الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا الكتاب
لما ألفت هذا الكتاب، لم أكن أهدف به إلى تمييز أدب المغرب بميزةٍ ليست في الأدب العربي العام، ولا إلى تخصيصه ببحث مستقل يجعله في نظر المغاربة أو غيرهم كتابًا خاصًا بأدب قطر من أقطار العروبة على حدته، وإنما كان مقصودي الأهم من تأليفه، هو بيان اللبنة التي وضعها المغرب في صرح الأدب العربي الذي تعاونت على بنائه أقطار العروبة كلها، وذكر الأدباء المغاربة الذين لم يقصروا عن إخوانهم من المشارقة ومغاربة بقية أقطار المغرب العربي في العمل على ازدهار الأدبيات العربية على العموم.
وذلك لأني رأيت منذ نشأتي الأولى إهمال هذا الجزء من بلاد العروبة في كتب الأدب وكتب تاريخ الأدب، حتى لقد تذكر تونس والجزائر، وبالحرى القيروان وتلمسان فضلاً عن قرطبة وإشبيلية، ولا تذكر فاس ومراكش بحال من الأحوال. وظننت أولاً أن ليس لبلادي في هذا المجال مشاركة، وإنما حسبها ميادين البطولة والجهاد والفتح، ولذلك لا يسع المؤرخين وكتاب التراجم إلا أن ينوهوا بشخصيات يوسف بن تاشفين، وعبد المؤمن بن علي، ويعقوب المنصور، وأبي الحسن المريني، وأضرابهم من أبطال المعارك وأرباب الحكم والسلطان، ويثنوا على أعمالهم ومساعيهم في خدمة الإسلام، وتوطيد دولته؛ في حين أنهم لا يعيرون اهتمامًا لرجال العلم والأدب، ولا يعرجون على ما كان لهذا الوطن العزيز من صولة في عالم الفكر وميدان العرفان.
ثم لما بحثت، وجدت كنوزاً عظيمة من أدب لا يقصر في مادته عن أدب أي قطر من الأقطار العربية الأخرى، وشخصياتٍ علمية وأدبية لها في مجال
الإنتاج والتفكير مقام رفيع. ولكن الإهمال قد عفى على ذلك كله، وعدم الاهتمام يجمعه في كتاب، والتنبيه عليه في خطاب أدى إلى وأده، فاحتاج إلى من يبعثه من مرقده.
وقد شمرت عن ساعد جدي، وأنا يافع لم يبقل بعد عارضي، فتتبعت جميع ما وصلت إليه يدي من آثار أدبية مغربية، وأخبار عن أدباء المغرب وعلمائه، مما وقفت عليه في الكتاب والأوراق والمحافظ، أو تلقفته من أفواه المشائخ والأدباء والأقران، وجمعت ذلك كله في كتاب النبوغ ودفعت به إلى المطبعة منذ بضع وعشرين سنة، لعلي أرفع الضيم عن بلادي، وأثبت مركزها في حظيرة العلم والأدب، على ما هو عليه مركزها في السياسة والحرب أو أعظم.
ولقد وفقت إلى ما أردت أو بعضٍ مما أردت، على ضعف وسائلي المادية والأدبية في ذلك الحين، فكان للكتاب صدًى بعيد في الداخل والخارج، نبه الزملاء والناشئين بعد إلى العناية بهذه الناحية من تاريخهم، وأثار اهتمام الباحثين والمعنيين بهذه الشؤون في الشرق والغرب، حتى قال فيه أمير البيان المرحوم الأمير شكيب أرسلان? ? إن من لم يقرأه فليس على طائل من تاريخ المغرب العلمي والأدبي والسياسي? ? وصار العلامة الأستاذ كارل بروكلمان، الحجة في تاريخ الأدب العربي يعتمده في ملحقات كتابه العظيم، عن تاريخ هذا الأدب. ولا يمكنني في هذه العجالة أن أستوعب أسماء جميع الأدباء والكتاب الذين تناولوه بالنقد والتقريظ في مختلف الصحف والمجلات منذ صدوره إلى الآن. ولكني أشير إلى إقرار العالم الإيطالي الشهير جيوفاني بيانكي في مقال له بمجلة الشرق الحديث (1) عن الكتاب? ? بإبرازه للمساهمة التي أبداها المغرب في الآداب العربية، تلك المساهمة التي أهملت حتى اليوم، ولم تقدر كما كان ينبغي? ? وهذه هي الغاية التي من أجلها الفت النبوغ. وكذلك أشير إلى ما جاء في مقال عنه للدكتور محسن جمال الدين، نشر بمجلة الأديب البيروتية منذ عهد قريب (2) وهو قوله: ? ? أن فضيلة هذا الكتاب في أنه يختص بدراسة
(1) انظر ترجمه في مجلة العالم العربي (عدد أول سنة ثانية) بقلم المستشرق? ? اميليو بوسي? ? ، وكان الكاتب اطلع على الترجمة الإسبانية للكتاب.
(2)
عدد سبتمبر 1958.
أدب بلاد المغرب الأقصى وتاريخه ويستخرج النصوص من خزائنها النادرة، ذات المخطوطات النفيسة، ويعرض لنا نماذجها الحسنة. ودراسة شخصياتها المعتبرة، وهو بعيد عن ابتذال القول وضعف الرأي. . . والذي يدرس منا كتاب «النبوغ المغربي» فستدهشه هذه الوفرة الزاخرة من أسماء الرجال والمؤلفات والنصوص، ويتأكد بعدها أن أغلب أصحاب حرفة الأدب عندنا أو حملة العلم في جامعاتنا، لم يسمعوا بها أو يقتنوا من آثارها، أو يحفظوا بعض أشعارها ونثرها، وما عمل المؤلف المفضال، والصديق الكريم إلا صيحة داوية، ودعوة حارة، وغرساً مثمراً لجمله الحاضر، ولأجيالنا القادمة في الوطن العربي كافئة، وفي عالم الحضارة العالمية الواسعة ، وهذا وصف للمجهود الطائل الذي بذلته في تأليف النبوغ، بقلم أستاذ جامعي يعرف قيمة البحوث المبتكرة التي لم تنسج على منوال سابق.
وكان المرحوم الأستاذ سعيد حجي يعلن عنه في جريدة المغرب عند صدوره بهذه العبارات «حادث خطير في تاريخ المغرب، ظهور كتاب النبوغ المغربي في الأدب العربي، أول كتاب من نوعه، وأوفاه في موضوعه "، وألقي بأحد نوادي سلا محاضرة عنه بعنوان (خطوة عظيمة في تاريخ الفكر المغربي) نشرها في العدد الثامن وما بعده من الملحق الثقافي لجريدة المغرب.
ثم كانت موافقة عجيبة أن أعلن في مصر عن جائزة الدولة قدرها خمسمائة (500) جنيه، خصصت لمن يؤلف عن الأدب العربي في القطر المصري، من الفتح الإسلامي إلى العصر الحاضر. . فكتب الأستاذ حجي معلقاً على هذا النبأ بالملحق المذكور ما يلي: «من حسن الصدف أن تهتم وزارة معارف مصر بوضع جوائز عن الأدب المصري في الماضي، في نفس الأسبوع الذي يصدر فيه كتاب مغربي عن الأدب المغربي في ذلك الماضي، فيكون المغرب أسبق إلى تلك المفخرة من كل الأمم الناطقة بالضاد ولكن يجب أن نتساءل ماذا ينال مؤلفنا من تقدير إدارة العلوم والمعارف، وما يستحقه من تشجيع من جمهور المثقفين؟ فنحن نهيب بتلك الإدارة إلى الاهتمام بهذا المؤلف الحافل، ونرجو أن تشتري منه بضع مئات من النسخ تقديراً لمجهودات مؤلفه الثمينة، وتشجيعاً لمثل هذه المباحث القيمة، ، وقد كان الجواب على هذا النداء النبيل هو صدور قرار عسكري بمنع رواج الكتاب، ومعاقبة من تضبط عنده نسخة منه. ونص ما كتبته جريدة السعادة،
لسان حال حكومة الحماية، بعددها رقم 4592 في هذا الصدد تحت عنوان بلاغ عسكري (أصدر سعادة الجنرال خليفة سعادة القائد الأعلى للجنود بالنيابة أمراً يقضي بمنع الكتاب المعنون بالنبوغ المغربي في الأدب العربي الصادر باللغة العربية في تطوان من الدخول إلى المنطقة الفرنسية بالمغرب الأقصى، وكذلك بيعه وعرضه وتوزيعه، ومن خالف ذلك يعاقب بمقتضى القوانين المقررة». .
وإذا كان هذا القرار دلالة فهي تأكيده لكون الكتاب عملاً وطنياً فوق كونه عملاً أدبياً ولذلك استحق أن يحظى من الاستعمار الفرنسي الغاشم بهذا الجزاء الظالم. . وكان أن ثارت ثائرة الصحف الوطنية بتطوان ضد هذا التدخل العسكري الاستبدادي في شؤون الفكر والثقافة، فكتبت كل من جريدة «الحرية» وجريدة «الوحدة المغربية، مقالات نارية تنتقد فيها القرار المذكور وتندد بالحرية الفرنسية المزعومة، مما جعل الصحافة الاستعمارية تصاب بالسعَّار، فتصب جام غضبها على الوطنية المغربية عموماً، وتخصَّني بحملات عدائية أنتهزها الأذنابُ والمنافقون، فلم يقصروا في الأذى والضرر.
ومن الأنصاف أن أقول أن هذا كان في الجنوب أو المنطقة السلطانية إذ ذاك. وأما في الشمال أو المنطقة الخليفيه، فقد تلقي الكتاب بقبول حسن من لدن السلطة، واقتنت منه إدارة المعارف كمية من النسخ، وزعتها على المكتبات والمعاهد في المنطقة. ثم لما ترجم إلى الإسبانية بمعرفة الأستاذين خير ونيمو كريو أورد ونياز ومحمد تاج الدين بوزيد، قابلته المحافل الأدبية في إسبانيا بمزيد من التقريظ والتقدير، وبلغ الأمر أن وصلتني رسالة من وزارة الخارجية الإسبانية بتاريخ 18 نوفمبر 1939 تعلمني بأن وزارة المعارف العمومية لهذه البلاد، قد منحتني درجة دكتوراه شرف للآداب من جامعة مدريد بمناسبة صدور كتابي النبوغ المغربي في ترجمته الإسبانية، وتدعوني إلى زيارة إسبانيا في رحلة تستغرق شهراً على نفقة الحكومة. وجاءت هذه التحية الكريمة في الوقت المناسب، فمحت من نفسي آثار المعاملة السيئة التي عومل بها الكتاب من السلطات الفرنسية وعملائها، ورددت الجواب بالشكر وعرفان الجميل ولكني أجلت السفر إلى أن يشاء الله تجنباً للقيل والقال.
هذه قصة كتاب النبوغ المغربي باختصار، من لدن التفكير في وضعه وجمعة،
إلى ما بعد طبعه ومنعه. والآن وقد مرت على ظهور طبعته الأولى هذه المدة الطويلة، وكثر الطلب عليه من مختلف الجهات وخصوصاً بعد استقلال المغرب، وتوجه الأنظار إلى هذه البلاد التي كانت محاطة بستار حديدي من نظام الحماية، يمنع الاتصال بينها وبين شقيقاتها العربيات، والأوطان الإسلامية الأخرى، وسائر العالم الحر، فأن الحاجة أصبحت جد ماسة إلى إعادة طبعه، وتقديمه وثيقة وسنداً إلى جميع هؤلاء الذين يهمهم الوقوف على تاريخ المغرب الفكري وماضيه الحضاري. ولكن بعد مراجعته طبعاً وتجديد النظر في محتوياته من مادة وفكرة وترتيب، ضرورة أن المعلومات التي كانت لدينا زمن تأليفه هي غير المعلومات الآن، والتفكير وسائر وسائل العمل، قد تطورت بتطور الزمن، فلم يكن أبدا من إدخال تعديل جوهري عليه يتلخص فيما يلي:
أولاً - إضافة المواد الجديدة التي وقفنا عليها بعدُ، سواء فيما يرجع إلى تراجم الأشخاص أو الآثار الأدبية، أو الدراسات الموضوعية التي تناولناها في مختلف العصور، فقد ظهرت في عالم الطباعة كتب مهمة لها اتصال وثيق موضوعنا كمجموعتي رسائل موحدية، ورسائل سعدية، ورابع البيان المغرب لابن عذاري، ومغرب ابن سعيد، والغصون اليانعة، ورايات المبرزين له، واطلعنا على الحماسة المغربية اللجراوي، وتثير الجمان لابن الأحمر والمدارك للقاضي عياض، ورحلة ابن رشيد، وغير ذلك من المخطوطات النادرة التي تحتوي على مواد أساسية في الموضوع كان من الضروري أن تضاف إلى أماكنها وتكمل عناصر البحث.
ثانياً - تصحيح بعض الأغلاط التي وقعت لنا في كتابة بعض التراجم، ونسبة بعض الآثار الأدبية والعلمية لغير من هي له، والحكم في بعض المسائل بما ظهر لنا خلافه وما إلى ذلك. ويقوي الداعية إلى هذا التصحيح أننا رأينا الذين كتبوا في موضوع الأدب المغربي يقلدوننا في تلك الأغلاط، سواء الذي صرح منهم باعتبار النبوغ من مراجعه، والذي لم يصرح بذلك، وهو أمر مؤسف يدل على ضعف الهمم، وكلال العزائم، في الذين تصدوا حتى الآن لهذا البحث، على الرغم من تيسير صعابه، وتذليل عقابه. ولذلك كان لزاماً علينا أن نبادر بتصحيح كل غلط من هذا القبيل ولو للمحافظة على هذه الثقة (العمياء) التي وضعها فينا الزملاء الكرام.
ثالثاً - تحرير بعض الفصول من التأثير السياسي، والعاطفي الذي كتبت به، نتيجة لما كان المغرب يمر فيه من ظروف سياسية، وأحوال اجتماعية معاكسة لمطامحه العليا، وآماله الكبرى، في الوحدة والاستقلال، والتطور داخل إطار العروبة والإسلام. . ومن أخطر ذلك السياسة البربرية التي انتهجها الاستعمار الفرنسي للتفرقة بين عناصر المواطنين المغاربة، وتأليب بعضهم على بعض أخذا بمبدأ فرق تسد. . فكان الكتاب كلما سنحت الفرصة، يحمل على هذه السياسة حملة شعواء، ويوجه القارئ المغربي في الاتجاه السليم المجاني لهذه العنصرية المقيتة، والذي هو الحق والصواب، والآن لما شالت زعامة الاستعمار، وفشلت سياسته في هذا الصدد، لم يبق موجب لذلك التوجله، أو على الأقل للهجة الشديدة التي كتب بها ذلك التوجيه.
رابعاً - تحوير في التصميم الذي وضع عليه الكتاب، فنحن لقلة المعلومات التي كانت عندنا عن العصر المرابطي أو لضعف استعدادنا في استخراج هذه المعلومات من تضاعيف الكتب والمراجع العامة، كنا أدمجنا هذا العصر في العصر الموحدي. والآن وقد توفرت لدينا معلومات قيمة عن المرابطين وعهدهم، فصلنا عصرهم عن عصر الموحدين، وخصصناه بدراسات مهمة عن الاتجاه السياسي، والحركة العالمية، والحياة الأدبية، وميزناه بخصائصه التي ينفرد بها عن العصر الموحدي. وبالطبع فقد خلصنا هذا العصر أيضاً من الاشتباكات التي كانت تجمع بينه وبين العصر المرابطي، لما كانا متداخلين؛ وبذلك نكون قد أعدتنا كتابة العصر الموحدي من جديد، كما أننا كنا العصر المرابطي كله ابتداء.
ويضاف إلى هذا التحوير تقسيم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء، فالجزء الأول للدراسات، والثاني للمنتخبات البشرية، والثالث للمنتخبات الشعرية، وقد كان قبل مقسمها إلى جزئيين فقط يجمع الجزء الثاني بين دفتيه المنتخبات الشعرية والنثرية معاً.
وإلى هذا فقد أضفنا زيادات كثيرة إلى غالب الفصول، وخاصة فيما يتعلق بنهضة الفنون ومشاركة المرأة في مختلف مجالات النشاط الفكري للشعب. وبعض الكلمات في هذا الصدد، وهي جهد مقلّ، تفوق ما كتُب بشأنه في بعض التواريخ العامة الأدب العربي جملة.
ولا حاجة بي إلى القول إن روح البحث المجرد التي سيطرت على الكتاب في طبعته الأولى هي التي تتقمصه في طبعته الثانية، وأن التثبت والتحري وعدم إلقاء الكلام على عواهنه، هي الموازين القسط التي تحكمت في كل جملة من جمله، إن لم أبالغ فأقول في كل كلمة من كلماته. ومع ذلك فما أبرئه من نقص، ولا أحاشيه من خطأ، لعلمي بأن الكمال لله. وأن العصمة لا تكون إلا للنبيّ. والله المسؤول أن يكسوه حلل القبول، وأن يجعله ساداً للفراغ الذي يشعر به الجميع في هذا الباب وولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ولكن الله يزكّي من يشاء، والله سميع عليم. .
طنجة في ربيع الثاني 1380
وأكتوبر 1960
عبدالله كنون الحسني