الأعمال، ومنع المتقبلين من الفسخ على المزارعين، وخطر الارتفاق على العمال، وكان قبل إسقاط المرافق بمصر، قد شاور عبد الله بن دسومة في ذلك، وهو يومئذ أمين على أبي أيوب متولي الخراج. فقال:
إن أمنني الأمير تكلمت بما عندي. فقال له: قد أمنك الله عز وجل. فقال: أيها الأمير، إنّ الدنيا والآخرة ضرّتان والحازم من لم يخلط إحداهما مع الأخرى، والمفرّط من خلط بينهما، فيتلف أعماله ويبطل سعيه، وأفعال الأمير أيّده الله الخير وتوكله توكل الزهاد، وليس مثله من ركب خطة لم يحكمها، ولو كنا نثق بالنصر دائما طول العمر، لما كان شيء عندنا آثر من التضييق على أنفسنا في العاجل بعمارة الآجل، ولكن الإنسان قصير العمر، كثير المصائب، مدفوع إلى الآفات، وترك الإنسان ما قد أمكنه وصار في يده تضييع، ولعل الذي
حماه، نفسه يكون سعادة لمن يأتي من بعده، فيعود ذلك توسعة لغيره بما حرمه هو، ويجتمع للأمير أيده الله بما قد عزم على إسقاطه من المرافق في السنة بمصر دون غيرها مائة ألف دينار، وإنّ فسخ ضياع الأمراء والمتقبلين في هذه السنة، لأنها سنة ظمأ توجب الفسيخ، زاد مال البلد وتوفر توفرا عظيما ينضاف إلى مال المرافق، فيضبط به الأمير أيّده الله أمر دنياه، وهذه طريقة أمور الدنيا وأحكام أمور الرياسة والسياسة، وكلّ ما عدل الأمير أيده الله إليه من أمر غير هذا، فهو مفسد لدنياه، وهذا رأيي، والأمير أيده الله على ما عساه يراه.
فقال له: ننظر في هذا إن شاء الله. وشغل قلبه كلامه، فبات تلك الليلة بعد أن مضى أكثر الليل يفكر في كلام ابن دسومة، فرأى في منامه رجلا من إخوانه الزهاد بطرسوس وهو يقول له: ليس ما أشار به عليك من استشرته في أمر الارتفاق «1» والفسخ «2» برأي تحمد عاقبته، فلا تقبله. ومن ترك شيئا لله عز وجل عوّضه الله عنه، فأمض ما كنت عزمت عليه.
فلما أصبح أنفذ الكتب إلى سائر الأعمال بذلك، وتقدّم به في سائر الدواوين بإمضائه، ودعا بابن دسومة فعرّفه بذلك، فقال له: قد أشار عليك رجلان، الواحد في اليقظة والآخر ميت في النوم، وأنت إلى الحيّ أقرب وبضمانه أوثق. فقال: دعنا من هذا، فلست أقبل منك.
وركب في غد ذلك اليوم إلى نحو الصعيد، فلما أمعن في الصحراء ساخت في الأرض يد فرس بعض غلمانه، وهو رمل، فسقط الغلام في الرمل، فإذا بفتق، ففتح فأصيب فيه من المال ما كان مقداره ألف ألف دينار، وهو الكنز الذي شاع خبره، وكتب به إلى العراق أحمد بن طولون بخير المعتمد به ويستأذنه فيما يصرفه فيه من وجوه البرّ وغيرها، فبنى منه المارستان، ثم أصاب بعده في الجبل مالا عظيما، فبنى منه الجامع ووقف جميع ما بقي من المال في الصدقات، وكانت صدقاته ومعروفه لا تحصى كثرة. ولما انصرف من الصحراء وحمل المال أحضر ابن دسومة وأراه المال وقال له: بئس الصاحب والمستشار أنت، هذا أوّل بركة مشورة الميت في النوم، ولولا أنني أمنتك لضربت عنقك، وتغيّر عليه وسقط محله عنده، ورفع إليه بعد ذلك أنه قد أجحف بالناس وألزمهم أشياء ضجوا منها، فقبض عليه وأخذ ماله وحبسه، فمات في حبسه. وكان ابن دسومة واسع الحيلة بخيل الكف زاهدا في شكر الشاكرين، لا يهش إلى شيء من أعمال البرّ. وكان أحمد بن طولون من أهل القرآن، إذا جرت منه إساءة استغفر وتضرّع.
وقال ابن عبد الظاهر: سمعت غير واحد يقول إنه لما فرغ أحمد بن طولون من بناء هذا الجامع، أسرّ للناس بسماع ما يقوله الناس فيه من العيوب. فقال رجل: محرابه صغير،
وقال آخر: ما فيه عمود. وقال آخر: ليست له ميضأة. فجمع الناس وقال: أما المحراب فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خطه لي، فأصبحت فرأيت النمل قد أطافت بالمكان الذي خطه لي، وأما العمد فإني بنيت هذا الجامع من مال حلال وهو الكنز، وما كنت لأشوبه بغيره، وهذه العمد إمّا أن تكون من مسجد أو كنيسة فنزهته عنها، وأما الميضأة فإني نظرت فوجدت ما يكون بها من النجاسات فطهرته منها، وها أنا أبنيها خلفه، ثم أمر ببنائها. وقيل أنه لما فرغ من بنائه رأى في منامه كأن نارا نزلت من السماء فأخذت الجامع دون ما حوله، فلما أصبح قص رؤياه، فقيل له: أبشر بقبول الجامع، لأنّ النار كانت في الزمان الماضي إذا قبل الله قربانا نزلت نار من السماء أخذته، ودليله قصة قابيل وهابل. قال: ورأيت من يقول أنه عمّر ما حوله حتى كان خلفه مسطبة ذراع في ذراع، أجرتها في كلّ يوم اثنا عشر درهما، في بكرة النهار، لشخص يبيع الغزل ويشتريه، والظهر لخباز، والعصر لشيخ يبيع الحمص والفول.
وقيل عن أحمد بن طولون أنه كان لا يعبث بشيء قط، فاتفق أنه أخذ درجا أبيض بيده وأخرجه ومدّه واستيقظ لنفسه وعلم أنه قد فطن به، وأخذ عليه لكونه لم تكن تلك عادته، فطلب المعمار على الجامع وقال: تبني المنارة التي للتأذين هكذا، فبنيت على تلك الصورة، والعامّة يقولون أن العشاري الذي على المنارة المذكورة يدور مع الشمس، وليس صحيحا وإنما يدور مع دوران الرياح، وكان الملك الكامل قد اعتنى بوقودها ليلة النصف من شعبان، ثم أبطلها. وقال المسبحيّ: إن الحاكم أنزل إلى جامع ابن طولون ثمانمائة مصحف وأربعة عشر مصحفا. وفي سنة ست وسبعين وثلاثمائة في ليلة الخميس لعشر خلون من جمادى الأولى، احترقت الفوّارة التي كانت بجامع ابن طولون فلم يبق منها شيء، وكانت في وسط صحنه قبة مشبكة من جميع جوانبها، وهي مذهبة على عشر عمد رخام وستة عشر عمود رخام في جوانبها، مفروشة كلها بالرخام، وتحت القبة قصعة رخام فسحتها أربعة أذرع، في وسطها فوّارة تفور بالماء، وفي وسطها قبة مزوّقة يؤذن فيها، وفي أخرى على سلمها، وفي السطح علامات الزوال، والسطح بدرابزين ساج، فاحترق جميع هذا في ساعة واحدة. وفي المحرّم سنة خمس وثمانين وثلاثمائة أمر العزيز بالله بن المعز ببناء فوّارة عوضا عن التي احترقت، فعمل ذلك على يد راشد الحنفيّ، وتولى عمارتها ابن الرومية وابن البناء، وماتت أمّ العزيز في سلخ ذي القعدة من السنة والله أعلم.
تجديد الجامع: وكان من خبر جامع ابن طولون أنه لما كان غلاء مصر في زمان المستنصر، وخربت القطائع والعسكر، عدم الساكن هناك وصار ما حول الجامع خرابا، وتوالت الأيام على ذلك وتشعث الجامع وخرب أكثره، وصار أخيرا ينزل فيه المغاربة بأباعرها ومتاعها عند ما تمرّ بمصر أيام الحج، فهيأ الله جل جلاله لعمارة هذا الجامع، أن كان بين الملك الأشرف خليل بن قلاون وبين الأمير بيدر أمور موشحة تزايدت وتأكدت،
إلى أن جمع بيدر من يثق به وقتل الأشرف بناحية تروجه في سنة ثلاث وتسعين وستمائة، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى عند ذكر مدرسته، وكان ممن وافق الأمير بيدرا على قتل الأشرف، الأمير حسام الدين لاجين المنصوريّ، والأمير قراسنقر، فلما قتل بيدر في محاربة مماليك الأشرف له، فرّ لاجين وقراسنقر من المعركة، فاختفى لاجين بالجامع الطولونيّ، وقراسنقر في داره بالقاهرة، وصار لاجين يتردّد بمفرده من غير أحد معه في الجامع وهو حينئذ خراب لا ساكن فيه، وأعطى الله عهدا إن سلّمه الله من هذه المحنة ومكنه من الأرض أن يجدّد عمارة هذا الجامع ويجعل له ما يقوم به، ثم إنه خرج منه في خفية إلى القرافة فأقام بها مدّة، وراسل قراسنقر فتحيل في لحاقه به، وعملا أعمالا إلى أن اجتمعا بالأمير زين الدين كتبغا المنصوري، وهو إذ ذاك نائب السلطنة في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون، والقائم بأمور الدولة كلها، فأحضرهما إلى مجلس السلطان بقلعة الجبل بعد أن أتقن أمرهما مع الأمراء ومماليك السلطان، فخلع عليهما وصار كلّ منهما إلى داره وهو آمن، فلم تطل أيام الملك الناصر في هذه الولاية حتى خلعه الأمير كتبغا وجلس على تخت الملك، وتلقب بالملك العادل، فجعل لاجين نائب السلطنة بديار مصر، وجرت أمور اقتضت قيام لاجين على كتبغا وهم بطريق الشام، ففرّ كتبغا إلى دمشق واستولى لاجين على دست المملكة، وسار إلى مصر وجلس على سرير الملك بقلعة الجبل، وتلقب بالملك المنصور في المحرّم من سنة ست وتسعين وستمائة، فأقام قراسنقر في نيابة السلطنة بديار مصر، وأخرج الناصر محمد بن قلاون من قلعة الجبل إلى كرك الشوبك، فجعله في قلعتها، وأعانه أهل الشام على كتبغا حتى قبض عليه وجعله نائب حماه، فأقام بها مدّة سنين بعد سلطنة مصر والشام وخلع على الأمير علم الدين سنجر الدواداريّ وأقامه في نيابة دار العدل، وجعل إليه شراء الأوقاف على الجامع الطولونيّ، وصرف إليه كلّ ما يحتاج إليه في العمارة، وأكد عليه في أن لا يسخّر فيه فاعلا ولا صانعا، وأن لا يقيم مستحثا للصناع، ولا يشتري لعمارته شيئا مما يحتاج إليه من سائر الأصناف إلّا بالقيمة التامة، وأن يكون ما ينفق على ذلك من ماله، وأشهد عليه بوكالته، فابتاع منية أندونة من أراضي الجيزة، وعرفت هذه القرية بأندونة، كاتب بمصر كان نصرانيا في زمن أحمد بن طولون، وممن نكبه وأخذ منه خمسين ألف دينار، واشترى أيضا ساحة بجوار جامع أحمد بن طولون مما كان في القديم عامرا ثم خرب، وحكرها وعمر الجامع، وأزال كلّ ما كان فيه من تخريب، وبلطه وبيضه ورتب فيه دروسا لإلقاء الفقه على المذاهب الأربعة التي عمل أهل مصر عليها الآن، ودرسا يلقى فيه تفسير القرآن الكريم، ودرسا لحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم، ودرسا للطب، وقرّر للخطيب معلوما، وجعل له إماما راتبا، ومؤذنين وفرّاشين وقومة، وعمل بجواره مكتبا لإقراء أيتام المسلمين كتاب الله عز وجل، وغير ذلك من أنواع القربات ووجوه البرّ، فبلغت النفقة على عمارة الجامع وثمن مستغلاته عشرين ألف دينار، فلما شاء الله سبحانه أن يهلك لاجين، زيّن له
سوء عمله، عزل الأمير قراسنقر من نيابة السلطنة، فعزله وولى مملوكه منكوتمر، وكان عسوفا عجولا حادّا، ولاجين مع ذلك يركن إليه ويعوّل في جميع أموره عليه ولا يخالف قوله ولا ينقض فعله، فشرع منكوتمر في تأخير أمراء الدولة من الصالحية والمنصورية، وأعجل في إظهار التهجم لهم والإعلان بما يريده من القبض عليهم وإقامة أمراء غيرهم، فتوحشت القلوب منه وتمالأت على بغضه، ومشى القوم بعضهم إلى بعض وكاتبوا إخوانهم من أهل البلاد الشامية، حتى تمّ لهم ما يريدون، فواعد جماعة منهم إخوانهم على قتل السلطان لاجين ونائبه منكوتمر، فما هو إلّا أن صلّى السلطان العشاء الآخرة من ليلة الجمعة العاشر من شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وتسعين وستمائة، وإذا بالأمير كرجي وكان ممن هو قائم بين يديه، تقدّم ليصلح الشمعة، فضربه بسيف قد أخفاه معه أطار به زنده، وانقض عليه البقية ممن واعدوهم بالسيوف والخناجر، فقطعوه قطعا، وهو يقول الله الله، وخرجوا من فورهم إلى باب القلة من قلعة الجبل، فإذا بالأمير طفج قد جلس في انتظارهم ومعه عدّة من الأمراء، وكانوا إذ ذاك يبيتون بالقلعة دائما، فأمروا بإحضار منكوتمر من دار النيابة بالقلعة وقتلوه بعد مضيّ نصف ساعة من قتل أستاذه الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصوريّ رحمه الله. فلقد كان مشكور السيرة.
وفي سنة سبعة وستين وسبعمائة جدّد الأمير يلبغا العمريّ الخاصكيّ درسا بجامع ابن طولون، فيه سبعا مدرّسين للحنفية، وقرّر لكلّ فقيه من الطلبة في الشهر أربعين درهما وأردب قمح، فانتقل جماعة من الشافعية إلى مذهب الحنفية. وأوّل من ولّي نظره بعد تجديده الأمير علم الدين سنجر الجاوليّ وهو إذ ذاك دوادار السلطان الملك المنصور لاجين، ثم ولّي نظره قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، ثم من بعده الأمير مكين في أيام الناصر محمد بن قلاون، فجدّد في أوقافه طاحونا وفرنا وحوانيت. فلما مات وليه قاضي القضاة عز الدين بن جماعة، ثم ولّاه الناصر للقاضي كريم الدين الكبير، فحدّد فيه مئذنتين، فلما نكبه السلطان عاد نظره إلى قاضي القضاة الشافعيّ، وما برح إلى أيام الناصر حسن بن محمد بن قلاون، فولّاه للأمير صرغتمش، وتوفر في مدّة نظره من مال الوقف مائة ألف درهم فضة، وقبض عليه وهي حاصلة، فباشره قاضي القضاة إلى أيام الأشرف شعبان بن حسين، ففوّض نظره إلى الأمير الجاي اليوسفيّ إلى أن غرق، فتحدّث فيه قاضي القضاة الشافعيّ إلى أن فوّض السلطان الملك الظاهر برقوق نظره إلى الأمير قطلو بغا الصفويّ، في العشرين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة، وكان الأمير منطاش مدّة تحكمه في الدولة فوّضه إلى المذكور في أواخر شوّال سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، ثم عاد نظره إلى القضاة بعد الصفويّ وهو بأيديهم إلى اليوم. وفي سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة جدّد الرواق البحريّ الملاصق للمئذنة، الحاج عبيد الله محمد بن عبد الهادي الهويديّ البازدار مقدّم الدولة. وجدّد ميضأة بجانب الميضأة القديمة، وكان عبيد