الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكذلك «ننشرها» و «ننشزها» لأن الإنشار: الإحياء، والإنشاز: هو التحريك للنقل، والحياة حركة، فلا فرق بينهما.
وكذلك «فزّع عن قلوبهم» و «فزّغ» ، لأن «فزّع» : خفّف عنها الفزع، وفرّغ: فرّغ عنها الفزع.
ثم قال ابن قتيبة: وكل ما فى القرآن من تقديم أو تأخير، أو زيادة أو نقصان، فعلى مثل هذه السبيل.
18- تعقيب على القراءات
والأمر فى القراءات كما يبدو لك، ينحصر فى أحوال ثلاث:
الأولى- وهى تتصل بأحرف العرب أو لغاتها- وهى التى قدمنا منها مثلا فى الإمالة، والإشمام والتّرقيق، والتفخيم، وغير ذلك، مما لفظت به القبائل ولم تستطع ألسنتها غيره، وهذا الذى قلنا عنه:
إنه المعنىّ بالأحرف السبعة التى جاءت فى الحديث.
وما من شك فى أن ذلك كان رخصة للعرب يوم أن كانوا لا يستطيعون غيره، وكان من العسير عليهم تلاوة القرآن بلغة قريش.
ثم ما من شك فى أن هذه الرّخصة قد نسخت بزوال العذر وتيسّر الحفظ، وفشوّ الضبط، وتعلم القراءة والكتابة «1» .
وإليك ما قاله الطبرى بعد أن عرفت ما قاله الطحاوى، يقول الطبرى:
ثم لما رأى الإمام أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله تعالى عنه اختلاف الناس فى القراءة، وخاف من تفرّق كلمتهم، جمعهم على حرف واحد، وهو هذا المصحف الإمام، واستوثقت له الأمّة على ذلك، بل أطاعت ورأت أن فيما فعله الرّشد والهداية، وتركت القراءة بالأحرف السبعة التى عزم عليها إمامها العادل فى تركها، طاعة منها له، ونظرا منها لأنفسها ولمن بعدها من سائر أهل ملّتها، حتى درست من الأمة معرفتها، وعفت آثارها، فلا سبيل اليوم لأحد إلى القراءة بها لدثورها وعفّو آثارها.
فإن قال من ضعفت معرفته: وكيف جاز لهم ترك قراءة أقرأهم إيّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم بقراءتها؟ قيل: إن أمره إياهم بذلك لم يكن أمر إيجاب وفرض، وإنما كان أمر إباحة ورخصة.
(1) معانى الآثار للطحاوى أحمد بن محمد.
الثانية: وهى تتصل برسم المصحف وبقائه عهدا غير منقوط ولا مشكول إلى زمن عبد الملك، حتى قام الحجاج بإسناد هذا العمل إلى رجلين، هما: يحيى بن يعمر، والحسن البصرى، فنقطاه وشكلاه.
وما نرى صحيحا هذا الذى ذهب إليه القراء من تأويلات كثيرة تكاد تحمّل الكلمة عشرين وجها، أو ثلاثين، أو أكثر من ذلك، حتى لقد بلغت طرق هذه القراءات للقراءات العشر فقط تسعمائة وثمانين طريقة.
فلقد كان هذا اجتهادا من القراء، ولكنه كان إسرافا فى ذلك الاجتهاد، وإنك لو تتبعب ما عقّب به الزّمخشرى فى تفسيره على القرّاء لوجدت له الكثير مما ردّه عليهم ولم يقبله منهم. فلقد عقب على ابن عامر، فى قراءته لقوله تعالى:(وكذلك زيّن للمشركين قتل أولادهم شركاؤهم)(الأنعام: 137) ، فلقد قرأها ابن عامر (زيّن للمشركين قتل أولادهم شركائهم) برفع «القتل» ، ونصب «الأولاد» ، وجر «الشركاء» ، على إضافة «القتل» ، إلى «الشركاء» والفصل بينهما بغير الظرف.
فقال الزمخشرى: فهذا لو كان فى مكان الضّرورات- وهو الشّعر- لكان شيئا مردودا، فكيف به فى الكلام المنثور، وكيف به فى القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته، والذى حمله على ذلك أن رأى فى بعض المصاحف «شركائهم» مكتوبا بالياء.
ويعقّب الزمخشرىّ مرة أخرى على أبى عمرو حين يدغم الراء فى اللام فى قوله تعالى:
(فيغفر لمن يشاء)(البقرة: 284، آل عمران: 129، المائدة: 20 و 43، الفتح: 14) فيقرؤها أبو عمرو: (فيغفلمن يشاء) . ويقول الزمخشرى: ومدغم الراء فى اللام لاحن مخطئ خطأ فاحشا، وروايه عن أبى عمرو مخطئ مرتين، لأنه يلحن، وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم.
وكذلك تتّبع ابن قتيبة القرّاء وأحصى لهم الكثير، وفى ذلك يقول: وما أقلّ من سلم من هذه الطبقة فى حرفه من الغلط والوهم «1» .
ونحن حين نمكن لهذه القراءات أن تعيش نكون كمن يحاول أن يخرج على ما أراده عثمان، ومعه علىّ من قبل، ثم الصّحابة، على وحدة القرآن تلاوة. هذا بعد أن صح لنا أن هذه القرآت اجتهاد، وأن رسم المصحف، وإهماله نقطا وشكلا، جرّ إلى شىء منها.
(1) تأويل مشكل القرآن (ص: 43) .
يقول ابن قتيبة. وهو يناقش بعض القراءات:
وليست تخلو هذه الحروف من أن تكون على مذهب من مذاهب أهل الإعراب فيها، أو أن تكون غلطا من الكاتب.
فإن كانت على مذهب النحويين، فليس هاهنا لحن بحمد الله.
وإن كانت خطأ فى الكتابة، فليس على الله ولا على رسوله صلى الله عليه وسلم جناية الكاتب فى الخط.
ولو كان هذا عيبا يرجع على القرآن لرجع عليه كل خطأ وقع فى كتابة المصحف من طريق التهجّى، فقد كتب فى الإمام:(إنّ هذن لساحران) بحذف ألف التثنية، وكذلك ألف التثنية تحذف فى هجاء هذا المصحف فى كل مكان. وكتب كتّاب المصحف: الصّلوة والزّكوة، والحيوة، بالواو، واتبعناهم فى هذه الحروف خاصة على التيمّن بهم «1» .
فنحن إذن بين رسم لكتّاب كان ما رسموا آخر الجهد عندهم، ولقد حفظ الله كتابه بالحفظة القارئين أكثر مما حفظه بالكتّاب الكاتبين، ثم كانت إلى جانب الحفظة حجة أخرى على الرسم، وهى لغة العرب، أقامت الرسم لتدعيم الحفظ ولم تقم الحفظ لتدعيم الرسم، وكان هذا ما عناه عثمان حين قال: أرى فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها. ولقد أقامته بألسنتها، وتركت الرسم على حاله ممثّلا فى مصحفه الإمام، الذى كان حريصا على أن تجتمع عليه الأمة الإسلامية، ومن أجل ذلك أحرق ما سواه.
غير أن ما فعله عثمان لم يقض على كل خلاف، وأوسع فى هذا الخلاف بقاء المصحف الإمام غير منقوط ولا مشكول، كما مرّ بك.
من أجل ذلك كان أول شىء عمله الحجّاج، بعد ما فرغ من نقط المصحف وشكله، أن وكل إلى «عاصم الجحدرى» ، و «ناجية بن رمح» ، و «على بن أصمع» ، أن يتتبّعوا المصاحف وأن يقطعوا كل مصحف يجدونه مخالفا لمصحف عثمان، وأن يعطوا صاحبه ستّين درهما. وفى ذلك يقول الشاعر:
وإلّا رسوم الدّار قفرا كأنّها
…
كتاب محاه الباهليّ ابن أصمعا «2»
(1) تأويل مشكل القرآن (ص: 40، 41) .
(2)
تأويل مشكل القرآن (ص: 37) .