الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، قال: ما أمرتكم بقتال فى الشهر الحرام، فوقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا. فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط فى أيدى القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا. وقالت قريش:
قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال.
فلما أكثر الناس فى ذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ.
فلما نزل القرآن بهذا الأمر، وفرج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الخوف، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين، وبعثت إليه قريش فى فداء عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا- يعنى: سعد بن أبى وقاص، وعتبة بن غزوان- فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم. فقدم سعد وعتبة، فأفداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم.
فأما الحكم بن كيسان فأسلم، فحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا، وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة، فمات بها كافرا.
61- غزوة بدر
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع بأبى سفيان بن حرب مقبلا من
الشام، فى عير لقريش عظيمة، فيها أموال لقريش، وتجارة من تجارتهم، وفيها ثلاثون رجلا من قريش أو أربعون، منهم: مخرمة بن نوفل بن أهيب ابن عبد مناف بن زهرة، وعمرو بن العاص بن وائل بن هشام.
ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبى سفيان مقبلا من الشام، ندب المسلمين إليهم، وقال: هذه عير قريش، فيها أموالهم، فاخرجوا إليها، لعل الله ينفلكموها.
فانتدب الناس، فخف بعضهم، وثقل بعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا. وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار ويسأل من لقى من الركبان، تخوفا على أمر الناس، حتى أصاب خبرا من بعض الركبان: أن محمد قد استنفر أصحابه لك ولعيرك، فحذر عند ذلك، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفارى، فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتى قريشا، فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها فى أصحابه. فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة.
وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب، قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال، رؤيا أفزعتها فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب، فقالت له: يا أخى، والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفزعتنى، وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة، فاكتم عنى ما أحدثك به. فقال لها: وما رأيت؟ قالت: رأيت راكبا أقبل على بعير له، حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته: ألا انفروا بالغدر «1» لمصارعكم، فى ثلاث، فأرى الناس اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبينما
(1) غدر: جمع غدور.
هم حوله، مثل به بعيره على ظهر الكعبة، ثم صرخ بمثلها: ألا انفروا بالغدر لمصارعكم، فى ثلاث، ثم مثل به بعيره على رأس أبى قبيس، فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوى، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت، فما بقى بيت من بيوت مكة، ولا دار، إلا دخلها منها فلقة. قال العباس:
والله إن هذه لرؤيا، وأنت فاكتمها، ولا تذكريها لأحد.
ثم خرج العباس، فلقى الوليد بن عتبة بن ربيعة، وكان له صديقا، فذكرها له واستكتمه إياها، فذكرها الوليد لأبيه عتبة، ففشا الحديث بمكة، حتى تحدثت به فى أنديتها.
قال العباس: فغدوت لأطوف بالبيت، وأبو جهل بن هشام فى رهط من قريش قعود، يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآنى أبو جهل، قال: يا أبا الفضل، إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا، فلما فرغت أقبلت، حتى جلست معهم، فقال لى أبو جهل: يا بنى عبد المطلب، متى حدثت فيكم هذه النبية؟ قلت وما ذاك؟ قال: تلك الرؤيا التى رأت عاتكة. فقلت: وما رأت؟ قال: يا بنى عبد المطلب، أما رضيتهم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم؟ قد زعمت عاتكة فى رؤياها أنه قال: انفروا، فى ثلاث، فسنتريص بكم هذه الثلاث، فإن يك حقّا ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شىء، نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت فى العرب. قال العباس: فوالله ما كان منى إليه كبير، إلا أنى حجدت ذلك، وأنكرت أن تكون رأت شيئا. قال: ثم تفرقنا.
فلما أمسيت، لم تبق امرأة من بنى عبد المطلب إلا أتتنى، فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع فى رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع، ثم لم يكن
عندك غير لشىء مما سمعت! قلت: والله قد فعلت، ما كان منى إليه من كبير، وايم الله لأتعرضن له، فإن عاد لأكفينكنه.
فغدوت فى اليوم الثالث من رؤيا عاتكة، وأنا حديد مغضب، أرى أنى قد فاتنى منه أمر أحب أن أدركه منه، فدخلت المسجد فرأيته، فوالله إنى لأمشى نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال، فأقع به- وكان رجلا خفيفا، حديد الوجه، حديد اللسان، حديد النظر- إذ خرج نحو باب المسجد يشتد. فقلت فى نفسى:
ما له لعنه الله، أكل هذا فرق منى أن أشاتمه، وإذا هو قد سمع ما لم أسمع: صوت ضمضم بن عمرو الغفارى، وهو يصرخ ببطن الوادى واقفا على بعيره، قد جدع بعيره، وحول رجله، وشق قميصه، وهو يقول: يا معشر قريش، الاطيبة «1» ، اللطيمة، أموالكم مع أبى سفيان قد عرض لها محمد فى أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث. فشغلنى عنه، وشغله عنى، ما جاء من الأمر.
فتجهز الناس سراعا، وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمى، كلا والله ليعلمن غير ذلك. فكانوا بين رجلين: إما خارج، وإما باعث مكائه رجلا. وأوعبت قريش، فلم يتخلف من أشرافها أحد.
إلا أن أبا لهب بن عبد المطلب تخلف، وبعث مكانه العاصى بن هشام ابن المغيرة، وكان قد لاط له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه، أفلس بها، فاستأجره بها، على أن يجزىء عنه، بعثه فخرج عنه، وتخلف أبو لهب.
ولما فرغوا من جهازهم، وأجمعوا السير، ذكروا ما كان بينهم وبين بنى بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب، فقالوا: إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا، وكاد ذلك يثنيهم، فتبدى لهم إبليس فى صورة سراقة بن مالك
(1) اللطيمة: الإبل تحمل البر والطيب. [.....]
ابن جعشم المدلجى، وكان من أشراف بنى كنانة، فقال لهم: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشىء تكرهونه، فخرجوا سراعا.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ليال مضت من شهر رمضان فى أصحابه، واستعمل عمرو بن أم مكتوم- أخا بنى عامر بن لؤى- على الصلاة بالناس، ثم رد أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة.
ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وكان أبيض.
وكان أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم رايتان سوداوان: إحداهما مع على بن أبى طالب، يقال لها: العقاب، والأخرى مع بعض الأنصار.
وكانت إبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ سبعين بعيرا، فاعتقبوها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى بن أبى طالب، ومرثد ابن أبى مرثد الغنوى، يعتقبون بعيرا، وكان حمزة بن عبد المطلب، وزيد ابن حارثه، وأبو كبشة، وأنسة، موليا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعتقبون بعيرا، وكان أبو بكر، وعمر، وعبد الرحمن بن عوف، يعتقبون بعيرا.
وجعل على الساقة قيس بن أبى صعصعة، أخا بنى مازن بن النجار. وكانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ. فسلك طريقه من المدينة إلى مكة، على نقب المدينة، ثم على العقيق، ثم على ذى الحليفة، ثم على أولات الجيش.
ولقوا رجلا من الأعراب، فسألوه عن الناس، فلم يجدوا عنده خبرا، فقال له الناس: سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أوفيكم رسول الله؟ قالوا: نعم، فسلم عليه، ثم قال: إن كنت رسول الله فأخبرنى عما فى بطن ناقتى هذه. قال له سلمة بن سلامة بن وقش: لا تسأل رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وأقبل على، فأنا أخبرك عن ذلك: نزوت عليها، ففى بطنها منك سخلة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفحشت على الرجل! ثم أعرض عن سلمة.
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم سجسج، وهى بئر الروحاء، ثم ارتحل منها، حتى إذا كان بالمنصرف، ترك طريق مكة بيسار، وسلك ذات اليمين على النازية، يريد بدرا، فسلك فى ناحية منها، حتى جزع واديا، يقال له: رحقان، بين النازية وبين مضيق الصفراء، بعث بسبس بن الجهنى، حليف بنى ساعدة، وعدى بن أبى الزغباء الجهنى، حليف بنى النجار، إلى بدر يتحسان له الأخبار، عن أبى سفيان بن حرب وغيره، ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قدمهما. فلما استقبل الصفراء، وهى قرية بين جبلين، سأل عن جبليها ما اسماهما؟ فقالوا: يقال: لأحدهما، هذا مسلح، وللآخر: هذا مخرىء، وسأل عن أهلهما، فقيل: بنو النار، وبنو حراق، بطنان من بنى غفار، فكرههما رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرور بينهما، وتفائل باسميهما وأسماء أهلهما، وتركهما رسول الله صلى الله عليه وسلم والصفراء بيسار، وسلك ذات اليمين على واد يقال له: ذفران، فجزع فيه، ثم نزل.
وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس، وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر الصديق، فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو، فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا، إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون، فو الذى بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه، حتى تبلغه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، ودعا له به.
ثم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا علىّ أيها الناس. وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة، قالوا: يا رسول الله. إنا برآء من ذمامك، حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت فى ذمتنا، نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. قال: لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فو الذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته، لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر فى الحرب، صدق فى اللقاء. ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال:
سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدنى إحدى الطائفتين، والله لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم.
ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قريبا من بدر، فركب هو وأبو بكر حتى وقف على شيخ من العرب، فسأله عن قريش، وعن محمد وأصحابه، وما بلغه عنهم، فقال الشيخ: لا أخبر كما حتى تخبرانى ممن أنتما؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أخبرتنا أخبرناك. قال: أذاك بذاك؟
قال: نعم قال الشيخ: فإنه بلغنى أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذى أخبرنى فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذى به رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وبلغنى أن قريشا خرجوا يوم كذا كذا، فإن كان الذى أخبرنى صدقنى، فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذى فيه قريش.
فلما فرغ من خبره، قال: ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
نحن من ماء، ثم انصرف عنه. قال: يقول الشيخ: ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، فلما أمسى بعث على ابن أبى طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن أبى وقاص، فى نفر من أصحابه، إلى ماء بدر، يلتمسون الخبر له عليه، فأصابوا راوية لقريش فيها أسلم، غلام بنى الحجاج، وعريض أبو يسار، غلام بنى العاص بن سعيد، فأتوا بهما، فسألوهما، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى، فقالا: نحن سقاة قريش، بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لأبى سفيان، فضربوهما، فلما بالغوا فى ضربهما قالا: نحن لأبى سفيان، فتركوهما، وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد سجدتين ثم سلم، وقال: إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا، والله إنهما لقريش، أخبرانى عن قريش؟
قالا: هم والله وراء هذا الكثيب الذى ترى بالعدوة القصوى- والكثيب:
العقنقل- فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم القوم؟
قالا: كثير. قال: ما عدتهم؟ قالا: لا ندرى. قال: كم ينحرون كل يوم؟
قالا: يوما تسعا، ويوما عشرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القوم فيما بين التسعمائة والألف. ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا:
عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البخترى بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدى بن نوفل،
والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه، ومنبه، ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبدود. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، فقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ أكبادها.
وكان بسبس بن عمرو، وعدى بن أبى الزغباء، قد مضيا حتى نزلا بدرا، فأناخا إلى تل قريب من الماء، ثم أخذا شنّا لهما يستقيان فيه، ومجدى بن عمرو الجهنى على الماء، فسمع عدى وبسبس جاريتين من جوارى الحاضر، وهما يتلازمان على الماء، والملزومة تقول لصاحبتها: إنما تأتى العبر غدا أو بعد غد، فأعمل لهم، ثم أقضيك الذى لك. قال مجدى: صدقت، ثم خلص بينهما.
وسمع ذلك عدى وبسبس، فجلسا على بعيريهما، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبراه بما سمعا.
وأقبل أبو سفيان بن حرب، حتى تقدم العير حذرا، حتى ورد الماء، فقال لمجدى بن عمرو: هل أحسست أحدا؟ فقال: ما رأيت أحدا أنكره، إلا أنى قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا فى شن لهما، ثم انطلقا. فأتى أبو سفيان مناخهما، فأخذ من أبعار بعيريهما، ففته، فإذا فيه النوى، فقال: هذه والله علائف يثرب، فرجع إلى أصحابه سريعا، فضرب وجه عيره عن الطريق، فساحل بهما، وترك بدرا بيسار، وانطلق حتى أسرع.
وأقبلت قريش، فلما نزلوا الجحفة، رأى جهيم بن الصلت بن مخزمة بن المطلب بن عبد مناف رؤيا، فقال: إنى رأيت فيما يرى النائم، وإنى لبين النائم واليقظان، إذ نظرت إلى رجل قد أقبل على فرس، حتى وقف، ومعه بعير له، ثم قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية (م 9- الموسوعة القرآنية- ج 1)
ابن خلف، وفلان وفلان، فعدد رجالا ممن قتل يوم بدر، من أشراف قريش، ثم رأيته ضرب فى لبة بعيره، ثم أرسله فى العسكر، فما بقى خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح من دمه.
فبلغت أبا جهل، فقال: وهذا أيضا نبى آخر من بنى المطلب، سيعلم غدا من المقتول إن نحن التقينا.
ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره، أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله، فارجعوا. فقال أبو جهل بن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدرا- وكان بدر موسما من مواسم العرب، يجتمع لهم به سوق كل عام- فنقيم عليه ثلاثا، فننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها، فامضوا.
وقال الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفى، وكان حليفا لبنى زهرة، وهم بالجحفة: يا بنى زهرة، قد نجى الله لكم أموالكم، وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا لى جبنها وارجعوا، فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا فى غير ضيعة، لا ما يقول هذا، يعنى أبا جهل، فرجعوا، فلم يشهدها زهرى واحد أطاعوه، وكان فيهم مطاعا.
ولم يكن بقى من قريش بطن إلا وقد نفر منهم ناس، إلا بنى عدى، من كعب، لم يخرج منهم رجل واحد، فرجعت بنى زهرة مع الأخنس بن شريق، فلم يشهد بدرا من هاتين القبيلتين أحد، ومضى القوم. وكان بين طالب بن أبى طالب- وكان فى القوم- وبين بعض قريش محاورة، فقالوا: والله لقد عرفنا يا بنى
هاشم، وإن خرجتم معنا، أن هواكم لمع محمد، فرجع طالب إلى مكانه مع من رجع.
ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادى، وبعث الله السماء، وكان الوادى دهسا، فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها ما لبد لهم الأرض، ولم يمنعهم عن السير، وأصاب قريش منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادرهم إلى الماء، حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزل به.
ثم إن الحباب بن المنذر بن الجموح قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله، ليس لنا أن تتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأى والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأى والحرب والمكيدة. فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتى أدنى ماء من القوم، فنزله، ثم نغور ماوراءه من القلب، ثم نبنى عليه حوضا، فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأى. فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقلب فغورت، وبنى حوضا على القليب الذى نزل عليه، فملىء ماء، ثم قذفوا فيه الآنية.
ثم إن سعد بن معاذ قال: يا نبى الله، ألا نبنى لك عريشا تكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا، كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك أقوام- يا نبى الله- ما نحن بأشد لك حبّا منهم، ولو خلنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون
معك؟ فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، ودعا له بخير. ثم بنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش، فكان فيه.
وقد ارتحلت قريش حين أصبحت، فأقبلت، فلما رآها صلى الله عليه وسلم تصوب من العقنقل- وهو الكثيب الذى جاءوا منه إلى الوادى- قال:
اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذى وعدتنى، اللهم أحنهم الغداة.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى عتبة بن ربيعة فى القوم على جمل له أحمر- إن يكن فى أحد من القوم خير، فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا.
وقد كان خفاف بن أيماء بن رحضة الغفارى، أو أبوه أيماء بن رحضة الغفارى، بعث إلى قريش، حين مروا به، ابنا له بجزائر أهداها لهم، وقال:
إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا. فأرسلوا إليه مع ابنه: أن وصلتك رحم، قد قضيت الذى عليك، فلعمرى لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم، ولئن كنا إنما نقاتل الله كما يزعم محمد، فما لأحد بالله من طاقة.
فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهم حكيم بن حزام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهم، فما شرب منه رجل يومئذ إلا قتل، إلا ما كان من حكيم بن حزام فإنه لم يقتل
، ثم أسلم بعد ذلك، فحسن إسلامه. فكان إذا اجتهد فى بمينه قال: لا والذى نجانى من يوم بدر.
ولما اطمأن القوم، بعثوا عمير بن وهب الجمحى، فقالوا: احزر لنا أصحاب محمد. فاستجال بفرسه حول العسكر، ثم رجع إليهم، فقال: ثلثمائة رجل يزيدون
قليلا أو ينقصون، ولكن أمهلونى حتى أنظر: أللقوم كمين أو مدد؟ فضرب فى الوادى حتى أبعده، فلم ير شيئا، فرجع إليهم فقال: ما وجدت شيئا، ولكنى قد رأيت، يا معشر قريش، البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم، فما خير العيش بعد ذلك؟
فروا رأيكم.
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى فى الناس، فأتى عتبة بن ربيعة، فقال:
يا أبا الوليد، إنك كبير قريش وسيدها، والمطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمى. قال: قد فعلت، أنت على بذلك، إنما هو حليفى، فعلى عقله وما أصيب من ماله، فأت ابن الحنظلية فإنى لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره. ثم قام عتبة بن ربيعة خطيبا، فقال: يا معشر قريش إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر فى وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذى أردتم، وإن كان غير ذلك ألقاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون.
قال حكيم: فانطلقت حتى جئت أبا جهل، فوجدته قد نثل درعا له من جرابها- فهو يهيئها- فقلت له: يا أبا الحكم، إن عتبة أرسلنى إليك بكذا وكذا، للذى قال، فقال: انتفخ والله سحره حين رأى محمدا وأصحابه، كلا والله لا ترجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بعتبة ما قال، ولكنه قد رأى
أن محمدا وأصحابه أكلة جزور، وفيهم ابنه، فقد تخوفكم عليه. ثم بعث إلى عامر بن الحضرمى، فقال: هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثارك بعينك، فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك.
فقام عامر بن الحضرمى، فاكتشف ثم صرخ: واعمراه! واعمراه! فحميت الحرب، وحقب أمر الناس، واستوسقوا على ما هم عليه من الشر، وأفسد على الناس الرأى الذى دعاهم إليه عتبة.
فلما بلغ عتبة قول أبى جهل «انتفخ والله سحره» ، قال: سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره، أنا أم هو؟
ثم التمس عتبة بيضة ليدخلها فى رأسه، فما وجد فى الجيش بيضة تسعه، من عظم هامته، فلما رأى ذلك اعتجر على رأسه ببرد له.
وقد خرج الأسود بن عبد الأسد المخزومى، وكان رجلا شرسا سيئ الخلق، فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه. فلما خرج، خرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه، وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض، حتى اقتحم فيه، يريد أن يبر بمينه، وأتبعه حمزة فضربه، حتى قتله فى الحوض.
ثم خرج بعده عتبة بن ربيعة، بين أخيه شيبة بن ربيعة، وابنه الوليد ابن عتبة، حتى إذا فصل من الصف، دعا إلى المبارزة، فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة، وهم: عوف، ومعوذ- ابنا الحارث، وأمهما عفراء- ورجل آخر، يقال: هو عبد الله بن رواحة، فقالوا: من أنتم؟ فقالوا: رهط من الأنصار. قالوا: ما لنا بكم من حاجة.
ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج إلينا
أكفاءنا من قومنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا على، فلما قاموا ودنوا منهم، قالوا: من أنتم؟ قال عبيدة:
عبيدة، وقال حمزة: حمزة، وقال على: على. قالوا: نعم، أكفاء كرام.
فبارز عبيدة، وكان أسن القوم، عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز علىّ الوليد بن عتبة. فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما على فلم يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين، كلاهما أثبت صاحبه، وكر حمزة وعلىّ بأسيافهما على عتبة فذفقا عليه، واحتملا صاحبهما، فحازاه إلى أصحابه.
ثم تزاحف الناس، ودنا بعضهم من بعض، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ألا يحملوا حتى يأمرهم، وقال: إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل
، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فى العريش، معه أبو بكر الصديق.
فكانت وقعة بدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدل صفوف أصحابه يوم بدر، وفى يده قدح يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية، حليف بنى عدى بن النجار، وهو مستنتل «1» من الصف، فطعن فى بطنه بالقدح، وقال: استويا سواد فقال:
يا رسول الله. أوجعتنى: وقد بعثك الله بالحق والعدل. قال: فأقدنى، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه، وقال: استقد. قال: فاعتنقه، فقبل بطنه، فقال: ما حملك على هذا يا سواد؟ قال: يا رسول الله، حضر ما ترى
(1) مستنتل. متقدم
فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدى جلدك. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير، وقال له خيرا.
وبعد أن عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف رجع إلى العريش فدخله، ومعه فيه أبو بكر الصديق ليس معه فيه غيره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر، ويقول فيما يقول: اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد. وأبو بكر يقول: يا نبى الله، بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك. وقد خفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة وهو فى العريش، ثم انتبه فقال: أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل أخذ بعنان فرس يقوده، على ثناياه النقع.
وقد رمى مهجع، مولى عمر بن الخطاب، بسهم فقتل، فكان أول قتيل من المسلمين ثم رمى حارثة بن سراقة، أحد بنى عدى بن النجار، وهو يشرب من الحوض، بسهم، فأصاب نحره، فقتل.
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فحرضهم، وقال:
والذى نفس محمد بيده، لا يقاتلهم رجل فيقتل صابرا محتسبا، مقبلا غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة. فقال عمير بن الحمام، أخو بنى سلمة، وفى يده ثمرات يأكلهن: بخ بخ، أفما بينى وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلى هؤلاء؟
ثم قذف التمرات من يده، وأخذ سيفه، فقاتل القوم حتى قتل.
ثم إن عوف بن الحارث، وهو بن عفراء، قال: يا رسول الله، ما
يضحك الرب من عبده؟ قال: غمسه يده فى العدوّ حاسرا. فنزع درعا كانت عليه، فقذفها، ثم أخذ سيفه، فقاتل القوم حتى قتل.
ولما التقى الناس، ودنا بعضهم من بعض، قال أبو جهل بن هشام:
اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا يعرف، فأحنه الغداة. فكأن هو المستفتح.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حقنة من الحصباء، فاستقبل قريشا بها، ثم قال: شاهت الوجوه، ثم نقحهم بها، وأمر أصحابه، فقال:
شدوا، فكانت الهزيمة، فقتل الله تعالى من قتل من صناديد قريش، وأسر من أسر من أشرافهم. فلما وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فى العريش، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش، الذى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، متوشح السيف، فى نفر من الأنصار يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخافون عليه كرة العدو، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم؟ قال:
أجل والله يا رسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك. فكان الإثخان بأهل الشرك أحب إلى من استبقاء الرجال.
ثم إن النبى صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يومئذ: إنى قد عرفت أن رجالا من بنى هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقى منكم أحدا من بنى هاشم فلا يقتله، ومن لقى أبا البخترى بن هشام بن الحارث ابن أسد فلا يقتله، ومن لقى العباس بن عبد المطلب، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يقتله، فإنه إنما خرج مستكرها. فقال أبو حذيفة: أنقتل آباءنا
وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا، ونترك العباس؟ والله لئن لقيته لألحمنه السيف.
فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر بن الخطاب: يا أبا حفص- قال عمر: والله إنه لأول يوم كنانى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبى حفص- أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف؟ فقال عمر:
يا رسول الله، دعنى فلأضرب عنقه بالسيف، فو الله لقد نافق.
فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التى قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفا، إلا أن تكفرها عنى الشهادة. فقتل يوم اليمامة شهيدا.
وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أبى البخترى، لأنه كان أكف القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، وكان لا يؤذيه، ولا يبلغه عنه شىء يكرهه، وكان ممن قام فى نقض الصحيفة، التى كتبت قريش على بنى هاشم وبنى المطلب، فلقيه المجذر بن ذياد البلوى، حليف الأنصار، ثم من بنى سالم بن عوف، فقال المجذر لأبى البخترى: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن قتلك- ومع أبى البخترى زميل له، قد خرج معه من مكة، وهو جنادة بن مليحة بنت زهير بن الحارث بن أسد، وجنادة رجل من بنى ليث. واسم أبى البخترى: العاص- قال: وزميلى؟ فقال له المجذر:
لا والله، ما نحن بتاركى زميلك، ما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بك وحدك. فقال: لا والله، إذن لأموتن أنا وهو جميعا، لا تتحدث عنى نساء مكة أنى تركت زميلى حرصا على الحياة.
ثم إن المجذر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والذى بعثك بالحق، لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به، فأبى إلا أن يقاتلنى، فقاتلته فقتلته.
ويقول عبد الرحمن بن عوف: كان أمية بن خلف لى صديقا بمكة، وكان اسمى عبد عمرو، فتسميت، حين أسلمت: عبد الرحمن ونحن بمكة، فكان يلقانى إذ نحن بمكة، فيقول: يا عبد عمرو، أرغبت عن اسم سماكه أبواك؟
فأقول: نعم. فيقول: فإنى لا أعرف الرحمن، فاجعل بينى وبينك شيئا أدعوك به، أما أنت فلا تجيبنى باسمك الأول، وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف.
قال: فكان إذا دعانى: يا عبد عمرو، لم أجب. قال: فقلت له: يا أبا على، اجعل ما شئت، قال: فأنت عبد الإله. قال: فقلت: نعم. قال: فكنت إذا مررت به قال: يا عبد الإله، فأجيبه فأتحدث معه، حتى إذا كان يوم بدر، مررت به وهو واقف مع ابنه، على بن أمية، آخذ بيده، ومعى أدراع، قد استلبتها، فأنا أحملها، فلما رآنى قال لى: يا عبد عمرو، فلم أجبه، فقال: يا عبد الإله؟
فقلت: نعم. قال: هل لك فى، فأنا خير لك من هذه الأدراع التى معك؟
قلت: نعم، ها الله ذا. فطرحت الأدراع من يدى، وأخذت بيده ويد ابنه، وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط، أمالكم حاجة فى اللبن؟ ثم خرجت أمشى بهما.
قال لى أمية بن خلف، وأنا بينه وبين أبنه، آخذ بأيديهما: يا عبد الإله، من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة فى صدره؟ قلت: ذاك حمزة بن عبد المطلب.
قال: ذاك الذى فعل بنا الأفاعيل. قال عبد الرحمن: فو الله إنى لأقودهما إذا رآه بلال معى- وكان هو الذى يعذب بلالا بمكة على ترك الإسلام، فيخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت، فيضجعه على ظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد، فيقول بلال:
أحد أحد- قال: فلما رآه، قال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن
نجا. قلت: أى بلال، أبأسيرى! قال: لا نجوت إن نجا. قلت: أتسمع يابن السوداء. قال: لا نجوت إن نجا. قال: ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا. فأحاطوا بنا حتى جعلونا فى مثل الحلقة وأنا أذب عنه. قال: فأخلف رجل السيف فضرب رجل ابنه فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط فقلت: انج بنفسك، ولا نجاء بك، فوالله ما أغنى عنك شيئا. فهبروهما بأسيافهم، حتى فرغوا منهما، فكان عبد الرحمن يقول: يرحم الله بلالا، ذهبت أدراعى وفجعنى بأسيرى.
ويقول رجل من بنى غفار: أقبلت أنا وابن عم لى، حتى أصعدنا فى جبل يشرف بنا على بدر، ونحن مشركان، ننتظر الوقعة على من تكون الدبرة، فننتهب مع من ينتهب. قال: فبينما نحن فى الجبل، إذ دنت منا سحابة، فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلا يقول: اقدم حيزوم، فأما ابن عمى فانكشف قناع قلبه. فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت.
ولم تقاتل الملائكة فى يوم سوى بدر من الأيام، وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددا ومددا. لا يضربون.
وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: أحد أحد.
فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه، أمر بأبى جهل أن يلتمس فى القتلى.
قال معاذ بن عمرو بن الجموح: سمعت القوم، وأبو جهل فى مثل الحرجة، وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه. قال: فلما سمعتها جعلته من شأنى، فصمدت نحوه، فلما أمكنى حملت عليه، فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه، فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يضرب بها. قال: وضربنى ابنه عكرمة على عاتقى، فطرح يدى، فتعلقت بجلدة من جنسى، وأجهضنى القتال عنه، قلقد قاتلت عامة بومى، وإنى لأسحبها خلفى، فلما آذننى وضعت عليها قدمى، ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها.
ثم عاش بعد ذلك حتى كان زمان عثمان.
ثم مر بأبى جهل، وهو عقير، معوذ بن عفراء، فضربه حتى أثبته، فتركه وبه رمق، وقاتل معوذ حتى قتل،
فمر عبد الله بن مسعود بأبى جهل، حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلتمس فى القتلى، وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: انظروا، إن خفى عليكم فى القتلى إلى أثر جرح فى ركبته، فإنى ازدحمت يوما أنا وهو على مأدبة لعبد الله بن جدعان، ونحن غلامان، وكنت أشف منه بيسير، فدفعته، فوقع على ركبته، فجحش فى إحداهما جحشا لم يزل أثره به. قال عبد الله بن مسعود: فوجدته بآخر رمق، فعرفته، فوضعت، رجلى على عنقه- قال: وقد كان ضيث بن مرة بمكة. فآذانى ولكزنى، ثم قلت له: هل أخزاك الله يا عدو الله؟ قال: وبماذا أخزانى؟ أعمد من رجل «1» قتلتموه! أخبرنى لمن الدائرة اليوم؟ قلت: لله ولرسوله.
ثم احتززت رأسه، ثم جئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقلت يا رسول الله، هذا رأبى عدو الله أبى جهل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1) أى هل فوق رجلى قتله قومه؟
الله الذى لا إله غيره- وكانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت:
نعم- والله الذى لا إله غيره، ثم ألقيت رأسه بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله.
وقاتل عكاشة بن محصن بن حرثان الأسدى، حليف بنى عبد شمس بن عبد مناف، يوم بدر بسيفه، حتى انقطع فى يده، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاه جذلا من حطب، فقال: قاتل، بهذا يا عكاشة، فلما أخذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم هزه، فعاد سيفا فى يده طويل القامة، شديدة المتن، أبيض الحديدة، فقاتل به حتى فتح الله تعالى على المسلمين، وكان ذلك السيف يسمى: العون. ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قتل فى الردة، وهو عنده، قتله طليحة بن خويلد الأسدى وعكاشة بن محصن الذى قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يدخل الجنة سبعون ألفا من أمتى على صورة القمر ليلة البدر، قال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلنى منهم. قال: إنك منهم، أو اللهم اجعلنى منهم. فقام رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلنى منهم، فقال: سبقك بها عكاشة، وبردت الدعوة «1» .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما بلغنا عن أهله: منا خير فارس فى العرب، قالوا: ومن هو يا رسول الله قال عكاشة بن محصن فقال ضرار بن الأزور الأسدى: ذاك رجل منا يا رسول الله: قال ليس منكم ولكنه منا للحلف.
(1) بردت الدعوة: ثبتت.
ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتلى أن يطرحوا فى القليب، طرحوا فيه، إلا ما كان من أمية بن خلف، فإنه انتفخ فى درعه فملأها، فذهبوا ليحركوه، فتزايل لحمه، فأقروه، وألقو عليه ما غيبه من التراب والحجارة،
فلما ألقاهم فى القليب وقف عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
يا أهل القليب، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقّا، فإنى قد وجدت ما وعدنى ربى حقّا. فقال له أصحابه: يا رسول الله، أتكلم قوما موتى؟ فقال لهم: لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حقّا.
ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقوا فى القليب، أخذ عنبة ابن ربيعة، فسحب إلى القليب، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى وجه أبى حذيفة بن عتبة، فإذا هو كئيب قد تغير لونه، فقال: يا أبا حذيفة، لعلك قد دخلك من شأن أبيك شىء؟ - أو كما قال صلى الله عليه وسلم فقال: لا والله يا رسول الله، ما شككت فى أبى ولا فى مصرعه، ولكننى كنت أعرف من أبى رأيا وحلما وفضلا فكنت أرجوا أن يهديه ذلك إلى الإسلام، فلما رأيت ما أصابه، وذكرت مامات عليه من الكفر، بعد الذى كنت أرجو له، أحزننى ذلك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير، وقال له خيرا.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بما فى العسكر، مما جمع الناس، فجمع، فاختلف المسلمون فيه، فقال من جمعه: هو لنا، وقال الذين كانوا يقاتلون العدو ويطلبونه: والله لولا نحن ما أصبتموه، لنحن شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم، وقال الذين كانوا يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم، مخافة أن يخالف إليه العدو: والله ما أنتم بأحق به منا، والله لقد رأينا أن
نقتل العدو إذ منحنا الله تعالى أكتافه، ولقد رأينا، أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه، ولكننا خفنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كرة العدو، فقمنا دونه، فما أنتم بأحق به منا.
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الفتح عبد الله بن رواحة بشيرا إلى أهل العالية بما فتح الله عز وجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، وبعث زيد بن حارثة إلى أهل السافلة. قال أسامة بن زيد: فأتانا الخبر- حين سوينا التراب على رقية ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتى كانت عند عثمان بن عفان. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفنى عليها مع عثمان- أن زيد بن حارثة قدم. قال: فجئته، وهو واقف بالمصلى قد غشيه الناس، وهو يقول: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وزمعة بن الأسود، وأبو البخترى العاص بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه، ومنبه، ابنا الحجاج. قال: قلت: يا أبت، أحق هذا؟ قال: نعم، والله يا بنى.
ثم أقبل رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا إلى المدينة، ومعه الأسارى من المشركين، وفيهم عقبة بن أبى معيط، والنضر بن الحارث.
واحتمل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه النفل الذى أصيب من المشركين، وجعل على النفل عبد الله بن كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول.
ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا خرج من مضيق الصفراء، نزل على كثيب بين المضيق وبين النازية، فقسم هناك النفل الذى أفاء الله عن المسلمين من المشركين على السواء،
ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم،
حتى إذا كان بالروحاء لقيه المسلمون يهنئونه بما فتح الله عليه، ومن معه من المسلمين، فقال لهم سلمة بن سلامة: ما الذى تهنئوننا به؟ فو الله إن لقينا إلا عجائز صلعا كالبدن المعلقة، فنحرناها. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أى ابن أخى، أولئك الملأ.
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدم المدينة قبل الأسارى بيوم واحد.
وقدم بالأسارى حين قدم بهم، وسودة بنت زمعة زوج النبى صلى الله عليه وسلم عند آل عفراء، فى مناحتهم على عوف ومعوذ ابنى عفراء، وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب.
تقول سودة: والله إنى لعندهم إذ أتينا، فقيل: هؤلاء الأسارى قد أتى بهم. قالت: فرجعت إلى بيتى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وإذا أبو يزيد سهيل بن عمرو فى ناحية الحجرة، مجموعة يداه إلى عنقه بجبل. قالت:
فلا والله ما ملكت نفسى حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه، أن قلت:
أعطيتم بأيديكم، ألا متم كراما؟ فو الله ما أنبهنى إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيت: يا سودة، أعلى الله ورسوله تحرضين؟ قلت:
يا رسول الله، والذى بعثك بالحق، ما ملكت نفسى حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه، أن قلت ما قلت.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل بالأسارى، فرقهم بين أصحابه، وقال: استوصوا بالأسارى خيرا.
(م 10- الموسوعة القرآنية- ج 1)
وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش، الحيسمان بن عبد الله الخزاعى، فقالوا: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم ابن هشام، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسود، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأبو البخترى بن هشام. فلما جعل يعدد أشراف قريش قال صفوان بن أمية، وهو قاعد فى الحجر: والله إن يعقل هذا، فاسألوه عنى. فقالوا: ما فعل صفوان ابن أمية؟ قال: ها هو ذاك جالسا فى الحجر، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا.
ويقول أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أم الفضل، وأسلمت، وكان العباس يهاب قومه، ويكره خلافهم، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق فى قومه، وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر، فبعث مكانه العاصى بن هشام بن المغيرة، وكذلك كانوا صنعوا، لم يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلا، فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش، كبته الله وأخزاه، ووجدنا فى أنفسنا قوة وعزّا.
ويقول أبو رافع: وكنت رجلا ضعيفا، وكنت أعمل الأقداح، أنحتها فى حجرة زمزم، فو الله إنى لجالس أنحت أقداحى، وعندى أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر، حتى جلس على طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهرى، فبينما هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان ابن الحارث بن عبد المطلب قد قدم. فقال له أبو لهب: هلم إلى، فعندك لعمرى الخبر. فجلس إليه والناس قيام عليه، فقال: يابن أخى، أخبرنى كيف
كان أمر الناس؟ قال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم، فمنحناهم أكتافنا، يقودوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا، وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالا بيضا، على خيل بلق، بين السماء والأرض، والله ما تليق شيئا، ولا يقوم لها شىء. قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدى، ثم قلت: تلك والله الملائكة، فرفع أبو لهب يده، فضرب بها وجهى ضربة شديدة. قال: وثاورته فاحتملنى، فضرب بى الأرض، ثم برك على يضربنى، وكنت رجلا ضعيفا، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته فضربته به ضربة شقت فى رأسه شجة منكرة، وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيده. فقام موليا ذليلا. فو الله ما عاش إلا سبع ليال، حتى رماه الله بالعدسة، فقتلته.
وناحت قريش على قتلاهم، ثم قالوا: لا تفعلوا فيبلغ محمدا وأصحابه، فيشمتوا بكم، ولا تبعثوا فى أسراكم حتى تستأنوا بهم «1» ، لا يأرب «2» عليكم محمد وأصحابه فى الفداء. وكان الأسود بن عبد المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده: زمعة بن الأسود، وعقيل بن الأسود، والحارث بن زمعة، وكان يحب أن يبكى على بنيه، فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل فقال لغلام له، وقد ذهب بصره: انظر هل أحل النحب، هل بكت قريش على قتلاها؟
لعلى أبكى على أبى حكيمة، يعنى زمعة، فإن جوفى قد احترق. فلما رجع إليه الغلام قال: إنما هى امرأة تبكى على بعير لها أضلته.
وكان فى الأسارى أبو وداعة بن ضبيرة السهمى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن له بمكة ابنا كيسا تاجرا ذا مال، وكأنكم به قد جاءكم فى طلب فداء أبيه.
فلما قالت قريش: لا تعجلوا بفداء أسراكم،
(1) حتى تستأنوا بهم، أى حتى تؤخروا فداءهم.
(2)
لا يأرب: لا يشتد.
لا يأرب عليكم محمد وأصحابه. قال المطلب بن أبى وداعة: صدقتم.
لا تعجلوا، وانسل من الليل فقدم المدينة، فأخذ أباه بأربعة آلاف درهم، فانطلق به.
ثم بعثت قريش فى فداء الأسارى، فقيل لأبى سفيان: افد عمرا ابنك.
قال: أيجمع على دمى ومالى، قتلوا حنظلة، وأفدى عمرا، دعوه فى أيديهم، يمسكوه ما بدا لهم.
فبينما هو كذلك، محبوس بالمدينة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ خرج سعد بن النعمان بن أكال، معتمرا، ومعه مرية «1» له، وكان شيخا مسلما، فى غنم له بالنقيع، فخرج من هناك معتمرا، ولا يخشى الذى صنع به، لم يظن أنه يحبس بمكة، إنما جاء معتمرا، وقد عهد قريشا لا يتعرضون لأحد جاء حاجّا، أو معتمرا، الا بخير، فعدا عليه أبو سفيان بن حرب بمكة، فحبسه بابنه عمرو، ومشى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخبروه خبره، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبى سفيان، فيفكوا به صاحبهم، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثوا به إلى أبى سفيان، فخلى سبيل سعد.
وقد كان فى الأسارى أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس.
ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته زينب.
(1) مرية، تصغير امرأة.
وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين: مالا، وأمانة، وتجارة، وكان هالة بنت خويلد، وكانت خديجة خالته، فسألت خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوجه، وكان رسول الله صلى الله عليه لا يخالفها، وذلك قبل أن ينزل عليه الوحى، فزوجه، وكانت تعده بمنزلة ولدها، فلما أكرم الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بنبوته، آمنت به خديجة وبناته، فصدقته، وشهدن أن ما جاء به الحق، ودنّ بدينه، وثبت أبو العاص على شركه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوج عتبة بن أبى لهب رقية، أو أم كلثوم. فلما بادى قريشا بأمر الله تعالى وبالعداوة، قالوا: إنكم قد فرغتم محمدا من همه، فردوا عليه بناته، فاشغلوه بهن، فمشوا إلى أبى العاص، فقالوا له: فارق صاحبتك ونحن نزوجك أى امرأة من قريش شئت. قال:
لا والله، إنى لا أفارق صاحبتى، وما أحب أن لى بامرأتى امرأة من قريش.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يثنى عليه فى صهره خيرا. ثم مشوا إلى عتبة بن أبى لهب، فقالوا له: طلق بنت محمد ونحن ننكحك أى امرأة من قريش شئت. فقال: إن زوجتمونى بنت أبان بن سعيد بن العاص، أو بنت سعيد بن العاص، فارقتها، فزوجوه بنت سعيد بن العاص وفارقها، ولم يكن دخل بها، فأخرجها الله من يده كرامة لها، وهوانا له، وخلف عليها عثمان بن عفان بعده.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل بمكة ولا يحرم، مغلوبا على أمره. وكان الإسلام قد فرق بين زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم،
حين أسلمت، وبين أبى العاص بن الربيع، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يقدر أن يفرق بينهما، فأقامت معه على إسلامها وهو على شركه، حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سارت قريش إلى بدر، سار فيهم أبو العاص بن الربيع فأصيب فى الأسارى يوم بدر، فكان بالمدينة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما بعث أهل مكة فى فداء أسرائهم، بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى فداء أبى العاص بن الربيع بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أخلتها بها على أبى العاص حين بنى عليها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها مالها فافعلوا، فقالوا: نعم يا رسول الله. فأطلقوه، وردوا عليها الذى لها.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليه، أن يخلى سبيل زينب إليه، فلما قدم أبو العاص مكة، أمرها باللحوق بأبيها، فخرجت تجهز.
فلما فرغت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهازها، قدم لها حموها كنانة بن الربيع أخو زوجها، بعيرا، فركبته، وأخذ قوسه وكنانته، ثم خرج بها نهارا يقود بها، وهى فى هودج لها. وتحدث بذلك رجال من قريش، فخرجوا فى طلبها، حتى أدركوها بذى طوى، فكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، والفهرى، فروعها هبار بالرمح، وهى فى هودجها، وكانت المرأة حاملا- فيما يزعمون- فلما ريعت طرحت ذا بطنها، وبرك حموها كنانة، ونثر كنانته، ثم قال: والله لا يدنو منى رجل إلا وضعت فيه سهما، فرجع الناس عنه. وأتى أبو سفيان فى جلة من قريش فقال: أيها الرجل، كف عنا نبلك حتى نكلمك، فكف، فأقبل
أبو سفيان حتى وقف عليه، فقال: إنك لم تصب، خرجت بالمرأة على رءوس الناس علانية، وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا، وما دخل علينا من محمد، فيظن الناس إذا خرجت بابنته إليه علانية على رءوس الناس من بين أظهرنا، أن ذلك عن ذل أصابنا عن مصيبتنا التى كانت، وأن ذلك منا ضعف ووهن، ولعمرى ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة، وما لنا فى ذلك من ثأر، ولكن ارجع بالمرأة، حتى إذا هدأت الأصوات، وتحدث الناس أن قد رددناها، فسلها سرّا، وألحقها بأبيها، ففعل، فأقامت ليالى، حتى إذا هدأت الأصوات، خرج بها ليلا، حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه، فقدما بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأقام أبو العاص بمكة، وأقامت زينب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، حين فرق بينهما الإسلام. حتى إذا كان قبيل الفتح،
خرج أبو العاص تاجرا إلى الشام، وكان رجلا مأمونا، بمال له وأموال لرجال من قريش، أبضعوها معه، فلما فرغ من تجارته وأقبل قافلا، لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابوا ما معه، وأعجزهم هاربا، فلما قدمت السرية بما أصابوا من ماله، أقبل أبو العاص تحت الليل، حتى دخل على زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستجار بها، فأجارته، وجاء فى طلب ماله، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح، فكبر وكبر الناس معه، صرخت زينب من صفة النساء: أيها الناس، إنى قد أجرت أبا العباس بن الربيع، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة، أقبل على الناس، فقال: أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا: نعم، قال:
أما والذى نفس محمد بيده، ما علمت بشىء من ذلك حتى سمت ما سمعتم، إنه يجير على المسلمين أدناهم. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل
على ابنته، فقال: أى بنية، أكرمى مثواه، ولا يخلصن إليك، فإنك لا تحلين له.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى السرية الذين أصابوا مال أبى العاص، فقال لهم: إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالا، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذى له، فإنا نحب ذلك، وإن أبيتم فهو فىء الله الذى أفاء عليكم، فأنتم أحق به. فقالوا: يا رسول الله، بل نرده عليه، فردوه عليه، حتى إن الرجل ليأتى بالدلو، ويأتى الرجل بالشنة، وبالإداوة، حتى إن أحدهم ليأتى بالشظاط، حتى ردوا عليه ماله بأسره، لا يفقد منه شيئا.
ثم احتمل إلى مكة، فأدى إلى كل ذى مال من قريش ماله، ومن كان أيضع معه، ثم قال: يا معشر قريش، هل بقى لأحد منكم عندى مال لم يأخذه، قالوا: لا، فجزاك الله خيرا، فقد وجدناك وفيّا كريما. قال: فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، والله ما منعنى من الإسلام عنده.
إلا تخوف أن تظنوا أنى إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما أداها الله إليكم، وفرغت منها، أسلمت
، ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجلس عمير بن وهب الجمحى مع صفوان بن أمية، بعد مصاب أهل بدر من قريش، فى الحجر بيسير، وكان عمير بن وهب شيطانا من شياطين قريش، وممن كان يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولقى منه عناء وهو بمكة، وكان ابنه وهب بن عمير فى أسارى بدر.
فذكر أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان: والله ليس فى العيش بعدهم خير، قال له عمير: صدقت والله، أما والله لولا دين علىّ ليس له عندى قضاء، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدى، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لى قبلهم علة: ابنى أسير فى أيديهم. فاغتنمها صفوان، وقال: علىّ دينك، أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالى أو اسيهم ما بقوا، لا يسعنى شىء ويعجز عنهم.
فقال له عمير: فاكتم شأنى وشأنك. قال: أفعل.
ثم أمر عمير بسيفه، فشحذ له، وسم، ثم انطلق حتى قدم المدينة، فبينما عمر بن الخطاب فى نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله به، وما أراهم من عدوهم، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب، حين أناخ على باب المسجد متوشحا السيف، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير ابن وهب، والله ما جاء إلا لشر، وهو الذى حرش بيننا، وحزرنا «1» للقوم يوم بدر.
ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبى الله، هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحا سيفه، قال: فأدخله علىّ فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه فى عنقه فلببه بها، وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار:
ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون، ثم دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بحمالة سيفه فى عنقه، قال:
أرسله يا عمر، ادن يا عمير، فدنا ثم قال: أنعموا صباحا، وكانت تحية أهل
(1) حزرنا: قدر عددنا تخمينا.
الجاهلية بينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة. فقال: أما والله يا محمد، إن كنت بها لحديث عهد. قال: فما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذى فى أيديكم، فأحسنوا فيه، قال: فما بال السيف فى عنقك؟ قال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئا؟ قال: أصدقنى، ما الذى جئت له؟
قال: ما جئت إلا لذلك، قال: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية فى الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دين علىّ وعيال عندى، لخرجت حتى أقتل محمدا، فتحمل لك صفوان بدينك وعيالك، على أن تقتلنى له، والله حائل بينى وبين ذلك، قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحى، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فو الله إنى لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذى هدانى للإسلام وساقنى هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقهوا أخاكم فى دينه، وأقرئوه القرآن، وأطلقوا له أسيره، ففعلوا.
ثم قال يا رسول الله، إنى كنت جاهدا على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله عز وجل، وأنا أحب أن تأذن لى، فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله تعالى، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى الإسلام لعل الله يهديهم، وإلا آذيتهم فى دينهم، كما كنت أوذى أصحابك فى دينهم.
فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلحق بمكة.
وكان صفوان بن أمية حين خرج عمير بن وهب، يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن فى أيام تنسيكم وقعة بدر. وكان صفوان يسأل عن الركبان، حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه، فحلف ألا يكلمه أبدا، ولا ينفعه بنفع أبدا.