الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها. ويزيد هذا بيانا قوله، أعنى: عثمان: «لو كان المملى من هذيل والكاتب من ثقيف لم يوجد فيه هذا» .
ويقول ابن أشته فى كتابه «المصاحف» : جميع ما كتب خطأ يجب أن يقرأ على صحة لغته لا على رسمه، وذلك فى نحو «لا أوضعوا» و «لا أذبحنه» بزيادة ألف فى وسط الكلمتين، إذا لو قرئ بظاهر الخط لكان لحنا شنيعا، يقلب معنى الكلام ويخل بنظامه.
ويقول أبو بكر السّجستانى فى كتابه «المصاحف» «1» تعقيبا على الحديث المعزوّ إلى عثمان: «هذا عندى يعنى: بلغتها- يريد: معنى قوله بألسنتها- وإلا لو كان فيه لحن لا يجوز فى كلام العرب جميعا لما استجاز أن يبعث به إلى قوم يقرءونه» .
ويؤيد هذا ما روى عن عمر بن الخطاب: «إنا لنرغب عن كثير من لحن أبىّ. يعنى: لغة أبى «2» » .
14- تعقيب على كتب المصاحف
ويعزو أبو بكر السجستانى إلى عائشة، يرويه هشام بن عروة عن أبيه، قال: سألت عائشة عن لحن القرآن إِنْ هذانِ لَساحِرانِ «3» ، وعن قوله تعالى وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ «4» ، وعن قوله تعالى: وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ «5» ، فقالت: يابن أختى، هذا عمل الكتّاب أخطئوا فى الكتاب «6» .
ومثل هذا الذى عزى لعائشة يعزى لأبان بن عثمان يرويه الزبير يقول: قلت لأبان بن عثمان: كيف صارت لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ ما بين يديها وما خلفها رفع وهى نصب؟ قال: من قبل الكتّاب، كتب ما قبلها ثم قال: ما أكتب؟ قال: اكتب «المقيمين الصلاة» فكتب ما قيل له «7» .
وينضم إلى هذا ما يعزى إلى سعيد بن جبير أنه قال: فى القرآن أربعة أحرف لحن: وَالصَّابِئُونَ، ووَ الْمُقِيمِينَ، وفَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ «8» ، وإِنْ هذانِ لَساحِرانِ. وإليك ما يقوله عالم جليل من علماء التفسير واللّغة:
(1) المصاحف: 32.
(2)
المصاحف لأبى بكر السجستانى: 32.
(3)
طه: 63.
(4)
النساء: 162. [.....]
(5)
المائدة: 69.
(6)
المصاحف: 34.
(7)
المصاحف: 33- 34.
(8)
المنافقون: 10.
يقول الزمخشرى محمود بن عمر فى كتابه «الكشاف «1» » : وَالصَّابِئُونَ (المائدة: 69) رفع على الابتداء، والنية به التأخير عما فى حيز «إن» من اسمها وخبرها، كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا والصابئون كذلك، وأنشد سيبويه «2» شاهدا له:
وإلّا فاعلموا أنّا وأنتم
…
بغاة ما بقينا فى شقاق
أى: فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك. فإن قلت: هلا زعمت أن ارتفاعه للعطف على محل إن واسمها؟
قلت: لا يصح ذلك قبل الفراغ من الخبر، لا تقول: إن زيدا وعمرو منطلقان. فإن قلت: لم لا يصح والنّية به التأخير، فكأنك قلت: إن زيدا منطلق وعمرو؟ قلت: لأنى إذا رفعته عطفا على محل «إن» واسمها، والعامل فى محلهما هو الابتداء، فيجب أن يكون هو العامل فى الخبر، لأن الابتداء ينتظم الجزأين فى عملهما كما تنتظمهما «إن» فى عملها، فلو رفعت «الصابئون» والمنوىّ به التأخير بالابتداء، وقد رفعت الخبر بأن، لأعملت فيهما رافعين مختلفين.
فإن قلت: فقوله «والصابئون» معطوف لا بد له من معطوف عليه فما هو؟ قلت: مع خبره المحذوف جملة معطوفة على جملة قوله إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ولا محل لها، كما لا محل للتى عطفت عليها.
فإن قلت: ما التقديم والتأخير إلا لفائدة، فما فائدة هذا التقديم؟ قلت: فائدته التنبيه على أن «الصابئين» أبين هؤلاء المعدودين ضلالا وأشدهم غيّا، وما سموا صابئين إلا لأنهم صبئوا عن الأديان كلها، أى خرجوا. كما أن الشاعر قدم قوله «وأنتم» تنبيها على أن المخاطبين أو غل فى الوصف بالبغاة من قومه، حيث عاجل به قبل الخبر الذى هو «بغاة» ، لئلا يدخل قومه فى البغى قبلهم، مع كونهم أوغل فيه منهم وأثبت قدما.
فإن قلت: فلو قيل: والصابئين وإياكم، لكان التقديم حاصلا؟ قلت: لو قيل هكذا لم يكن من التقديم فى شىء، لأنه لا إزالة فيه عن موضعه، وإنما يقال: مقدم ومؤخر، للمزال لا للقارّ فى مكانه، ومجرى هذه الجملة مجرى الاعتراض فى الكلام.
وقال الزمخشرى «3» : وَالْمُقِيمِينَ (النساء: 162) نصب على المدح لبيان فضل الصلاة، وهو باب واسع. وقد كسّره سيبويه على أمثلة وشواهد، ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا فى خط المصحف.
(1) الكشاف: (1: 660- 661 طبعة الاستقامة) .
(2)
الكتاب: (1: 290) .
(3)
الكشاف (1: 590) .
وربما التفت إليه من لم ينظر فى الكتاب، ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم فى النصب على الاختصاص من الافتنان، وخفى عليه أن السابقين الأولين الذين مثلهم فى التوراة ومثلهم فى الإنجيل، كانوا أبعد همة فى الغيرة على الإسلام وذب المطاعن عنه من أن يتركوا فى كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم، وخرقا يرفوه من لحق بهم.
وقيل: هو عطف على بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ أى يؤمنون بالكتاب وبالمقيمين الصلاة، وهم الأنبياء.
وفى مصحف عبد الله (والمقيمون) بالواو، هى قراءة مالك بن دينار، والجحدرى، وعيسى الثقفى.
وقال الزمخشرى «1» : وَأَكُنْ (المنافقون: 10) عطفا على محل «فأصدق» . كأنه قيل: إن أخرتنى أصدق وأكن. ومن قرأ «وأكون» على النصب، فعلى اللفظ. وقرأ عبيد بن عمير «وأكون» على الرفع، وتقديره: وأنا أكون، عدة منه بالصلاح» .
وقال الزمخشرى «2» : (إنّ هذان لساحران)(طه: 63) : قرأ أبو عمرو: (إنّ هذين لساحران)، على الجهة الظاهرة المكشوفة. وابن كثير وحفص: إنّ هذان لساحران، على قولك: إن زيد لمنطلق.
واللام هى الفارقة بين «إن» النافية والمخففة من الثقيلة. وقرأ «أبىّ» : إنّ ذان إلا ساحران. وقرأ ابن مسعود:
أن هذان ساحران، بفتح أن وبغير لام، بدل من «النجوى» . وقيل فى القراءة المشهورة- وهو يعنى المصحف الإمام- إنّ هذان لساحران، هى لغة بلحارث بن كعب، جعلوا الاسم المثنى نحو الأسماء التى آخرها ألف، كعصا وسعدى، فلم يقلبوها فى الجر والنصب. وقال بعضهم:«إنّ» بمعنى: «نعم» و «ساحران» خبر مبتدأ محذوف، واللام داخلة على الجملة، تقديره: لهما ساحران، وقد أعجب به أبو إسحاق.
وها أنت ذا ترى فى كلام الزمخشرى دليلا جديدا يؤيد ما قلنا من قبل عن القراءات السبع فى القرآن وأنها لغات العرب جاءت مبثوثة فى القرآن، وبها كلها يتجه الكلام.
وأما ما جاء معزوّا إلى عائشة، فما نظن عائشة تسكت على خطأ الكتّاب فى كتاب الله وترضى به يشيع ويخرج عن المدينة إلى الأمصار، ولم تكن بعيدة عن عثمان ولا عن الصحابة الكاتبين، وما نظنها كانت أقل منهم حرصا على سلامة كتاب الله، وحسبك ما قدمه الزمخشرى فى هذه.
(1) الكشاف (4: 544) .
(2)
الكشاف (3: 72) .
وأما عن تلك التى تعزى لأبان بن عثمان، فلا ندرى كيف جاءت على لسانه، مع العلم بأنه ممن لم يشهدوا عصر التدوين، ولا كان حاضر ذلك، فلقد كانت وفاته سنة 105 هـ، وعثمان مات سنة 35 هـ.
فهذا الذى نسب إلى «أبان» استنباط لا رواية مأثورة. وهذا الاستنباط الذى استنبطه «أبان» لا يصح إلا عن مشاهدة أو سماع عن مشاهدة، وكلاهما لم يتوفر لهذا الحكم.
وثمة شىء آخر: ما يعزوه أصحاب التواليف فى المصاحف إلى الحجاج بن يوسف، وأنه غير فى مصحف عثمان أحد عشر حرفا، وقد رواها أبو بكر السجستانى فى كتابه المصاحف مرتين:
الأولى يقول فيها: حدثنا عبد الله: حدثنا أبو حاتم السجستانى: حدثنا عبّاد بن صهيب، عن عوف ابن أبى جبلة: أن الحجاج بن يوسف غير فى مصحف عثمان أحد عشر حرفا «1» .
والثانية يقول فيها: قال أبو بكر- يعنى نفسه- كان فى كتاب أبىّ: حدثنا رجل، فسألت أبىّ: من هو؟ فقال: حدثنا عبّاد بن صهيب، عن عوف بن أبى جميلة: أن الحجاج بن يوسف غير فى مصحف عثمان أحد عشر حرفا «2» .
وهذه هى الأحرف كما ذكرها أبو بكر السجستانى:
1-
كانت فى البقرة (لم يتسنّ) فغيرها (لم يتسنّه) بالهاء (الآية: 259) .
وأحب أن أعقّب أن ابن مسعود قرأ (لم يتسن) والأصل فيها «يتسنن» ، فقلبت لأن الثانية حرف علة، كما فى: تقضض، وتقضى. وقرأ حمزة والكسائى بحذف الهاء فى الوصل، على أنها هاء السكت. وقرأ باقى السبعة بإثبات الهاء فى الوصل والوقف، على أنها أصلية. وقرأ «أبى» «لم يسّنّه» بإدغام التاء فى السين.
2-
وكانت فى سورة المائدة: (شريعة ومنهاجا)، فغيّره (شرعة ومنهاجا) (الآية: 48) وأحب أن أعقّب أن هذه لم يقرأ بها أحد من القرّاء.
3-
وكانت فى سورة يونس (هو الّذى ينشّركم)، فغيّره (هو الّذى يسيّركم) (الآية: 22) .
(1) المصاحف (ص: 49) .
(2)
المصاحف (ص: 117) .
وأحب أن أعقب أن (ينشّركم) قراءة ابن عامر ويزيد بن القعقاع. وينشركم، أى يحييكم.
4-
وكانت فى سورة يوسف (أنا آتيكم بتأويله)، فغيرها (أنا أنبّئكم بتأويله) (الآية: 45) .
وأحب أن أعقّب: أن هذه لم يقرأ بها أحد من القراء.
5-
وكانت فى سورة المؤمنين (سيقولون لله)، فغيرها (سيقولون الله) (الآيات: 85 و 87 و 89) .
وأحب أن أعقّب: أن الأولى هى القراءة المشهورة، وبالثانية قرأ أبو عمرو، ويعقوب.
6 و 7- وكانت فى سورة الشعراء (من المخرجين)(الآية: 116) فغيرها (من المرجومين)، و (من المرجومين) (الآية: 167) فغيرها (من المخرجين) .
وأحب أن أعقّب: أن هذه وتلك هما القراءتان المشهورتان.
8-
وكانت فى سورة الزخرف (معائشهم)، فغيرها (معيشتهم) (الآية: 32) .
وأحب أن أعقّب: أنّ هذه هى القراءة المشهورة، ولم يقرأ بالأولى أحد من القراء.
9-
وكانت فى سورة (الذين كفروا)، (ياسن) فغيرها (آسن) (الآية: 15) .
وأحب أن أعقب أن حمزة قرأ (ياسن) وقفا لا وصلا، وأن (آسن) هى القراءة المشهورة.
10-
وكانت فى سورة الحديد (فالّذين آمنوا منكم واتّقوا)، فغيرها (وأنفقوا) (الآية: 7) .
وأحب أن أعقب أن القراءة المشهورة (وأنفقوا) ولم يقرأ أحد من القراء (واتّقوا) .
11-
وكانت فى سورة التكوير (وما هو على الغيب بظنين) فغيرها (بضنين)(الآية: 24) .
وأحب أن أعقب أن مكيّا، وأبا عمرو، وعليّا، ويعقوب، قرءوا «بظنين» أى: متهم، وأن الباقين قرءوا «بضنين» أى: ببخيل.
هذه هى الأحرف التى يروى أن الحجاج غيّرها فى مصحف عثمان.
وأحب أن أزيد الأمر وضوحا ولا أتركه على إيهامه هذا الذى يثير شكّا ويكاد القول فيه على ظاهره يعطى للحجاج أن يغيّر فى كتاب الله:
1-
لقد رأيت كيف روى أبو بكر السجستانى هذا الخبر فى كتابه «المصاحف» فى مكانين بسندين، وهما وإن اتفقا، إلا أن ثانيهما رواه أبو بكر فى أسلوب يهوّن فيه من شأن المسند إليه الخبر.
2-
ولقد رأيت، من التعقيب الذى عقبنا به على هذه الأحرف، أن ثمانية منها تحتمل قراءات، وأن ما أثبته الحجاج كان المشهور.
3-
ولقد رأيت كذلك أن ثلاثة منها لم يقرأ بها أحد من القراء، وهى «شريعة» التى غيرت إلى «شرعة» ، و «آتيكم» التى غيرت إلى «أنبئكم» و «معائشهم» ، التى غيرت إلى «معيشتهم» .
ونحن نعرف:
4-
أن الحجاج كان من حفّاظ القرآن المعدودين.
5-
وأن الحجاج كانت على يديه الجولة الثانية فى نقط المصاحف وشكلها، بعد أن كانت الجولة الأولى على يد الصحابة، وكانت جولة الصحابة بداية لم تشمل القرآن كله بل كانت نوعا من التيسير.
يقول الدانى «1» بسند متّصل عن قتادة: بدءوا فنقطوا ثم خمّسوا ثم عشّروا- وهو يعنى الصحابة. ثم يقول فى إثر هذا: هذا يدل على أن الصحابة وأكابر التابعين هم المبتدئون بالنّقط ورسم الخموس والعشور.
وفى الجولة الثانية خلاف، فمن الرّواة من يعزوها إلى أبى الأسود الدؤولى بعد أن طلبها منه زياد، ومنهم من يعزوها إلى يحيى بن يعمر العدوانى، وكان ذلك عن طلب الحجّاج.
ويقول الدانى: إن هذا هو الأعرف.
وما نظن الحجاج، وهو الحافظ للقرآن- كان بعيدا عن يحيى بن يعمر، كما لم يكن عثمان بعيدا عن زيد بن ثابت، وسعيد.
وبهذا نستطيع أن نقول:
1-
إن هذه الأحرف الثلاثة التى لم يقرأ بها أحد لم تكن منقوطة ولا مشكولة، فميزها النقط وبيّنها، وكانت على ألسنة الناس كما كانت على لسان الحجّاج، بدليل أنها لم ترد فى قراءة، ولا ندرى كيف قامت هذه دعوى.
2-
إن الأحرف الثمانية الباقية، فيها قراءات، كما مر بك، والمشهور منها ما يعزى إلى الحجّاج أنه أثبته، ولكن من أتّى لنا أن هذا الذى يقال إنّ الحجاج أثبته لم يكن، وأن رسم مصحف عثمان كان يشتمل عليه، وأن الحجاج لم يفعل غير أن بيّنه وميّزه.
(1) المحكم فى نقط المصاحف لأبى عمرو عثمان بن سعيد الدائى (ص: 2- 3) .