الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
94- مرضه صلى الله عليه وسلم وموته
ومرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج يمشى بين رجلين من أهله:
الفضل بن العباس، وعلى بن أبى طالب، عاصبا رأسه، تخط قدماه، حتى دخل بيت عائشة، ثم غمر «1» رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتد عليه وجعه، فقال:
هريقوا على سبع قرب من آبار شتى، حتى أخرج إلى الناس، فأعهد إليهم.
تقول عائشة: فأقعدناه فى مخضب «2» لحفصة بنت عمر، ثم صببنا عليه الماء حتى طفق يقول: حسبكم حسبكم.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر، ثم كان أول ما تكلم به أنه صلى على أصحاب أحد، واستغفر لهم، فأكثر الصلاة عليهم، ثم قال: إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله. ففهمها أبو بكر، وعرف أن نفسه يريد، فبكى وقال: بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا، فقال: على رسلك يا أبا بكر، ثم قال: انظروا هذه الأبواب اللافظة «3» فى المسجد، فسدوها إلا بيت أبى بكر، فإنى لا أعلم أحدا كان أفضل فى الصحبة عندى يدا منه.
واستبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فى بعث أسامة بن زيد، وهو فى وجعه، فخرج عاصبا رأسه، حتى جلس على المنبر، وقد كان الناس قالوا فى إمرة أسامة: أمّر غلاما حدثا على جلة المهاجرين والأنصار.
(1) أى أصابته غمرة المرض صلى الله عليه وسلم.
(2)
المخضب: إناء يغسل فيه.
(3)
اللافظة: النافذة.
فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل، ثم قال: أيها الناس، أنفذوا بعث أسامة، فلعمرى لئن قلتم فى إمارته لقد قلتم فى إمارة أبيه من قبله، وإنه لخليق للإمارة، وإن كان أبوه لخليقا لها.
ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وانكمش «1» الناس فى جهازهم، واستعز برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فخرج أسامة، وخرج جيشه معه حتى نزلوا الجرف، من المدينة على فرسخ، فضرب به عسكره، وتتام إليه الناس، وثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقام أسامة والناس، لينظروا ما الله قاض فى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاجتمع إليه صلى الله عليه وسلم نساء من نسائه: أم سلمة، وميمونة، ونساء من نساء المسلمين، منهن: أسماء بنت عميس، وعنده العباس عمه، فأجمعوا أن يلدوه «2» . وقال العباس: لألدنه، فلدوه. فلما أفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: من صنع بى هذا؟ قالوا:
يا رسول الله، عمك. قال: هذا دواء أتى به نساء جئن من نحو هذه الأرض، وأشار نحو أرض الحبشة. ثم قال: ولم فعلتم ذلك؟ فقال عمه العباس: خشينا يا رسول الله أن يكون بك ذات الجنب، فقال: إن ذلك لداء ما كان الله عز وجل ليقذفنى به، لا يبق فى البيت أحد إلا لد إلاعمى، فلقد لدت ميمونة وإنها لصائمة، لقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، عقوبة لهم بما صنعوا به.
(1) انكمش: أسرع.
(2)
أى أن يجعلوا الدواء فى شق منه.
ويقول أسامة: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هبطت وهبط الناس معى إلى المدينة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أصمت فلا يتكلم، فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها على، فأعرف أنه يدعو لى.
ولما استعز برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مروا أبابكر فليصل بالناس.
قالت عائشة: قلت: يا نبى الله، إن أبا بكر رجل رقيق، ضعيف الصوت، كثير البكاء إذا قرأ القرآن. قال: مروه فليصل بالناس.
قالت: فعدت بمثل قولى، فقال: إنكن صواحب يوسف، فمروه فليصل بالناس. قالت: فو الله ما أقول ذلك إلا أنى كنت أحب أن يصرف ذلك عن أبى بكر، وعرفت أن الناس لا يحبون رجلا قام مقامه أبدا، وأن الناس سيتشاءمون به فى كل حدث كان، فكنت أحب أن يصرف ذلك عن أبى بكر.
ثم إنه لما كان يوم الاثنين الذى قبض الله فيه رسوله صلى الله عليه وسلم، خرج إلى الناس، وهم يصلون الصبح، فرفع الستر، وفتح الباب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام على باب عائشة، فكاد المسلمون يفتتنون فى صلاتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه، فرحا به، وتفرجوا، فأشار إليهم: أن اثبتوا على صلاتكم. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سرورا لما رأى من هيئتهم فى صلاتهم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن هيئة منه تلك الساعة، ثم رجع وانصرف الناس وهم يرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد برئ من وجعه. فرجع أبو بكر إلى أهله بالسنح.
وتقول عائشة: رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ذلك اليوم حين دخل من المسجد، فاضطجع فى حجرى، فدخل على رجل من آل أبى بكر، وفى يده سواك أخضر، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فى يده نظرا عرفت أنه يريده، فقلت: يا رسول الله، أتحب أن أعطيك هذا السواك؟ قال:
نعم، فأخذته، فمضغته له، حتى لينته، ثم أعطيته إياه فاستن كأشد ما رأيته يستن بسواك قط، ثم وضعه. ووجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثقل فى حجرى، فذهبت أنظر فى وجهه، فإذا بصره قد شخص، وهو يقول: بل الرفيق الأعلى من الجنة، فقلت: خيرت فاخترت والذى بعثك بالحق.
قالت: وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، بين سحرى ونحرى، حين اشتد الضحى من يوم الاثنين لاثنتى عشرة خلت من شهر ربيع الأول، سنة عشرين من الهجرة وشهرين واثنى عشر يوما، فوضعت رأسه على وسادة، وقمت ألتدم مع النساء وأضرب وجهى.
ولما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عمر بن الخطاب، فقال:
إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفى، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه، كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات. والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى، فليقطعن أيدى رجال وأرجلهم، زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات.
وأقبل أبو بكر، حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر، وعمر يكلم الناس، فلم يلتفت إلى شىء، حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيت عائشة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى فى ناحية البيت، عليه برد حبرة. وأقبل حتى كشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل عليه فقبله، ثم قال: بأبى أنت وأمى، أما الموتة التى كتب الله عليك فقد ذقتها، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا، ثم رد البرد على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج وعمر يكلم الناس، فقال: على رسلك يا عمر، أنصت، فأبى إلا أن يتكلم. فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أيها الناس، إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حىّ لا يموت. ثم تلا هذه الآية: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ.
فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت، حتى تلاها أبو بكر يومئذ، وأخذها الناس عن أبى بكر، فإنما هى فى أفواههم.
قال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعقرت «1» ، حتى وقعت إلى الأرض ما تحملنى رجلاى، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات.
(1) عفر: دهش.
ثم إن على بن أبى طالب، والعباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، وقثم بن العباس، وأسامة بن زيد، وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، هم الذين تولوا غسله. وإن أوس بن خولى، أحد بنى عوف بن الخزرج، قال لعلى بن أبى طالب: أنشدك الله يا على، وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أوس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بدر- ادخل؟ فدخل فجلس، وحضر غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسنده على بن أبى طالب إلى صدره، وكان العباس والفضل وقثم يقلبونه معه، وكان أسامة بن زيد وشقران مولاه، هما اللذان يصبان الماء عليه،
وعلىّ يغسله، قد أسنده إلى صدره، وعليه قميصه يدلكه به من ورائه، لا يفضى بيده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى يقول: بأبى أنت وأمى، ما أطيبك حيا وميتا!
ولم ير من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا مما يرى من الميت.
ولما أرادوا غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا فيه، فقالوا:
والله ما ندرى أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثيابه، كما نجرد موتانا، أو نغسله وعليه ثيابه؟ فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم، حتى ما منهم رجل إلا ذقنه فى صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت، لا يدرون من هو:
أن اغسلوا النبى وعليه ثيابه. فقاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغسلوه وعليه قميصه، ويصبون الماء فوق القميص، ويدلكونه والقميص دون أيديهم.
فلما فرغ من غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن فى ثلاثة أثواب:
ثوبين صحاربين «1» وبرد حبرة أدرج فيها إدراجا. ولما أرادوا أن يحفروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو عبيدة بن الجراح يضرح كحفر أهل مكة، وكان أبو طلحة زيد بن سهل هو الذى يحفر لأهل المدينة، فكان يلحد فدعا العباس رجلين، فقال لأحدهما: اذهب إلى أبى عبيدة بن الجراح، وللآخر:
اذهب إلى أبى طلحة، اللهم خر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد صاحب أبى طلحة أبا طلحة، فجاء به، فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما فرغ من جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء وضع على سريره فى بيته. وقد كان المسلمون اختلفوا فى دفنه، فقال قائل: ندفنه فى مسجده، وقال قائل: بل ندفنه مع أصحابه،
فقال أبو بكر: إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما قبض نبى إلا دفن حيث يقبض
، فرفع فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى توفى عليه، فحفر له تحته. ثم دخل الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون عليه أرسالا، دخل الرجال، حتى إذا فرغوا، أدخل النساء، حتى إذا فرغ النساء أدخل الصبيان. ولم يؤم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد. ثم دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وسط اللّيل ليلة الأربعاء.
وكان الذين نزلوا فى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: على بن أبى طالب، والفضل بن عباس، وقثم بن عباس، وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1) نسبة إلى صحار: مدينة باليمن.
وقد قال أوس بن خولى لعلى بن أبى طالب: يا على، أنشدك الله، وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: انزل، فنزل مع القوم، وقد كان مولاه شقران حين وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حفرته وبنى عليه، قد أخذ قطيفة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها ويفترشها، فدفنها فى القبر، وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك أبدا. فدفنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد كان المغيرة بن شعبة يدعى أنه أحدث الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: أخذت خاتمى، فألقيته فى القبر، وقلت: إن خاتمى سقط منى، وإنما طرحته عمدا، لأمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكون أحدث الناس عهدا به صلى الله عليه وسلم.
وكان على رسول الله صلى الله عليه وسلم خميصة سوداء، حين اشتد به وجعه، فهو يضعها مرة على وجهه، ومرة يكشفها عنه، ويقول: قاتل الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد!
يحذر من ذلك على أمته.
وكان آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: لا يترك بجزيرة العرب دينان.